أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
4018
التاريخ: 9-12-2016
2728
التاريخ: 14-2-2017
14078
التاريخ: 4-12-2016
11824
|
قال تعالى : {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُو الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة : 255] .
لما قدم سبحانه ذكر الأمم واختلافهم على أنبيائهم في التوحيد وغيره عقبه بذكر التوحيد فقال {الله} أي من يحق له العبادة لقدرته على أصول النعم وقد ذكرنا اختلاف الأقوال في أصله وفي معناه في مفتتح سورة الفاتحة {لا إله إلا هو} أي لا أحد تحق له العبادة ويستحق الإلهية غيره {الحي} قد ذكرنا معناه {القيوم} القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء وإيصال أرزاقهم إليهم كما قال {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} عن قتادة وقيل القيوم هو العالم بالأمور من قولهم هذا يقوم بهذا الكتاب أي يعلم ما فيه وقيل معناه الدائم الوجود عن سعيد بن جبير والضحاك وقيل معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها من حيث هو عالم بها عن الحسن واللفظ لجميع هذه الوجوه محتمل {لا تأخذه سنة} أي نعاس .
{ولا نوم} ثقيل مزيل للقوة وقيل معناه لا يغفل عن الخلق ولا يسهوكما يقال للغافل أنت نائم وأنت وسنان {له ما في السماوات وما في الأرض} معناه له ملك ما فيهما وله التصرف فيهما {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} هو استفهام معناه الإنكار والنفي أي لا يشفع يوم القيامة أحد لأحد إلا بإذنه وأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم فأخبر الله سبحانه أن أحدا ممن له الشفاعة لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله له في ذلك ويأمره به .
{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} قيل فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه يعلم ما بين أيديهم ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة عن مجاهد والسدي ( والثاني ) معناه يعلم الغيب الذي تقدمهم من قولك بين يديه أي قدامه وما مضى فهو قدام الشيء فيحمل عليه على هذا التقدير لا إن هذا اللفظ حقيقة في الماضي .
{وما خلفهم} يعني الغيب الذي يأتي بعدهم عن ابن جريج ( والثالث ) أن {ما بين أيديهم} عبارة عما لم يأت كما يقال رمضان بين أيدينا {وما خلفهم} عبارة عما مضى كما يقال في شوال قد خلفنا رمضان عن الضحاك {ولا يحيطون بشيء من علمه} معناه من معلومة كما يقال اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك فينا ويقال إذا ظهرت آية هذه قدرة الله أي مقدور الله والإحاطة بالشيء علما أن يعلمه كما هو على الحقيقة {إلا بما شاء} يعني ما شاء أن يعلمهم ويطلعهم عليه .
{وسع كرسيه السماوات والأرض} اختلف فيه على أقوال ( أحدها ) وسع علمه السماوات والأرض عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) ويقال للعلماء كراسي كما يقال أوتاد الأرض لأن بهم قوام الدين والدنيا ( وثانيها ) أن الكرسي هاهنا هو العرش عن الحسن وإنما سمي كرسيا لتركيب بعضه على بعض ( وثالثها ) أن المراد بالكرسي هاهنا الملك والسلطان والقدرة كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسيا أي عمادا يعمد به حتى لا يقع ولا يميل فيكون معناه أحاط قدرته بالسماوات والأرض وما فيهما ( ورابعها ) أن الكرسي سرير دون العرش وقد روي عن أبي عبد الله وقريب منه ما روي عن عطاء أنه قال ما السماوات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة خاتم في فلاة وما الكرسي عند العرش إلا كحلقة في فلاة ومنهم من قال إن السماوات والأرض جميعا على الكرسي والكرسي تحت العرش كالعرش فوق السماء .
وروى الأصبغ بن نباتة أن عليا قال إن السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله ملك منهم في صورة الآدميين وهي أكرم الصور على الله وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للآدميين والملك الثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق للبهائم والملك الثالث في صورة النسر وهو سيد الطيور وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لجميع الطيور والملك الرابع في صورة الأسد وهو سيد السباع وهو يدعو الله ويتضرع إليه ويطلب الشفاعة والرزق لجميع السباع قال ولم يكن في جميع الصور صورة أحسن من الثور ولا أشد انتصابا منه حتى اتخذ الملأ من بني إسرائيل العجل وعبدوه فخفض الملك الذي في صورة الثور رأسه استحياء من الله أن عبدوا من دون الله بشيء يشبهه وتخوف أن ينزل الله به العذاب .
{ولا يؤوده حفظهما} أي لا يشق على الله ولا يثقله حفظ السماوات والأرض وقيل الهاء في يؤوده يعود إلى الكرسي وهذا على قول من يقول أن السماوات والأرض على الكرسي {وهو العلي} عن الأشباه والأضداد والأمثال والأنداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدث وقيل هومن العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء {العظيم} أي العظيم الشأن القادر الذي لا يعجزه شيء والعالم الذي لا يخفى عليه شيء لا نهاية لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته وروى علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسين بن خالد أنه قال قرأ أبو الحسن الرضا (عليه السلام) الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه .
____________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص159-161 .
{ اللَّهُ لا إِلهً إِلَّا هُو الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . قال الفيلسوف الإلهي الشهير بالملا صدرا :
لفظ الجلالة {اللَّه} يدل بذاته على توحيد الذات والصفات معا ، أما دلالته على توحيد الذات فلأن هذا الاسم الأعظم لا يطلق على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا ، قال سبحانه : {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم : 65] .
واما دلالته على توحيد الصفات فلأن هذا الإسلام يدل على الذات الجامعة لكل صفات الكمال والجلال بخلاف سائر الأسماء كالعالم والقادر والخالق فان آحادها لا تدل إلا على آحاد المعاني من العلم أو القدرة أو الفعل .
وتسأل : ان صفات الكمال والجلال كثيرة ، ومتغايرة بحسب مفاهيمها ، فكيف يصح القول بتوحيدها ، مع هذا التعدد والتغاير ؟ ! .
الجواب : إذا قلت : هذا رجل عالم ، فهم منه وجود شيئين : صفة وموصوف ، موضوع ومحمول ، وكل منهما غير الآخر في حقيقته ، لأن الرجولة غير العلم ، والعلم غير الرجولة . . هذا بالنسبة إلى المخلوق ، أما بالنسبة إلى الخالق فليس إلا الوجود القدسي ، وهذا الوجود هو نفسه العلم ، وهو نفسه القدرة ، وهو نفسه الحكمة . . فلا صفة وموصوف ، ولا موضوع ومحمول ، بل شيء واحد فقط لا غير . . وهذا الوجود القدسي لا مجانس له ، ولا شبيه له ، لأنه واجب بالذات ، ولا يجب غيره إلا به .
{لا إِلهً إِلَّا هُو} قيل معناه لا معبود بحق إلا هو ، ولكن المفهوم لا أحد يجمع صفات الألوهية الا هو ، وكيف كان فان المعنيين متلازمان .
{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} . إذا نسبت الحياة إلى غير اللَّه سبحانه يكون معناها النمو والحركة والاحساس والإدراك ، وإذا نسبتها إليه جل جلاله فيراد بها العلم والقدرة . .
والقيوم مبالغة في القائم ، وهو في اللغة غير القاعد والنائم ، والمراد به هنا قيامه تعالى على كل موجود بخلقه وتدبيره : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] .
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان : 2] . قال الملا صدرا : ( فقوله :
الحي دل على كونه عالما قادرا ، وقوله : القيوم دل على كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره ، فالوصفان متوافقان في المعنى قوة وفعلا ، متداخلان في المفهوم كلا أو بعضا ) . يريد ان القيمومة لا تنفك عن الحياة ، كما ان الحياة بمعنى القدرة والعلم لا تنفك عن القيمومة .
اللَّه وسنن الطبيعة :
وتسأل : هل معنى قيام اللَّه على تدبير الأشياء ان جميع الظواهر الطبيعية ، حتى الجزئيات منها هو الذي يتولى أمر تدبيرها مباشرة بنفسه ، ومن غير توسط أي سبب من الأسباب المادية ، كما يظهر من الآية 13 - 14 من سورة المؤمنون :
{ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} .
فان المتبادر إلى الفهم من هذه الآية ان اللَّه سبحانه قد تدخل تدخلا مباشرا ومستمرا لنقل النطفة من طور إلى طور ، مع العلم بأن النظرية العلمية تقول :
ان النطفة تنمو وتتطور وفقا لقوانين طبيعية معينة ؟ .
ولا بد في الجواب من التمييز بين حادثة خارقة للطبيعة ، كإحياء الموتى ، وإيجاد شيء من لا شيء ، وبين حادثة تأتي وفقا لقوانين الطبيعة ، مثل كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، وما إليهما . . فما كان من النوع الأول يسند إليه سبحانه مباشرة ، وبلا واسطة ، وما كان من النوع الثاني يسند إلى الأسباب الطبيعية مباشرة ، واليه تعالى بواسطتها ، لأنه هو الذي أوجد الطبيعة بما فيها من قوى وعناصر ، وهذه العناصر تتفاعل ، وتأخذ مجراها في ظواهر الكون . .
وعليه يكون خلقه لهذه الظواهر ، ومنها تطور النطفة ، هو خلقه لأسبابها .
{وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي يجريه من خلال السنن والقوانين الطبيعية ، ولوكان هو الذي يتولى خلقها مباشرة وبلا واسطة لما وجدت الأسباب والمسببات .
وبهذا يتبين معنا ان من يؤمن بأن كل حادثة طبيعية تستند إلى اللَّه مباشرة ، وبلا توسط سبب من الأسباب المحسوسة التي اكتشفها العلم ، ويمكن أن يكتشفها ، فهو جاهل مخطئ في إيمانه . . ولو صح إيمانه هذا لم يجب العمل لشيء ، ولا كان للعلم من جدوى ، ولا للمخترعات وتقدم الانسانية من أثر . . كما ان من يعتقد ان الطبيعة هي كل شيء ، وانها السبب الأول والأخير ، ولا شيء وراءها فهو أيضا جاهل مخطئ في اعتقاده ، والا لم يكن للنظام عين ولا أثر ، ولسادت الفوضى والاضطراب ، وتكون النتيجة لا علم ولا حياة . وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية 21 من هذه السورة ، فقرة التوحيد .
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ} . السنة النعاس ، وهو الفتور الذي يتقدم النوم . .
لما بيّن سبحانه انه الحي القيوم أكد ذلك بأنه تعالى لا يمنعه نوم ولا سهو ولا شيء عن تدبير خلقه على الوجه الأتم الأكمل ، لأن ذلك يتنافى مع عظمته
واستغنائه عن كل شيء . . قال الإمام علي ( عليه السلام ) مخاطبا ربه : (لسنا نعلم كنه عظمتك الا انّا نعلم انك حي قيوم لا تأخذك سنة ولا نوم ، لم ينته إليك نظر ، ولم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، وأحصيت الأعمال ، وأخذت بالنواصي والاقدام) .
{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الأَرْضِ} . المراد بما فيهما الكون كله ، لا يخرج منه شيء عن سلطانه وتدبيره . . سئل الإمام علي ( عليه السلام ) عن معنى لا حول ولا قوة الا باللَّه ؟ . فقال : انّا لا نملك مع اللَّه شيئا ، ولا نملك الا ما ملكنا ، فمتى ملَّكنا ما هو أملك به منا كلفنا ، ومتى أخذه منا وضع تكليفه عنا .
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} . جاء بصيغة الاستفهام ، ومعناه النفي والإنكار ، أي لا يشفع أحد عنده الا بأمره . . وهذا رد وإبطال لقول المشركين بأن الأصنام تقربهم إلى اللَّه زلفى ، قال تعالى حكاية عنهم : {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } [يونس : 18] . وتكلمنا عن الشفاعة عند تفسير الآية 48 . وقال بعض العارفين :
ان الناس غدا على أصناف : منهم السابقون ، وهم المقربون ، ومنهم أصحاب اليمين ، وهم سعداء ناجون ، ومنهم أصحاب الشمال ، وهم أشقياء معاقبون ، ومنهم أهل العفو ، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهؤلاء تقبل الشفاعة فيهم ، لقوله تعالى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 102] .
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ } . المعنى ان اللَّه سبحانه يعلم من عباده ما كان ويكون من خير وشر ، ويعلم الشافع والمشفوع له ، ومن يستحق العفو والثواب ، أو العذاب والعقاب ، وما دام الأمر كذلك فلا يبقى مجال للشفاعة إلا بأمره تعالى ضمن الحدود التي يرتضيها .
{ ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ } . الضمير في لا يحيطون راجع إلى جميع العباد بما فيهم الملائكة والأنبياء ، والمراد من العلم المعلوم ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والأكل بمعنى المأكول . . والمعنى واضح ، وان شئت زيادة في التوضيح فاقرأ الآية 26 من سورة الجنّ : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن : 26 ، 27] والآية 32 من البقرة : {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة : 32] .
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأَرْضَ} . كثرت أقوال المفسرين وتضاربت في معنى الكرسي ، وبعض هذه الأقوال قول على اللَّه من غير علم ، وخيرها قولان :
الأول انه كناية عن عظمة اللَّه وقدرته . الثاني ان المراد بالكرسي العلم ، أي ان علمه سبحانه أحاط بكل شيء والسياق يرجح هذا المعنى .
{ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وهُو الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . أي لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ، وتدبير ما فيهما ، كيف ؟ وخلق الذبابة والكون بالنسبة إليه سواء ، ما دام سبحانه إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون .
شيء من لا شيء :
فاعل الشيء على نوعين : الأول من نوع المادة . الثاني منزه عنها ، ويفترقان من وجوه :
1 - ان الفاعل المادي يحتاج إلى حركة وآلة دون الثاني .
2 - ان المادي يناله التعب والاعياء دون الثاني .
3 - يستحيل على المادي أن يوجد شيئا من لا شيء ، ولا يستحيل ذلك عمن تنزه عن المادة . . ومن هنا يتبين ان قياس الخالق على المخلوق الذي يعجز عن إيجاد شيء من لا شيء قياس مع الفارق . . وكيف يصح قياس الغني عن كل شيء ، ويفتقر إليه كل شيء ، ويقول للشيء كن فيكون ، كيف يصح قياس هذا القادر على العاجز المفتقر إلى كل شيء .
________________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص391-395 .
قوله تعالى : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ، قد تقدم في سورة الحمد بعض الكلام في لفظ الجلالة ، وأنه سواء أخذ من أله الرجل بمعنى تاه ووله أومن أله بمعنى عبد فلازم معناه الذات المستجمع لجميع صفات الكمال على سبيل التلميح .
وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : لا إله إلا هو ، في قوله تعالى : {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [البقرة : 163] ، وضمير هو وإن رجع إلى اسم الجلالة لكن اسم الجلالة لما كان علما بالغلبة يدل على نفس الذات من حيث إنه ذات وإن كان مشتملا على بعض المعاني الوصفية التي يلمح باللام أو بالإطلاق إليها ، فقوله : لا إله إلا هو ، يدل على نفي حق الثبوت عن الآلهة التي تثبت من دون الله .
وأما اسم الحي فمعناه ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات .
والناس في بادئ مطالعتهم لحال الموجودات وجدوها على قسمين : قسم منها لا يختلف حاله عند الحس ما دام وجوده ثابتا كالأحجار وسائر الجمادات ، وقسم منها ربما تغيرت حاله وتعطلت قواه وأفعاله مع بقاء وجودها على ما كان عليه عند الحس ، وذلك كالإنسان وسائر أقسام الحيوان والنبات فإنا ربما نجدها تعطلت قواها ومشاعرها وأفعالها ثم يطرأ عليها الفساد تدريجا ، وبذلك أذعن الإنسان بأن هناك وراء الحواس أمرا آخر هو المبدأ للإحساسات والإدراكات العلمية والأفعال المبتنية على العلم والإرادة وهو المسمى بالحياة ويسمى بطلانه بالموت ، فالحياة نحو وجود يترشح عنه العلم والقدرة .
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحياة في كلامه ذكر تقرير لها ، قال تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الحديد : 17] ، وقال تعالى : { أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت : 39] ، وقال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر : 22] ، وقال تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء : 30] ، فهذه تشمل حياة أقسام الحي من الإنسان والحيوان والنبات .
وكذلك القول في أقسام الحياة ، قال تعالى : {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } [يونس : 7] ، وقال تعالى : {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [غافر : 11] ، والإحياءان المذكوران يشتملان على حياتين : إحداهما : الحياة البرزخية ، والثانية : الحياة الآخرة ، فللحياة أقسام كما للحي أقسام .
والله سبحانه مع ما يقرر هذه الحياة الدنيا يعدها في مواضع كثيرة من كلامه شيئا رديا هينا لا يعبأ بشأنه كقوله تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ } [الرعد : 26] ، وقوله تعالى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [النساء : 94] ، وقوله تعالى : { تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف : 28] ، وقوله تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام : 32] ، وقوله تعالى : {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران : 185] ، فوصف الحياة الدنيا بهذه الأوصاف فعدها متاعا والمتاع ما يقصد لغيره ، وعدها عرضا والعرض ما يتعرض ثم يزول ، وعدها زينة و- الزينة – هو الجمال الذي يضم على الشيء ليقصد الشيء لأجله فيقع غير ما قصد ويقصد غير ما وقع ، وعدها لهوا و- اللهو- ما يلهيك ويشغلك بنفسه عما يهمك ، وعدها لعبا واللعب هو الفعل الذي يصدر لغاية خيالية لا حقيقية ، وعدها متاع الغرور وهوما يغر به الإنسان .
ويفسر جميع هذه الآيات ويوضحها قوله تعالى : {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت : 64] ، يبين أن الحياة الدنيا إنما تسلب عنها حقيقة الحياة أي كمالها في مقابل ما تثبت للحياة الآخرة حقيقة الحياة وكمالها ، وهي الحياة التي لا موت بعدها ، قال تعالى : {آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان : 55 ، 56] ، وقال تعالى : {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق : 35] ، فلهم في حياتهم الآخرة أن لا يعتريهم الموت ، ولا يعترضهم نقص في العيش وتنغص ، لكن الأول من الوصفين أعني الأمن هو الخاصة الحقيقة للحياة الضرورية له .
فالحياة الأخروية هي الحياة بحسب الحقيقة لعدم إمكان طرو الموت عليها بخلاف الحياة الدنيا ، لكن الله سبحانه مع ذلك أفاد في آيات أخر كثيرة أنه تعالى هو المفيض للحياة الحقيقية الأخروية والمحيي للإنسان في الآخرة ، وبيده تعالى أزمة الأمور ، فأفاد ذلك أن الحياة الأخروية أيضا مملوكة لا مالكة ومسخرة لا مطلقة أعني أنها إنما ملكت خاصتها المذكورة بالله لا بنفسها .
ومن هنا يظهر أن الحياة الحقيقية يجب أن تكون بحيث يستحيل طرو الموت عليها لذاتها ولا يتصور ذلك إلا بكون الحياة عين ذات الحي غير عارضة لها ولا طارئة عليها بتمليك الغير وإفاضته ، قال تعالى : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان : 58] ، وعلى هذا فالحياة الحقيقية هي الحياة الواجبة ، وهي كون وجوده بحيث يعلم ويقدر بالذات .
ومن هنا يعلم : أن القصر في قوله تعالى : { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [غافر : 65] قصر حقيقي غير إضافي ، وأن حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى .
فالأوفق فيما نحن فيه من قوله تعالى : {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} الآية ، وكذا في قوله تعالى : {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران : 1 ، 2] أن يكون لفظ الحي خبرا بعد خبر فيفيد الحصر لأن التقدير ، الله الحي فالآية تفيد أن الحياة لله محضا إلا ما أفاضه لغيره .
وأما اسم القيوم فهو على ما قيل : فيعول كالقيام فيعال من القيام وصف يدل على المبالغة و- القيام – هو حفظ الشيء وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه ، كل ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كل منها .
وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال تعالى : {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد : 33] ، وقال تعالى وهو أشمل من الآية السابقة - : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران : 18] ، فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئا في الوجود وليس الوجود إلا الإعطاء والمنع إلا بالعدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه ثم بين أن هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين : العزيز الحكيم فبعزته يقوم على كل شيء وبحكمته يعدل فيه .
وبالجملة لما كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدي منه وجود كل شيء وأوصافه وآثاره لا مبدأ سواه إلا وهو ينتهي إليه ، فهو القائم على كل شيء من كل جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل ، وليس ذلك لغيره قط إلا بإذنه بوجه ، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف وفتور ، وليس لغيره إلا أن يقوم به ، فهناك حصران : حصر القيام عليه ، وحصره على القيام ، وأول الحصرين هو الذي يدل عليه كون القيوم في الآية خبرا بعد خبر لله الله القيوم ، والحصر الثاني هو الذي تدل عليه الجملة التالية أعني قوله : لا تأخذه سنة ولا نوم .
وقد ظهر من هذا البيان أن اسم القيوم أم الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعا وهي الأسماء التي تدل على معان خارجة عن الذات بوجه كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها .
قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم ، السنة بكسر السين الفتور الذي يأخذ الحيوان في أول النوم ، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواس الحيوان لعوامل طبيعية تحدث في بدنه ، والرؤيا غيره وهي ما يشاهده النائم في منامه .
وقد أورد على قوله : سنة ولا نوم إنه على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة فإن المقام مقام الترقي ، والترقي في الإثبات إنما هومن الأضعف إلى الأقوى كقولنا : فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين ، وفلان يجود بالمئات بل بالألوف وفي النفي بالعكس كما نقول : لا يقدر فلان على حمل عشرين ولا عشرة ، ولا يجود بالألوف ولا بالمئات ، فكان ينبغي أن يقال : لا تأخذه نوم ولا سنة .
والجواب : أن الترتيب المذكور لا يدور مدار الإثبات والنفي دائما كما يقال : فلان يجهده حمل عشرين بل عشرة ولا يصح العكس ، بل المراد هو صحة الترقي وهي مختلفة بحسب الموارد ، ولما كان أخذ النوم أقوى تأثيرا وأضر على القيومية من السنة كان مقتضى ذلك أن ينفي تأثير السنة وأخذها أولا ثم يترقى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منه تأثيرا ، ويعود معنى لا تأخذه سنة ولا نوم إلى مثل قولنا : لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره ولا ما هو أقوى منه .
قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات والأرض وما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما ، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم إلا بالقيومية ، ولذلك ألحقها بها أيضا .
وهاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل ، أعني قوله تعالى : {له ما في السماوات وما في الأرض} ، مع قوله تعالى : {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} ، وقوله تعالى : {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ، مع قوله تعالى : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} .
فأما قوله تعالى : {له ما في السماوات وما في الأرض} ، فقد عرفت معنى ملكه تعالى بالكسر للموجودات وملكه تعالى بالضم لها ، والملك بكسر الميم وهو قيام ذوات الموجودات وما يتبعها من الأوصاف والآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله تعالى : له ما في السماوات وما في الأرض ، فالجملة تدل على ملك الذات وما يتبع الذات من نظام الآثار .
وقد تم بقوله : {القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض} إن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا وهوله ومنه ، فيقع من ذلك في الوهم أنه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم ما شأنها؟ وكيف يتصور فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه؟ فأجيب بأن تصرف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف ، وبعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه ، فإنما هي شفعاء ، والشفاعة - وهي بنحو توسط في إيصال الخير أو دفع الشر ، وتصرف ما من الشفيع في أمر المستشفع - إنما تنافي السلطان الإلهي والتصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله ، ولم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة وما من سبب من الأسباب ولا علة من العلل إلا وتأثيره بالله ونحو تصرفه بإذن الله ، فتأثيره وتصرفه نحو من تأثيره وتصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه ولا قيومية إلا قيوميته المطلقة عز سلطانه .
وعلى ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب والوسائط أعم من الشفاعة التكوينية وهي توسط الأسباب في التكوين ، والشفاعة التشريعية أعني التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب والسنة في يوم القيامة على ما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة : 48] ، وذلك أن الجملة أعني قوله تعالى : {من ذا الذي يشفع عنده} ، مسبوقة بحديث القيومية والملك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معا ، بل المتماسين بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية والسلطنة التشريعيتين حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة .
فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس : 3] ، وقوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [السجدة : 4] ، وقد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدها كما ينطبق على الشفاعة التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية ، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده ورحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه ، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء والمسألة ، قال تعالى : {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن : 29] ، وقال تعالى : {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم : 34] ، وقد مر بيانه في تفسير قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي } [البقرة : 186] .
قوله تعالى : {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} ، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى : {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء : 26 - 28] ، فالظاهر أن ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه تعالى بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم ، فلا يقدرون بواسطة هذه الشفاعة والتوسط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه ولا يرضى به في ملكه ، ولا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوءا من شفاعتهم ووساطتهم فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره .
وإلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى : {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم : 64] ، وقوله تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [الجن : 26 - 28] ، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة والأنبياء لئلا يقع منهم ما لم يرده ، ولا يتنزلوا إلا بأمره ، ولا يبلغوا إلا ما يشاؤه .
وعلى ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم : ما هو حاضر مشهود معهم ، وبما خلفهم : ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم ، ويؤول المعنى إلى الشهادة والغيب .
وبالجملة قوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، كناية عن إحاطته تعالى بما هو حاضر معهم موجود عندهم وبما هو غائب عنهم آت خلفهم ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} ، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية والسلطة الإلهية أي أنه تعالى عالم محيط بهم وبعلمهم وهم لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .
ولا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل وهو قوله "هم" في المواضع الثلاث إلى الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية والتشريعية ، وأن الشفعاء هم مطلق العلل والأسباب ، وذلك لأن الشفاعة والوساطة والتسبيح والتحميد لما كان المعهود من حالها أنها من أعمال أرباب الشعور والعقل شاع التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة .
وعلى ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء : 44] ، وقوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت : 11] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبالجملة قوله : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} ، يفيد معنى تمام التدبير وكماله ، فإن من كمال التدبير أن يجهل المدبر بالفتح بما يريده المدبر بالكسر من شأنه ومستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد على المدبر بالكسر تدبيره ، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم ومرادهم فيبالغ في التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا ، وفي أين نزلوا ، وإلى أين يقصد بهم .
فيبين تعالى بهذه الجملة أن التدبير له وبعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل لها ، وبقية الأسباب والعلل وخاصة أولوا العلم منها وإن كان لها تصرف وعلم لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به ويستفيدون منه فإنما هومن علمه تعالى وبمشيته وإرادته ، فهومن شئون العلم الإلهي ، وما تصرفوا به فهومن شئون التصرف الإلهي وأنحاء تدبيره ، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلا وهو بعض التدبير .
وفي قوله تعالى : {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} ، على تقدير أن يراد بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله لله ولا يوجد من العلم عند عالم إلا وهو شيء من علمه تعالى ، ونظيره ما يظهر من كلامه تعالى من اختصاص القدرة والعزة والحياة بالله تعالى ، قال تعالى : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة : 165] ، وقال تعالى : {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء : 139] ، وقال تعالى : {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر : 65] ، ويمكن أن يستدل على ما ذكرناه من انحصار العلم بالله تعالى بقوله : {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف : 83] ، وقوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [آل عمران : 66] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وفي تبديل العلم بالإحاطة في قوله : {ولا يحيطون بشيء من علمه} ، لطف ظاهر .
قوله تعالى : {وسع كرسيه السموات والأرض} ، الكرسي معروف وسمي به لتراكم بعض أجزائه بالصناعة على بعض ، وربما كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي الملك ، ويراد منطقة نفوذه ومتسع قدرته .
وكيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله : له ما في السموات وما في الأرض "إلخ" ، تفيد أن المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية ، فيتعين للكرسي من المعنى : أنه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات والأرض من حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة ، فهومن مراتب العلم ، ويتعين للسعة من المعنى : أنها حفظ كل شيء مما في السماوات والأرض بذاته وآثاره ، ولذلك ذيله بقوله : ولا يؤوده حفظهما .
قوله تعالى : ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم ، يقال : آده يؤوده أودا إذا ثقل عليه وأجهده وأتعبه ، والظاهر أن مرجع الضمير في يؤوده ، هو الكرسي وإن جاز رجوعه إليه تعالى ، ونفي الأود والتعب عن حفظ السماوات والأرض في ذيل الكلام ليناسب ما افتتح به من نفي السنة والنوم في القيومية على ما في السماوات والأرض .
ومحصل ما تفيده الآية من المعنى : أن الله لا إله إلا هوله كل الحياة وله القيومية المطلقة من غير ضعف ولا فتور ، ولذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين : العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في وجوده وفتورا في أمره ، ولعظمته لا يجهده كثرة الخلق ولا يطيقه عظمة السماوات والأرض ، وجملة : وهو العلي العظيم ، لا تخلو عن الدلالة على الحصر ، وهذا الحصر إما حقيقي كما هو الحق ، فإن العلو والعظمة من الكمال وحقيقة كل كمال له تعالى ، وأما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو والعظمة به تعالى دعوى ، فيسقط السماوات والأرض عن العلو والعظمة في قبال علوه وعظمته تعالى .
_____________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص279-255 .
مجموعة من صفات الجمال والجلال :
تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصّفات العُليا لله عزّوجلّ فتقول : {الله لا إله إلاّ هو} .
(الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال ، إنّه خالق عالم الوجود ، لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره .
وبعبارة (لا إله إلاَّ الله) يبيّن القرآن وحدانية خالق الوجود التي هي أساس الإسلام ، ولكن هذه الحقيقة ـ كما قلنا ـ موجودة في لفظة «الله» .
لذلك فإنّ (لا إله إلاّ هو) تأكيد لتلك الحقيقة نفسها .
«الحي» من كانت فيه حياة ، وهذه الصفة المشبّهة ، كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار . وحياة الله حياة حقيقية ، لأنّ حياته عين ذاته ، وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره . في الآية 58 من سورة الفرقان يقول : {وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت} .
هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت ، وعليه فإنّ الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد ، أمّا حياة الإنسان التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية ، لذلك نقرأ في الآية 64 من سورة العنكبوت : {وما هذهِ الحياةُ الدنيا إلاَّ لهو ولَعِبٌ وأنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحَيوان} .وعلى ذلك فإنّ الحياة الحقيقية هي التي تختصّ بالله .
ولكن ما مفهوم «اللهُ حيُّ» ؟
في التعبير السائد نقول للكائن أنّه حيٌّ إذا كان يتّصف بالنمو والتغذية والتكاثر والجذب والدفع ، وقد يتّصف بالحسّ والحركة . ولكن لابدّ من الانتباه إلى أنّ بعضاً من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه ، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات . هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفه الله ، حين يقيس صفات الله بصفاته .
«الحياة» بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة ، وعليه فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة .
حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته ، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ . أمّا النمو والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة ، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة ، أمّا الذي لا نقص فيه فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات .
«القيوم» صيغة مبالغة من القيام . لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته ، وقيام كلّ الكائنات بوجوده ، وبعباره أُخرى : جميع كائنات العالم تستند إليه .
بديهيّ أنّ القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة المعروفة ، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية ، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد ، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها ، ولن يغفل عنها لحظة واحدة ، فهو قائم دائماً وأبداً وباستمرار دون توقّف .
ويتّضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كلَّ صفات الفعل ـ وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات مثل الخالق ، الرزاق ، الهادي ، المحيي ، وأمثالها ـ .
فالقيام بالخلق وتدبير أُمور العالم يشمل كلّ هذه الأُمور ، فهو الذي يرزق ، وهو الذي يحيي ، وهو الذي يميت ، وهو الذي يهدي . وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في «القيّوم» .
ومن هنا يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك ، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام ، في حين أنّه مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك ، لأنّ مفهومه كما قلنا يُعطي معنى القائم بالذّات وغيره متقوّم به ومحتاج له .
وفي الحقيقة أنّ (الحيّ) يشمل جميع الصّفات الإلهيّة كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك ، و(القيّوم) تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه ، ولذا قيل أنّ الإسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين .
ثمّ تضيف الآية {لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم} .
(سنةٌ) من مادّة (وَسَنَ) وتعني كما يقول كثير من المفسّرين أنّها الإغفاءة والإسترخاء الّذي يكون في بداية النوم ، وبعبارة اُخرى أنّه النّوم الخفيف ، و(نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمّة ، وفي الواقع أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين ، ولكن عندما يتوغّل كثيراً في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم) وجملة {لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم} هي في الواقع تأكيدٌ لصفة القيّوم التي يوصف بها الله ، لأنّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة . أي إنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته .
لذلك فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائياً ، بل انّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله ، مثل «السِنَة» .
أمّا سبب تقديم «السِنَة» على «النوم» في الآية مع أنّ القويّ يُذكر عادة قبل الضعيف ، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم ، إذ تنتاب المرء «السِنَة» أوّلاً ثمّ تزداد عمقاً حتّى تورده في النوم العميق .
وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي ودميومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة ، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر .
يلاحظ أنّ تعبير (لا تأخذه) تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة ، وهو يصوّر استيلاء النوم على الإنسان تصويراً مجسّداً ، وكأنّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره ، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه .
مالكية الله المطلقة {له ما في السماوات وما في الأرض} .
لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها ، لذلك فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملك خاصّ لله ، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه .
وعليه ، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه ، بل أنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي ، لذلك فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الإلتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي ، وإلاَّ فإنّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز .
الشروط المطلوبة للتصرّف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت للناس .
من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملاً مهمّاً من عوامل التربية ، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزمن ، فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الإعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والإحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا ، فيكون ذلك مدعاةً لتربيته تربية تجعله قانعاً بحقوقه المشروعة (2) .
{من ذا الذي يشفعُ عنده إلاَّ بإذنه} وهذا في الواقع ردّ على ادّعاء المشركين الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية 3 من سورة الزمر {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] (3) .
وهذه الآية من نوع الإستفهام الإستنكاري ، أي ما من أحد يتقدّم بشفاعة إليه بإذنه . هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيّومية الله ومالكيّته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود . أي أننا إذا رأينا أحداً يشفع عند الله ، فليس معنى ذلك أنّه يملك شيئاً وأنّ له تأثيراً مستقّلاً ، بل أنّ مقامه في الشفاعة هبة من الله . ولمّا كانت شفاعته بإذن الله ، فإنّ هذا بذاته دليل آخر على قيّومية الله ومالكيّته .
_______________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص80-83 .
2 ـ شرحنا معنى الاحلام في سورة يوسف شرحاً وافياً .
3 ـ وردت «ما» في جملة (ما في السموات وما في الأرض) للموجودات غير العاقلة ، ومع أن الموجودات العاقلة أيضاً مملوكة لله سبحانه جاءت «ما» للتغليب لأن الغلبة الأكثرية للموجودات غير العاقلة .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|