أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-23
1169
التاريخ: 2023-07-30
812
التاريخ: 2023-05-03
1138
التاريخ: 6-5-2021
1766
|
المتتبع الدقيق لدراسة مجموعة من المواقع المتباعدة في المشرق العربي يدرك التزامن الدقيق في التطور الحضاري، الذي يشي بوحدة أناسية فريدة في نوعها. ويؤكد ذلك الباحث جاك كوفان بقوله" والوصول إلى" القرية الزراعية" حقق الوحدة بين أفراد الجماعة وأعطى لحياتهم مغزى وأهمية في إطار التطور البشري، لاسيما وأن القرية هي القاعدة الأساسية لحضارتنا المدنية. لكن سلم ذلك الارتقاء وعناصره ظهر أولاً في بلاد الشام والمشرق" (1) ومن الضروري التأكيد على أن الوضع لم يكن قفزة في فراغ، بل، نتيجة لتراكم تاريخي كمي وكيفي بطئ تالٍ للخروج من الكهف والانتقال إلى الكهف الصخري فالبيت الدائري فالمضلع وما يعنيه ذلك الانتاج الزراعي من درجة استقرار معينة في عملية النتاج الاجتماعي منظومة تقنية خاصة تحدد السلوك الانساني خصوصاً إذا توحّدت جغرافية واسعة على امتداد المشرق العربي في سويتها التطورية السباقة من الشمال في المريبط وأبو هريرة على الفرات باتجاه يبرود وسعيدة وجعيتا وعين الملاحة والطيبة في أواسط بلاد الشام باتجاه وادي الفلاح والواد وكيبارة على الساحل الفلسطيني، وجنوباً نحو شقبة وأريحا وأبو سيف والخيام وأم الزيتونة ورأس البيض ثم باتجاه رأس حريس في سيناء لتمتد لاحقاً باتجاه وادي النيل." وبذلك بدأ التاريخ يسجل بعض الأدلة على قيام تطور متشابه جداً للحضارة النطوفية في كل من فلسطين ومنطقة الفرات في أعقاب المرور المشترك بمرحلة الكيباربان. كذلك تأكدت الآن النظرية التي طرحها كل من أور وكوبلاند وأورانش والقائلة بأن بوتقة حضارية وحيدة امتدت خلال هذه الحقبة من النيل إلى الفرات " (2) ويؤكد باحث آخر وحدة مكتشفات نفس المرحلة الزمنية بين وادي النيل و" الصحراء" العربية الكبرى " الليبية " والشمال الافريقي " العربي" ف" وسط المكتشفات الليبية- المصرية تصادف النقوش أكثر من اللوحات وبفارق كبير.
بين الأقصر وشلالات النيل الثانية تم اكتشاف كميات من النقوش. وتصادف هذه النقوش، عدا سهل النيل، وبكميات كبيرة في صحراء النوبة والصحراء الليبية. ولا تختلف النقوش المصرية بتقنية التنفيذ عن الآثار المشابهة الأخرى في الشمال الافريقي.. مما لاشك فيه أن علاقات وثيقة ومتينة تربط النقوش والرسوم الليبية المصرية من جهة أولى بالآثار كما تظهر لفن الشمال الافريقي من جهة ثانية. وتظهر هذه العلائق في طراز وتقنية التنفيذ تماماً كما تظهر في انتشار المواضيع المتفرقة الوصفية لكل شمال افريقيا. في ذلك العصر، وعندما تشكل هذا الفن، كانت افريقيا الشمالية بما فيها الصحراء مسكونة بشكل كثيف، وبين مناطقها المختلفة طبعاً، نشأت علاقات متينة ومتعددة (3). فالحضارة النطوفية إذن " نسبة إلى وادي النطوف قرب أريحا" امتدت من الفرات إلى النيل وهناك نجد الامتداد التالي للشمال الافريقي وهذا يعني وجود الخلفية المشتركة في المجالات المعمارية والاقتصادية والتقنية، وبالتالي وجود لغة حضارية مشتركة(4).
إن أي صفة من ملامح ذلك التقدم كانت مرتبطة بقيمة اجتماعية أخلاقية تتحدد بالأبعاد العديدة للقيمة أو للعنصر الثقافي وما يعنيه ذلك من رقي عبر سلم التطور الأناسي معرفياً، ليس فقط من الجوانب الفكرية والتقنية بل من الجوانب الميثولوجية والمعتقدية أيضاً.
فمفهوم " المدن" القلاعية المكتشفة في الشرق العربي في الألف الثامن قبل الميلاد والذي يُعتبر " البرج والسور المكتشفان في أريحا- مهما كانت وظيفتهما- ينمان عن وجود نظام اجتماعي مختلف، فهو أكثر تنظيماً وجماعية في تنفيذ الأعمال المعمارية من مجتمعات القرى الأخرى"(5).
فإذا كان الكوخ هو الصرخة المتحجرة للخيمة- بتعبير جاك وفان- فهو يعني " فلسفة" خاصة ضد الترحال ونزوع للتأسيس في أرض قابلة وقادرة على حماية هذا الكائن- الانسان ذي الروح الجماعية في العمل والأكثر مودةَ ونزوعاً إنسانياً للتعاون مع الجماعة باتجاه الخلق والابداع، مما هو عليه إنسان التقنيات المتطورة غير المستندة إلى إرث ثقافي معرفي عريق. لذلك انطلق لاحقاً باحثاً عن توضع أفضل من المسكن المستدير العاجز عن استيعاب البنية الأولية للكتلة الاجتماعية- العائلة، فاكتشف المسكن المستطيل الذي عنى هدفاً اجتماعياً وميثولوجياً " فالمسكن المستدير مقيد بمساحة سكنية محددة وغير قابلة للتوسع في حين أن المسكن المستطيل قابل لكل أنواع التوسع من خلال إضافة المزيد من الحجيرات الجديدة إليه. وبناءً على ذلك أصبح هذا النوع الجديد من السكن يستوعب العائلة التي يتكاثر أفرادها باضطراد- أي أنه يفسح المجال لأنماط جديدة من السكن الجماعي أو المشترك.
لقد مر العالم بأجمعه بهذه المرحلة الانتقالية ولكن الأزمنة تختلف من مكان لآخر. ويبدو أن هذه المرحلة نضجت على الفرات قبل غيره من الأماكن(6) يضاف إلى ذلك الضرورة الميثولوجية التي تركزت حول معرفة العائلة الجديدة بضرورة الاعتماد على أرواح أجدادها- أسلافها، فبدأت بممارسة إحضار جماجمهم إلى بيوتها الخاصة، ثم انتقلت لاحقاً إلى احداث مقابر خاصة لهم تحت مساطب تلك البيوت. بحيث شكلت ميثولوجيا عبادة جماجم الأسلاف نمطاً معتقدياً خاصاً ومميزاً. وبهذا تكمن إحدى المنعطفات الهامة جداً في تطور الجماعات البشرية، فهي لفتة حضارية هامة أسَّست للبنى الاجتماعية الأرقى لاحقاً.
إن الترابط الميثولوجي بين نمط الحياة المعيشة لدى أسلافنا في المنطقة العربية، ورموز التعامل معها يحدد البنية الفكرية وآلية التوضع اللاحق للمنظومة السيكولوجية في التعامل مع الوسط المحيط ابتداءً من الحيوان= القربان= العدو= المدجَّن= الغذاء= الإله وانتهاء بالتجريد البعيد نحو المواقع الأولى للفكر " الفلسفي " في الرمزية والتخييل بما يتجاوز البعد الدلالي المباشر إلى ما هو رمزي أو مرجعي ليس بمنظومة الفرد، بل بمنظومة الجماعة وهذا ما يشي بقدرة ذلك الانسان على التعامل مع عناصر القوة المحيطة به، والتي يعتبرها مبثوثة أو مزروعة في عناصر أخرى أبعد ما تكون عن العامل الاقتصادي الذي يربط به غذاء الانسان الذي اعتمد على النباتات المدجّنة بشكل كثيف وعلى ما يصطاده من حيوانات. فتتبادل في ذلك نوازع الخوف مع الطموح لامتلاك القوة والانطلاق عبر أبعاد نفسية وروحية متداخلة إلى السيطرة على الرمز، بحيث تتحدد العلاقة بدايةً بواقع فكري روحي أكثر من ارتباطها بالعامل الاقتصادي- الذي سيطر في الأنماط اللاحقة- تمثلت لاحقاً في بنية معتقدية اختلطت فيها حاجات الابداع والتمثل الفني مع الممارسة الطقوسية " الدينية " والاضاحي مع الحاجة الاقتصادية. وهنا تتجسد حالة الخلق والابداع في إنساننا- أسلافنا- الذين عاشوا قلقهم المبدع مقدماتٍ هامةً لمثيولوجيا سبّاقة لاحقة.
فمنذ بدايات العصر الثيولويتي في تل المريبط على الفرات الأوسط في سورية، وفي المواقع الأخرى الممثلة للمرحلة النطوفية " لدينا الدلائل الواضحة على تقديس الثور البري، وذلك في وسط قروي مستقر يتيهأ للاعتماد على الزراعة في اقتصاده. ففي بعض البيوت التي تتميز ببنية معمارية خاصة " تشير إلى إفرادها كمقامات مقدسة" أقيمت مصاطب طينية عرض في وسطها وبشكل مقصود عدد من جماجم الثيران البرية بهيئتها الطبيعية ودون إضافات تزيينية فنية، وتشكل هذه الجماجم مع ألواح كتف معزوزة بشكل أفقي، تكويناً متماسكاً معروضاً للناظرين دفعة واحدة. وفي إحدى الحالات كان رأس الثور مفككاً إلى قطع معروضة في صفوف، إضافة إلى القرنين الكبيرين، اللذين تم عرضهما على التوازي. إن هذه الترتيبات المقصودة التي لا تنبى عن قيمة استعمالية معينة والاستخدام الرمزي لعناصر من الهيكل العظمي الحيواني، تعكس ولاشك مدلولات أيديولوجية معينة (7) متعددة الدوافع خصوصاً إذا عرفت بأن ذلك لم يكن حصراً على الثور في منطقة تواجد فيها، بل في مناطق أخرى كانت الفصيلة البقرية نادرة فيها، وفي مناطق تدخل فيها الابل والغزال، لم يكن مصدراً غذائياً لندرته. لكننا وإن وقفنا مع جاك كوفان في تقديمه للعامل النفسي في تحديد الأرضية الميثولوجية لذلك الموقف الأيدلوجي الديني باتجاه خلق نوع من التحدي في علاقة التجاذب والجدل بين القوة والخوف، إلاَّ أننا لا نستطيع رد المكونات الأولية لذلك المعتقد إلى ما هو خارج الأوضاع المادية والعلاقات الاقتصادية والطبقية المحيطة. وإلاَّ لكان من أهم المكتشفات وجود رموز لتمثلات غرائبية خارج القدرة التكوينية للتحليل والتركيب في الواقع القائم المحيط.
فلقد مثله الانسان بوضعية خاصة من القوة دفعته إلى تمثله من قبل إله الرعد والحرب في العصور التاريخية لما يملك من قدرة تدميرية جبارة تشع منه(8).
فإذا كان الفن هو الحامل الابداعي للمنظومة المعرفية بما فيها من محتوىً مثيولوجي، وإذا أخذ في بعض نماذجه محاولاً للمقاربة بين السماء والأرض، بدفع هذه الأخيرة إلى الأعلى، بما يخص المراحل التالية من التاريخ الكتابي واللاكتابي، فهذا يعني أنه في تلك المرحلة المدروسة كان شكلاً من المقاربة بين الجسد الإنساني وذلك المجهول الذي يحمل من القوة الجبارة ما يجعله مستعصياً على الألفة. تلك القوة التي تفقد كل رموزها بعد موت ذلك الحيوان، ليتحول إلى مادة للغذاء، وعظام جماجم، وقرون تشكل نموذج القهر والخوف في لبِّ مثيولوجية أبعد من التحديد المبسط للطوطمية. من هنا كانت العبقرية في أسبقيتها المشرقية خلاَّقة أيضاً، أبعد من حدود التبسيط التي يحاول البعض ربطها بالتاريخ الكتابي المنسوب" وبالوثائق" أيضاً إلى أسلافنا العظام. وبهذا فقط نستطيع تفسير السبق الحضاري للتقديس المزدوج للثور والمرأة باعتبارها الربة الكبرى القادرة على الإخصاب والخلق بنمطية مجهولة لكنها في مقاربة المحسوس من اليد والعين.
إن التكوين السلالي المدرك في حالة تشكيل بنية النواة الانتاجية الأولية ومعنى الحياة المشتركة وما عناه ذلك من تجسيد مباشر بجماجم الأسلاف كمواد للعبادة مرتبط بشكل مباشر بترميز الربة الكبرى. وبناءً على ذلك استخدم الناس في بلاد الشام من آواخر الألف الثامن وحتى أواخر الألف السابع قبل الميلاد جزءاً من الهيكل العظمي، وهو الجمجمة ليجعلوا منها تشخيصاً حقيقياً للأموات في مساكن الأحياء.
فالجماجم كانت حضوراً قدسياً" رمزياً" يعني القدرة على التواصل والتأصل والأصالة، فرسّخت مفهوم واقع النتاج الزراعي " وانتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة" (9) وطرحت مفهوم الاستمرارية الروحية للسلف عبر تجسيده بأحد رموزه " الجمجمة" وما محاولات محاكاة الواقعية فيها من خلال استخدام القواقع والصدف لتحديد معالم العيون أو استخدام الخطوط البنية اللون للتعبير عن الشعر، إلاَّ إحياءً لمعالم وجه الميت طموحاً تشخيصياً لآلهة قائمة في روح ذلك السلف حيث اعتبرت متمركزة في رأسه وما يحتاجه الأحياء بذل ما يستطيعون من محاولات لابقاء تلك الروح بأحد رموزها موجودة في الآن القائم. فهو غير قادر على التعبير عن اكتشافه بأنه الخلف لذلك السلف إلاَّ عبر طقس ميثولوجي خاص ترسمه أيديولوجيا الانساب في تناسق ابداعي رفيع أبعد وإلى الأبد مرحلة الطوطمية من مسرح ميثولوجيا الشرق العربي " فالقطيع كان ملكاً لمجتمع القرية ومن الممكن انتقال ملكيته في الفترة التي عمت فيها الزراعة بكل نتائجها والتي تجلت في امتلاك الأرض وفي خلق قيمة لمساحات الأراضي من خلال استغلالها زراعياً وفي انتقال الملكية من شخص لآخر بالوراثة، نجد في الحضارة غير المادية لتلك الفترة آثاراً ملموسة لأيديولوجية الانسان. فكل شيء مرَّ وكأن البشرية وصلت إلى موقف أكثر فاعلية إزاء الطبيعة بحيث أعطت قيمة لنوعها. وذلك بأن جعلت عبادة أمواتها جزءاً من الحياة اليومية. يُضاف إلى ذلك ما سبق أن أثبتناه على صعيد محسوس وهو رسم معالم لحظات خيالية أو ترسيخ الوعي الساطع للصنف الشخصي الذي رأيناه يتسلق فكر وحضارة المزارعين الأوائل في التاريخ .. إنه شغل الرجل"(10).
إن تقديس الأمومة وعبادة الثور من البوادر الفكرية الأولى الهامة للمجتمع الزراعي، ولذلك فقد قُدِّر لهذه العبادة أن تلازم بلدان الشرق القديمة آلاف السنين. ولا تقل أهمية الثور المقدس عن أهمية تلك التماثيل الأنثوية الصغيرة والمصنوعة من الطين المشوي" (11) ولكن عبادة الأسلاف ودخول ايديولوجية السلالة الميثولوجية أزاح الشقَّ الأول عن مسرح البنية الثقافية، فمن الجدير بالذكر أن هذا الطقس كان معروفاً أيضاً في وادي النيل وفي نفس المرحلة الزمنية الموازية في مريمدي " مصر" حيث ثبت ذلك وفسرت عملية دفن الموتى في البيوت على أن السكان القدماء كانوا يعتقدون أن أرواح موتاهم كانت تشاركهم موائد الطعام(12). وكما أسلفنا سابقاً، لم يكن ذلك معزولاً عن جملة التغيرات المناخية والبيئية التي شملت المنطقة العربية عموماً- في بلاد الشام كما شرحناه أعلاه، وفي بلاد الرافدين وشبه الجزيرة العربية ووادي ودلتا النيل، والصحراء العربية الكبرى" الليبية". فبعد أن أخذت الأمطار تقل تدريجياً، وأخذ الجفاف بالازدياد وشهدت هذه الفترة مولد نهر النيل بشكله الحالي... منذ الألف العاشر قبل الميلاد توازن البنى الحضارية الثقافية الجولانية للجماعات البشرية في المشرق العربي إلاَّ أنها كانت متوافقة في ارتقائها للسلم الحضاري.
فالدكتور عبد العزيز عثمان يقترح انتقال الحضارة النطوفية التي نتحدث عنها من وادي النيل باتجاه بلاد الشام،" فاستمرت صناعة الأحجار الصغيرة الدقيقة ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي كانت منتشرة في الفترة الأخيرة من الحضارة السبيلية وانتقلت من حلوان إلى فلسطين وتمثلت في الحضارة النطوفية" (13) لكنه يعود ويقول:" لقد كانت سورية في العصر الحجري النحاسي كما كانت في العصر الحجري الحديث المركز الحضاري الرئيس في الشرق الأدنى بأسره، ويرجح بعض العلماء أن معرفة النحاس قد انتشرت من سورية إلى جميع جهات الشرق الأدنى كمصر وبلاد الرافدين، كما أنهم يرجحون أن استعمال الخزف وتدجين القمح والشعير وبعض الأشجار كالتين والزيتون والكرمة وتدجين بعض الحيوانات الأهلية التي عثر على دمى لها مصنوعة من الطين كالثور والغنم والماعز والخنزير وبعض الطيور كالحمام، انتشرت من سورية إلى المناطق المجاورة.
وكانت مراكز حضارة هذا العصر تقع غالباً في أودية الأنهار وبعض السهول اللحقية، وتعتمد زراعتها على الري، وتشمل إلى جانب الحبوب والأشجار المذكورة سابقاً بعض أنواع الخضار كالبصل والثوم والخس والحمص والفول وغيرها" (14) ويعود باحثٌ آخر للإجابة على السؤال بمنحى آخر فيعتبر أن المصدر المبدع للخزف الملون كان في بلاد ما بين النهرين ومنه انتشر إلى المواقع الأخرى من الشرق العربي فيكتب فانديفر ب.ب:" ومنذ عام 5500 قبل الميلاد اكتشف الخزافون في شمال ما بين النهرين أنَّه يمكن التحكم بلون الصلصال المحروق، وذلك بضبط حرارة الفرن.." (15).
لكن ما يتّفق عليه الجميع هو الوحدة الحضارية المتكاملة للمنطقة العربية، بغض النظر عن الحركية الجولانية والتي تدخل هنا في عدد كبير من الاحتمالات، والتي لاتهم دراستنا بشيء، لكن ما يهمنا هو ذلك التأسيس الواحد لبنية ثقافية واحدة على مساحة الوطن العربي، اكتفت في أحد جوانبها بالصقل الميثولوجي المتصاعد المتواصل، والذي لم يُعانِ من أيِّ انقطاع، انتقل من النماذج الأولى التي تحدثنا عنها، حيث كان الفرد جزءاً من جماعة يتفاعل مع عناصرها بإبداع الطفولة البشرية بمعناها الخلاّق وليس الساذج، بمعناها الترابطي التعاوني وليس الأناني العدواني، ذلك حين بدأ يميز الفروق المحسوسة بين الحلم والواقع، حيث بدأ يميز بين الحدث الواقعي والحدث الحلمي وما يعنيه ذلك من صفات خاصة تُداخلُ بين التخييل التركيبي والتحليل التخيلي. فاندفع يبحث عن قيمة الانسان كحالة مركزية ترسخت لاحقاً في البنى الفلسفية البسيطة بقيمها، وليس الساذجة. فاتكأ على علاقة الخصوبة بين المرأة القادرة على الانجاب والطبيعة القادرة على الخلق والتوالد، فقد عُثر في تل مريبط على رأس بشري منحوت من الحجر، ودمية امرأة من الطين هي الأولى من نوعها في العالم، حيث يظهر تقديس المرأة في هذا الوقت المبكر من التاريخ الانساني، كما تشير إلى نمط تفكير انسان ذلك العصر الذي ربط بين المرأة والطبيعة من حيث الخصوبة واستمرارية الوجود، فكان أول من عرف فن الرمز والتجريد. كما أثبتت حملة التنقيب والانقاذ الدولية لآثار بحيرة الأسد التي شملت مواقع حضارية على ضفتي الفرات في الجزيرة الشامية، وذلك في موقعي تل حبوبة وجبل عرودة أنَّ الإنسان في هذه المنطقة عرف الكتابة أيضاً بشكلها البدائي المبسط والذي تطور فيما بعد ليصبح الخط المسماري(16).
وقد استدل روبرتسن سميث من لفظة" البطن" و" الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسماءها من الأمومة ومن الطوطمية. ورأى أن كلمة البطن في الأصل كانت تعني معنىً آخر غير الذي يذهب إليه علماء الإنسان، ودليله على ذلك استعمال " رحم" (17) وكان يقصد بالجغرافية التاريخية للجزيرة العربية، أي الامتداد الجغرافي الطبيعي للهلال الخصيب. وهو ما يؤكد التوازي ليس في البنية التطورية التاريخية فقط بل وفي رموزها الميثولوجية بما يتوافق مع المرحلة التاريخية" الزمنية المدروسة".
فالقراءة النقدية الشريفة تدرك وبشكل حيادي طبيعة التداخل في البنية الديموغرافية، منذ المراحل المغرقة في القدم من التاريخ " الباليوليتي" فتبين من فحص الأدوات الحجرية المنسوبة إلى المراحل الباكرة من الباليوليث، في الجزيرة العربية أنها استوردت من فلسطين أو بلاد الشام لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عُثر عليها هناك(18). وتؤكد هذه الآثار أن الجزيرة العربية كانت مأهولة بالناس منذ المراحل الباليوليثية الباكرة. حتى الأدوات الصوانية التي اكتشفت في الربع الخالي وحضرموت.. هي من النوع الذي عُثر عليه في جنوب فلسطين(19).
ونلاحظ نفس المواصفات والعلامات المؤكدة للوحدة التاريخية والجغرافية، إذا اتجهنا شرقاً وشمالاً نحو البحرين " الديلم" فقد عثر في البحرين أيضاً على عدد من رؤوس حراب وسكاكين صنعت من الصخور الصوانية، قّدّر بعض الباحثين عمرها بما يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عُثرَ عليه من هذه الأدوات أحجار سنَّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض(20) ومن المثير للانتباه أن هذه الأدوات هي تالية للتدجين النباتي، ولا يمكن أن تكون سابقة له.
ويمكننا أن نضيف لما أثبتناه في بداية هذا الفصل التداخل الجغرافي(الترابط) والذي يفرض بالضرورة تواصلاً بشرياً موازيا، بين الساحل الشرقي الافريقي المقابل لليمن ولحضرموت. وذلك بتأكيدنا حول قصة الجانب الشرقي- أصل الجنس البشري على دور وادي الخسيف في ظهور الإنسان العاقل الأول " بدراسة كوبنز"، وما يعنيه ذلك الترابط الجغرافي السابق قبل تشكل الممر المائي عبر مضيق باب المندب وما يعنيه ذلك التواصل اللاحق في الألوف الأولى من الباليوليث الأدنى، وهل يمكننا أن ننفي أن هناك أصلاً استمراراً جغرافياً للساحل المذكور مع الجانب الآسيوي." فمن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضر موت بالسواحل الافريقية المقابلة كان قوياً ووثيقاً في العصور الباليوليثية، هو عثور المنقبين على فؤوس وعلى أدوات أخرى هي من صناعات افريقية، دليل على شدة العلاقات ومنبع توثقها بين افريقيا والسواحل العربية الجنوبية " (21) وهو ما يشير إلى التأسيس الأنثروبولوجي اللاحق لوادي النيل، وما يعنيه ذلك التأسيس من رموز ميثولوجية وطقسية واحدة،" فعثر على كهوف من العصور الباليوليثية، وقد صورت على جدرانها صور حيوانات وصور الشمس والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي" يبعث " ووادي " عرقه" وهي تشبه في أهميتها من ناحية الدراسة الأثرية الصور المتقدمة التي عُثر عليها في " كلوة" في الأردن.
وجميعنا يدرك دور الشمس في المظاهرات التالية لمثيلوجية المنطقة العربية من جزيرة الديلم شرقاً وحتى السواحل العربية الافريقية الشمالية وبنفس الدور والأهمية ينخرط الآله القمر. وقد شكلا بنيةً مثيولوجية متتالية متصاعدة سنعرج على بعض جوانبها بالتفصيل لاحقاً.
ومن هذا نستنتج أن منطقة الشرق العربي تميزت بسبقٍ مهم على كل مستويات التسلسل الزمني الباليوليثي بسويّاته الثلاث وصولاً إلى العصر النيوليتي والذي كتبت عنه مجلة" العلم والحياة" العدد الرابع 1991 (22)، بأن الشرق العربي، هو مهد الثورة النيوليتية، وبدراسة تجمع آراء العديد من الباحثين الآثاريين لمراحل ما قبل التاريخ كتبت تقول بأن العصر النيوليتي في الشرق العربي مذهل حقاً، بل يستحق صفة" الثورة " عن جدارة واستحقاق. ولكن هل كانت ثورة بيئوية، أم مادية، أم ثقافية؟ وقبل أن ننتقل للإجابة التي أوردها المصدر المذكور، لابد أن نشير إلى أن السياق العام المتعدد المستويات الذي تحدثنا عنه، بما يخص التطور الأنثروبولوجي المعرفي في توصيفاته الميثولوجية الأولى، يؤكد أن الثورة الثقافية والتي كانت المظهر الأناسي المعرفي للتطور البيئي- المادي، ما كانت لتحدث كقفزة في الفراغ بدون التطور المادي البيئي" والبنى التحتية ذات الصيرورة المادية- البيئية. ويؤكد البحث المذكور أعلاه بأن الشرق العربي، هو مهد" الثورة " النيوليتية، وكلمة المهد المستخدمة بالدراسة، توحي بالوحدة الجغرافية للسيرورة، في حين شهدت مناطق أخرى عديدة من العالم تحولاً من النمط نفسه وبالمقابل، الشرق العربي هو أبكر مناطق العالم نضوجاً: لقد انطلقت سيرورة تحوّل الصيادين - القطافين إلى مزارعين- مربي حيوانات، واكتملت هنا في وقت مبكر لم تجاره في بكوريته أية منطقة أخرى(23).
لقد استمرت الحركة النيوليتية الطويلة أكثر من أربعة آلاف عام، وخلال هذه المدة غيرت الجماعات البشرية وعدلت، بالتدريج، في سلوكياتها، فاستبدلت الحركية الضرورية لاقتفاء أثر الطرائد والنباتات البرية، لدى الجماعة، بالاستقرار المتدرج في الوقت نفسه والمواقع ذاتها. وانتصبت مكان التخييمات" الفصلية والمأوى الخفيفة والعابرة، أولى القرى التي ضمت أكواخاً ذات هياكل أقوى، تُسكن على مدار العام، وقد تمثلت هذه المرحلة بـ Les NOTOUFINES الذين استقروا في بلاد المشرق العربي منذ الألف العاشر قبل الميلاد، وشكلوا بذلك، الجماعات الحضرية الأولى في التاريخ والتي انبثقت فيها المعالجات التي قادت مع بداية الألف الثامن قبل الميلاد إلى أولى التجارب الزراعية النوعية بعد أن " استغلت" لفترات طويلة في عملية تدجين تمهيدية وظهرت بشكل نوعي الزروع الأولى " القمح والشعير والشيلم" وأولى القطنيات " الجلبان والفول" بشكلها الداجن النوعي. وهذا عنى من الناحية الذهنية التعامل بطرائق عقلية خاصة، قادرة على التحليل والتركيب والتجريب والتجريد بحدوده وعلاماته البيّنة، رغم نمذجتها الأولية والتي أفضت بالتالي إلى التجديد الجوهري بهيمنته التدريجية على الطبيعة المحيطة.
فالتحكم بموقع الحقل، وبجودة المحصول وكميته أدى إلى رؤية خاصة لقوة العمل ومدته، وارتباط ذلك ببنية الانسان القادر على التعامل مع محيط أكثر تعقيداً أدى بالضرورة إلى تطور أناسي معرفي انتقل بمقدرات الانسان في المشرق العربي إلى حالة تجريد الظاهرة لضرورة معالجتها. فالاستقرار الموقعي المرتبط بما سبق أدى إلى التآلف التدريجي مع بعض الأنواع القطيعية التي كانت محط صيد متميز " الماعز، والخراف والبقريات" بحيث تم الحفاظ عليها قريبة من مواقع العيش قبل الانتقال إلى تدجينها والتحكم بتكاثرها. وهكذا حددت الآلاف الثلاثة (10000-7000ق.م) المميزة للثورة النيوليتية في منطقة الشرق العربي، معالم هامة لظاهرة ضخمة وحيوية ونوعية. فعلى المستوى التقني طورت صناعة حجرية أساسية قوامها أدوات صغيرة ودقيقة الأبعاد جداً، واستبدلت هذه الأخيرة بأدوات جديدة، يوحي شكلها مباشرة بمجال وظيفتها، كرؤوس السهام، وأنصال المناجل، مع أسنان وبدونها، وظهرت تقنية صقل الحجارة التي أتاحت لقاء عمل مسبق وأطول مدة مرة أخرى استغلال مواد أكثر صلابة، وبالتالي أكثر استمرارية وخدمة من الصوان المشذب التقليدي:
الفؤوس، والبلطات المعقوفة المقاطع، والمجارف المصقولة تكاثرت نحو 7500 ق.م. وكانت هذه التقنية نقطة انطلاق لأشياء جديدة كالأوعية أو الأطباق الحجرية وأدوات الزينة والأساور. وظهرت في نفس الفترة مواد مبتكرة نتيجة التكليس كالجير والجص، من ثم إعادة تمييه الحجر الكلسي أو الجبس، وبعد ظهورها في بداية الألف الثامن راج استعمالها في البناء " ليآسة الجدران، وفصل الأراضي." وفي صناعة الآنية (24). ومع بداية الألف السادس قبل الميلاد استبدلت هذه المواد بابتكار آخر أي السيراميك " الفخار"/ تربة مقولبة قبل الشيّ. وروفق ذلك بابتكار فن العمارة ابتداءً من الكوخ الصخري، فالبيت ذي الجدار الدائري، فالبيت ذي الجدار المضلع القابل للتوسع كما تحدثنا أعلاه.
" فإذا تمسكنا بالأدلة الناتجة عن تحليل العمارة فإن فرضيات جديدة ستنضم إلى الضرورات التي تفرضها البيئة، وفي الحقيقة سنميل إلى تثبيت الاعتقاد المسبق بوجود درجة من درجات التنظيم الاجتماعي، أتاحت للجماعات البشرية، كما في الألف الثامن، أن تتكاثر وينمو عددها محلياً فالانتظام المتراص للمساكن على طول " الشوارع"/ في أبو هريرة وفي الرماد / دليل على وجود نمط جديد من ترابط النسيج القروي. كذلك فإن الدليل الضعيف حتى الآن على وجود مجاري وقنوات للمياه في بقرص يمكن أن يطرح أمامنا مسألة التوزيع البلدي للمياه، وهو وجه من أوجه التنظيم البلدي الذي أراد الأستاذ تشايلد أن يرى فيه نقطة الانطلاق نحو التمدن"(25).
___________
(1) جاك كوفان - الوحدة الحضارية في بلاد الشام بين الألفين التاسع والسابع قبل الميلاد، ت، قاسم طوير ط 1984 ص8
(2) المصدر نفسه ص21
(3) يان ايلينيك ص 241 وص 246- 247
(4) جاك كوفان ص115
(5) المصدر نفسه ص08
(6) المصدر نفسه
(7) المصدر نفسه 141- 149 -وفراس السواح دين الانسان ص 163- 164.
(8) جاك كوفان هامش ص 149
(9) جاك كوفان ص 170
(10) جاك كوفان ص 170
(11) أنطون موتكارت، تاريخ الشرق القديم، بدون دار النشر، ج1، تعريب توفيق سليمان وعلي أبو عساف وقاسم طوير - ص 23-24
(12) أنطون موتكارت ص19
(13) د. عبد العزيز عثمان تاريخ الشرق القديم ص 395، ج1
(14) فاند يفرب.ب- طليات الخزف القديمة -مجلة العلوم، المجلد 9- العددان "29" يناير- فبراير- 1993.
(15) محمد وحيد خياطة -مجلة الفكر العربي ص 41 العدد 52
(16) جواد علي. المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، ط2 1978، ج1 ص 523
(17) جواد علي المصدر السابق، ج1 -ص530 عنGeorge Journal Vol
(18) المصدر السابق ص 537.
(19) د. جواد علي المصدر السابق، ج1 ص534
(20) د. جواد علي، المصدر السابق ص531
(22) ترجمة محمد دنيا- - عندما انطلق العالم من الشرق " الأوسط"، مجلة المعرفة دمشق - العدد 368 أيار- مايو 1994 نقلاً عن مجلة " العلم والحياة" العدد الرابع لعام 1991
(23) المصدر السابق ص 202
(24) المصدر السابق ص 204
(25) جاك كوفان ص 108
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|