أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-11-2016
7252
التاريخ: 12-2-2017
7548
التاريخ: 15-2-2017
6621
التاريخ: 12-2-2017
4952
|
قال تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُو أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 222، 223].
بين سبحانه شريعة أخرى فقال: {ويسألونك} يا محمد والسائل أبو الدحداح فيما قيل {عن المحيض} أي عن الحيض وأحواله {قل} يا محمد {هو أذى} معناه قذر ونجس عن قتادة والسدي وقيل دم عن مجاهد وقيل هو أذى لهن وعليهن لما فيه من المشقة قاله القاضي {فاعتزلوا النساء في المحيض} أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد وهو قول محمد بن الحسن ويوافق مذهبنا أنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط وقيل يحرم ما دون الإزار ويحل ما فوقه عن شريح وسعيد بن المسيب وهو قول أبي حنيفة والشافعي {ولا تقربوهن} بالجماع أو ما دون الإزار على الخلاف فيه {حتى يطهرن} بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن وبالتشديد معناه يغتسلن عن الحسن ويتوضأن عن مجاهد وطاووس وهو مذهبنا.
{فإذا تطهرن} أي اغتسلن وقيل توضأن وقيل غسلن الفرج {فأتوهن} فجامعوهن وهو إباحة وإن كان صورته صورة الأمر كقوله وإذا حللتم فاصطادوا {من حيث أمركم الله} معناه من حيث أمركم الله تجنبه في حال الحيض وهو الفرج عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع وقيل من قبل الطهر دون الحيض عن السدي والضحاك وقيل من قبل النكاح دون الفجور عن ابن الحنفية والأول أليق بالظاهر قال الزجاج معناه من الجهات التي تحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحب أي لا تقربوهن وهن صائمات أو محرمات أو معتكفات وقال الفراء ولو أراد الفرج لقال في حيث فلما قال من حيث علمنا أنه أراد من الجهة التي أمركم الله بها وقال غيره إنما قال من حيث لأن من لابتداء الغاية في الفعل نحو قولك أنت زيدا من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه .
{إن الله يحب التوابين} من الذنوب {ويحب المتطهرين} قيل معناه المتطهرين بالماء عن عطا وقد رواه(2) أصحابنا أيضا في سبب نزول الآية وقيل يحب المتطهرين من الذنوب عن سعيد بن جبير ولم يذكر المتطهرات لأن المؤنث يدخل في المذكر وقيل التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر وفي هذه الآية دلالة على وجوب اعتزال المرأة في حال الحيض وفيها ذكر غاية التحريم ويشتمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض وأقله وأكثره وعندنا أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام وهو قول أهل العراق وعند الشافعي وأكثر أهل المدينة أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وثانيها حكم الوطء في حال الحيض فإن عندنا إن كان في أوله يلزمه دينار وإن كان في وسطه فنصف دينار وإن كان في آخره فربع دينار وقال ابن عباس عليه دينار ولم يفصل وقال الحسن يلزمه بدنة أو رقبة أو عشرون صاعا وثالثها غاية تحريم الوطء واختلف فيه فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدم ومنهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها عن عطا وطاووس وهو مذهبنا وإن كان المستحب أن لا يقربها إلا بعد الغسل ومنهم من قال إذا انقطع دمها فاغتسلت حل وطؤها عن الشافعي ومنهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج وإن كان دون العشرة فلا يحل وطؤها إلا بعد الغسل أو التيمم أومضي وقت الصلاة عليها عن أبي حنيفة .
لما بين تعالى أحوال النساء في الطهر والحيض عقب ذلك بقوله {نساؤكم حرث لكم} وفيه وجهان - أحدهما - أن معناه مزدرع لكم ومحترث لكم عن ابن عباس والسدي - ( والثاني ) - إن معناه ذوات حرث لكم منهن تحرثون الولد واللذة فحذف المضاف وهذا في المعنى مثل الأول عن الزجاج وقال أبو عبيدة كنى بالحرث عن الجماع والثالث معناه كحرث لكم فحذف كاف التشبيه كما قال الشاعر :
النشر مسك والوجوه دنا نير وأطراف الأكف عنم(3)
وقد سمى العرب النساء حرثا قال المفضل بن سلمة أنشدني أبي :
إذا أكل الجراد حروث قوم *** فحرثي همه أكل الجراد
يريد امرأتي {فأتوا حرثكم} أي موضع حرثكم يعني نساءكم {أنى شئتم} معناه من أين شئتم عن قتادة والربيع قيل كيف شئتم عن مجاهد وقيل متى شئتم عن الضحاك وهذا خطأ عند أهل اللغة لأن أنى لا يكون إلا بمعنى من أي كما قال أنى لك هذا وقيل معناه من أي وجه واستشهد بقول الكميت :
أنى ومن أين آبك الطرب *** من حيث لا صبوة ولا ريب(4)
وليس في البيت شاهد لهم لأنه لا يجوز أن يكون أتى به لاختلاف اللفظين كما يقولون متى كان هذا وأي وقت كان ويجوز أن يكون بمعنى كيف واستدل مالك بقوله {أنى شئتم} على جواز إتيان المرأة في دبرها ورواه عن نافع عن ابن عمر وحكاه زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر وبه قال كثير من أصحابنا وخالف في ذلك جميع الفقهاء وقالوا أن الحرث لا يكون إلا بحيث النسل فيجب أن يكون الوطء حيث يكون النسل فأجيبوا عن ذلك بأن النساء وإن كن لنا حرثا فقد أبيح لنا وطؤهن بلا خلاف في غير موضع الحرث كالوطء فيما دون الفرج وما أشبهه.
وقوله {وقدموا لأنفسكم} معناه قدموا الأعمال الصالحة التي أمرتم بها ورغبتم فيها لتكون ذخرا لكم عند الله ووجه اتصاله بما قبله أنه لما تقدم الأمر بعدة أشياء قال بعدها وقدموا لأنفسكم بالطاعة فيما أمرتم به {واتقوا الله} واتقوا عقاب الله بترك مجاوزة الحد فيما بين لكم وفي ذلك الحث على العمل بالواجب الذي عرفوه والتحذير من مخالفة ما ألزموه وقيل معنى التقديم هنا طلب الولد فإن في اقتناء الولد الصالح يكون تقديما عظيما لقوله إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث ولد صالح يدعو له وصدقة جارية وعلم به ينتفع بعد موته وقيل هو تقديم الإفراط (5) لقوله (من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث(6) ، لم تمسه النار إلا تحلة القسم فقيل : يا رسول الله واثنان) . قال واثنان وقيل: هو التسمية عند الجماع عن عطاء وقيل هو الدعاء عند الجماع عن مجاهد .
ويؤيده ما روي عن ابن عباس قال: قال النبي إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإن قدر بينهما ولد لم يضره شيطان وقيل هو التزوج بالعفائف ليكون الولد طاهرا صالحا {واعلموا أنكم ملاقوه} أي ملاقوا جزائه يعني ثوابه إن أطعتموه وعقابه إن عصيتموه وإنما أضافه إليه على ضرب من المجاز {وبشر المؤمنين} بالثواب والجنة ولا يصح حمل اللقاء على الرؤية لأن لفظ اللقاء يقع على معان مختلفة يقال لقي جهده ولقي حمامه ولأن في الآية إثبات اللقاء لجميع العباد وهذا خلاف ما ذهب إليه أهل التشبيه .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص85-90.
2- [ جماعة من ] .
3- النشر : ريح فم المرأة . والعنم : شجرة حجازية لها ثمرة حمراء تشبه بنان المخضوبة بها .
4- الأوب : الرجوع . الصبوة : الشوق . الريب : الحاجة .
5- الافراط جمع الفرط : ما تقدمك من الاجر . ما لم يدرك من الولد .
6- غلام لم يدرك الحنث اي : لم يجر عليه القلم .
سألوا الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله وسلم ) عن الشهر الحرام ، وعن الخمر والميسر ، وعما ينفقون ، وعن اليتامى ، ثم سألوه عن حيض النساء . . وقال الرازي : (روي ان اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها ، والنصارى كانوا يجامعونهن ، ولا يبالون بالحيض ، وان أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجالسوها على فراش ، ولم يساكنوها في بيت ، كفعل اليهود والمجوس .
{ ويَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُو أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ}.
المحيض اسم لمكان الحيض ومحله ، والمراد به هنا الحيض من باب اطلاق المحل على الحال ، والسؤال وقع عن مخالطة النساء في زمن الحيض ، فأمر اللَّه نبيه الأكرم أن يجيب السائلين بأن يعتزلوا النساء أيام الحيض ، أي لا يجامعوهن فيه .
فقد جاء في الحديث : {اصنعوا كل شيء الا الجماع} . وقوله : {هُو أَذىً} تعليل للحكم ، والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ، والمراد به هنا الضرر من حيث القذارة والنجاسة .
{ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . اختلفوا في {يطهرن} هل المراد به مجرد انقطاع الدم ، فإذا انقطع جاز الوطء ، وان لم تغتسل ، أو المراد به الاغتسال بعد انقطاع الدم ، فلا يجوز الا بعد الانقطاع والاغتسال .
قال الإمامية : يجوز الوطء بمجرد انقطاع الدم ، وان لم تغتسل ، لأن هذا هو المفهوم من لفظ الطهر ، أما التطهر فهومن عمل النساء ، ويكون عقب الطهر .
وقال المالكية والشافعية : لا يجوز الوطء الا بعد الاغتسال .
وقال الحنفية : ان استمر الدم لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال ، وان انقطع لدون العشرة فلا يجوز الوطء ، حتى تغتسل . . وعلق صاحب تفسير المنار على هذا التفصيل بقوله : (هو تفصيل غريب) .
{ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . ان لفظة حيث حقيقة في المكان ، وعليه يكون المعنى فأتوهن في القبل ، كما هو المتبادر إلى الفهم .
وتكلمنا عن الحيض وأحكامه مفصلا في كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ، وكتاب الفقه على المذاهب الخمسة .
{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } . قدمنا في فقرة الاعراب ان انّى تأتي بمعنى كيف ومتى وأين . . وقد تعددت الأقوال في تفسير الآية بتعدد معاني انّى ، فمن قائل : انها بمعنى متى ، ويكون المراد فأتوهن في أي زمان
شئتم ليلا أو نهارا ، ومن قائل : انها بمعنى أين ، أي أنتم مخيرون ان تأتوهن قبلا أو دبرا ، ومن قائل : انها بمعنى كيف ، أي على أية حال شئتم قعودا أو نياما أو نحو ذلك .
وقال جماعة من المفسرين ، منهم صاحب تفسير المنار من علماء السنة ، ومنهم صاحب تفسير بيان السعادة من علماء الشيعة ، قالوا : ان تقييد الإتيان بالحرث ينافي إرادة المكان الشامل للدبر ، حيث لا استعداد له لزراعة الولد ، هذا ، بالإضافة إلى ما في الإتيان بالدبر من الأذى . . ونحن على هذا الرأي ، أولا لأن الحرث لا يتحقق الا في القبل ، كما ذكر أولئك المفسرون ، ثانيا ان قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعين إرادة القبل بعد أن فسرنا {حيث} بالمكان .
وتجمل الإشارة إلى ان جماعة من فقهاء الشيعة الإمامية قد أباحوا وطء الزوجة دبرا على كراهية شديدة ، وأنكر البعض ذلك عليهم زاعما انه من اختصاص الشيعة ، ولا يوافقهم أحد من المسلمين عليه . . مع العلم بأن الرازي نقل في تفسير هذه الآية ان ابن عمر كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن . وقال الحافظ أبوبكر الأندلسي المالكي - توفي سنة 542 ه - في الجزء الأول من كتاب احكام القرآن صفحة 73 طبعة 1331 ه ، قال ما نصه بالحرف :
(اختلف العلماء في جواز نكاح المرأة في دبرها ، فجوزه طائفة كثيرة ، وقد جمع ذلك ابن شعبان في كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن ، وأسند جوازه إلى زمرة كريمة من الصحابة والتابعين والى مالك من روايات كثيرة ، وقد ذكر البخاري عن ابن عون عن نافع ان ابن عمر كان يقرأ سورة البقرة ، حتى انتهى إلى انّى شئتم ، فقال : أتدري فيم نزلت ؟ . قلت : لا . قال نزلت في كذا وكذا) . أي في ادبار النساء .
_______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص335-337.
قوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} "إلخ"، المحيض مصدر كالحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا إذا نزفت طبيعتها الدم المعروف ذا الصفات المعهودة المختصة بالنساء، ولذلك يقال هي حائض كما يقال: هي حامل.
والأذى هو الضرر على ما قيل، لكنه لا يخلو عن نظر، فإنه لوكان هو الضرر بعينه لصح مقابلته مع النفع كما أن الضرر مقابل النفع وليس بصحيح، يقال: دواء مضر وضار، ولو قيل دواء موذ أفاد معنى آخر، وأيضا قال تعالى: { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران: 111] ، ولو قيل لن يضروكم إلا ضررا لفسد الكلام، وأيضا كونه بمعنى الضرر غير ظاهر في أمثال قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب: 57] ، وقوله تعالى: " {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] ، فالظاهر أن الأذى هو الطارئ على الشيء غير الملائم لطبعه فينطبق عليه معنى الضرر بوجه (2).
وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى لكون هذا الدم المستند إلى عادة النساء حاصلا من عمل خاص من طبعها يؤثر به في مزاج الدم الطبيعي الذي يحصله جهاز التغذية فيفسد مقدارا منه عن الحال الطبيعي وينزله إلى الرحم لتطهيره أو لتغذية الجنين أو لتهيئة اللبن للإرضاع، وأما على قولهم: إن الأذى هو الضرر فقد قيل: إن المراد بالمحيض إتيان النساء في حال الحيض، والمعنى: يسألونك عن إتيانهن في هذه الحال فأجيب بأنه ضرر وهو كذلك فقد ذكر الأطباء أن الطبيعة مشتغلة في حال الطمث بتطهير الرحم وإعداده للحمل، والوقاع يختل به نظام هذا العمل فيضر بنتائج هذا العمل الطبيعي من الحمل وغيره.
قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن}، الاعتزال هو أخذ العزلة التجنب عن المخالطة والمعاشرة، يقال: عزلت نصيبه إذا ميزته ووضعته في جانب بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء، والقرب مقابل البعد يتعدى بنفسه وبمن، والمراد بالاعتزال ترك الإتيان من محل الدم على ما سنبين.
وقد كان للناس في أمر المحيض مذاهب شتى: فكانت اليهود تشدد في أمره، ويفارق النساء في المحيض في المأكل والمشرب والمجلس والمضجع، وفي التوراة أحكام شديدة في أمرهن في المحيض، وأمر من قرب منهن في المجلس والمضجع والمس وغيره ذلك، وأما النصارى فلم يكن عندهم ما يمنع الاجتماع بهن أو الاقتراب منهن بوجه، وأما المشركون من العرب فلم يكن عندهم شيء من ذلك غير أن العرب القاطنين بالمدينة وحواليها سرى فيهم بعض آداب اليهود في أمر المحيض والتشديد في أمر معاشرتهن في هذا الحال، وغيرهم ربما كانوا يستحبون إتيان النساء في المحيض ويعتقدون أن الولد المرزوق حينئذ يصير سفاحا ولوعا في سفك الدماء وذلك من الصفات المستحسنة عند العشائر من البدويين.
وكيف كان فقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض}، وإن كان ظاهره الأمر بمطلق الاعتزال على ما قالت به اليهود، ويؤكده قوله تعالى ثانيا: {ولا تقربوهن}، إلا أن قوله تعالى أخيرا فأتوهن من حيث أمركم الله - ومن المعلوم أنه محل الدم - قرينة على أن قوله: {فاعتزلوا ولا تقربوا}، واقعان موقع الكناية لا التصريح.
والمراد به الإتيان من محل الدم فقط لا مطلق المخالطة والمعاشرة ولا مطلق التمتع والاستلذاذ.
فالإسلام قد أخذ في أمر المحيض طريقا وسطا بين التشديد التام الذي عليه اليهود والأعمال المطلق الذي عليه النصارى، وهو المنع عن إتيان محل الدم والإذن فيما دونه وفي قوله تعالى {في المحيض}، وضع الظاهر موضع المضمر وكان الظاهر أن يقال: فاعتزلوا النساء فيه والوجه فيه أن المحيض الأول أريد به المعنى المصدري والثاني زمان الحيض فالثاني غير الأول، ولا يفيد معناه تبديله من الضمير الراجع إلى غير معناه.
قوله تعالى: {حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، الطهارة وتقابلها النجاسة - من المعاني الدائرة في ملة الإسلام ذات أحكام وخواص مجعولة فيها تشتمل على شطر عظيم من المسائل الدينية، وقد صار اللفظان بكثرة الاستعمال من الحقائق الشرعية أو المتشرعة على ما اصطلح عليه في فن الأصول.
وأصل الطهارة بحسب المعنى مما يعرفه الناس على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم، ومن هنا يعلم أنها من المعاني التي يعرفها الإنسان في خلال حياته من غير اختصاص بقوم دون قوم أو عصر دون عصر.
فإن أساس الحياة مبني على التصرف في الماديات والبلوغ بها إلى مقاصد الحياة والاستفادة منها لمآرب العيش فالإنسان يقصد كل شيء بالطبع لما فيه من الفائدة والخاصية والجدوى، ويرغب فيه لذلك، وأوسع هذه الفوائد الفوائد المربوطة بالتغذي والتوليد.
وربما عرض للشيء عارض يوجب تغيره عما كان عليه من الصفات الموجبة لرغبة الطبع فيه، وعمدة ذلك الطعم والرائحة واللون، فأوجب ذلك تنفر الطبع وانسلاب رغبته عنه، وهذا هو المسمى بالنجاسة وبها يستقذر الإنسان الشيء فيجتنبه، وما يقابله وهو كون الشيء على حاله الأولى من الفائدة والجدوى الذي به يرغب فيه الطبع هو الطهارة، فالطهارة والنجاسة وصفان وجوديان في الأشياء من حيث وجدانها صفة توجب الرغبة فيها، أو صفة توجب كراهتها واستقذارها.
وقد كان أول ما تنبه الإنسان بهذين المعنيين انتقل بهما في المحسوسات ثم أخذ في تعميمها للأمور المعقولة غير المحسوسة لوجود أصل معنى الرغبة والنفرة فيها كالأنساب والأفعال والأخلاق والعقائد والأقوال.
هذا ملخص القول في معنى الطهارة والنجاسة عند الناس، وأما النظافة والنزاهة والقدس والسبحان فألفاظ قريبة المعنى من الطهارة غير أن النظافة هي الطهارة العائدة إلى الشيء بعد قذارة سابقة ويختص استعمالها بالمحسوسات، والنزاهة أصلها البعد، وأصل إطلاقها على الطهارة من باب الاستعارة، والقدس والسبحان يختصان بالمعقولات والمعنويات، وأما القذارة والرجس فلفظان قريبا المعنى من النجاسة، لكن الأصل في القذارة معنى البعد، يقال: ناقة قذور تترك ناحية من الإبل وتستبعد ويقال: رجل قاذورة لا يخال الناس لسوء خلقه ولا ينازلهم، ورجل مقذر بالفتح يجتنبه الناس، ويقال: قذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته، وعلى هذا يكون أصل استعمال القذارة بمعنى النجاسة من باب الاستعارة لاستلزام نجاسة الشيء تبعد الإنسان عنه، وكذلك الرجس والرجز بكسر الراء، وكان الأصل في معناه الهول والوحشة فدلالته على النجاسة استعارية.
وقد اعتبر الإسلام معنى الطهارة والنجاسة، وعممهما في المحسوس والمعقول، وطردهما في المعارف الكلية، وفي القوانين الموضوعة، قال تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} الآية، وهو النقاء من الحيض وانقطاع الدم، وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ، وقال تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6] ، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] ، وقال تعالى:، {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 79].
وقد عدت الشريعة الإسلامية عدة أشياء نجسة كالدم والبول والغائط والمني من الإنسان وبعض الحيوان والميتة والخنزير أعيانا نجسة، وحكم بوجوب الاجتناب عنها في الصلاة وفي الأكل وفي الشرب، وقد عد من الطهارة أمورا كالطهارة الخبثية المزيلة للنجاسة الحاصلة بملاقات الأعيان النجسة، وكالطهارة الحدثية المزيلة للحدث الحاصلة بالوضوء والغسل على الطرق المقررة شرعا المشروحة في كتب الفقه.
وقد مر بيان أن الإسلام دين التوحيد فهو يرجع الفروع إلى أصل واحد هو التوحيد، وينشر الأصل الواحد في فروعه.
ومن هنا يظهر: أن أصل التوحيد هي الطهارة الكبرى عند الله سبحانه، وبعد هذه الطهارة بقية المعارف الكلية طهارات للإنسان، وبعد ذلك أصول الأخلاق الفاضلة، وبعد ذلك الأحكام الموضوعة لصلاح الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأصل تنطبق الآيات السابقة المذكورة آنفا كقوله تعالى: {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة: 6] ، وقوله تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في معنى الطهارة.
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله تعالى: {حتى يطهرن}، أي ينقطع عنهن الدم، وهو الطهر بعد الحيض وقوله تعالى: {فإذا تطهرن} أي ، يغسلن محل الدم أو يغتسلن، قوله تعالى: {فأتوهن من حيث أمركم الله} ، أمر يفيد الجواز لوقوعه بعد الحظر، وهو كناية عن الأمر بالجماع على ما يليق بالقرآن الشريف من الأدب الإلهي البارع، وتقييد الأمر بالإتيان بقوله {أمركم الله}، لتتميم هذا التأدب فإن الجماع مما يعد بحسب بادي النظر لغوا ولهوا فقيده بكونه مما أمر الله به أمرا تكوينيا للدلالة على أنه مما يتم به نظام النوع الإنساني في حياته وبقائه فلا ينبغي عده من اللغو واللهو بل هومن أصول النواميس التكوينية.
وهذه الآية أعني قوله تعالى: {فأتوهن من حيث أمركم الله}، تماثل قوله تعالى: { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] ، وقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] ، من حيث السياق، فالظاهر أن المراد بالأمر بالإتيان في الآية هو الأمر التكويني المدلول عليه بتجهيز الإنسان بالأعضاء والقوى الهادية إلى التوليد، كما أن المراد بالكتابة في قوله تعالى: {وابتغوا ما كتب الله لكم} أيضا ذلك، وهو ظاهر، ويمكن أن يكون المراد بالأمر هو الإيجاب الكفائي المتعلق بالأزواج والتناكح نظير سائر الواجبات الكفائية التي لا تتم حياة النوع إلا به لكنه بعيد.
وقد استدل بعض المفسرين بهذه الآية على حرمة إتيان النساء من أدبارهن، وهومن أوهن الاستدلال وأرداه، فإنه مبني: إما على الاستدلال بمفهوم قوله تعالى: {فأتوهن} وهومن مفهوم اللقب المقطوع عدم حجيته، وإما على الاستدلال بدلالة الأمر على النهي عن الضد الخاص وهو مقطوع الضعف.
على أن الاستدلال لوكان بالأمر في قوله تعالى: {فأتوهن} فهو واقع عقيب الحظر لا يدل على الوجوب ولوكان بالأمر في قوله تعالى: {من حيث أمركم الله}، فهو إن كان أمرا تكوينيا كان خارجا عن الدلالة اللفظية، وإن كان أمرا تشريعيا كان للإيجاب الكفائي، والدلالة على النهي عن الضد على تقدير التسليم إنما هي للأمر الإيجابي العيني المولوي.
قوله تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، التوبة هي الرجوع إلى الله سبحانه والتطهر هو الأخذ بالطهارة وقبولها فهو انقلاع عن القذارة ورجوع إلى الأصل الذي هو الطهارة فالمعنيان يتصادقان في مورد أوامر الله سبحانه ونواهيه، وخاصة في مورد الطهارة والنجاسة فالايتمار بأمر من أوامره تعالى والانتهاء عن كل ما نهى عنه تطهر عن قذارة المخالفة والمفسدة، وتوبة ورجوع إليه عز شأنه، ولمكان هذه المناسبة علل تعالى ما ذكره من الحكم بقوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، فإن من اللازم أن ينطبق ما ذكره من العلة على كل ما ذكره من الحكم، أعني قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض}، وقوله: {فأتوهن من حيث أمركم الله}، والآية أعني قوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}، مطلقة غير مقيدة فتشمل جميع مراتب التوبة والطهارة كما مر بيانه، ولا يبعد استفادة المبالغة من قوله تعالى: {المتطهرين}، كما جيء بصيغة المبالغة في قوله: {التوابين}، فينتج استفادة الكثرة في التوبة والطهارة من حيث النوع ومن حيث العدد جميعا، أعني: أن الله يحب جميع أنواع التوبة سواء كانت بالاستغفار وبامتثال كل أمر ونهي من تكاليفه أو باتخاذ كل اعتقاد من الاعتقادات الحقة، ويحب جميع أنواع التطهر سواء كان بالاغتسال والوضوء والغسل أو التطهر بالأعمال الصالحة أو العلوم الحقة، ويحب تكرار التوبة وتكرار التطهر.
قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، الحرث مصدر بمعنى الزراعة ويطلق كالزراعة على الأرض التي يعمل فيها الحرث والزراعة، وأنى من أسماء الشرط يستعمل في الزمان كمتى، وربما استعمل في المكان أيضا قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37] ، فإن كان بمعنى المكان كان المعنى من أي محل شئتم، وإن كان بمعنى الزمان كان المعنى في أي زمان شئتم، وكيف كان يفيد الإطلاق بحسب معناه وخاصة من حيث تقييده بقوله: {شئتم}، وهذا هو الذي يمنع الأمر أعني قوله تعالى: {فأتوا حرثكم}، أن يدل على الوجوب إذ لا معنى لإيجاب فعل مع إرجاعه إلى اختيار المكلف ومشيته.
ثم إن تقديم قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} ، على هذا الحكم وكذا التعبير عن النساء ثانيا بالحرث لا يخلو عن الدلالة على أن المراد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان أو الزمان الذي يقصدن منه دون المكان الذي يقصد منهن، فإن كان الإطلاق من حيث المكان فلا تعرض للآية للإطلاق الزماني ولا تعارض له مع قوله تعالى في الآية السابقة: {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} الآية، وإن كان من حيث الزمان فهو مقيد بآية المحيض، والدليل عليه اشتمال آية المحيض على ما يأبى معه أن ينسخه آية الحرث، وهو دلالة آية المحيض على أن المحيض أذى وأنه السبب لتشريع حرمة إتيانهن في المحيض والمحيض أذى دائما، ودلالتها أيضا على أن تحريم الإتيان في المحيض نوع تطهير من القذارة والله سبحانه يحب التطهر دائما، ويمتن على عباده بتطهيرهم كما قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6].
ومن المعلوم أن هذا اللسان لا يقبل التقييد بمثل قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، المشتمل أولا على التوسعة، وهو سبب كان موجودا مع سبب التحريم وعند تشريعه ولم يؤثر شيئا فلا يتصور تأثيره بعد استقرار التشريع وثانيا على مثل التذييل الذي هو قوله تعالى: {وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}، ومن هذا البيان يظهر: أن آية الحرث لا تصلح لنسخ آية المحيض سواء تقدمت عليها نزولا أو تأخرت.
فمحصل معنى الآية: أن نسبة النساء إلى المجتمع الإنساني نسبة الحرث إلى الإنسان فكما أن الحرث يحتاج إليه لإبقاء البذور وتحصيل ما يتغذى به من الزاد لحفظ الحياة وإبقائها كذلك النساء يحتاج إليهن النوع في بقاء النسل ودوام النوع لأن الله سبحانه جعل تكون الإنسان وتصور مادته بصورته في طباع أرحامهن، ثم جعل طبيعة الرجال وفيهم بعض المادة الأصلية مائلة منعطفة إليهن، وجعل بين الفريقين مودة ورحمة، وإذا كان كذلك كان الغرض التكويني من هذا الجعل هو تقديم الوسيلة لبقاء النوع فلا معنى لتقييد هذا العمل بوقت دون وقت، أو محل دون محل إذا كان مما يؤدي إلى ذلك الغرض ولم يزاحم أمرا آخر واجبا في نفسه لا يجوز إهماله وبما ذكرنا يظهر معنى قوله تعالى وقدموا لأنفسكم.
ومن غريب التفسير الاستدلال بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم الآية، على جواز العزل عند الجماع والآية غير ناظرة إلى هذا النوع من الإطلاق، ونظيره تفسير قوله تعالى وقدموا لأنفسكم، بالتسمية قبل الجماع.
قوله تعالى: {وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}، قد ظهر: أن المراد من قوله: قدموا لأنفسكم وخطاب الرجال أو مجموع الرجال والنساء بذلك الحث على إبقاء النوع بالتناكح والتناسل، والله سبحانه لا يريد من نوع الإنسان وبقائه إلا حياة دينه وظهور توحيده وعبادته بتقويهم العام، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] ، فلو أمرهم بشيء مما يرتبط بحياتهم وبقائهم فإنما يريد توصلهم بذلك إلى عبادة ربهم لا إخلادهم إلى الأرض وانهماكهم في شهوات البطن والفرج، وتيههم في أودية الغي والغفلة.
فالمراد بقوله: {قدموا لأنفسكم} وإن كان هو الاستيلاد وتقدمه أفراد جديدي الوجود والتكون إلى المجتمع الإنساني الذي لا يزال يفقد أفرادا بالموت والفناء، وينقص عدده بمرور الدهر لكن لا لمطلوبيتهم في نفسه بل للتوصل به إلى إبقاء ذكر الله سبحانه ببقاء النسل وحدوث أفراد صالحين ذوي أعمال صالحة تعود مثوباتها وخيراتها إلى أنفسهم وإلى صالحي آبائهم المتسببين إليهم كما قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } [يس: 12].
وبهذا الذي ذكرنا يتأيد: أن المراد بتقديمهم لأنفسهم تقديم العمل الصالح ليوم القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ: 40] وقال تعالى أيضا: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا } [المزمل: 20] ، فقوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ} [البقرة: 223] "إلخ"، مماثل السياق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] ، فالمراد والله أعلم بقوله تعالى: {وقدموا لأنفسكم} تقديم العمل الصالح، ومنه تقديم الأولاد برجاء صلاحهم للمجتمع، وبقوله تعالى: {واتقوا الله}، التقوى بالأعمال الصالحة في إتيان الحرث وعدم التعدي عن حدود الله والتفريط في جنب الله وانتهاك محارم الله، وبقوله تعالى: {واعلموا أنكم ملاقوه} "إلخ"، الأمر بتقوى الله بمعنى الخوف من يوم اللقاء وسوء الحساب كما أن المراد بقوله تعالى في آية الحشر واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون الآية، التقوى بمعنى الخوف، وإطلاق الأمر بالعلم وإرادة لازمه وهو المراقبة والتحفظ والاتقاء شائع في الكلام، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال: 24] ، أي اتقوا حيلولته بينكم وبين قلوبكم ولما كان العمل الصالح وخوف يوم الحساب من اللوازم الخاصة بالإيمان ذيل تعالى كلامه بقوله: {وبشر المؤمنين}، كما صدر آية الحشر بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}.
____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2، ص176-184.
2- قال ابن فارس رحمه الله آذى: الهمزة والذال والياء اصل واحد وهو الشيء تكرهه ولا تقر عليه. وهو اصح تعريف للأذى فما عن جملة من المعاجم بتفسير الاذى بالضرر او الضرر اليسير خطأ واستعمال القران حجة عليهم فقد ورد الضرر 17 مرة وكلها بمعنى الضيق و الشدة الذي هو اصل معنى الضرر. والفرق بين الاذى والضرر هو أن الأذى المكروه اليسير الذي لا يلائم الطبع وهذا المكروه لا يصل الى حد الضيق والشدة الذي هو معنى الضرر وقوله تعالى: (لا يضروكم إلا أذى) شاهد على ذلك بمعنى أنهم لن يلقوكم في شدة وضيق ولكن يصل اليكم منهم مكروه. فقول المحقق قدس سره (فالظاهر أن الأذى – الى ان قال – فينطبق عليه معنى الضرر بوجه) فيه تسامح.
وقوله: (فأجيب بأنه ضرر) لا يخلو عن تسامح أيضاً لان الجواب انه اذى وقد تقدم منه قدس سره أن تفسير الأذى بالضرر لا يخلو عن نظر. وأما قوله: (وتسمية المحيض أذى على هذا المعنى ... إلخ) لا ينطبق على ما أفادته الأبحاث العلمية الحديثة في الكشف عن ماهية الحيض وأسبابه.
أحكام النساء في العادة الشهريّة :
في الآية الاُولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهريّة للنّساء، فتقول الآية : {ويسألونك عن المحيض قل هو أذىً} وتضيف بلا فاصلة {فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتّى يُطهرن...}.
(المحيض) مصدر ميمي ويعني العادة الشهريّة للنساء، وجاء في معجم مقاييس اللّغة أنّ أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تُدعى «سَمُرة» (ثمّ استُعملت للعادة الشهريّة للنساء) ولكن ورد في تفسير «الفخر الرّازي» أنّ الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يُقال للسّيل عند حدوثه (حاض السّيل) ويُقال للحوض هذه اللّفظة بسبب أنّ الماء يجري إليه.
ولكن يُستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ هذه المفردة في الأصل تعني دم الحيض (ثمّ استعملت في المعاني الاُخرى).
فعلى كلّ حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الّذي عرّفه القرآن بأنّه أذىً، وفي الحقيقة أنّ هذه العبارة تُبيّن علّة اجتناب الجماع في أيّام الحيض، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطبّ الحديث، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل، وغير ذلك من الأضرار المذكورة في كتب الطب، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.
خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلّخ جداره، ومع هذا الإحتقان يحتقن المبيض أيضاً، ودم الحيض في البداية يكون متقطّعاً باهت اللون ثمّ يزداد ويحمرّ ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطّع الباهت(2).
الدم الخارج في أيّام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمّع شهرياً في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل. ذلك لأنّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر ببويضة إلى الرحم، وفي نفس الوقت تمتلئ عروق الرحم بالدم استعداداً لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته، وإلاّ يخرج بشكل دم حيض. من هنا نفهم جانباً آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون الرحم خلالها غير مستعد استعداداً طبيعياً لقبول نطفة الرجل، حيث يواجه أذى من جراء ذلك.
جملة {يَطْهُرْنَ} بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من المفسّرين، وأمّا جملة {فإذا تَطَهَّرْنَ} فقد ذهب الكثير منهم على أنّها تعني الغُسل من الحيض، فعلى هذا الأساس وطبقاً للجملة الاُولى تكون المقاربة الجنسيّة بعد انتهاء دم الحيض جائزة حتّى لولم تغتسل، وأمّا الجملة الثانيّة فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها(3).
وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاُولى ونتيجة لها (ولهذا اُعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ {تَطَهَّرْنَ} أيضاً بمعنى الطهارة من دم الحيض، وبذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة، وهذا هوما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحليّة المقاربة الجنسيّة بعد الطهارة من الحيض حتّى قبل الغسل، ولكن لا شكّ في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.
الفقرة الثانية من الآية تقول (فأتوهنّ من حيث أمركم الله)أي أن يكون الجماع من حيث أمر الله، وقد تكون هذه الفقرة تأكيداً لما قبلها، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة، وقد يكون مفهومها أوسع بخصوص أنّ الجماع بعد الطّهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضاً.
هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معاً، فالله سبحانه أودع في الرّجل والمرأة الغريزة الجنسيّة لبقاء نوع الإنسان، وهذه الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللّذة الجنسيّة، لكنّ هذه اللّذة مقدّمة لبقاء النوع فقط، ومن هنا لا يجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الإستمناء واللّواط وأمثالهما، لأنّ هذا الطريق نوع من الإنحراف عن الأمر التكويني.
وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي، يعني أنّ الزوجة بعد طهارتها من العادة الشهريّة ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في الحكم الشرعي.
وذهب البعض إلى أنّ مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسيّة مع الزّوجة عن غير الطريق الطبيعي، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ الآيات السابقة لم تتحدّث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسّياق(4).
الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائيّة من العمليّة الجنسيّة فتقول (نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم)
في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة، وقد يثقل هذا التشبيه على بعض، ويتساءل لماذا شبّه الله نصف النوع البشري بهذا الشكل ؟
ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.
«الحرث» مصدر يدلّ على عمل الزراعة، وقد يدلّ على مكان الزراعة «المزرعة» و «أنّى» من أسماء الشرط، وتكون غالباً زمانية. وقد تكون مكانية كما جاء في قوله سبحانه : {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37].
يستفاد من الآية الكريمة ـ على افتراض زمانية أنّى ـ الرخصة في زمان الجماع، أي جوازه في كلّ ساعات الليل والنهار، وعلى افتراض مكانية أنّى يستفاد من الآية الرخصة في مكان الجماع ومحلّه وكيفيته.
{وقدّموا لأنفسكم}
هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الإستمتاع باللذة الجنسية، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدّسة ذخيرة لاُخراهم. وبذلك يؤكّد القرآن على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الإجتماعية الإنسانية الكبرى.
وفي حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ عن ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»(5).
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال.: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنّة هدىً سنّها فهي تُعمل بها بعد موته وولد صالح يستغفر له»(6).
ووردت بهذه المضمون روايات عديدة أيضاً، وقد جاء في بعضها ستّة موارد أوّلها الولد الصالح(7).
وعلى هذا الأساس يأتي الولد الصالح من حيث الأهميّة إلى جانب الخدمات العلميّة وتأليف الكتب المفيدة وتأسيس المراكز الخيريّة كالمسجد والمستشفى والمكتبة وأمثال ذلك.
وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول :{واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}.
لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحاً على الإنسان، فإنّ الله تعالى يدعو في هذا الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الإنحراف، وتُنذر الجميع بأنّهم ملاقوا ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.
________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص545- 548.
2 ـ مقتبس من إعجاز القرآن : ص 55 ـ 56.
3 ـ الجملة الثانية مفهوم الشرط، والأول مفهوم الغاية.
4 ـ تأتي كلمة «حيث» بعنوان اسم مكان واسم زمان، ولكن هنا تشير إلى زمن جواز المقاربة
الجنسية أي زمن الطهر.
5 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 321. مستدرك الوسائل ، ج12 ، ص230.
6 ـ بحار الأنوار : ج 1 ص 294 ح 4.
7 ـ المصدر نفسه ص 293 ح 1.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|