أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-06-2015
4697
التاريخ: 29-09-2015
2871
التاريخ: 13-08-2015
2322
التاريخ: 27-09-2015
9706
|
هو عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري، يكنّى أبا رواحة وأبا محمّد، اقترن اسم عبدالله بن رواحة بشعر الجهاد والثبات على العقيدة والمبدأن ويتمثّل المجاهدون بأبياته في تمنّي الشهادة وهم يتوجّهون إلى الموت بقلوب راضية مطمئنّة.
كان شاعراً عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان في حروبهم في الجاهلية يناقض قيس بن الخطيم.
وكان سيّداً ليس في طبقته أسود منه. شهد بدراً. وكان في الإسلام عظيم القدر والمكانة من رسول اللهo كما قال ابن سلام ووصفه الآمدي بأنّه شاعر محسن فارس.
لقد أسلم ابن رواحة مبكّراً ضمن من أسلم من أهل يثرب فهو أحد النقباء الاثني عشر الذين التقوا بالرسولo في العقبة الثانية، وعاهدوه على النصرة والحرب، وشهد بدراً وأُحد والخندق والحديبية وعمرة القضاء والمشاهد كلّها إلّا الفتح وما بعده، لأنّه قتل يوم مؤتة شهيداً، إذ كان أمير الجيش فيها.
لقد كان أوّل خارج إلى الغزو وآخر قافل، وحين ترجم له ابن عبد البرّ وصفه بأنّه أحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردّون الأذى عن رسول اللهo.
لقد كان عبدالله بن رواحة مثالاً للشاعر المسلم الذي أمن قلبه وصدق عمله إيمانه. فقد ذكر أنّ الرسولo كان يترحّم عليه، ويقول واصفاً ذكره الدائم لله سبحانه وتعالى بقوله: (رحم الله عبدالله بن رواحة انّه يحبّ المجالس التي تباهى بها الملائكة)(1) .
ووصفته امرأته بأنّه كان إذا أراد أن يخرج من بيته صلّى ركعتين، وإذا دخل بيته صلّى ركعتين لا يدع ذلك، وقالوا فيه: أنّه كان أوّل خارج إلى الغزو وآخر قافل.
وقد ذكرنا من قبل جملة من الأقوال الكريمة التي قالها الرسولo في شعرائه الثلاثة الذين دافعوا عن الدعوة، وكان عبدالله بن رواحة واحداً منهم. ونرى في دراسة سيرة هذا الشاعر شواهد كثيرة تدلّ على حمله لواء الشعر مدافعاً عن الدين ملتزماً بالدفاع عن الحقّ، كما حمل سيفه وانطلق إلى قتال الأعداء.
لقد كان عبدالله مصاحباً للرسولo، ملازماً له متمثّلاً لتوجيهاته، واعياً لإرشاداته في جعل الشعر وسيلة مهمّة من وسائل الدفاع عن الدعوة. فحين أراد الرسولo أن يوجّه هذا الشاعر ليردّ على افتراءات المشركين، ويعضد الدعوة والمسلمين سأله سؤال مستفسر وهو (عليه الصلاة والسلام) يريد لفت نظره إلى الواقع الذي تعيشه الأُمّة الإسلامية، والذي يوجب على كلّ فرد فيها أن يلتزم بالدفاع عن الإسلام وأهله. سأله الرسولo كيف تقول الشعر إذا قلته؟ فيقول عبدالله: أنظر في ذلك فأقول، أو ثمّ أقول. قال: فعليك بالمشركين. وحين ينشد عبدالله الرسولo بيت شعر في هجاء قريش ويرى سمات عدم الارتياح على وجهه يحسّ بأنّه لم يستطع أن يوجّه شعره الوجهة التي أرادها الرسولo وهي أن يكون ما يقوله الشاعر جزءاً من عقيدته وسلوكه، فلا فائدة من هجاء قريش بأن لا قيمة لهم، لأنّ ذلك لن يخدم الدعوة الإسلامية. وإن كانت الرواية التي فصلت الخبر أوردت قول ابن رواحة كالآتي: (فكأنّي عرفت في وجه رسول اللهo الكراهة أن جعلت قومه أثمان العباء فقلت:
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم |
|
فينا الرسول وفينا تنزل السور |
وقد علمتم بأنّا ليس غالبنا |
|
حي من الناس إن عزّوا وإن كثروا |
(2)
يا هاشم الخير إنّ الله فضّلكم |
|
على البرية فضلاً ما له غير |
إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه |
|
فراسة خالفتهم في الذي نظروا |
ولو سألت أو استنصرت بعضهم |
|
في جلّ أمرك ما آووا ولا نصروا |
فثبّت الله ما آتاك من حسن |
|
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا |
فأقبل عليه رسول اللهo ثمّ قال، وإيّاك فثبّت الله.
وقد مرّ بنا أنّه عليه الصلاة والسلام أراد أن يلفت نظر الشاعر إلى ما يجب أن يقوله. وفي هذه الرواية أيضاً سرعة استجابة الشاعر لتوجيه الرسولo إذ غيّر مجرى الأبيات من هجاء قبلي إلى فخر بالأُمّة يتعالى فيه عن القبلية الضيّقة إلى إطار العقيدة الصادقة فيفخر بقومه، وقومه هنا ليسوا الخزرج أو الأوس إنّما هم العرب المسلمون من الأنصار والمهاجرين، وفخره بهم ليس لكثرة اعدادهم ولكن لكون الرسولo فيهم. فالعدد والكثرة ليسا بشيء إزاء قوّة العقيدة، وانّ الله قد فضّل بني هاشم لكون الرسولo منهم وكرّم الأنصار لأنّهم نصروه. أمّا المعاندون من مشركي قريش فقد خذلوا الرسولo وعوّضه الله تعالى عنهم خيراً. وحين ختم الشاعر أبياته أكّد فكرة الاعتراف بنبوّة الأنبياء، وانّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يثبت الرسل على الدعوة، وبذا تدخل أبيات ابن رواحة هذه مع خبرها في إطار الشعر الملتزم بتوجيهات الرسول الكريم.
وفي رواية أُخرى نجد الخبر وفيه يوصف ابن رواحة على لسان واحد من الصحابة بقوله: ما سمعت أجراً ولا أسرع شعراً من عبدالله بن رواحة سمعت (3)
رسول اللهo يقول له يوماً: قل شعراً تقتضيه الساعة، وأنا أنظر إليك. فانبعث من مكانه يقول: (إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه ...) فقال رسول اللهo وأنت فثبّتك الله يا بن رواحة.
لقد فهم ابن رواحة توجيه الرسولo للشعراء للتعبير عن حياتهم الجديدة في ظلال الدعوة، لذلك أجاب الرسولo حين سأله عن الشعر إجابة ذكية بأنّه (شيء يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه).
ولابن رواحة أشعار قصار في مناسبات شتّى لا تخرج عن إطار الظروف العامّة التي يمرّ بها أهل المدينة في حربهم مع المشركين، ولكن الذي يهمّنا في الدرجة الأُولى أبياته التي صحبت خروجه إلى الجهاد في آخر معركة سقط فيها شهيداً، فهي تصلح أن تكون مثالاً سامياً لقصص البطولة والجهاد عبّر فيها بمقطوعات قصيرة عن مواقف حاسمة في حياته وحياة المسلمين، وكان إيمانه العميق قد جسّد نهايته الرائعة حيث الشهادة والخلود، ويكاد كلّ موقف من مواقف البطولة الذي سار فيه ابن رواحة إلى مؤتة قد عبّر عنه بأبيات شعرية منذ استعداد جيش المسلمين للتوجّه إلى الجهاد ضدّ الروم يصحبه وداع الآخرين لهم. فقد ذكر أنّ المسلمين ودّعوا الجيش المجاهد بقولهم: (صحبكم الله، ودفع عنكم وردّكم صالحين). ونتوقّع أن يكون دعاء ابن رواحة مثل قولهم، كأن يدعو لهم بالسلامة أيضاً أو يشكرهم أو يمدحهم، إلّا أنّنا نقرأ ثلاث أبيات فيها دعاء من نمط آخر لم يرض فيه ابن رواحة بالدعاء له بالسلامة والعودة إلى الأهل والأحبّة، وإنّما يسأل الله أن يكرمه بالشهادة فيدفن بعيداً عن أهله، وينال رحمة الله ودعاء المسلمين له إذا مرّوا عن قبره وتذكّروا جهاده وصبره وبلاءه:
لكنّني أسأل الرحمن مغفرةً |
|
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا |
أو طعنة بيدي حرّان مجهزة |
|
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا |
(4)
حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي |
|
أرشده الله من غاز وقد رشدا |
ويبدوا انّه قال شعراً غير هذا في وداع الرسولo والمسلمين ولم يصل إلينا منه إلّا بيت واحد لعلّه جزء من المقطوعة الضائعة يقول فيه:
خلف السلام على امرئ ودّعته |
|
في النخل خير مشيّع وخليل |
وذكرت له أبيات يصف فيها مسير الجيش إلى الشام وإصرارهم على حرب الروم. ومثلما ودّع ابن رواحة المسلمين في المدينة بإعلان تمنّيه الشهادة في سبيل الله نراه يخاطب ناقته متخيّلاً نهاية رحلته السعيدة، وقد ملكت نفسه صورة الشهيد الثاوي بعيداً عن أهله متمنّياً تلك الصورة:
إذا أدّيتني وحملت رحلي |
|
مسيرة أربع بعد العشاء |
فشأنك أنعم وخلاك ذمّ |
|
ولا أرجع إلى أهلي ورائي |
وجاء المسلمون وغادروني |
|
بأرض الشام مشتهي الثواء |
وردّك كلّ ذي نسب قريب |
|
إلى الرحمن منقطع الإخاء |
هنالك لا أُبالي طلع بعل |
|
ولا نخل أسافلها رواء (5) |
ويبدو خطاب عبدالله بن رواحة لناقته خطاباً مختلفاً عمّا عهدناه في الشعر الجاهلي، فهو لا يدعو عليها بالهلاك أن لم توصله إلى بغيته، ولا يصف إعياءها وتعبها، ولكنّه ينقل لنا تشوّقه إلى أرض الجهاد وساعة القتال، فيتعاطف مع ناقته موعداً إيّاها بالذكر الطيب والرفعة التي يجسّدها بنعتها من خلوّها من أي ذمّ وعيب إذ يكفيها فخراً أن توصل المجاهد إلى ساحة الشرف والاستشهاد.
ويمكن أن يفسّر إحساس ابن رواحة بدنو استشهاده بأنّه بسبب كونه قائداً فارساً، مدركاً طبيعة المعركة التي توجّه إليها، والرسولo نفسه قد قدّر خطورة المعركة حين عيّن ثلاثة قوّاد لهذه الغزوة. لقد أحسّ ابن رواحة بهاجس يلحّ عليه أنّ الشهادة قريبة، وانّ أجله قد دنا، فقد عيّن الرسولo جعفر بن أبي طالب أميراً للجيش، فإن قتل فزيد بن حارثة، فإن قتل فعبدالله بن رواحة، وحين تبدأ المعركة، ويتولّى جعفر بن أبي طالب إمارة الجيش يحسّ عبدالله بروحه الملهمة، وإيمانه العميق أنّها نهايته، فإذا به فرح بها يتقدّم جماعته إلى المعركة، وكأنذه يسبقهم إلى الجنّة لا إلى الحرب وأهوالها، ويتخيّل نعيم الجنّة وشرابها البارد، فيدفعه ذلك إلى الاستماتة في قتال الأعداء متشوّقاً إليها ويقول وهو يرتجز وكأنّه يتنسّم عطر الجنّة وشرابها البارد:
يا حبّذا الجنّة واقترابها
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
ويلاحظ في البيت الأوّل شفّافية روح ابن رواحة في تخيّله الجنّة، وشرابها البارد بدل تصوير لظى الحرب واحتدامها، ولكن شطره الثالث أقلّ جمالاً وشفّافية، لأنّه تخلّى فيه عن نهجه في التعبير عن مواقفه الشخصية وانفعالاته، فقد التفت إلى هجاء الروم، فأخفق في اختيار الصورة، وهجا الروم بأنّهم كفّار بعيدو الأنساب، وكأنذه بحث في مخيّلته عن صورة من صور الهجاء التي تنطبق عليهم، فلم يجد صورة هاجية لهم إلّا بالتشكيك في أنسابهم، فأنسابهم بعيدة غير معروفة، وهذا يدلّنا على أنّ ابن رواحة لم (6)
يكن شاعراً هجّاءً. وحين يعود إلى حماسه الأوّل في تصوّر الموقف الآني للحرب يعود إليه جمال تعبيره وعفويته (عليّ إذ لاقيتها ضرابها).
ثمّ يستشهد جعفر فيتناول زيد الراية، ويلحقه بالشهادة، ويأتي دور ابن رواحة وقد اشتدّت المعركة، واحتدم القتال، فيقسم بالله أن يتغلّب على لحظات ضعف قد تعتري مشاعره، وكأنّ نفسه تراوده ليحجم عن المعركة، فيذكّرها بأنّها قد عاشت حياة طويلة في رغد واطمئنان، وأنّه قد آن الأوان للبذل والعطاء، فليس هناك من يكره الجنّة التي تكون مثوى الشهيد بعد وفاته. وفجأة ينتقل ابن رواحة انتقالاً سريعاً ليخاطب رفيقه الأوّل الذي سبقه إلى الشهادة، يخاطب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكأنّه يستشعر معه طيب الجنّة وروحها وريحانها، فيقول مخاطباً نفسه مثيراً فيها الحماس مؤجّجاً فيها الرغبة في الاستشهاد في سبيل الله:
أقسمت بالله لتنزلنّه
طائعة أو، لا لتكرهنه
مالي أراك تكرهين الجنّة؟
قد طالما قد كنت مطمئنّة
إن أجلب الناس وشدّوا الرنّة
هل أنت إلّا نطفة في شنة؟
جعفر ما أطيب ريح الجنّة
ويلاحظ في المقطوعة صدق عاطفته، وعفويته في التعبير عن إحساسه في ذلك الموقف الحرج فهو يصوّر دون تكلّف أو مواربة شدّة المعركة التي جعلت نفسه تراوده بالإحجام، ولكن إرادته القوية، أو فلنقل إيمانه يدفعه إلى كبت هذه المراودة بتساؤل إنكاري يزيح كلّ خوف وتردّد من نفسه. فهل هناك من يكره الجنّة؟ ثمّ يذكّر نفسه بصغرها وضآلة تكوينها وأصلها بينما تشمخ هذه النفس إذا تعالت على مادّية الجسد وطمحت إلى خلود الجنّة.
وبهذا يسبق ابن رواحة شعراء الخوارج في تمنّيهم الشهادة وتمثّلهم للجنّة في المعارك بين صليل السيوف.
وقال أيضا محمّساً نفسه على القتال والاستماتة في سبيل الله لرفع كلمة الحقّ:
يا نفس إلّا تقتلي تموتي
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد أُعطيت
إن تفعلي فعلهما هديت
فما نال جعفر بن أبي طالب وزيد (رضي الله عنهما) شرف الشهادة إلّا بعد أن استماتا في القتال، وتقدّما المسلمين في الحرب، وان أراد مصيرهما فما عليه إلّا أن يحتذي حذوهما في الشجاعة والبأس. وهكذا يمضي ابن رواحة في طريق الشهادة والمجد تاركاً أشعاراً إن لم تكن في عداد القصائد الطوال، فهي في مقدّمة الأشعار الصادقة المشاعر المعبّرة عن مواقف الجهاد أصدق تعبير. وإذا عدنا إلى أشعاره التي قالها في الإسلام وجدناها مسايرة لحياته اليومية، مصاحبة لجهاده وقتاله في سبيل المبدأ والدين. ومن الناحية الفنّية تبدو أقل تجويداً من شعر صاحبيه حسّان بن ثابت وكعب بن مالك (وإن كانت أثبت منهما إيماناً وأشد تقى).
ويستوي في هذا الحكم شعره الذي قاله قبل الإسلام وبعده. فأطول قصيدة قالها قبل الإسلام هي قصيدته الدالية، وتقع في تسعة أبيات. وأطول ما قاله في الإسلام قصيدته في رثاء حمزة وتقع في ستّة عشر بيتاً.
لقد حاول بعض الباحثين تعليل قلّة أشعار ابن رواحة فذكر د. يحيى الجبوري سببين أوّلهما ضياع شعر عبدالله اعتماداً على ما رواه أبو الفرج الأصفهاني من انّ أهون الشعر على قريش قبل الإسلام شعر عبدالله، وانّ أشدّ الشعر عليها بعد إسلامها كان شعر عبدالله، لأنّه كان يعيّرها بالكفر، وأهون الشعر عليها شعر صاحبيه حسّان بن ثابت وكعب بن مالك، لأنّهما كانا يهجوان بالمثالب والأيّام. والاحتمال الثاني الذي ذكره هو قلّة شعر عبدالله بعد الإسلام لأنّه كان يتأثّم من قول الشعر اعتماداً على ما نقله ابن سعد من أنّ رسول اللهo قال لعبدالله: أنزل، فحرّك بنا الركاب، قال: يا رسول الله، إنّي قد تركت قول ذلك.
وأضاف باحث آخر سبباً ثالثاً رجّحه على السببين السابقين وهو (قلّة ما وصل
إلينا من شعر عبدالله بسبب قصر الفترة الزمنية التي عاشها في كنف الإسلام على خلاف صاحبيه حسّان وكعب اللذين امتدّ بهما العمر إلى فترة متأخّرة). والذي نرجّحه أنّ ضياع شعر ابن رواحة لم يكن بدافع طمس قريش أشعاره، كما أنّ ابن رواحة لا يمكن أن يتأثّم من قول الشعر لما ذكرناه من شواهد وروايات تدلّ على كون الشعر جزءاً مسايراً لحياة عبدالله الحافلة بالجهاد. أمّا قصر المدّة التي عاشها ابن رواحة فقد تكون سبباً في قلّة شعره الإسلامي، فما شأن شعره الذي قاله قبل الإسلام؟ إذ ليس فيه ما يعارض مصلحة قريش، ولا يدخل ضمن تأثّمه من قول الشعر. أغلب الظنّ أنّ شعر ابن رواحة قبل الإسلام وبعده ضاع معظمه شأنه شأن كثير من الشعراء الذين ذكرهم ابن سلام مثلاً في طبقات فحول الشعراء، وعدّهم من الفحول، ولا نجد لهم فيما وصل إلينا من مصادر إلّا أسماءهم وأبياتاً مفردة. يضاف إلى هذا أنّ عبدالله فيما يبدو لم يكن من الشعراء المطوّلين وما عدّ في الفحول الجاهليين أو الإسلاميين، إنّما يمثّل شعره شعر يثرب قبل الإسلام وبعده، وإن كان قد توجّه وجهة إسلامية في التزامه بالدفاع عن الدين في شعره الذي قاله في عصر الدعوة. لقد زاده اندفاعه في الجهاد صدقاً في القول وقوّة في التعبير عن المواقف أكثر من قدرته في شعره الذي قاله قبل الإسلام. فقصيدته التي قالها قبل الإسلام مطلعها:
تذكر بعد ما شطّت نجودا |
|
وكانت تيّمت قلبي وليدا |
ينقض فيها قصيدة قيس بن الخطيم التي مطلعها:
صرمت اليوم حبلك من كلودا |
|
لتيدل حبلها حبلاً جديدا |
وقد أثبت حسن بأجوده جامع ديوانه الأوّل خمسة أبيات منها فقط، وتلاها بمقطوعة أُخرى تقع في تسعة أبيات، وجمع شتات هذه القصيدة وليد قصاب فجعلها ستّة وعشرين بيتاً اعتماداً على رواية القرشي في جمهرة أشعار العرب مطلعها:
فإن تضنن عليك بما لديها |
|
ويصبح حبل قائلها جديدا |
ويبدو انّ المقطوعتين جزء من قصيدة واحدة. ومعنى المقطوعة الأُولى في الواقع يتممه معنى المقطوعة الثانية، فهو جزء من مقدّمة غزلية يصف فيها جمال امرأة تذكرها بعد ما رحل أهلها وبعدوا. وآخر بيت فيها يصف فيه حليها من شنوف وقلائد:
تزين معاقد اللّبات فيها |
|
شنوفاً في القلائد والفريدا |
من هنا نقول انّ المقطوعة الثانية هي أساساً تتمّة للأُولى إذ يصحّ استرسال المعنى في البيت السابق، ليتممه أوّل بيت في المقطوعة الثانية يذكر فيه الشاعر أنّ صاحبته ضنينة عليه باللقاء شأن الشعراء الآخرين الذين أصرّوا على وصف صويحباتهم بالتمنّع والإباء، ليجمعوا فيهنّ الجمال الحسّي والنفسي، بما يحمله الضن باللقاء من كرامة وعفّة.
ينتقل بعدها إلى الفخر بقبيلته، وهو فخر لا يتجاوز التغنّي بقيم العربي، الكرم والحسب الشريف والبأس على الأعداء والبيان في الخطابة يوم الحفل، والوفاء بالعهد، والأخذ بالثأر، وكثرة العدّة والعدد. وهذه القيم لا تخلو منها قصيدة فخر:
وقد علم القبائل غير فخر |
|
إذا لم تلف مائلة ركودا |
بأنّا نخرج الشتوات منّا |
|
إذا ما استحكمت حسباً وجودا |
قدوراً تغرق الأوصال فيها |
|
خضيباً لونها بيضاً وسودا |
متى ما تأت يثرب أو تردها |
|
تجدنا نحن أكرمها جدودا |
وأغلظها على الأعداء ركناً |
|
وألينها لباغي الخير عودا |
وأخطبها إذا اجتمعوا لأمر |
|
وأقصدها وأوفاها عهودا |
إذا ندعى لثأر أو لجار |
|
فنحن الأكثرون بها عديدا |
ويلاحظ أنّ ابن رواحة في هذه الأبيات لم يلجأ إلى الصنعة، ولم يتعمّد إيراد الصور الفنّية، أو التعمّق في أوصافها، وإنّما جعل معانيه منسابة يتلو المعنى ما سبقه، وكأنّه في صدد تعدادها فقط. وهي في إطارها العام لا تخرج عن إطار الفخر بالقبيلة، وتفتقد إلى الذاتية في التعبير عن المشاعر الفردية أو الجماعية، ولغتها تبدو سهلة سلسة تمثّل لغة المدينة المتحضّرة قياساً إلى لغة البادية ... وإذا قارنا هذه القصيدة بقصيدته التي قالها في الإسلام راثياً حمزة وجدنا تطوّراً في مفردات لغته الشعرية ومعانيه في القصيدة الثانية مع بقاء أشعاره في اطارها العام سهلة سلسة فيها لين المدينة ورقّتها. يقول ابن رواحة في رثاء حمزة بن عبد المطّلب:
بكت عيني وحقّ لها بكاها |
|
وما يغني البكاء ولا العويل |
على أسد الإله غداة قالوا |
|
أحمزة ذاكم الرجل القتيل |
أُصيب المسلمون به جميعاً |
|
هناك وقد أُصيب به الرسول |
والأبيات تنمّ عن صدق عاطفي تحدث فيها ابن رواحة بلغة الجماعة المسلمة
بعيداً عن الروح القبيلية، وهو يرثيه بالمعاني الإسلامية التي تجعله شهيداً خالداً في الجنّة، ملبّياً نداء الرسول الكريمo الذي ينطق بأمر الله ووحيه، مذكّراً قريشاً بهزيمتها في بدر معدّداً قتلاها .. وإذا كانت هذه الأبيات متنازعاً عليها، فهي تنسب لكعب بن مالك ولحسّان بن ثابت، أو لعبدالله بن رواحة فسبب ذلك يعود إلى الحدث المشترك الذي شهده المسلمون، وهو استشهاد حمزة رضي الله عنه عمّ النبيo ورثاء المسلمين له، واحساسهم بالفاجعة لفقده، واحتمال رثاء الشعراء الثلاثة له، مع اشتراكهم بالمعاني الإسلامية في الرثاء التي تمثّل بحدّ ذاتها معاني الصبر والسلوان لفقد الشهيد في الإسلام.
وتبقى أشعار ابن رواحة ومقطوعاته التي قالها متحمّساً أو معبّراً عن مواقف حاسمة في حياته وحياة المسلمين أروع أشعاره من حيث صدق العاطفة، وتصويرها لأحاسيسه، وانفعالاته مصوّرة ظروف الأُمّة، واندفاع المؤمنين بالعقيدة في الدفاع عن الرسالة السماوية بسيوفهم وأموالهم، وأشعارهم. ولا تمثّل الأشعار التي وصلت إلّا جزءاً يسيراً من أشعاره، لأنّ الكثير منها قد ضاع ولم يصل إلينا.
وإذا أردنا أن نتبيّن ميزات أشعاره على قلّة ما وصل منها وجدناها متمثّلة بكونها مقطوعات قصاراً وليست قصائد طويلة، وهو يميل إلى الرجز أكثر منه إلى القصيد بسبب ارتباطه بأحداث الحرب، والنزال وصلاحية الرجز لمثل هذه المواقف معروفة.
لم يصل من نقائض عبدالله بن رواحة مع قيس بن الخطيم إلّا قصيدتان الأُولى ستّة وعشرون بيتاً، وهي أطول ما وصل من شعره الجاهلي والإسلامي، والثانية في خمسة عشر بيتاً، وأطول قصيدة من شعره الإسلامي هي قصيدته التي قالها في رثاء حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه، فأين شعره الذي امتدحه الرسولo وأنّه لا يقول فيه رفثاً؟ يبقى الحكم على أشعاره إذاً بأنّها مقطوعات فقط حكماً قائماً على ما وصل إلينا من شعره. وبناءً على هذا فلا داعي للحديث عن مقدّمات قصائده، ما
دامت لم تصل إلينا.
أمّا لغته الشعرية فهي تعتمد على الألفاظ والتعابير السلسة السهلة الممثّلة للغة المدينة من ناحية، والمستمدّة من العقيدة الإسلامية من ناحية أُخرى. إنّ لغته الشعرية مفعمة بالروح الإسلامية، فكثرت فيها ألفاظ الإسلام، والمسلمين، والجنّة والثواب. والرسول والنبي، والنبوّة، والجهاد، والجنّة، والهدى.
ويكاد شعره ــ كما يقول وليد قصّاب ــ أقرب إلى الكلام العادي في خفّته وقرب مأخذه، وسهولة تناوله، فهو شعر خال من الصنعة والتفنّن، ولعلّ سبب ذلك أنّه شعر غلب عليه الارتجال.
أمّا الإيقاع فقد لجأ إليه ابن رواحة بشكل يعكس الثقة بالنفس والعقيدة الصادقة، إنّه إيقاع متلازم مع الصورة الفنّية التي يجتزئها ابن رواحة، لتكون معلّقة بالفكرة الإسلامية كقوله (نجالد الناس عن عرض فنأسرهم) اجتزأ فيه صورة الحرب والنزال والمجالدة (فنأسرهم)، ويرتبط بانتقالة سريعة (فينا النبي، وفينا تنزل السور).
وتمتلك مقطوعاته وحدة فنّية يتعلّق فيها البيت بالذي يليه، ليكون من ثمّ صورة واحدة متكاملة، فأبياته الهمزية تبدأ بالبيت الأوّل (إذا أدّيتني ...) بخطاب للناقة يمنحها الحياة الإنسانية في تخييرها بحمله إلى الجهاد ومنحها شرف الكمال في المدح، لتتوالى بعد ذلك الصور المستقبلية: جاء المسلمون، ردّك ... هنالك لا أُبالي.
أمّا هجاؤه للمشركين فهو قليل، وما وجد منه بعيد عن الفحش، ونراه لا يصلح للهجاء من خلال اخفاقه في اختيار الصور التي تحطّ من قيمة مهجويه. ويصدق هذا على شعره الذي قاله قبل الإسلام وبعده.
وأمّا عاطفته فقد تجلّت في أراجيزه وأشعاره المفردة التي تمثّلت معاني الإسلام، وتغنّت بالشهادة والرغبة في الجهاد.
2ــ دراسة تفصيلية لشاعرين قلّ تأثّرهما بالإسلام:
يذكر الشاعران الحطيئة ومتمم بن نويرة حين يذكر شعر البادية الذي قلّ تأثّر شعرائه بالإسلام وبالحياة العربية الجديدة بعد قيام الدولة العربية الإسلامية. وعدّ الحطيئة ومتمم بن نويرة من شعراء البادية الذين لم يتأثّروا بالإسلام.
أمّا الأوّل فلا نعدم أشعاراً في ديوانه فيها أثر إسلامي، ولعلّ عدّه من شعراء البادية الذين لم يتأثّروا بالإسلام ليس من خلال النظر إلى أشعاره أو مفرداته اللغوية، وإنّما بسبب الحكم على سلوكه الذي بدا غير أخلاقي، ولا منسجم مع مبادئ الإسلام وما وصف به من أنّه كان فاسد الدين أو رقيق الدين كما سنذكر بعد قليل.
وأمّا متمم فقد ذكروا أنّه أسلم، وحسن إسلامه، وإنّما يدرج هنا بسبب كون أشعاره سائرة على نهج شعراء ما قبل الإسلام من حيث لغتها أو اخيلتها وتشبيهاتها ومعانيها دون أن نلمح في سلوكه أو أخلاقه ما يشين، أو ما يدلّ على مخالفته لأوامر الدين أو الدولة آنذاك. وبذا يمكن أن يدرس هذان الشاعران ليكونا النموذجين للشعراء الذين ساروا على ما اعتادوا عليه في حياتهم قبل الإسلام، حتّى بدت بعض الأحداث التي سنعرضها في حياة الحطيئة وكأنّها حدثت في العصر الجاهلي. ولولا وجود إشارة إلى اسم الخليفة عمر بن الخطّاب (رض) في حادثة الحطيئة مع الزبرقان لقلنا إنّها حدثت قبل الإسلام، ولولا ما هو معروف عن سبب مقتل مالك بن نويرة أخي متمم لقلنا إنّه قال قصيدته قبل الإسلام، بسبب كونها منقطعة فكرياً عن العصر الإسلامي الذي قيلت فيه، وعن الحدث الذي قتل فيه أخوه مالك، إذ قتل مع المرتدّين.
وبذا تلزم دراسة مثل هذين الشاعرين ليكونا انموذجين لشعراء آخرين نجعلهم مقابل أشعار شعراء عرب عاشوا في خضم الأحداث التي حدثت بعد الإسلام نعني بهم شعراء الدعوة والفتوح الذين نستطيع من خلال أشعارهم أن نسجّل الحدث الذي قيلت فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|