أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-2-2017
5500
التاريخ: 20-2-2017
11642
التاريخ: 1-3-2017
13734
التاريخ: 1-3-2017
6775
|
قال تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوأَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [البقرة: 204 - 207].
بين سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أحوال المؤمنين والكافرين فقال {ومن الناس من يعجبك قوله} أي تستحسن كلامه يا محمد ويعظم موقعه من قبلك {في الحياة الدنيا} أي يقول آمنت بك وأنا صاحب لك ونحو ذلك {ويشهد الله على ما في قلبه} أي يحلف بالله ويشهده على أنه مضمر ما يقول فيقول اللهم اشهد علي به وضميره على خلافه {وهو ألد الخصام} أي وهو أشد المخاصمين خصومة ومن قال أن الخصام مصدر فمعناه وهو شديد الخصومة عند المخاصمة جدل مبطل.
{وإذا تولى} أي أعرض عن الحسن وقيل معناه ملك الأمر وصار واليا عن الضحاك ومعناه إذا ولي سلطانا جار وقيل ولى عن قوله الذي أعطاه عن ابن جريج {سعى في الأرض} أي أسرع في المشي من عندك وقيل عمل في الأرض {ليفسد فيها} قيل ليقطع الرحم ويسفك الدماء عن ابن جريج وقيل ليظهر الفساد ويعمل المعاصي {ويهلك الحرث والنسل} أي النبات والأولاد وذكر الأزهري أن الحرث النساء والنسل الأولاد لقوله {نساؤكم حرث لكم} .
وروي عن الصادق (عليه السلام) إن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس {والله لا يحب الفساد} أي العمل بالفساد وقيل أهل الفساد وفيه دلالة على بطلان قول المجبرة إن الله تعالى يريد القبائح لأنه تعالى نفى عن نفسه محبة الفساد والمحبة هي الإرادة لأن كل ما أحب الله أن يكون فقد أراد أن يكون وما لا يحب أن يكون لا يريد أن يكون .
وقوله تعالى : {وإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإثم فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْس الْمِهَاد}:
بين تعالى صفة من تقدم من المنافقين فقال {وإذا قيل له اتق الله} أي وإذا قيل لهذا المنافق اتق الله فيما نهاك عنه من السعي في الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل {أخذته العزة بالإثم} قيل في معناه قولان ( أحدهما ) حملته العزة وحمية الجاهلية على فعل الإثم ودعته إليه كما يقال أخذته بكذا أي ألزمته ذلك وأخذته الحمى أي لزمته - ( والثاني ) - أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه من الكفر عن الحسن.
{فحسبه جهنم} أي فكفاه عقوبة من إضلاله أن يصلى نار جهنم {ولبئس المهاد} أي القرار عن الحسن كما قال في موضع آخر وبئس القرار لأن القرار كالوطاء في الثبوت عليه وقيل إنما سميت جهنم مهادا لأنها بدل من المهاد كما قال سبحانه {فبشره بعذاب أليم} لأنه موضع البشرى بالنعيم على جهة البدل منه وفي هذه الآية دلالة على أن من تكبر عن قبول الحق إذا دعي إليه كان مرتكبا أعظم كبيرة ولذلك قال ابن مسعود أن من الذنوب التي لا تغفر أن يقال للرجل اتق الله فيقول عليك نفسك.
وقوله تعالى :{ومِنَ النَّاسِ مَن يَشرِى نَفْسهُ ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ واللَّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ}:
ثم عاد سبحانه إلى وصف المؤمن الآمر بالمعروف في قوله وإذا قيل له اتق الله لأن هذا القائل أمر بالخير والمعروف فقال {ومن الناس من يشري} أي يبيع نفسه {ابتغاء مرضاة الله} أي لابتغاء رضاء الله وإنما أطلق عليه اسم البيع لأنه إنما فعل ما فعل لطلب رضاء الله كما أن البائع يطلب الثمن بالبيع {والله رءوف بالعباد} أي واسع الرحمة بعبيده ينيلهم ما حاولوه من مرضاته وثوابه .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص55-57.
ملأ بعض المفسرين الجدد الصفحات بكلام رائع من الوجهة الفنية في تفسير هذه الآيات ، ولكنه لم يزد شيئا على تقسيم الناس إلى طيب وخبيث ، وبديهة ان هذا معلوم للجميع لا يحتاج إلى بيان فضلا عن التفسير والتطويل .
وتسأل : إذا كان تقسيم الناس معلوما للجميع يكون بيانه تحصيلا للحاصل ، وتوضيحا للواضح ، مع ان كلام اللَّه سبحانه يجب أن يحمل على أحسن المحامل ؟
الجواب : من الجائز أن يكون القصد هو الإرشاد والتوجيه إلى أن العاقل ينبغي له أن لا يخدع بالظواهر ، ولا يثق بمن يتقن صناعة الكلام ، فان المفسدين المأجورين متخصصون بهذه الصناعة وعملية الرياء ، فعلينا أن لا نعتمد على أحد الا بعد التجربة ، وقيام الدليل على صدقه ونزاهته .
وهذا أصل عام يتفرع عليه كثير من الأحكام الدينية والدنيوية ، كاختيار الحاكم والنائب والقاضي والمفتي ، وكل من يتولى مصلحة من المصالح العامة . .
وغريبة الغرائب ان تطلب الشهادات العلمية من المرشح للوظائف الحساسة التي تناط بها مقدرات البلاد وحياة العباد ، ولا يسأل عن أمانته وكفاءته الخلقية ، مع انها الأساس . . ان الكثير من حملة الشهادات يستعملونها أداة للخصوصية .
{ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ويُشْهِدُ اللَّهً عَلى ما فِي قَلْبِهِ وهُو أَلَدُّ الْخِصامِ} . أي يظهر الحب والخير ، وهومن أشد الناس عداوة للخير وأهله .
{وإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها} . اختلف المفسرون : هل المراد بالتولي هنا الانصراف والاعراض ، ويكون المعنى ان هذا الذي يدعي الإصلاح إذا انصرف عن مخاطبه سعى في الأرض بالفساد ، أوان المراد بالتولي الولاية والسلطان ، ويكون المعنى إذا صار واليا فعل ما يفعله ولاة السوء من إهلاك الحرث والنسل ؟ .
ونقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده انه رجح المعنى الثاني بقرينة قوله تعالى : {وإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهً أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} لأن الحاكم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة ، أو يحذر من مفسدة ، فهو يرى ان هذا المقام الذي ركبه يجعله أعلى الناس رأيا ، وأرجحهم عقلا ، بل يرى نفسه فوق الحق ، كما انه فوق أهله في السلطة . . فكيف يجوز لأحد أن يقول له : اتق اللَّه .
{ويُهْلِكَ الْحَرْثَ والنَّسْلَ} . الحرث الزرع ، والنسل ما تناسل من الحيوان ، والمراد بهما جميع المصالح الاقتصادية من زرع وصناعة وماشية ، ومواد أولية ، وما إليها مما يتصل بحياة الناس ومعيشتهم ، وانما خص الزرع والماشية بالذكر ، حيث لم يكن للصناعة وتوابعها أهميتها وخطرها آنذاك كما لها اليوم .
وحرمة هذه المقدرات في نظر الإسلام ، تماما كحرمة الدماء ، ومن اعتدى على شيء منها فقد اعتدى على الانسانية نفسها ، حتى ولوكان ذلك ملكا للعدو المحارب ، فلقد نهى رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) عن قطع الأشجار ، والتعرض للزرع والعمار ، وعن إلقاء السموم في بلاد المشركين أيام الحرب وغيرها . . ولو قارنّا بين شريعة الإسلام ، وبين ما تفعله الدول الاستعمارية {المتحضرة !} اليوم ، وما تشنه من الحروب الكيماوية على ما تنبته الأرض من زرع وأشجار ، ويدب عليها من انسان وحيوان ، ومن تسميم الجو بالقنابل الذرية ، والقائها على النساء والأطفال ، لو قارنّا بينهما لعرفنا انسانية الإسلام وعدالته ورحمته ، وتوحش الغرب ، وإفراطه في الظلم والاغتصاب .
{واللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} . ولا شيء أعظم فسادا من إثارة الحروب ، واستعمال الأسلحة المدمرة ضد الشعوب للسيطرة عليها ، ونهب أقواتها ، وحرمان أهلها من ثمار كدحهم وعرقهم .
{ وإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهً أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ }. ان الطيب المخلص يتقبل النقد والنصح ، بل يطلبه ويرحب به ، لأنه لا يهدف الا إلى الحق والواقع ، ولا يطلب المديح والاطراء ، لأن عمله للَّه ، لا للسمعة والشهرة ، قال الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في كلام يصف به المتقين : (لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، ومن أعمالهم مشفقون) . وقال في خطبة له أيام خلافته : (ليس امرؤ وان عظمت في الحق منزلته ، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعاون على ما حمله اللَّه من حقه ، ولا امرؤ وان صغّرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه . . ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ، فإنه من استثقل الحق ان يقال له ، أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه) .
هذا هو شأن العالم المخلص حقا ، أما المنافق الخائن فيصعب عليه قول الحق ،لأنه يفضحه ويظهر مخازيه ، ويشتري المديح الكاذب بأغلى الأثمان ، ليستر نقائصه وأسواءه .
{ ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ} . أي ان بعض المؤمنين يقبلون على الجهاد ، ويحبون الموت في سبيل اللَّه ، تماما كما يحب غيرهم الحياة . .
ولا دافع لهم إلا مرضاة اللَّه وثوابه . قال الرازي في تفسير هذه الآية : جاء في سبب نزولها ثلاث روايات : منها انها نزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حين بات على فراش رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) ليلة الهجرة ، وانه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا علي ، يباهي اللَّه بك الملائكة (2) .
___________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص307-310.
2- قال الشيخ المظفر في الجزء الثاني من كتاب دلائل الصدق : ان الذين نقلوا نزول هذه الآية بعلي هم الرازي والثعلبي ، وصاحب ينابيع المودة ، وأبو السعادات في فضائل العترة الطاهرة ، والغزالي في الأحياء ، والحاكم في المستدرك ، وأحمد بن حنبل في مسنده . . . هذا ما عدا الروايات الكثيرة الأخرى من طرق الشيعة .
تشتمل الآيات على تقسيم آخر للناس من حيث نتائج صفاتهم كما أن الآيات السابقة أعني قوله تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا }"إلخ"، تشتمل على تقسيم لهم غير أن تلك الآيات تقسمهم من حيث طلب الدنيا أو الآخرة، وهذه الآيات تقسمهم من حيث النفاق والخلوص في الإيمان فمناسبة الآيات مع آيات حج التمتع ظاهرة.
قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} "إلخ"، أعجبه الشيء - أي راقه وسره، وقوله: {في الحياة الدنيا}، متعلق بقوله: {يعجبك} ، أي إن الإعجاب في الدنيا من جهة أن هذه الحياة نوع حياة لا تحكم إلا على الظاهر، وأما الباطن والسريرة فتحت الستر ووراء الحجاب، لا يشاهده الإنسان وهو متعلق الحياة بالدنيا إلا أن يستكشف شيئا من أمر الباطن من طريق الآثار ويناسبه ما يتلوه: من قوله تعالى: {ويشهد الله على ما في قلبه} ، والمعنى أنه يتكلم بما يعجبك كلامه، من ما يشير به إلى رعاية جانب الحق، والعناية بصلاح الخلق، وتقدم الدين والأمة وهو أشد الخصماء للحق خصومة وقوله: {ألد}، أفعل التفضيل من لد لدودا إذا اشتد خصومة، والخصام جمع خصم كصعب وصعاب وكعب وكعاب، وقيل: الخصام مصدر، ومعنى ألد الخصام أشد خصومة.
قوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها} "إلخ"، التولي هو تملك الولاية والسلطان، ويؤيده قوله تعالى في الآية التالية: أخذته العزة بالإثم، الدال على أن له عزة مكتسبة بالإثم الذي يأثم به قلبه غير الموافق للسانه، والسعي هو العمل والإسراع في المشي، فالمعنى وإذا تمكن هذا المنافق الشديد الخصومة من العمل وأوتي سلطانا وتولى أمر الناس سعى في الأرض ليفسد فيها، ويمكن أن يكون التولي بمعنى الإعراض عن المخاطبة والمواجهة، أي إذا خرج من عندك كانت غيبته مخالفة لحضوره، وتبدل ما كان يظهره من طلب الصلاح والخير إلى السعي في الأرض لأجل الفساد والإفساد.
قوله تعالى: {ويهلك الحرث والنسل} ، ظاهره أنه بيان لقوله تعالى: {ليفسد فيها} أي يفسد فيها بإهلاك الحرث والنسل، ولما كان قوام النوع الإنساني من حيث الحياة والبقاء بالتغذي والتوليد فهما الركنان القويمان اللذان لا غناء عنهما للنوع في حال: أما التوليد فظاهر، وأما التغذي فإنما يركن الإنسان فيه إلى الحيوان والنبات، والحيوان يركن إلى النبات، فالنبات هو الأصل ويستحفظ بالحرث وهو تربية النبات، فلذلك علق الفساد على الحرث والنسل فالمعنى أنه يفسد في الأرض بإفناء الإنسان وإبادة هذا النوع بإهلاك الحرث والنسل.
قوله تعالى: {والله لا يحب الفساد} المراد، بالفساد ليس ما هو فساد في الكون والوجود الفساد التكويني فإن النشأة نشأة الكون والفساد، وعالم التنازع في البقاء ولا كون إلا بفساد، ولا حياة إلا بموت، وهما متعانقان في هذا الوجود الطبيعي في النشأة الطبيعية، وحاشا أن يبغض الله سبحانه ما هو مقدره وقاضيه.
وإنما هو الفساد المتعلق بالتشريع فإن الله إنما شرع ما شرعه من الدين ليصلح به أعمال عباده فيصلح أخلاقهم وملكات نفوسهم فيعتدل بذلك حال الإنسانية والجامعة البشرية، وعند ذلك تسعد حياتهم في الدنيا وحياتهم في الآخرة على ما سيجيء بيانه في قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة}.
فهذا الذي يخالف ظاهر قوله باطن قلبه إذا سعى في الأرض بالفساد فإنما يفسد بما ظاهره الإصلاح بتحريف الكلمة عن موضعها، وتغيير حكم الله عما هو عليه، والتصرف في التعاليم الدينية، بما يؤدي إلى فساد الأخلاق واختلاف الكلمة، وفي ذلك موت الدين، وفناء الإنسانية، وفساد الدنيا، وقد صدق هذه الآيات ما جرى عليه التاريخ من ولاية رجال وركوبهم أكتاف هذه الأمة الإسلامية، وتصرفهم في أمر الدين والدنيا بما لم يستعقب للدين إلا وبالا، وللمسلمين إلا انحطاطا، وللأمة إلا اختلافا، فلم يلبث الدين حتى صار لعبة لكل لاعب، ولا الإنسانية إلا خطفة لكل خاطف، فنتيجة هذا السعي فساد الأرض، وذلك بهلاك الدين أولا، وهلاك الإنسانية ثانيا، ولهذا فسر قوله {ويهلك الحرث والنسل} في بعض الروايات بهلاك الدين والإنسانية كما سيأتي إن شاء الله.
قوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} ، العزة معروفة، والمهاد الوطاء، والظاهر أن قوله: {بالإثم} متعلق بالعزة، والمعنى أنه إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة الظاهرة التي اكتسبها بالإثم والنفاق المستبطن في نفسه، وذلك أن العزة المطلقة إنما هي من الله سبحانه كما قال تعالى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } [آل عمران: 26] ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، وقال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] .
وحاشا أن ينسب تعالى شيئا إلى نفسه ويختصه بإعطائه ثم يستعقب إثما أوشرا فهذه العزة إنما هي عزة يحسبها الجاهل بحقيقة الأمر عزة بحسب ظاهر الحياة الدنيا لا عزة حقيقية أعطاها الله سبحانه لصاحبها.
ومن هنا يظهر أن قوله: {بالإثم} ليس متعلقا بقوله: {أخذته} ، بأن يكون الباء للتعدية، والمعنى حملته العزة على الإثم ورد الأمر بالتقوى، وتجيبه الأمر بما يسوؤه من القول، أو يكون الباء للسببية، والمعنى ظهرت فيه العزة والمناعة بسبب الإثم الذي اكتسبه، وذلك أن إطلاق العزة على هذه الحالة النفسانية وتسميته بالعزة يستلزم إمضاءها والتصديق منه تعالى بأنها عزة حقيقية وليست بها، بخلاف ما لو سميت عزة بالإثم.
وأما قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص: 2، 3]، فليس من قبيل التسمية والإمضاء لكون العزة نكرة مع تعقيب الآية بقوله: {كم أهلكنا من قبلهم }"إلخ"، فهي هناك عزة صورية غير باقية ولا أصيلة.
قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} "إلخ"، مقابلته مع قوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك} قوله "إلخ"، يفيد أن الوصف مقابل الوصف أي كما أن المراد من قوله: {ومن الناس من يعجبك}، بيان أن هناك رجلا معتزا بإثمه معجبا بنفسه متظاهرا بالإصلاح مضمرا للنفاق لا يعود منه إلى حال الدين والإنسانية إلا الفساد والهلاك كذلك المراد من قوله: {ومن الناس من يشري نفسه} "إلخ"، بيان أن هناك رجلا آخر باع نفسه من الله سبحانه لا يريد إلا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلا بربه ولا ابتغاء له إلا لمرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيى به الحق، ويطيب به عيش الإنسانية، ويدر به ضرع الإسلام، وبذلك يظهر ارتباط الذيل بالصدر أعني قوله تعالى: {والله رؤوف بالعباد}، بما قبله، فإن وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لولا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والإفساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقر من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة، لكن الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحق ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] ، وقال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } [الحج: 40] ، وقال تعالى: { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] ، فالفساد الطارئ على الدين والدنيا من قبل عدة ممن لا هوى له إلا في نفسه لا يمكن سد ثلمته إلا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممن باع نفسه من الله سبحانه، ولا هوى له إلا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها، وقد ذكر هذه المعاملة الرابية عند الله بقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } [التوبة: 111] ، إلى غير ذلك من الآيات.
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص81-83.
مصير المفسدين في الأرض :
الآية الاُولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}.
(ألد) تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي الرقبة وكناية عن الشخص الّذي يغلب الأعداء من كلّ جانب، و(خصام) لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.
ثمّ تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنيّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهي : {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}.
أجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم، لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلاّ أنّهم في الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشيّة.
واحتمل كثير من المفسّرين أنّ المراد بقوله (إذا تولّى) أي إذا حكم، لأنّ التولّي من الولاية بمعنى الحكومة، فيكون معنى الولاية حينئذ أنّ المنافقين إذا حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر(2).
(حرث) بمعنى الزّراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كلّ الموجودات الحيّة أعمّ من الأحياء النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة.
وذُكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير اُخرى منها : أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرينة الآية الشريفة {نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } [البقرة: 223] والمراد بالنسل هم الأولاد، أو يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) المذكور في مجمع البيان)(3).
وعلى كلّ حال فإنّ التعبير (يهلك الحرث والنسل) كلام مختصر وجامع لكلّ المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.
والآية الاُخرى تُضيف {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} (4) فتشتعل في قلبه نيران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.
فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة النّاصحين ولا يهتم للإنذارات الإلهيّة، بل يستمر على عناده و ارتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاءه إلاّ النار، ولذلك يقول في نهاية الآية (فحسبه جهنّم وبئس المهاد).
وفي الحقيقة أنّ هذه هي أحد الصّفات القبيحة والذّميمة للمنافقين حيث أنّهم لا يستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب، وهذه الصفات الذّميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلا درجات الإثم، فمن البديهي أنّ مثل هذه الأخشاب اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلاّ بنار جهنّم.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الله عزّوجلّ وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات في الآيات المذكورة آنفاً، الاُولى : أنّ كلامهم يخدع الإنسان، الثانية : أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة، الثالثة : أنّهم ألدّ الأعداء، الرّابعة : أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا يرحمون أحداً من الإنسان والحيوان والزرع، الخامسة : أنّهم وبسبب الغرور والتكبّر لا يقبلون أيّة نصيحة.
التضحيّة الكبرى في دولة الهجرة التاريخيّة :
بالرّغم من أنّ الآية محل البحث تتعلّق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضحية الإمام علي ومبيته على فراش النبي، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلّي ـ كما في سائر الآيات القرآنية ـ عامٌّ وشامل، وفي الحقيقة أنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة الّتي تتحدّث عن المنافقين.
تقول الآية {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}.
الطائفة السّابقة الّتي تحدّثنا عنها هي مجموعة من الأشخاص المعنادين والمغرورين والأنانيّين الّذين يحاولون أن يحقّقوا لهم بين المجتمع عزّة وكرامة عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
أما هذه الطائفة الثّانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّة ورفعة الإّبالله، وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدّين والدنيا ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام.
ومن هنا يتّضح أنّ جملة {والله رؤوف بالعباد} بمثابة النقطة المقابلة لما ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [البقرة: 206] وقد تكون إشارة إلى أن الله عزّوجلّ في الوقت الّذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن الإنسان.
وممّا يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمُشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد اُخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنّة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111].
ولعلّه لهذا السبب كانت (مِن) في الآية مورد البحث تبعيضية (ومن الناس)، يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضاً عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأمّا في الآية (111) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقاً رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دُعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنّة الخالدة.
ويُحتمل أيضاً في تفسير جملة {والله رؤوف بالعباد} وتناسبها مع بداية هذه الآية أنّ المراد هو بيان هذه الحقيقة أنّ وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده، إذ لولم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد المضحّين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لانهدمت أركان الدّين والمجتمع، لكنّ الله سبحانه بفضله ومنّه يدفع بهؤلاء الصّديقين الأولياء خطر أُولئك الأعداء.
فعلى أيّ حال، فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعدُّ أعظم الفضائل لإمام علي (عليه السلام) الواردة في اكثر المصادر الإسلامية، وكانت في صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاوية العدو اللّدود للإمام علي (عليه السلام) أن يُرشي (سمرة بن جندب) بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثاً مختلطاً ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبدالرحمن ابن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية، ولكنّ أحداً لم يقبل منه حديثه المجعول(5).
_____________________
1- مجمع البيان ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص496-500.
2 ـ تفسير الميزان، ج 2 ، ص 96 ـ وكذلك اُشير إلى هذا البحث في ذيل هذه الآية في تفسير مجمع البيان وأبو الفتوح الرازي، ولكن هذا الرأي لا يناسب سبب النّزول، وإن كان مفهوم الآية واسعاً.
3- تفسير مجمع البيان ، ج1 ، ص300 ، ذيل الاية مورد البحث.
4 ـ العزة في مقابل الذلّة في الأصل. ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة، (روح المعاني) والراغب يرى أنها بمعنى عدم المغلوبية في الأصل، ومجازاً تأتي بمعنى الغرور.
5 ـ نقل قصّة هذه المعاملة «ابن أبي الحديد» في شرح «نهج البلاغة» ج 4، ص 73.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|