أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015
10586
التاريخ: 22-03-2015
2446
التاريخ: 25-12-2015
42820
التاريخ: 3-6-2021
2713
|
لقد وجدنا منذ فجر الدعوة الإسلامية تلاحماً بين توجيهات الرسول، ومواقف الشعراء المسلمين، حين اشتدّ أذى رجال قريش للمسلمين وسخّروا كلّ قواهم المادّية والمعنوية لحربهم، كان الشعر وسيلة فعّالة للردّ على المسلمين، وتحريض القبائل عليهم، لأنّه الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تشيع آراء رجال قريش، فتسير بها الركبان بين القبائل والأعراب، وبذا نشطت الحركة الشعرية التي ما كانت معروفة في قريش من قبل بمثل القوّة والاندفاع اللذين نجد صداهما في تحرّك الشعراء المسلمين للردّ عليهم. (1)
لقد انبرى شعراء قريش لتحريض القبائل العربية، وكان لهم دورهم في الردّ على شعراء المسلمين، أو الفخر بوقائعهم في المعارك التي دارت بين المسلمين، فلا عجب ان ينبري شعراء المسلمين للردّ على المشركين تلبية لأمر الرسولo الذي طلب منهم الدفاع عن الدين الإسلامي، والردّ على المشركين بقولهo المشهور: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم، وقول حسّان: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، وقال: ما يسرّني به مقول أحد من العرب فصبّ على قريش منه شآبيب شرّ، فقال رسول اللهo اهجهم، كأنّك تنضحهم بالنبل.
وهناك رواية يسأل فيها الشاعر كعب بن مالك الرسولo عن الشعر وكأنّه يريد أن يطمئن إلى دور قصائده في الدفاع عن الدعوة فيسأل: ماذا ترى في الشعر؟ فيجيبه الرسولo: (المؤمن يجاهد بسيفه، ولسانه).
وهكذا نلمح في دراسة الواقع الشعري في عصر الرسولo تشجيعاً للشعر والشعراء، وتوجيهاً نحو الالتزام بالدين والخلق القويم في أشعارهم، وهذا يوضّح واقعاً شعرياً في النظر إلى الشعر وأهميّة الشاعر في حمل رسالة الإسلام أو الدفاع عنها ونشرها كما يفعل الدعاة أو المقاتلون. وقد ذكرت أقوال كثيرة شجّع فيها الرسولo الشعراء المسلمين كقوله مخاطباً حسّان بن ثابت، أو عبدالله بن رواحة، أو كعب بن مالك:
كلّ هذه الأقوال ترفع مكانة الشاعر وتقرّبه من مكانة المقاتل المجاهد، (2)
وتجعل كلامه الملتزم بالدعوة مقترناً بالقوّة الإلهية التي تسند الرسولo معاناً بجبريل. وفي هذا دلالة كبيرة على طبيعة الشعر في عصر صدر الإسلام، وتشجيع الرسولo للشعراء المسلمين، ليوجّهوا أشعارهم نحو خدمة الدين الإسلامي.
ويبدو هذا الأمر طبيعياً جدّاً، فالرسولo عربي يعرف أهميّة الشعر في حياة العربي، ومكانة الشاعر في قبيلته. وقد كانت وفود القبائل العربية تقدم عليهo قبل إسلامها، فتتصرّف تصرّف القبائل المعهود في العصر الجاهلي، فيخيّل لبعضهم أنّ الأمر لا يعدو المفاخرة بين محمّد القرشي وأتباعه، وبينهم، لذا لجأوا إلى الشعر والخطابة لكونهما وسيلتين لعرض الرأي والمفاخرة. وما دامت هذه الوفود لم تسلم بعد، فالمسألة عندهم لا تتجاوز التباري شعراً أو خطابة. وهكذا يقدم وفد بني تميم على رسول اللهo قبل فتح مكّة، وينادون الرسولo من وراء الحجرات، فلمّا خرج إليهم قالوا: يا محمّد، جئناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: قد أذنت لخطيبكم فليقل. فقام عطارد بن حاجب فخطب خطبة افتخر فيها بقومه الذين هم أعزّ أهل المشرق، وأنّهم أكثر عدداً، وأنّه لا يستطيع أحد من الناس أن يبلغ مبلغهم. وأنّ من يريد أن يفاخرهم، فليعدّد مثل ما عدّد هو من المفاخر من كثرة الأموال وكثرة العدد والقوّة.
إنّ كلّ ما افتخر به هذا الخطيب يمثّل القيم الجاهلية؛ لأنّه لم يسلم بعد، وقد استمع إليه الرسولo، ثمّ طلب من خطيبه أن يقوم فيخطب، وهنا نعجب من سرعة تلقّي المسلمين لتوجيهات الرسولo في خطبهم وأشعارهم، وتوجيههم نحو الالتزام بمبادئ الإسلام. فكانت المعاني التي وردت في خطبة ثابت بن قيس الخزرجي خطيب الرسولo هي معان إسلامية، أو بالأحرى هي دعوة لمبادئ الإسلام. وفخر به. حمد الله تعالى خالق السماوات والأرض الذي اختار محمّداًo من بين الناس وائتمنه على كتابه، فهو خير العالمين، لأنّه يدعو إلى الإيمان بالله وقد صدّقه المهاجرون الأخيار والأنصار الذين أُمروا بالدفاع عن الرسولo ودينه، حتّى يظهر الله أمره. ثمّ يعرض عليهم الإسلام بقوله: (فمن آمن بالله ورسوله متع بماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً). ثمّ يقوم من وفد تميم شاعرهم وهو (3)
الزبرقان بن بدر. وهنا أيضاً نجد الفرق كبيراً بين المعاني التي يذكرها الشاعر الذي لم يسلم بعد والمعاني التي يذكرها حسّان في قصيدته، يقول الزبرقان:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا |
|
منّا الملوك وفينا يقسم الربع |
وكم قسرنا من الأحياء كلّهم |
|
عند النهاب، وفضل العزّ يتبع |
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا |
|
من الشواء، إذا لم يؤنس الفزع |
إلى آخر الأبيات التي يفخر بها فخراً قبلياً قائماً على المكارم والمثل العليا التي يعتدّ بها العربي، ولكن مقارنتها بقصيدة حسّان توضّح لنا توجيه الرسول الكريمo للشعراء وللحركة الشعرية بتسخيرهما لخدمة الدين الإسلامي.
لقد كان حسّان غائباً، وأخبر بخبر القوم، وأنّ الرسولo يدعوه فقدم ويبدو أنّه سمع قصيدة الزبرقان فقال نقيضه يرد قول وضمنها فخراً بالقيم العربية أوّلاً والقيم والمبادئ الإسلامية ثانياً، أو بالأحرى وجه الفخر بالقيم العربية وجهة إسلامية، فقوّمه الذين يخفر بهم فضلهم كبير؛ لأنّهم آمنوا بالدعوة الجديدة، وهم يبيّنون سنّة الدين، وهم سبّاقون إلى الخير في فضل أحلامهم متّسع. وهم عفيفون لا يصيبهم طمع، يخلصون للصديق يحاربون العدو، وقد أعطوا رسول اللهo ميثاقهم، وهم مطيعون لأوامره، ملبّون لدعوته ويستمرّ فخره مازجاً بين الفخر بالمثل العربية والمبادئ الإسلامية، ممّا يدلّ على تفهّمه لما يراد من الشاعر في تلك الحرب القائمة بين المشركين والمسلمين:
إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم |
|
قد بيّنوا سنّةً للناس تتبع |
والمطّلع يدلّ على فخره الإسلامي، فخره بجماعة المسلمين الذين يتبعون سنّة النبيo وتدلّنا تتمّة الخبر على عظم مكانة الشعر في الدعوة الإسلامية؛ لأنّ قصيدة حسّان هذه قد تركت أثرها الكبير في نفوس بني تميم وكانوا قد سمعوا نمطاً مثلها في خطبة ثابت الخزرجي. فقال سيّد بني تميم: (وأبي، إنّ هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواته أعلى من أصواتنا). فلمّا فرغ القوم أسلموا. (4)
وهكذا لا نعجب إذا وجدنا خبراً آخر يذكر فيه أنّ الرسولo بنى لحسّان بن ثابت منبراً في المسجد ينشد عليه الشعر، وهي مكانة كبيرة ما بعدها مكانة. فالمسجد مكان تجمّع المسلمين وصلاتهم، وكون حسّان يبنى له منبر فيه دليل كبير على تقديمه وتشجيعه، لإنشاد الشعر الذي يحفّز الهمم، ويدافع عن الدين الكريم. ونفهم إعجابهo بشعر حسّان المنافح عن الدعوة بقوله: هجاهم حسّان فشفا واشتفى.
ونفهم مثل هذا التوجيه الكريم للشعر والشعراء من خلال رواية أُخرى رواها عبدالله بن رواحة، وانّه مرّ بمسجد الرسولo فسمع نداء القوم، فعلم أنّ الرسولo يدعوه. فانطلق إليه فسلّم، فقال له الرسولo: هاهنا. فجلس: فقال وكأنّه يتعجّب من شعره: كيف تقول الشعر إذا قلته؟ قال: أنظر في ذلك ثمّ أقول. قال فعليك بالمشركين. قال: ولم أكن أعددت شيئاً وأنشدته:
فخبروني أثمان العباء متى |
|
كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر |
قال: وكأنّي عرفت في وجه رسول اللهo الكراهة إذ جعلت قومه أثمان العباء فقلت:
نجالد الناس عن عرض فنأسرهم |
|
فينا النبي، وفينا تنزل السور |
وقد علمتم بأنّا ليس يغلبنا |
|
حي من الناس إن عزّوا وإن كثروا |
ياهاشم الخير إنّ الله فضّلكم |
|
على البرية فضلاً ما له غير |
إنّي تفرّست فيك الخير أعرفه |
|
فراسة خالفتهم في الذي نظروا |
ولو سألت أو استنصرت بعضهم |
|
في جلّ أمرك ما آووا ولا نصروا |
فثبّت الله ما آتاك من حسن |
|
تثبيت موسى، ونصراً كالذي نصروا |
قال: فأقبل عليّ متبسّماً. ثمّ قال: وإيّاك فثبّت الله.
وهنا لابدّ من تحليل الرواية، إذ الرسولo ما كان يريد سؤال عبدالله بن رواحة على وجه الحقيقة كيف تقول الشعر؟ وهل يسأل عربي كالرسولo مثل هذا السؤال لقد أراد الرسولo أن يلفت نظر الشاعر إلى ما يجب قوله، ولذلك ظهر عليه شيء من عدم الارتياح حين هجا الشاعر قريشاً هجاء قبلياً؛ لأنّه جعل ثمنهم رخيصاً (5)
كأثمان العباء، لا لأنّهم قومه، ولكن حين تنبّه الشاعر إلى ما يجب قوله، وجدنا أبياته سائرة في نطاق الأدب الملتزم، فيفخر بلغة الجماعة دون أن يخصّ بالفخر الأوس أو الخزرج، أو حتّى قريشاً في الهجاء (نجالد الناس)، كما أنّ فخره نابع من نصرتهم للرسولo ونزول القرآن بينهم. أمّا بنو هاشم فإنّ فضلهم على الناس ليس لمكانة قبلية، وإنّما لكون الرسول المبعوثo منهم. لقد وثبت معاني الشاعر وثبة جميلة رائعة حين ربط بين نبوّة محمّدo ونبوّة موسى، توكيداً لدعوة الإسلام إلى وحدة الشرائع وبرسالة الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لدعوة التوحيد.
أمّا الروايات التي ذكر فيها انّ الرسولo كان يغيّر ألفاظ بعض الأبيات إذا أُنشدت أمامه فإنّنا نجدها لا تتجاوز معاني الفخر والمديح، وهي لا تخرج عن توجيهاتهo للشعراء لتكون أشعارهم في إطار الدعوة الإسلامية ومثلها. فقد ذكر أنّ كعب بن مالك أنشد الرسولo قوله:
ألا هل أتى حسّان عنّا وعنهم |
|
من الأرض خرق غوله متنعنع |
مجالدنا عن جذمنا كلّ فخمة |
|
مدربة فيها القوانس تلمع |
فغيّر الرسولo لفظة جذم إلى لفظ الدين، فتحوّل الفخر من الوجهة القبلية إلى الدينية، فيصبح الشاعر مفتخراً بالدفاع عن دينه، وليس عن أصله وأصل قبيلته.
أمّا تغييرهo لبيت كعب بن زهير في قصيدته المشهورة:
إنّ الرسول لنور يستضاء به |
|
مهنّد من سيوف الهند مسلول |
فغيّر الرسولo سيوف الهند إلى سيوف الله. والواقع انّ اللفظة التي اعتمدها الشاعر هي ممّا اعتاد الشعراء ذكره في وصف السيوف الجيّدة، ولا اعتراض على هذا إلّا أنّ اضافة السيوف إلى لفظ الجلالة يحوّل البيت من مديح شخصي إلى مديح ديني، فالرسولo مرسل من الله، وهو السيف المشهور أمام الباطل.
وأنشد الشاعر النابغة الجعدي قصيدة أمام الرسولo فلمّا بلغ قوله:
علونا السماء عفسة وتكرّماً |
|
وإنّا لنبغي فوق ذلك مظهرا |
سأله الرسولo: إلى أين ياأبا ليلى؟ أي: إذا بلغتم السماء في فخركم(6)
بكرمكم وعفّتكم فماذا تبغون بعد السماء؟ لكن الشاعر يجيب جواباً ينسجم مع توجيه الرسولo لجعل الشعر وسيلة من وسائل تجسيد العقيدة الإسلامية والدعوة إليها، فيهبط بالبيت من غلوّه ومبالغته المفرطة إلى توجيه عقائدي إسلامي حين أجاب الرسولo قائلاً: إلى الجنّة يا رسول الله. فيقول له الرسولo قائلاً: إلى الجنّة إن شاء الله ولا نرى في هذه الرواية إنكاراً لقول الشاعر قدر ما نحسّ توجيههo لشاعر في فخره، وألّا يتجاوز الحدّ المعقول، ولكن الشاعر ــ في الواقع ــ كان ابن المدرسة التي وجّهها الرسولo، فكان جوابه توكيداً لما تعلّمه من أنّ ما يطلبه من فخر هو حقّاً فوق السماء، إنّها الجنّة. وبذا أصبح فخره معقولاً وتمنّيه مشروعاً؛ لأنّ قومه قد التزموا بمبادئ الأخلاق ودافعوا عن الإسلام.
أمّا سماع الرسولo للشعر الجيّد الذي قيل قبل الإسلام فإنّه أمر طبيعي لطبيعة الحياة العربية آنذاك، وكون الشعر سجل الأُمّة آنذاك، ولأنّ الرسولo أفصح العرب يستهويه الشعر الجيّد ويعجبه سماعه، وهو أمر لا يحتاج إلى تسويغ وبحث عن أسباب. لقد ذكروا أنّه استنشد جماعة من المسلمين في مجلسه، قيل أنّهم كانوا من الخزرج، استنشدهم شعر قيس بن الخطيم، فأنشد قصيدة بائية، فأعجبهo فخر الشاعر بفروسيته، وسألهم إن كان الشاعر كذلك.
وأمّا سماعه لشعر أُميّة بن أبي الصلت فلابدّ أن يكون لما فيه من معاني التأمّل والحكمة والتوحيد التي وردت على لسانه ولسان الأحناف، فذكر أنّهo استنشد الرشيد بن سويد شعر أُميّة، فأنشده بيتاً وطلب الاستزادة، وكلّما زاد يقول له الرسولo: هيه. وأخيراً قال: كاد ليسلم في شعره. وفي رواية: آمن شعره وكفر قلبه. ولكن قصيدة أُميّة التي رثى بها قتلى المشركين ذكر أنّ الرسولo نهى عن روايتها ولم يذكر ابن سلام إلّا بيتين منها وهما:
ماذا ببدر فالعقنقل |
|
من مرازبة جحاجح |
هلّا بكيت على الكرام |
|
بني الكرام أُولي الممادح |
وابن إسحاق نفسه ذكر أكثر من بيتين لهذه القصيدة، ولكنّه أشار إلى أنّه حذف بيتين نال فيهما من أصحاب رسول اللهo. (7)
ويشبه هذا الموقف ولكنّه بسبب آخر ــ ما ذكر من أنّ الطفيل بن عمرو السدوسي قرأ على الرسولo أبياتاً من الشعر كان فيها:
أسلما على خسف ولست بخالد |
|
وما لي من راق إذا جاءني حتمي |
فلا سلم حتّى تحفز الناس خيفة |
|
ويصبح طير كانسات على لحم |
فأجابهم النبيo بأن قرأ الإخلاص والمعوّذتين (وذلك لما في هذا الشعر من روح جاهلية، تمجّد ما كان في الجاهلية من نزاع قبلي).
وقد احتذى الخلفاء الراشدون بتوجيهات الرسولo في توجيه الشعر الوجهة التي لا تخالف الإسلام، والروايات في ذلك كثيرة هي أقرب إلى الدراسة النقدية منها إلى الدراسة الأدبية.
أمّا ما قيل من أنّ لبيداً هجر الشعر عند ظهور الإسلام، وإنّ شاعريته قد توقّفت أواخر أيّام الخليفة عمر وأنّه لم يقل غير بيت واحد كما يقول ابن قتيبة فهو أمر مردود لابدّ من مناقشته، لأنّ كثيراً من الباحثين بنوا عليه أحكاماً خلاصتها انّ الإسلام حال بين الشعر والشعراء، أو أنّه أضعف الحركة الشعرية، وهو الأمر الذي ناقشناه باستفاضة فيما سبق.
وقد اختلفوا في البيت الذي ادّعوا أنّ لبيداً قاله في الإسلام فقيل هو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي |
|
حتّى لبست من الإسلام سربالا |
وهو بيت غير موجود في ديوانه، ألحقه المحقّقون فيما نسب إليه وإلى غيره. وهو منسوب إلى قردة بن نفاثة السلولي من معاصري لبيد، وصوّب ابن عبد البرّ نسبته إلى قرادة وقيل إنّ البيت الذي قاله لبيد في الإسلام هو:
ما عاتب الحرّ الكريم كنفسه |
|
والمرء يصلحه الجليس الصالح |
وقيل: بل البيت هو:
وكلّ امرئ يوماً سيعلم سعيه |
|
إذا كشفت عند الإله المحاصل |
وهذا البيت من قصيدة طويلة قالها قبل الإسلام.(8)
إنّ مقولة هجر لبيد قول الشعر أساسها رواية تذكر أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة: أن استنشد من قبلك من شعراء أهل مصرك من الشعر ما قالوه في الإسلام، فارسل إلى الأغلب العجلي فقال له: أنشدني فقال:
لقد سألت هيّناً موجودا |
|
أرجزا تريد أم قصيدا |
ثمّ أرسل إلى لبيد فقال: إن شئت أن أُنشدك ما قد عفى عنه، يعني شعر الجاهلية؟ فقال أنشدني ممّا قلت في الإسلام، فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثمّ جاء فقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.
فكتب المغيرة بذلك إلى الخليفة عمر. فزاد عطاء لبيد، تقديراً لموقفه.
لقد فصّل د. يحيى الجبوري مناقشة هذا الخبر، وما بني عليه من دعوى هجر لبيد الشعر وأثبت أنّ لبيداً لم يتوقّف عن قول الشعر ولم يهجره. ففي شعره ثروة ليست هيّنة، ولا قليلة تتّضح فيها الروح الإسلامية، وأنّ جواب لبيد السابق يفسّر بأنّه عرف ما أراده الخليفة من الاطمئنان إلى إيمان الشعراء، وتمسّكهم بعرى الدين، فأجاب الخليفة الجواب الفطن. ونضيف إلى هذا التحليل أنّه ربّما كان لبيد في الساعة التي سئل فيها أن ينشد شيئاً من الشعر كان وضع نفسي غير مستعدّ فيه لإنشاد شعر فكتب سورة البقرة، خاصّة إنّه كان قد مرّ عليه زمن في الإسلام، وفي شيخوخة المرء ما يحدّ من نشاطه الفكري فكيف برغبته في إنشاد الشعر؟
وقد علّق ابن حجر العسقلاني بعد أن ناقش رواية نفي نظم لبيد شعراً في الإسلام بقوله: ويكون مراد من قال إنّه لم ينظم شعراً منذ أسلم يريد شعراً كاملاً لا تكميلاً لقصيدة سبق نظمه بها.
إذن. يمكن القول بكلّ ثقة انّ الشعر في عصر صدر الإسلام كان في إطار حركة الدعوة وعنف المقاومة التي كانت بين المشركين والمسلمين، وما كان له أن يتوقّف وهو حياتهم التي اعتادوا عليها، وعبّروا به عن مواقفهم، ومشاعرهم. كلّ ما هناك انّ الشعر كان شعر حاضرة غالباً، فلغته تختلف عن لغة شعر المعلّقات التي تمثّل الشعر في أوج نضجه وجماله، وشعراؤه ليسوا الشعراء الفحول الذين يقاس شعرهم بشعر (9)
من سبقهم، إنّما هم شعراء حفّزتهم الأوضاع المستجدّة، ودفعهم ظهور الإسلام إلى قول الشعر مناصرين أو مناوئين. والدين الذي غيّر مسار أُمّة وتفكيرها وسلوكها لابدّ أن يغيّر مسار الشعر والدين الذي حرّك في الأُمّة روح الجهاد والقتال في سبيل الله لابدّ أن ينشّط الحركة الشعرية لتواكب هذا التغيير.
لقد كان لبدء النقائض بين المشركين والمسلمين أثره الكبير في تنشيط الأشعار، إذ توجّه شعراء قريش وفيهم عبدالله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث، وضرار بن الخطّاب لهجاء المسلمين بأبيات وقصائد، وتصدّى لهم شعراء المدينة من المسلمين. ويلاحظ هنا انّ النقائض التي كانت قائمة بين الأوس والخزرج في يثرب قد اختفت في الإسلام فتحوّلت إلى مناقضات بين مشركي قريش ومسلمي مكّة من الأنصار كما نجد نفثات الشعراء المسلمين تصدر في بيت أو بيتين أو مقطوعة قصيرة أحياناً يصوّرون فيها ما يعانونه من أذى المشركين في مكّة، أو يتشوّقون فيها إلى أهليهم وديارهم بعد هجرتهم إلى المدينة، وتتعالى هذه النفثات لتتحوّل إلى نفس طويل يعبّر عن أحداث تجري فتزلزل كيان المجتمع الإسلامي في المدينة. لقد قيلت نقائض طويل وشعر كثير في معركة بدر تعزّز النصر، ردّاً على الأعداء، مؤكّدة أنّ النصر الذي أحرزه المسلمون إنّما هو نصر للحقّ والدين، وأنّه من الله تعالى، وبإرادته، ونجد قصيدة كعب بن مالك الرائية مصوّرة لهذه المشاعر مؤكّدة المبادئ الإسلامية:
عجبت لأمر الله والله قادر |
|
على ما أراد ليس لله قاهر |
وبعد أن يصوّر تجمّع المشركين وتصميمهم على محاربة الدعوة الإسلامية يجعل هذا التجمّع موجّهاً لقوّة أعظم منه، إنّها قوّة الإيمان بالله ورسوله:
فلمّا لقيناهم وكلّ مجاهد |
|
لأصحابه مستبسل النفس صابر |
شهدنا بأنّ الله لا ربّ غيره |
|
وأنّ رسول الله بالحقّ ظاهر |
وحين يتمّ النصر للمسلمين يعلن شاعرنا أنّ هزيمة الكفّار نتيجة حتمية، فقد سبق أن أُنذروا، فلمّا عصوا حقّ عليهم عقاب الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب مقيم.
أمّا في معركة أُحد التي كان فيها النصر للمشركين، فإنّ الشعر صوّر معاناة (10)
المسلمين، إذ تعالت أصواتهم راثية قتلى المسلمين موجّهة هذا الرثاء وجهة إسلامية، فالشعراء لم يقتلوا إلّا بعد أن أدّوا الرسالة كاملة وأطاعوا الله ورسوله في استبسالهم في سبيل الله، وقتلهم المشركين:
فما برحوا يضربون الكماة |
|
ويمضون في القسطل المرهج |
كذلك حتّى دعاهم مليك |
|
إلى جنّة دوحة المولج |
وأمّا وصف معركة أُحد فقد أجاد فيها كعب بن مالك أيّما اجادة حين وصف جيوش المشركين بأنّه كالبحر في كثرتهم وتدافعهم، وأنّ جيش المسلمين كان كبيراً بقوّة المقاتلين لا عددهم (فقد ذكر أنّهم كانوا سبعمائة). لقد تجمّع فيه خيار الناس وأشرافهم، وأنّهم حتّى في عودتهم كانوا ثابتي العزيمة كأنّهم أُسود:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه |
|
أحابيش منهم حاسر ومقنّع |
ثلاثة آلاف ونحن نصيّة |
|
ثلاث مئين إن كثرنا وأربع |
فراحوا سراعاً موجفين كأنّهم |
|
جهام هراقت ماءه الريح مقلع |
ورحنا وأُخرانا تطانا كأنّنا |
|
أُسود على لحم ببيشة ظلّع |
ويستمرّ الشعر مواكباً الأحداث، مصاحباً الشعر في المعارك التي خاضها المسلمون حتّى أذن الله لدينه أن ينشر، وان تحرّر مكّة، وتفتح فتقدم بعد هذا وفود القبائل العربية ويكون الشعر لسان حال شعرائها. ولكن الملاحظ أنّ الشعر بعد الفتح قد خفّ حماسه؛ لإعلان قريش إسلامها؛ ولتقاطر الوفود العربية معلنة إسلامها أيضاً. وشعر هؤلاء الوفود لم يتجاوز الأبيات والمقطوعات التي تعلن القبيلة على لسان شاعرها إسلامها.
أمّا بعد وفاة الرسولo وما حدث من أحداث حروب الردّة الكبرى فإنّ صوت الشعر يتعالى مرّة أُخرى، محفّزاً المسلمين على ردّ الحقّ إلى نصابه، ومعلناً براءة الشاعر المسلم من قومه المرتدّين محرّضاً قومه على الوقوف إلى جانب جيش المسلمين .. وكلّ هذه المعاني المواكبة للأحداث سنحاول تتبّعها في أشعار شعراء الدعوة أوّلاً، وأغراض الشعر في عصر الإسلام ثانياً. (11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة ق 1/601 ، الوثائق السياسية 22.
(2) الوثائق السياسية 22.
(3) السيرة ق 2/317 ، تاريخ الطبري 3/79 ،اعجاز القرآن 135 .
(4) الوثائق السياسية 35-36 ، وانظر الخبر في أنساب الأشراف 1/211.
(5) الاموال 25،تاريخ الطبري 2/87 صحيح مسلم 5/160-166،سنن أبي داود 2/628 .
(6) الوثائق السياسية 42 فما بعدها .
(7) نفسه .
(8) الوزراء والكتاب 12 -13.
(9) الوثائق السياسية 37 .
(10) نفسه 38 .
(11) نفسه 39.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|