أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-2-2017
5946
التاريخ: 20-2-2017
3436
التاريخ: 1-3-2017
5608
التاريخ: 14-2-2017
4038
|
قال تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 272 - 274] .
{ليس عليك هداهم} قيل في وجه اتصاله بما قبله وجوه (أحدها) أن معناه ليس عليك هداهم بمنع الصدقة عنهم لتحملهم به على الإيمان وهو نظير قوله {أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعلى هذا شئت فيكون للتعميم والأول أولى ومما جاء في الحديث في صدقة السر قوله صدقة السر يكون معناه الإباحة للتصدق عليهم بصدقة التطوع (وثانيها) أن معناه ليس عليك هداهم بالحمل على النفقة في وجوه البر وسبل الخير عن الحسن وأبي علي الجبائي وتقديره ليس عليك أن تهدي الناس إلى نيل الثواب والجنة وإنما عليك أن تهديهم إلى الإيمان بأن تدلهم عليه وهذا تسلية للنبي لأنه كان يغتم بترك قبولهم منه وامتناعهم عن الإيمان لعلمه بما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم فسلاه الله تعالى بهذا القول (وثالثها) أن المراد ليس عليك أن تهدي الناس بعد أن دعوتهم وأنذرتهم وبلغتهم ما أمرت بتبليغه ونظيره إن عليك إلا البلاغ وليس المعنى ليس عليك أن تهديهم إلى الإيمان والطاعة لأنه ما بعث إلا لذلك .
{ولكن الله يهدي من يشاء} إنما علق الهداية بالمشيئة لمن كان المعلوم منه أنه يصلح باللطف أي بلطف الله بزيادة الهدى والتوفيق لمن يشاء عن الزجاج وأبي القاسم البلخي وأكثر أهل العلم وقيل معناه يهدي إلى طريق الجنة عن الجبائي .
{وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} أي ما تنفقوا في وجوه البر من مال فلأنفسكم ثوابه والغرض فيه الترغيب في الإنفاق لأن الإنسان إذا علم أن منفعة إنفاقه عائدة إليه مختصة به كان أسمح بالإنفاق وأرغب فيه وأحرص عليه وبذلك يفارق عطية الله لأن المنفعة في عطائه عائدة إلى المعطي ومختصة به دون الله ومعظم المنفعة في عطية العبد ترجع إليه وتختص به دون المعطى {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} أي إلا طلب رضوان الله وهذا إخبار من الله عن صفة إنفاق المؤمنين المخلصين المستجيبين لله ولرسوله أنهم لا ينفقون ما ينفقونه إلا طلبا لرضاء الله تعالى وقيل أن معناه النهي وإن كان ظاهره الخبر أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء مرضاة الله وفي ذكر الوجه هنا قولان (أحدهما) أن المراد به تحقيق الإضافة لأن ذكر الوجه يرفع الإبهام أنه له ولغيره وذلك أنك لما ذكرت الوجه ومعناه النفس دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك إلى تحقيق الاختصاص وكنت بذلك محققا للإضافة ومزيلا لإيهام الشركة .
(والثاني) أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف في الذكر من فعلته له لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يدل على شرف الذكر من غير تحقيق وجه أ لا ترى أنك تقول وجه الرأي ووجه الأمر ووجه الدليل فلا تريد تحقيق الوجه وإنما تريد أشرف ما فيه من جهة شدة ظهوره وحسن بيانه .
{وما تنفقوا من خير يوف إليكم} أي يوفر عليكم جزاؤه وثوابه والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن إليكم مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية وقيل معناه تعطون جزاءه وافرا وافيا في الآخرة عن ابن عباس {وأنتم لا تظلمون} بمنع ثوابه ولا بنقصان جزائه كقوله آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا أي لم تنقص .
ولما أمر سبحانه بالنفقة ورغب فيها بأبلغ وجوه الترغيب وبين ما يكمل ثوابها عقب ذلك ببيان أفضل الفقراء الذين هم مصرف الصدقات فقال {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} معناه النفقة المذكورة في هذه الآية وما قبلها للفقراء الذين حبسوا ومنعوا في طاعة الله أي منعوا أنفسهم من التصرف في التجارة للمعاش إما لخوف العدو من الكفار وإما للمرض والفقر وإما للإقبال على العبادة وقوله {في سبيل الله} يدل على أنهم حبسوا أنفسهم عن التقلب لاشتغالهم بالعبادة والطاعة .
{لا يستطيعون ضربا} أي ذهابا وتصرفا {في الأرض} لبعض ما ذكرناه من المعاني وقيل لمنع أنفسهم من التصرف في التجارة أي ألزموا أنفسهم الجهاد في سبيل الله فلا يقع منهم التصرف لغيره وليس معناه أنهم لا يقدرون عليه كما يقال أمرني الأمير بالمقام في هذا الموضع فلا أستطيع أن أبرح منه أي لا أبرح منه لإلزامي نفسي طاعة الأمير {يحسبهم الجاهل} أي يظنهم الجاهل بحالهم وباطن أمورهم {أغنياء من التعفف} أي الامتناع من السؤال والتجمل في اللباس والستر لما هم فيه من الفقر وسوء الحال طلبا لرضوان الله وطمعا في جزيل ثوابه .
{تعرفهم بسيماهم} أي تعرف حالهم بالنظر إلى وجوههم لما يرى من علامة الفقر عن السدي والربيع وقيل لما يرى من التخشع والخضوع الذي هو شعار الصالحين عن مجاهد {لا يسألون الناس إلحافا} قيل معناه أنهم لا يسألون الناس أصلا وليس معناه أنهم يسألون من غير إلحاف عن ابن عباس وهو قول الفراء والزجاج وأكثر أرباب المعاني .
وفي الآية ما يدل عليه وهو قوله {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} في المسألة ولو كانوا يسألون لم يكن يحسبهم الجاهل أغنياء لأن السؤال في الظاهر يدل على الفقر وقوله أيضا {تعرفهم بسيماهم} ولو سألوا لعرفوا بالسؤال قالوا وإنما هو كقولك ما رأيت مثله وأنت لم ترد أن له مثلا ما رأيته وإنما تريد أنه ليس له مثل فيرى فمعناه لم يكن سؤال فيكون إلحاح كقول الأعشى :
ومعناه ليس بساقها أين ولا نصب فيغمزها ليس أن هناك أينا ولا يغمز وفي الحديث(( أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويكره البؤس والتباؤس ويحب الحليم المتعفف من عباده ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف)) .
وعنه (عليه السلام) قال : إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال ، ونهي عن عقوق الأمهات ووأد (3) البنات وعن منع وهات وقال (عليه السلام) الأيدي ثلاث فيد الله العليا ويد المعطي التي تليه ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا (4) أو خموشا أو خدوشا في وجهه قيل وما غناه قال خمسون درهما أو عدلها من الذهب {وما تنفقوا من خير} من مال وقيل معناه في وجوه الخير {فإن الله به عليم} أي يجازيكم عليه .
ثم بين سبحانه كيفية الإنفاق وثوابه فقال {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية} في هذه الحالات أي ينفقون على الدوام لأن هذه الأوقات معينة للصدقات ولا وقت لها سواها {فلهم أجرهم عند ربهم} أتى بالفاء ليدل على أن الجزاء إنما هومن أجل الإنفاق في طاعة الله ولا يجوز أن يقال زيد فله درهم لأنه ليس فيه معنى الجزاء {ولا خوف عليهم} من أهوال يوم القيامة وأفزاعها {ولا هم يحزنون} فيها وقيل لا خوف من فوت الأجر ونقصانه عليهم ولا هم يحزنون على ذلك .
____________________________
1-مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص199-204 .
2- مضى هذا البيت في ما سبق .
3- اي : قتلهن .
4- الكدح دون الخدش ، والخدش دون الخمش .
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ ولكِنَّ اللَّهً يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} . سبق في الآية 26 من هذه السورة ان الهدى يطلق على معان : منها الهدى بالبيان والإرشاد ، وهذا وظيفة النبي ، ومنها التوفيق من اللَّه إلى عمل الخير بتمهيد السبيل إليه ، ومنها الاهتداء ، أي تقبّل النصيحة والعمل بها ، وهذا يسند إلى العبد ، ومنها الثواب ، ومنها الحكم على العبد بالهداية . .
ومعنى الهدى في قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} الاهتداء وقبول النصح أي ليس عليك أن يعملوا بالحق ، وانما عليك إبلاغ الحق ، وكفى : {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد : 40] . ومعنى الهدى في قوله : {ولكِنَّ اللَّهً يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} التوفيق إلى طريق الخير .
وقيل في سبب نزول قوله : {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ} : ان المسلمين كانوا لا يتصدقون إلا على أهل دينهم ، فخاطب اللَّه نبيه بهذه الآية ، وأراد بها جميع المسلمين مبينا لهم ان الكافر لا يعاقب على كفره في هذه الحياة بمنع الرزق عنه ، والتضييق عليه كي يضطر إلى الايمان . . وليس لأحد أن يعامله بذلك ، حتى ولوكان رسولا من عند اللَّه : { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس : 99] .
وتدل الآية ان الصدقة على غير المسلم جائزة ، فرضا كانت أو ندبا ، ولكن قول النبي (صلى الله عليه واله) : (أمرت ان آخذ الصدقة من أغنيائكم ، وأردها على فقرائكم) .
ان هذا الحديث يخصص الآية بصدقة الندب ، دون الفرض .
{وما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} . ربما توهم متوهم ان في الإنفاق خسارة له ، وحرمانا لأهله وعياله ، فدفع اللَّه هذا الوهم بأنه يعود على المنفق بالخير والنفع دنيا وآخرة ، أما في الآخرة فالأجر والثواب ، وأما في الدنيا فقال الشيخ محمد عبده : (ان الإنفاق يكف شر الفقراء عن الأغنياء ، لأن الفقراء إذا ضاق بهم الأمر يندفعون على أهل الثروة بالسرقة والإيذاء والنهب ، ثم يسري شرهم إلى غيرهم ، وربما صار فسادا عاما يذهب بالأمن والراحة) .
ولا أدري هل استوحى الشيخ محمد عبده قوله هذا من النقابات العمالية التي خلقت المعضلات والمشكلات لأرباب العمل ، وأرغمتهم على الاعتراف بالكثير من حقوق العمال ؟ . .
{وما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ} . أي ما دمتم تقصدون بالنفقة وجه اللَّه الكريم فهو يقبلها منكم ، سواء أعطيتموها لمسلم أو غير مسلم ، شريطة أن تكون من المال الجيد دون الرديء ، وان لا تكون مع المن والأذى . . وقيل :
ان هذا نهي بصيغة الإخبار ، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه اللَّه .
{وما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . حتى ولوكان الإنفاق على غير المسلم ، فإنكم لا تنقصون من الجزاء شيئا إذا كان الذي أنفقتم عليه محتاجا .
أهل الصّفة :
هاجر جماعة بدينهم إلى مدينة الرسول (صلى الله عليه واله) في عهده تاركين بلادهم وأموالهم وأهليهم ، ولم يكن لهم في المدينة مسكن ولا عشيرة ، ولم يجدوا فيها وسيلة للعيش ، ولا يستطيعون السفر طلبا للرزق ، ويبلغ عددهم 300 وقيل 400 فلازموا المسجد يتعبدون فيه ، ويحرسون بيوت الرسول ، ويتعلمون القرآن ، وكان حفظه وتعلمه من أفضل الطاعات ، لأنه حفظ للدين ، وفي الوقت نفسه كانوا يخرجون مع الرسول في كل غزوة . . وكانوا يقيمون في صفّة المسجد ، وهي موضع مظلل منه ، ومن هنا جاءت التسمية بأهل الصفة .
وكان النبي (صلى الله عليه واله) يطيّب قلوبهم ، ويقول لهم : (أبشروا يا أصحاب الصفة ، فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي) .
وهم أولى الناس بالصدقة ، لهذه الآية التي نزلت بهم ، وهي :
{لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} . وقد وصفت هذه الآية أهل الصفّة بصفات خمس :
1 - التفرغ للجهاد وطلب العلم ، وهذا معنى قوله : {أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . لأن البطال لا يصدق عليه انه حبس نفسه في سبيل اللَّه .
2 - العجز عن الكسب ، وهو المقصود بقوله : {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ} .
3 - التعفف : {يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} .
4 - ظهور علامة الفقر من وضعهم وحالهم ، لا من الحاحهم في السؤال ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله : {تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ} .
5 - عدم السؤال مما في أيدي الناس سؤال إلحاح ، واليه أشار سبحانه :
{لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} .
وذكرنا في تفسير الآية 177 من هذه السورة ان السؤال محرم لغير ضرورة .
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ سِرًّا وعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} . ذكر سبحانه 14 آية متوالية في أحكام الإنفاق آخرها هذه الآية ، وهي خلاصة ما تقدم ، وتأكيد لفضيلة الإنفاق في جميع الأوقات ليلا ونهارا ، وفي سائر الأحوال سرا وجهرا . . وذكر الرازي في سبب نزول هذه الآية أقوالا ، منها ما روي عن ابن عباس ان علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يملك أربعة دراهم فقط ، فتصدق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية ، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
الزكاة :
الزكاة غير صدقة التطوع ، لأن هذه الصدقة يدفعها المسلم ، وهو مخير بين فعلها وتركها ، ولا تخضع لشرط النصاب ، ولا لغيره سوى قصد التقرب بها إلى اللَّه وحده ، ويبدأ أجرها من عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما لا نهاية حسب دوافعها وأهدافها .
أما الزكاة فهي فرض عين ، وحق لازم ومعلوم في أموال المقتدر يدفعها لمستحقها ، وهي ثالث أركان الإسلام الخمسة : الشهادتين ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج .
ويرى بعض الغيورين على الإسلام ان الزكاة نظام اقتصادي ، أومن النظام الاقتصادي للإسلام ، واعتبرها آخرون ضريبة في أموال الأغنياء .
والصحيح ان الزكاة أبعد ما تكون عن الضريبة والنظام الاقتصادي ، لأن الشرط الأساسي لصحة الزكاة وقبولها هي نية التقرب بها إلى اللَّه ، وبدونها لا تقبل إطلاقا . . ولا شيء من الضرائب والأنظمة الاقتصادية يعتبر فيه هذا الشرط .
هذا ، إلى ان النظام الاقتصادي بمعناه الحديث ينظر أول ما ينظر إلى وسائل الانتاج ، كالأرض والمعدن والمصنع ويعتبرها ملكا شخصيا للأفراد يسيطرون عليها ، ويتحكمون بها ، كما هي الحال في النظام الرأسمالي ، أو يعتبرها ملكا للجماعة تديرها وتتحكم بها الدولة ، كالنظام الاشتراكي ، والزكاة لا تنظر إلى هذه الجهة إطلاقا . .
ثم ان الضريبة تتولى السلطة الحاكمة أمر تحصيلها وإنفاقها ، ولا تجيز بحال أن يمتنع المالك عن اعطائها للسلطة : ويتولى هو بنفسه صرفها في مواردها .
وقد أجمع فقهاء المسلمين كافة على ان للمالك أن ينفق الزكاة بنفسه دون إذن الحاكم ، وانه يصدّق بلا بينة ويمين إذا قال : أنفقتها في وجهها ، وأين هذا من الضريبة ؟ ! . بل أجاز الفقهاء للجابي أن يصرف الزكاة إلى الفقراء بنفسه ، ولا يردها إلى بيت المال . . قال الإمام علي (عليه السلام) لأحد عماله : اصرف ما عندك من المال إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيبا به مواضع الفاقة والخلات .
وبديهة ان هذا التصرف محظور على جابي الضرائب .
وقد يقول قائل : ان فريضة الزكاة معناها الاعتراف بأن الفقر محتوم لا مفر منه ، وان الإسلام يعالجه بالصدقات والتبرعات ، وانه يقيم الحياة على البذل والعطاء ، وبالنتيجة يقسم الناس إلى طبقات على أساس الغنى والفقر .
الجواب أولا : ان مصرف الزكاة لا ينحصر بالفقراء والمساكين فقط ، فان من جملة مصرفها المصالح العامة التي عبّر اللَّه عنها بسبيل اللَّه في العديد من الآيات ، فإذا لم يوجد الفقير صرفت الزكاة في هذا السبيل . . إذن ، فريضة الزكاة لا تحتم وجود الفقر على كل حال ، كي يقال : انها اعتراف واقرار بأن الفقر ضربة لازم لا مفر منها .
ثانيا : ان الضمان الاجتماعي يكفل للمعوزين ما يصونهم عن التسول والتشرد ، وهذا الضمان موجود في البلاد الاشتراكية التي لا تعترف بالفوارق المادية والطبقات .
ثالثا : ما ذا نصنع بالمريض الذي لا يملك ثمن الدواء ، وبالجائع الذي لا يجد وسيلة للغذاء في مجتمع يسوده فساد الأوضاع : هل نتركهما ، حتى تصلح الأوضاع ، ويمحى من الوجود أثر الفاقة والبؤس : أو نشرّع قانونا يضمن لهما الحياة وسد الخلة ؟ ثم هل يمكن تغيير الأوضاع ، ومحو الفقر بجرة قلم ، ودون أن يمر المجتمع بأكثر من مرحلة ؟ .
ان الإسلام حرب على الضعف بشتى مظاهره ، بخاصة الفقر ، وقد تعوذ النبي (صلى الله عليه واله) منه ، وعنه في بعض الروايات : (كاد الفقر يكون كفرا . . المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) .
ان رسالة السماء تستهدف كرامة الإنسان وسعادته ، والفقر منقصة ومذلة ، وشقا ء وبلاء . . فمحال ان يقره الإسلام . . ان الإسلام لا يأبى ان يكون في المجتمع غني وأغنى ، وقوي وأقوى ، ولكنه يأبى أن يكون فيه فقير وضعيف .
ان الإسلام لم يشرع الزكاة من أجل الفقراء فقط - كما يظن - وانما شرعها حلا للعديد من المشاكل ، منها مشكلة الفقر ، حيث يوجد ، ومنها مشكلة الرق ، حيث تفك رقاب العبيد بأموال الزكاة ، ومنها مشكلة الإنفاق على الجند المجاهد ، وما إلى ذلك من المصالح العامة ، كإنشاء المدارس والمصحات ودور الأيتام ، وشق الطرق والري . . ويأتي الكلام ان شاء اللَّه عن مصرف الزكاة في الآية 60 من سورة التوبة . ولو افترض ان مر على الانسانية زمان لا فقير فيه ، وجميع المصالح العامة متحققة متوافرة بحيث لا يوجد إطلاقا مصرف للزكاة فإنها تلغى من غير شك ، وهذا الزمان آت لا محالة ، فقد جاء في الجزء التاسع من صحيح البخاري ، باب الفتن ، عن النبي (صلى الله عليه واله) انه قال : (تصدقوا ، فسيأتي على الناس زمان ، يمشي الرجل بصدقته ، فلا يجد من يقبلها) .
هذا ، إلى أن الإسلام أوجب على صاحب الزكاة حين يؤديها إلى المحتاج أن لا يؤذي كرامته ، ولا يخدش شعوره ، وان يعتقد انه يؤدي واجبا عليه ، ودينا لا بد من وفائه ، وليؤكد القرآن هذا المعنى قال : {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج : 24 ، 25] . . وتقدم تفسير الآية 262 - 263 :
{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة : 262 ، 263] .
وبالرغم من أن الإسلام سبق الشرائع كلها السماوية والوضعية إلى تشريع الزكاة ، هذا التشريع الانساني الذي لم يهتد إليه أرباب الأنظمة إلا بعد الإسلام بمئات السنين ، وأسموه بالضمان الاجتماعي - على الرغم من ذلك فان أفضل شيء يقدم للمحتاجين في نظر الإسلام ان تهيأ لهم الأعمال المناسبة لقدراتهم ، حتى يشعروا بقيمتهم في الحياة : واللَّه تعالى يحب عبده المؤمن المحترف .
وخير ما نختم به هذه الفقرة قول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) : على كل جزء من أجزائك زكاة للَّه ، فزكاة العين الاعتبار ، والغض عن المحرمات ، وزكاة الأذن الاستماع إلى العلم والحكمة ، وزكاة اللسان الحمد والشكر للَّه ، والنصيحة للمسلمين ، وزكاة اليد البذل ، وزكاة الرجل السعي للجهاد والإصلاح بين الناس .
_________________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص426-431 .
قوله تعالى : {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} ، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان ما كان يشاهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإخلاص من بعضهم والمن والأذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإيمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإيمان وإلى درجاته ، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقاؤه حتى يكون عليه حفظه ، ويشنق من زواله أو ضعفه ، أو يسوؤه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإيعاد والخشونة .
والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى : ، {هداهم} ، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس .
على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه .
فالجملة أعني قوله : {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والإقبال عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [القيامة : 16 ، 17] .
فلما تم الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين .
قوله تعالى : {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} "إلى آخر" الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإنذار والتحنن والتغيظ معا ، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى : {ولكن الله يهدي من يشاء} كما لا يخفى .
فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع ، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين ، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لا تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ، فقوله : {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله حال} ، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله : {فلأنفسكم} .
ولما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج ، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله : وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ، فبين أن نفع هذا الإنفاق المندوب وهوما يترتب عليه من مثوبة الدنيا والآخرة ليس أمرا وهميا ، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص .
وإبهام الفاعل في قوله : {يوف إليكم} ، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي ، ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له ، فلوكان هناك نفع فلسامعه لا غير .
قوله تعالى : {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} إلى آخر الآية ، الحصر هو المنع والحبس ، والأصل في معناه التضييق ، قال الراغب في المفردات ، : والحصر والإحصار المنع من طريق البيت ، فالإحصار يقال : في المنع الظاهر كالعدو ، والمنع الباطن كالمرض ، والحصر لا يقال ، إلا في المنع الباطن ، فقوله تعالى : {فإن أحصرتم فمحمول على الأمرين} وكذلك قوله : {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} ، وقوله عز وجل : {أو جاءوكم حصرت صدورهم} ، أي ضاقت بالبخل والجبن ، انتهى .
والتعفف التلبس بالعفة ، والسيماء العلامة ، والإلحاف هو الإلحاح في السؤال .
وفي الآية بيان مصرف الصدقات ، وهو أفضل المصرف ، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك : إما عدو أخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك .
وفي قوله تعالى {يحسبهم الجاهل} أي الجاهل بحالهم أغنياء من التعفف دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما .
ومن هنا يظهر : أن المراد بقوله : {لا يسألون الناس إلحافا} أنهم لا يسألون الناس أصلا حتى ينجر إلى الإلحاف والإصرار في السؤال ، فإن السؤال أول مرة يجوز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف ، والإلحاف على كل أحد ، كذا قيل ، ولا يبعد أن يكون المراد نفي الإلحاف لا أصل السؤال ، ويكون المراد بالإلحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة ، فإن مسمى الإظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا ، والزائد عليه وهو الإلحاف هو المذموم .
وفي قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلهم .
وأما معرفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحالهم بتوسمه من سيماهم ، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرءوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم ، ولا ذهاب كرامتهم ، وهذا - والله أعلم – هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد .
قوله تعالى : {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار} إلى آخر الآية ، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين ، واستيفاء الأزمة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله ، وإرادة وجهه ، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة والتلطف فقال : {لهم أجرهم عند ربهم} إلخ .
__________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص338-340 .
الإنفاق على غير المسلمين :
تحدّثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام ، ولكن في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين ، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتّى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك .
تقول الآية (ليس عليك هداهم) فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان ، وترك الإنفاق عليهم نوعٌ من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام ، وهذا الاُسلوب مرفوض ، ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّه في الواقع يستوعب كلّ المسلمين .
ثمّ تضيف الآية{ولكنّ الله يهدي من يشاء} ومن تكون له اللياقة للهداية .
فبعد هذا التذكّر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول : {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلاّ إبتغاء وجه الله} .
هذا في صورة ما إذا قلنا أنّ جملة {وما تنفقون} قد أخذت هنا بمعنى النهي ، فيكون معناها أنّ إنفاقكم لا ينفعكم شيئاً إلاّ إذا كان في سبيل الله تعالى .
ويحتمل أيضاً أن تكون هذه الجملة خبريّة ، أي أنكم أيّها المسلمون لا تنفقون شيئاً إلاّ في سبيل الله تعالى وكسب رضاه .
وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيداً أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيّته حيث تقول الآية {وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} .
يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل ، بل أنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملاً ، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدّة ، فعلى هذا لا تتردّدوا في الإنفاق أبداً .
ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أنّ نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلاً على تجسّم الأعمال الذي سيأتي بحثه مفصّلاً في الآيات اللاحقة (2) .
خير مواضع الإنفاق :
ويبيّن الله في الآية الثانية أفضل مواضع الإنفاق ، وهي التي تتّصف بالصفات التالية :
1 ـ {للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله} أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو ، وتعليم فنون الحرب ، وتحصيل العلوم الأُخرى ، عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف (3) .
ثمّ للتأكيد تضيف الآية : {لا يستطيعون ضرباً في الأرض} أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاُخرى حيث تتوفر نِعم الله تعالى . وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلاَّ إذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله .
2 ـ الذين {يحسبُهم الجاهل أغنياء من التعفّف} هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئاً عن بواطن أُمورهم ، ولكنهم ـ لما فيهم من عفّة النفس والكرامة ـ يظنّون أنهم من الأغنياء .
ولكن هذا لا يعني أنهم غير معروفين . لذا تضيف الآية (تعرفهم بسيماهم) .
السيماء : العلامة (4) . فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشيء عن حالهم ، فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون ، فلون وجناتهم ينبيء عمّا خفي من أسرارهم .
3 ـ والثالث من صفات هؤلاء أنهم لا يصرّون في الطلب والسؤال : (لا يسألون الناس إلحافاً) (5) أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس ، فهم يمتنعون عن السؤال فضلاً عن الإلحاف ، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديّين ، وهؤلاء ليسوا عاديّين . وقول القرآن إنّهم لا يلحفون في السؤال لا يعني أنّهم يسألون بدون إلحاف ، بل يعني أنّهم ليسوا من الفقراء العاديّين حتّى يسألوا ، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله تعالى : (تعرفهم بسيماهم)لأنّهم لا يُعرفون بالسؤال .
ثمّة احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّهم إذا اضطرّتهم الحالة إلى إظهار عوزهم فإنّهم لا يلحفون في السؤال أبداً ، بل يكشفون عن حاجتهم بأسلوب مؤدّب أمام إخوانهم المسلمين .
{وما تنفقون من خير فإنّ الله به عليم} .
في هذه الآية حثّ على الإنفاق ، وعلى الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية ، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ الله عالم بما ينفقون حتّى وإن كان سرّاً وأنّه سوف يثيبهم على ذلك ، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير .
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون } :
الإنفاق محمودٌ بكلّ أشكاله :
في هذه الآية يدور الحديث أيضاً عن مسألة اُخرى ممّا يرتبط بالإنفاق في سبيل الله وهي الكيفيّات المتنوّعة والمخلفة للإنفاق فتقول الآية : {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أُجرهم عند ربهم} .
ومن الواضح أنّ إنتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق ، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والإجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي ، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين وتركيزاً لإخلاص النيّة .
وإذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة والترغيب والحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين ، فليعلن عنه (كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيريّة وأمثال ذلك) .
ولا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلاّ أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال .
ومن المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله (وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئاً قليلاً وغير ذا قيمة ، بل يكون متناسباً مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى .
ثمّ تضيف الآية {ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} .
إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر اُموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة ، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك ، ويشتدّ به الخوف على مستقبله ، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام . هذه الحالة غالباً ما تمنع الإنسان من الإنفاق ، إلاَّ الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة اُخرى آثار الإنفاق الإجتماعية . فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق ، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والإجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة .
_________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص141-151 .
2 ـ سوف تأتي هذه المسألة مفصلاً في ذيل الآية (30) من سورة آل عمران وفي هذا المجلد بالذات .
3 ـ «حصر» بمعنى الحبس والمنع والتضييق وجاءت هنا بمعنى جميع الاُمور التي تمنع الإنسان من تأمين معاشه .
4 ـ قيل أنها من مادة «وسم» ، وقيل أنها من مادة «سوم» .
5 ـ «الحاف» من مادة «لِحاف» بمعنى الغطاء المعروف ، واُطلق على الاصرار في السؤال لأنّه يغطي قلب الشخص المقابل .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|