أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-12-2016
6573
التاريخ: 9-12-2016
4194
التاريخ: 13-2-2017
9656
التاريخ: 12-2-2017
5751
|
قال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْو كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {219} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوشَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 219، 220].
عاد سبحانه إلى بيان الشرائع والأحكام فقال {يسألونك} يا محمد {عن الخمر} وهي كل شراب مسكر مخالط للعقل مغط عليه وما أسكر كثيره فقليله خمر هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا وهو مذهب الشافعي وقيل الخمر عصير العنب إذا اشتد وغلى وهو مذهب أبي حنيفة.
{والميسر} وهو القمار كله عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة والحسن وهو المروي عن أئمتنا حتى قالوا أن لعب الصبيان بالجوز هو القمار {قل فيهما} أي في الخمر والميسر {إثم كبير} أي وزر عظيم وكثير من الكثرة {ومنافع للناس} منفعة الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها وما يحصل من اللذة والطرب والقوة بشربها ومنفعة القمار هو أن يفوز الرجل بمال صاحبه من غير كد ولا مشقة ويرتفق به الفقراء {وإثمهما أكبر من نفعهما} أي ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع لأن نفعهما في الدنيا وما يحصل من الإثم بهما يوجب سخط الله في الآخرة فلا يظهر في جنبه إلا نفع قليل لا بقاء له قال الحسن في الآية تحريم الخمر من وجهين ( أحدهما ) قوله {وإثمهما أكبر} فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته اقتضى العقل الامتناع عنه (والثاني) أنه بين أن فيهما الإثم وقد حرم في آية أخرى الإثم فقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم وقيل إن الخمر يسمى إثما في اللغة قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم يصنع بالعقول
على أنه قد وصف الإثم بأنه كبير والكبير محرم بلا خلاف وقال الضحاك معناه وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما وقال سعيد بن جبير كلاهما قبل التحريم يعني أن الإثم الذي يحدث من أسبابهما أكبر من نفعهما وقال قتادة هذه الآية لا تدل على تحريمهما وإنما تدل الآية التي في المائدة من قوله إنما الخمر والميسر إلى آخرها وقوله {ويسألونك ما ذا ينفقون} أي : أي شيء ينفقون والسائل عمرو بن الجموح سأل عن النفقة في الجهاد وقيل في الصدقات.
{قل العفو} فيه أقوال (أحدها) أنه ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى عن ابن عباس وقتادة ( وثانيها ) أن العفو الوسط من غير إسراف ولا إقتار عن الحسن وعطا وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (وثالثها) أن العفو ما فضل عن قوت السنة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال ونسخ ذلك ب آية الزكاة وبه قال السدي ( ورابعها ) أن العفو أطيب المال وأفضله وقوله {كذلك} إنما وحد الكاف لأن الخطاب للنبي ويدخل فيه الأمة وقيل أن تقديره كذلك أيها القبيل {يبين الله لكم الآيات} أي الحجج في أمر النفقة والخمر والميسر وقيل في سائر شرائع الإسلام {لعلكم تتفكرون} أي لكي تتفكروا {في الدنيا والآخرة} أي في أمر الدنيا وأمر الآخرة فتعلمون أن الدنيا دار بلاء وعناء وفناء والآخرة دار جزاء وبقاء فتزهدوا في هذه وترغبوا في تلك وقيل أنه من صلة يبين أي كما يبين لكم الآيات في الخمر والميسر يبين لكم الآيات في أمور الدنيا والآخرة لكي تتفكروا في ذلك دلالة على أن الله أراد منهم التفكر سواء تفكروا أولم يتفكروا {ويسألونك عن اليتامى} قال ابن عباس لما أنزل الله ولا تقربوا مال اليتيم الآية وأن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انطلق كل من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه واشتد ذلك عليهم فسألوا عنه فنزلت هذه الآية ولا بد من إضمار في الكلام لأن السؤال لم يقع عن أشخاص اليتامى ولا ورد الجواب عنها فالمعنى يسألونك عن القيام على اليتامى أو التصرف في أموال اليتامى {قل} يا محمد {إصلاح لهم خير} يعني إصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرا {وإن تخالطوهم} أي تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم {فإخوانكم} أي فهم إخوانكم والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض وهذا إذن لهم فيما كانوا يتحرجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن ونحو ذلك ورخصة لهم في ذلك إذا تحروا الصلاح بالتوفير على الأيتام عن الحسن وغيره وهو المروي في أخبارنا .
{والله يعلم المفسد من المصلح} معناه والله يعلم من كان غرضه من مخالطة اليتامى إفساد مالهم أو إصلاح مالهم {ولوشاء الله لأعنتكم} أي لضيق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم وألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم وقال الزجاج معناه لكلفكم ما يشق عليكم فتعنتون ولكنه لم يفعل وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة لأنه سبحانه إذا لم يشأ إعناتهم ولو أعنتهم لكان جائزا حسنا لكنه وسع عليهم لما في التوسعة من النعمة فكيف يصح أن يشاء تكليف ما لا يطاق وكيف يكلف ما لا سبيل للمكلف إليه ويأمره بما لا يتصور إحداثه من جهته وأي عنت أعظم من هذا قال البلخي وفيه أيضا دلالة على فساد مذهب من قال أنه تعالى لا يقدر على الظلم لأن الإعنات بتكليف ما لا يجوز في الحكمة مقدور ولوشاء لفعله {إن الله عزيز} يفعل بعزته ما يحب لا يدفعه عنه دافع {حكيم} في تدبيره وأفعاله ليس له عما توجبه الحكمة مانع .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص81-83.
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ } . سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر والقمار ، وكان السؤال في المدينة ، أي بعد أكثر من ثلاث عشرة سنة من تاريخ الدعوة الاسلامية . . ويدل هذا على ان حكمهما كان مسكوتا عنه أمدا طويلا ، كما سكت عن حكم بعض المحرمات إلى وقت البيان حسبما تقتضيه المصلحة ، وقد تستدعي الحكمة الرفق والتدريج في بيان الحكم ، وقيل : ان بيان حكم الخمر كان من هذا الباب ، لأن المسلمين كانوا قد ألفوها في الجاهلية ، فلو منعوا عنها دفعة واحدة لشق ذلك عليهم . . بل ان اللَّه سبحانه قد ذكّر الناس بأن من جملة نعمه عليهم انهم يتخذون من النخيل والأعناب سكرا ورزقا ، حيث قال عز من قائل في الآية 67 من سورة النحل : {ومِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً} .
سأل بعض المسلمين عن حكم الخمر والقمار ، فأمر اللَّه نبيه الأكرم أن يجيبهم بأن { فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ لِلنَّاسِ وإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما } . وهذا الجواب بمفرده لا يدل على تحريم الخمر صراحة ، لأنه لم يقل : الخمر حرام . . ولكنه يدل عليه بالالتزام ، لقاعدة : درء المفسدة أولى من جلب المصلح لأهم مقدم على المهم ، غير انه إذا لحظنا الآية 32 من الأعراف : {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وما بَطَنَ والإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، وعطفنا هذه الآية على الآية التي نحن بصددها ، وجمعناهما في كلام واحد تكون الدلالة على التحريم
صريحة وقطعية أيضا ، حيث تأتي النتيجة هكذا : الخمر إثم ، وكل إثم حرام ، فالخمر حرام .
هذا ، بالإضافة إلى الآية 90 و91 من سورة المائدة : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأَنْصابُ (2) والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . فقوله : فاجتنبوه أمر بالاجتناب ، والأمر يدل على الوجوب ، وقوله : فهل أنتم منتهون ، ظاهر في النهي ، لأن معناه انتهوا ، والنهي يدل على التحريم ، ولذا قال المسلمون بعد سماع هذه الآية : انتهينا . أما الآية 43 من النساء : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى} . أما هذه الآية فقد نزلت قبل آية المائدة التي هي أشد وأغلظ ، وأشرنا ان الحكمة ربما تستدعي التدريج في بيان التحريم . على ان لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى لا دلالة فيها على حليّة الخمر في غير الصلاة ، ويأتي الكلام عنها مفصلا ان شاء اللَّه حين نصل إليها .
هذا ، إلى أن المسلمين منذ الصدر الأول إلى اليوم قد أجمعوا كلمة واحدة على ان الخمر من الكبائر ، وان من استحلها فليس بمسلم ، ومن ارتكبها متهاونا فهو فاسق ، ويحد بثمانين جلدة ، وقد تواتر عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) انه لعن غارسها ، وعاصرها ، وبائعها وشاريها وساقيها وشاربها . وفي بعض الأخبار أو الآثار : ان ما من شريعة سماوية إلا ونهت عن الخمر . وقد بحثنا هذا الموضوع مفصلا في الجزء الرابع من فقه الإمام جعفر الصادق ، باب الأطعمة والأشربة .
{وإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} والمراد بالإثم هنا الضرر ، ويظهر ضرر الخمر في الجسم والعقل والمال ، وفي الصد عن ذكر اللَّه ، وفي الخصومات والمشاحنات ، وفي ارتكاب المحرمات ، فلقد روى أهل السير ان بعض السكارى نزا على بنته . .
وكان العباس بن مرداس رئيسا في قومه في الجاهلية ، وقد حرم الخمر على نفسه بفطرته ، ولما قيل له في ذلك قال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم ، وامسي سفيههم . وقال طبيب ألماني شهير :
اقفلوا نصف الحانات ، اضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والمارستانات والسجون .
أما القمار فإنه يورث العداوة والبغضاء ، ويصد عن ذكر اللَّه ، كما أشارت الآية الكريمة . . ويفسد الأخلاق بالتعويد على الكسل ، وطلب الرزق من أسباب وهمية ، ويهدم البيوت العامرة ، وينتقل بالإنسان من الغنى إلى الفقر فجأة في ساعة واحدة . . ويكفي لتحريم القمار انه أخذ للمال بلا عوض ومقابل .
{ ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْو} . أي أنفقوا ما زاد عما تحتاجونه أنتم وعيالكم . والأمر بالإنفاق هنا للاستحباب ، لا للوجوب ، وانما يجب البذل إذا تحققت شروط الخمس والزكاة ، وسنتكلم عنهما مفصلا ان شاء اللَّه . . ومهما يكن ، فان هذه الآية تجري مجرى الآية 29 من الاسراء : {ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} . وفي الحديث ان رجلا جاء رسول اللَّه (صلى الله عليه واله) بمثل البيضة من ذهب ، وقال له : يا رسول اللَّه خذها صدقة ، فو اللَّه لا أملك غيرها ، فأعرض الرسول عنه ، ثم أتاه من بين يديه ، وأعاد القول ، فقال النبي (صلى الله عليه واله): هاتها مغضبا ، فأخذها منه ، ثم حذفه بها ، وقال : يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ، ويجلس يتكفف الناس ، انما الصدقة عن غنى ، خذها لا حاجة لنا فيها . . وفي الحديث أيضا ان النبي (صلى الله عليه واله) كان يحبس لأهله قوت سنته .
{ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ } . أي ان اللَّه سبحانه بيّن لنا حكمه في الخمر والقمار ، وحكمه فيما ينبغي أن نتصدق به من أموالنا على أساس مصلحتنا نحن ، فهولا يأمر إلا بما فيه مصلحة دنيوية وأخروية ، ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة كذلك ، وعلينا أن نتدبر هذه الحقيقة ، ونراعيها ، ولا نعصي اللَّه في شيء من أوامره ونواهيه . فالقصد من قوله تعالى :{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ} ان نعمل لهما معا ، ولا ننصرف إلى إحداهما دون الأخرى .
{ ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى } . اعتاد أهل الجاهلية أن ينتفعوا بأموال اليتامى ، وربما تزوج الرجل اليتيمة أو زوجها من ابنه طمعا في مالها ، وبعد الإسلام أنزل اللَّه على نبيه : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً} . وقوله : {ولا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والقيام بأمورهم ، فاختلت مصالحهم ، وساءت معيشتهم .
وسأل بعض المسلمين عن ذلك ، فجاء الجواب من اللَّه : {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} .
والمعنى لا تحرموا على أنفسكم مخالطة اليتامى ، ومقاربة أموالهم إذا قصدتم الإصلاح في تربيتهم وتهذيبهم وإدارة أموالهم ، بل في ذلك أجر لكم وثواب ، وانما المحرم هو استغلالهم وأكل أموالهم بالباطل .
{ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ } . قال جماعة من المفسرين : هذا أذن من اللَّه لمن يتولى أمر اليتيم أن يشركه مع عياله في المأكل والمشرب ان كان ذلك أيسر على المتولي ، ويستوفي من مال اليتيم بقدر ما أنفق عليه .
{ واللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } . المفسد هو الذي يلي أمر اليتيم ليستغل أمواله ، والمصلح من يليها لمصلحة اليتيم بالذات . . وقوله : واللَّه يعلم المفسد تهديد عظيم لمن يبتغي الاستغلال والفساد .
{ ولَوشاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } . الاعنات الضيق في التكليف ، والقصد ان اللَّه أباح مخالطة اليتامى مع عيال المتولي ، وان يأخذ عوض ما ينفقه عليه من ماله ، كي لا يقع المتولي في المشقة والحرج ، لأن اللَّه سبحانه يريد بالناس اليسر ، ولا يريد بهم العسر .
وتجدر الإشارة إلى انه لا تشترط الدقة والمساواة التامة بين ما يأكله القاصر مع عيال المتولي ، وبين ما يستوفيه هذا من مال القاصر ، فان اللَّه سبحانه يعفو عما جرى به العرف من المسامحة في التفاوت الذي يتعذر أو يتعسر اجتنابه ، بل للمتولي الفقير أن يأكل من مال القاصر بالمعروف ، وليس له ذلك ان كان غنيا ، لقوله تعالى : {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء: 6] .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ،ـ ص328-331.
2- الانصاب والازلام سهام كانوا يجيلونها في الجاهلية للقمار.
قوله تعالى: {يسئلونك عن الخمر والميسر} ، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمي به لأنه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولا ثم تغطى وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجا فصارت اليوم أنواعا كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمر.
والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسرا والأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضا: الأزلام والأقلام.
وأما كيفيته فهي أنهم كانوا يشترون جزورا وينحرونه، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزءا، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلى، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزءا، وللتوأم جزءان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة، وهو أكثر القداح نصيبا، وأما الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبوا القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الأنصباء والسهام.
قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير}، وقرئ إثم كثير بالثاء المثلثة، والإثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشيء أوفي العقل يبطىء الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب الذي يستتبع الشقاء والحرمان في أمور أخرى ويفسد سعادة الحياة في جهاتها الأخرى وهذان على هذه الصفة.
أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرايين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما ألف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديما وحديثا، ولهم في ذلك إحصاءات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.
وأما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل، وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا ونغصت عيشة الإنسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيما أو غير مستقيم.
وأما مضرته في الإدراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الآخر.
والشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهي كالخمر، والميسر، والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأقوال. فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الإنسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة إلا وهي أمر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلا وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولولم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء إلا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخرا، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.
ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فيشبع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجري على نواميس السعادة الإنسانية، ولذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدريج، وكلفهم بالرفق والإمهال.
ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في الآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الأعراف: 33] ، والآية مكية حرم فيها الإثم صريحا، وفي الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو وأن في الخمر إثما كبيرا.
ولعل ذلك إنما كان نوعا من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضا قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ، والآية أيضا مكية، وكان الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء: 43] ، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.
والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.
ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: {ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر {فيهما إثم كبير} وتقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.
ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: أن آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير} لا يدل على أزيد من أن فيه إثما والإثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} إلى قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون}.
وجه الفساد أما أولا: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقا وليس الإثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [النساء: 48] ، وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283] ، وقوله تعالى: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] ، وقوله تعالى: {لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } [النور: 11] ، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } [النساء: 111] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ثانيا: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول "وإثمهما أكبر من نفعهما" وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.
وأما ثالثا: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحا فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية!.
على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإثم ولم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.
ثم نزلت آيتا المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] ، وذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.
وأما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس}، قد مر الكلام في معنى الإثم، وأما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيرا بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولا صغر كما لا يكون كثرة ولا قلة، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 35] ، وقال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] ، وقال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] ، والعظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان فإن كبر جسم الحيوان كان راجعا إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.
والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير والشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي، ولما قوبل ثانيا بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع وإلغاء جهة الكثرة فيها فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.
قوله تعالى: ويسألونك ما ذا ينفقون قل العفو}، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة والعفو بمعنى إمحاء الأثر والعفو بمعنى التوسط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.
والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: {يسئلونك ما ذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} الآية.
قوله تعالى: {يبين الله لكم} إلى قوله: في الدنيا والآخرة، الظرف أعني قوله تعالى: {في الدنيا والآخرة}، متعلق بقوله: {تتفكرون} وليس بظرف له، والمعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
وفي الآية أولا: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدأ والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.
وثانيا: أن القرآن وإن كان يدعو إلى الإطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد، غير أنه لا يرضى أن يؤخذ الأحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسري.
وكان المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح أصول المعارف والعلوم.
قوله تعالى: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير}، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل {ولوشاء الله لأعنتكم}، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإن هاهنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء: 10] ، وقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [النساء: 2] ، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، وفي قوله تعالى: {قل إصلاح لهم خير} ، حيث نكر الإصلاح، دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح ولوكان إصلاحا في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: {إصلاح} لإفادة التنويع فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى - ذيلا -: {والله يعلم المفسد من المصلح}.
قوله تعالى: {وإن تخالطوهم فإخوانكم}، إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعا بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي، وبين الغني المثري والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، وهذه المحاذاة من الشواهد على أن في الآية نوعا من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضا ذيلها، وكما يدل عليه أيضا بعض الدلالة قوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} ، فالمعنى: أن المخالطة إن كانت وهذا هو التخفيف فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية فإن ذلك لوكان بغرض الإصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.
قوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت هو الكلفة والمشقة.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص163-169.
الجواب على أربعة أسئلة :
الآية الاُولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار {يسألونك عن الخمر والميسر}.
{الخمر} في اللّغة بقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يُخفي شيئاً وراءه هو{خمار} بالرّغم من أنّ الخِمار يُستعمل في الإصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة.
وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة {الخمر} هو الدلالة على التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر، لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح.
أمّا في الإصطلاح الشرعي فيأتي {الخمر} بمعنى كلّ مايع مسكر، سواء اُخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر، بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة.
{الميسر} من مادّة {اليُسر} وإنّما سمّي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيُسر ودون عناء.
ثمّ تقول الآية في الجواب {قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما}.
ومع الإلتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقاً في الخمر والقمار، ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل، كما نرى من اللّين والمداراة والاُسلوب الهادئ في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه.
في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع، ولاشكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحياناً يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار، أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان، الإّ أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّاً بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والإجتماعيّة والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين.
وبناءً على ذلك، فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل.
{الإثم} كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البُطىء والتأخّر، وبما أنّ الذنوب تُؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات، ولذلك اُطلقت هذه الكلمة عليها، بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } [البقرة: 206] أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى.
وعلى كلّ حال، فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يُؤثّر تأثيراً سلبيّاً في روح وعقل الإنسان ويُعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات، فعلى هذا يكون وجود {الإثم الكبير} في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها.
السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية {ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو}.
ورد في تفسير «الدّر المنثور» في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول {صلى الله عليه وآله وسلم} عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق : ماذا يُنفقون ؟ أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها ؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية {العفو}(2).
ولكن ما المراد من «العفو» في الآية ؟
(العفو) في الأصل ـ كما يقول الرّاغب في المفردات ـ بمعنى القصد إلى أخذ شيء، أوب معنى الشيء الّذي يُؤخذ بسهولة، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّاً ويُطلق على مصاديق مختلفة منها : المغفرة والصفح وإزالة الأثر. الحد الوسط بين شيئين. المقدار الإضافي لشيء. وأفضل جزء من الثروة. فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال.
وهذا المعنى وارد أيضاً في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية، وقد ورد عن الإمام الصادق {عليه السلام} أنّه قال : العفو الوسط (3) (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط).
وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف)(4).
وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) (العفو ما فضل عن قوت السّنة)(5).
ويُحتمل أيضاً أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة : أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.
ولا يبعد هذا الإحتمال لو أخذنا بنظر الإعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، وخاصّة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو النموذج الكامل لهذا المعنى، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم. ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.
وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية : {كذلك يُبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون}.
ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكّر ويقول {في الدنيا والآخرة}.
أجل، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان الماديّة والمعنوية في الحياة مشفوعة بالفكر والتدبّر، ويتّضح من هذه العبارة أمران :
الأوّل : إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكّر وتعقّل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اُخرى على الإنسان المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر والقمار، بل في جميع المجالات ولو إجمالاً.
ولا يعني هذا الكلام أنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة مشروطة بإدراك فلسفتها وحكمتها، بل المراد أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطّاعة العمليّة أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهيّة.
الثاني : أنّ على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادّة وحده أو عالم المعنى وحده، بل عليه أن يفكّر في الإثنين معاً، لأنّ الدنيا والآخرة مرتبطتان وكلّ خلل في أحدهما يخلُّ بالآخر، وأساساً لا يُمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم صورة صحيحة عن الواقعيّات في هذا العالم، لأنّ كلاًّ منهما هو قسم من هذا العالم، فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم، فمن حصر فكره في أحدهما فإنّه لا يمتلك تفكيراً سليماً عن العالم.
ثمّ تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220](6).
وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى، فإنّ الإعراض عن تحمّل مسؤوليتهم وتركهم وشأنهم أمرٌ مذموم، فالأفضل أن يتقبّلوا المسؤوليّة ويُصلحوا أمر اليتامى وإن اختلطت معيشتهم بمعيشتكم فعاملوهم معاملة الأخ لأخيه، فلا حرج في الاختلاط الأموال إذا كان الدافع هو الإصلاح.
ثمّ تضيف الآية {والله يعلم المفسد من المصلح} أجل، إنّ الله مطلّع على نيّاتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.
والفقرة الأخيرة من الآية تؤكّد بأنّ الله تعالى قادر على أن يُضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم، لكنّ الله لا يفعل ذلك أبداً، لأنّه عزيز وحكيم، ولا داعي لأن يُضيّق على عباده { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] (7).
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص531-534.
2 ـ الدر المنثور : ج 1 ص 253. وتفسير القرطبي ، ج3 ، ص36.
3 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 210. واصول الكافي ، ج4 ، ص52 ، ح3.
4- تفسير على بن ابراهيم القمي ، ج1 ، ص72 . وتفسير مجمع البيان ، ذيل الاية مورد
البحث .
5 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 316.
6 ـ جملة شرطية، فيها محذوف وتقديره «لابأس به» أو «فلكم ذلك».
7 ـ «اعنتكم» من مادة «عنت» وفي الأصل بمعنى الوقوع في أمر مخوف، وعلى قول مقاييس اللغة أنه يعني كلّ أمر شاق. وعبارة «فإخوانكم» بمثابة الدليل على ذلك.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|