أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-5-2017
7888
التاريخ: 15-2-2017
13849
التاريخ: 20-2-2017
9959
التاريخ: 14-2-2017
3755
|
قال تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة: 191 - 193].
بين سبحانه أمر الجهاد فقال مخاطبا للمؤمنين {وقاتلوا} أي مع الكفار {في سبيل الله} أي دين الله وهو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه على أمرهم به ودعاهم إليه {الذين يقاتلونكم} قيل أمروا بقتال المقاتلين دون النساء وقيل أنهم أمروا بقتال أهل مكة والأولى حمل الآية على العموم إلا من أخرجه الدليل {ولا تعتدوا} أي ولا تجاوزوا من قتال من هومن أهل القتال إلى قتال من لم تؤمروا بقتاله وقيل معناه لا تعتدوا بقتال من لم يبدأكم بقتال.
{إن الله لا يحب المعتدين} ظاهره يقتضي أن يسخط عليهم لأنه على جهة الذم لهم وقد ذكرنا معنى المحبة لهم فيما مضى واختلف في الآية هل هي منسوخة أم لا فقال بعضهم منسوخة على ما ذكرناه وروي عن ابن عباس ومجاهد أنها غير منسوخة بل هي خاصة في النساء والذراري وقيل أمر بقتال أهل مكة وروي عن أئمتنا (عليهم السلام) أن هذه الآية ناسخة لقوله {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة} وكذلك قوله {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ناسخ لقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} .
ثم خاطب الله تعالى المؤمنين مبينا لهم كيفية القتال مع الكافرين فقال {واقتلوهم} أي الكفار {حيث ثقفتموهم} أي وجدتموهم {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} يعني أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها {والفتنة أشد من القتل} أي شركهم بالله وبرسوله أعظم من القتل في الشهر الحرام وسمي الكفر فتنة لأن الكفر يؤدي إلى الهلاك كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك وقيل لأن الكفر فساد يظهر عند الاختبار وقوله {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} نهي عن ابتدائهم بقتال أو قتل في الحرم حتى يبتدئ المشركون بذلك .
{فإن قاتلوكم} أي بدءوكم بذلك {فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} أن يقتلوا حيث ما وجدوا وفي الآية دلالة على وجوب إخراج الكفار من مكة كقوله حتى لا تكون فتنة والسنة قد وردت أيضا بذلك وهو قوله : (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ).
{فإن انتهوا} : أي امتنعوا من كفرهم بالتوبة منه عن مجاهد و غيره {فإن الله غفور رحيم } فاختصر الكلام لدلالة ما تقدم من الشرط عليه و فيه الدلالة على أنه يقبل توبة القاتل عمدا لأنه بين عز اسمه أنه يقبل توبة المشرك و الشرك أعظم من القتل .
ثم بين تعالى غاية وجوب القتال وقال يخاطب المؤمنين {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} أي شرك عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) {ويكون الدين لله} وحتى تكون الطاعة لله والانقياد لأمر الله وقيل حتى يكون الإسلام لله أي حتى لا يبقى الكفر ويظهر الإسلام على الأديان كلها {فإن انتهوا} أي امتنعوا من الكفر وأذعنوا للإسلام {فلا عدوان إلا على الظالمين} أي فلا عقوبة عليهم وإنما العقوبة بالقتل على الكافرين المقيمين على الكفر فسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة على العدوان وهو الظلم كما قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وجزاء سيئة سيئة مثلها وإن عاقبتم فعاقبوا وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا إنما حصلت في المعنى لأن التقدير فإن انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين وهذا الوجه مروي عن قتادة والربيع وعكرمة وقيل معنى العدوان الابتداء بالقتال عن مجاهد والسدي .
وهذه الآية ناسخة للأولى التي تضمنت النهي عن القتال في المسجد الحرام حتى يبدءوا بالقتال فيه لأن فيها إيجاب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الإسلام عن الحسن والجبائي وعلى ما ذكرناه في الآية الأولى عن ابن عباس أنها غير منسوخة فلا تكون هذه الآية ناسخة بل تكون مؤكدة وقيل بل المراد بها أنهم إذا ابتدأوا بالقتال في الحرم يجب مقاتلتهم حتى يزول الكفر .
________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص29-32.
في مجمع البيان عن ابن عباس ان رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة ( 2 ) وكانوا ألفا وأربعمائة ، وحين وصلوا الحديبية صدهم المشركون عن البيت الحرام ، فنحروا الهدي في الحديبية ، ثم صالحهم المشركون على أن يرجعوا ويعودوا في العام المقبل . . فلما كان العام المقبل تجهز المسلمون لقضاء العمرة ، ولكنهم خافوا ان لا تفي لهم قريش ويقاتلوهم ، وكره النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه قتال المشركين في الشهر الحرام في الحرم ، فأنزل اللَّه هذه الآية ، وأذن لهم بالقتال ، وقال جماعة : انها أول آية نزلت في القتال .
الإسلام حرب على الظلم والفساد :
قال بعض الجدد من الذين يغارون على الإسلام ، ويحاولون الذب عنه بكل وجه ، حتى ولو خالف منهج القرآن ، قالوا : ان الإسلام لا يجيز قتال أحد الا من أصر على القتال ، وابتدأ به ، وان الحروب الاسلامية في عهد الرسول كانت دفاعية ، لا هجومية ، واستدلوا بآيات ، منها هذه الآية : وقاتلوا في سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ، ومنها : وقاتلوا المشركين كما يقاتلونكم كافة . . والذي دفعهم إلى هذا القول ما يردده أعداء الإسلام من انه دين حرب ، لا دين سلام متذرعين بحروب الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم).
والحق ان الإسلام أجاز القتال في موارد : منها الدفاع عن النفس . ومنها :
قتال أهل البغي ، قال تعالى في الآية 10 من سورة الحجرات : {وإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ} . ومنها : القتال للقضاء على الكفر باللَّه ، قال تعالى في الآية 30 من التوبة : {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهُمْ صاغِرُونَ} . وقال الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم): (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا اللَّه ، فان قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم) ولكن هذا النوع من الجهاد والقتال لا يجوز الا بإذن المعصوم أو نائبه تحرزا من الفوضى .
ان جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الإذن بالقتال لغاية أخرى ، كالقضاء على البغي والكفر . . ان الإسلام يجيز الحرب والقتال من أجل التدين بدين الحق والعدل ، لأن الكفر عدوان بذاته في مفهوم الإسلام ، ويحرم القتال من أجل استعباد الشعوب ، ونهب مقدراتها ، والسيطرة على أسواقها . لقد أجاز الإسلام العنف للقضاء على الجرائم والآثام ، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته . . وأثار المستعمرون الحروب ، وسفكوا الدماء ، وسخروا العلم للتخريب والفناء (3) من أجل النهب والسلب ، وسيادة الظلم والعدوان . . هذا هو الجواب الصحيح الذي ينبغي أن يجاب به الذين يحاولون النيل من الإسلام ونبي الإسلام متذرعين بأنه دين القتال والسيف . . ان الإسلام ايجابي ، لا سلبي . . انه حرب على كل من لا يدين بدين الحق والعدل ، ويبغي في الأرض الفساد . . والكفر باللَّه ظلم وفساد في دين الإسلام وشريعته .
ولا بد من الإشارة بهذه المناسبة إلى ان فقهاء المذاهب الاسلامية كافة اتفقوا كلمة واحدة على ان كل من انتهك حرمات اللَّه مستحلا لها ولسفك الدماء ، ونهب الأموال المحرمة بضرورة الدين فهو والكافر باللَّه سواء ، حتى ولو صلى وصام وحج إلى بيت اللَّه الحرام ، بل ان هذا أسوأ حالا ممن كفر وحرم سفك الدماء ونهب الأموال ، وكف أذاه عن الناس . . ان كلا منهما كافر ما في ذلك ريب ، ولكن هذا كافر كف شره وأذاه عن عباد اللَّه وعياله ، وذاك كافر مسيء إلى اللَّه وعباده وعياله . . قال رسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم): خير الناس أنفع الناس للناس ، وشر الناس من تخاف الناس من شره . . ومرة ثانية ان كل من أنكر حكما شرعيا ثبت بالبديهة الدينية واجماع المسلمين كافة فهو كافر بالاتفاق ، وان تولد من أبوين مسلمين ، ونطق بالشهادتين .
وقوله تعالى :{ ولا تَعْتَدُوا} أي لا تقاتلوا بدافع المنفعة الشخصية ، بل قاتلوا بدافع انساني شريف ، وقصد الذب عن الدين والحق ، ولا تقتلوا النساء والأطفال والشيوخ والمرضى ، ولا تخربوا العمار ، وتقطعوا الأشجار . . وكل هذه التعاليم وما إليها قد وردت في السنة النبوية .
{واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . أي اقتلوا الكافرين في أي زمان أو مكان كانوا إلا في المسجد الحرام فان القتال فيه محرم إلا أن يبتدئوا به .
وتسأل : ان الآية الأولى أمرت بقتال من يقاتل المسلمين ، وهذه أطلقت ولم تقيد ، فهل هذه ناسخة لتلك كما قيل ؟ .
الجواب : لا نسخ ، ومنذ قريب أشرنا إلى أن جواز القتال دفاعا عن النفس لا يدل على عدم الإذن بالقتال لغاية أخرى ، كالقضاء على الكفر والظلم ، وبكلمة إذا قلت لإنسان : أنت طيب ليس معنى قولك هذا ان غيره ليس بطيب ، فكذلك قوله تعالى : {قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} ليس معناه لا تقاتلوا من لا يقاتلكم .
أجل ، لو قال : لا تقاتلوا إلا من يقاتلكم لدل هذا الحصر على النفي .
( وأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ) . أخرج مشركو مكة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه منها ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا باللَّه ورسوله ، فأمر اللَّه نبيه والمسلمين إن عادوا إلى مكة منتصرين ان يخرجوا منها من لا يؤمن باللَّه ورسوله ، تماما كما فعل المشركون من قبل جزاء وفاقا . وقيل : ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم)أخرج المشركين من مكة بعد ان جاء نصر اللَّه والفتح عملا بهذه الآية .
{والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} . هذا تعليل لجواز قتل المشركين ، والمراد بالفتنة الشرك ، وعليه يكون المعنى انما جاز لكم قتل المشركين ، لأن ذنب الشرك أشد قبحا من ذنب القتل ، وفي بعض التفاسير ان اللَّه سبحانه أراد بقوله : {والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} ان مشركي مكة في بدء الدعوة كانوا يفتنون من أسلم عن دينه بالإيذاء والتعذيب ، والإخراج من الوطن ، ومصادرة الأموال ، وهذه الأعمال فتنة ، وهي أشد قبحا من القتل ، ومن أجل هذا جاز لكم قتلهم وإخراجهم من ديارهم . . ومهما يكن ، فان المراد من لفظ الفتنة في القرآن الكريم غير النميمة ونقل الكلام ، كما توهم الكثيرون .
{ولا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} . هذا شرط لجواز القتال في الحرم الشريف الذي حرم اللَّه القتال فيه إلا إذا انتهكت حرمته بالقتال .
{فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } . لأنهم ابتدأوا وانتهكوا حرمة المسجد الحرام ، والبادئ ليس بأظلم ، بل هو وحده الظالم .
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ }. ورعاية السياق تقتضي أن يكون المعنى إن كفوا عن القتال عند المسجد الحرام فكفوا عنهم واغفروا لهم ، لأن السبب الموجب لقتالهم هو ابتداؤهم بالقتال ، فإن كفوا زال السبب . وقال كثير من المفسرين : المعنى ان تابوا عن الكفر وآمنوا باللَّه ورسوله ، لأن الكافر لا يغفر اللَّه له بترك القتال ، بل بترك الكفر . . وهذا تحكم على اللَّه جل وعلا ، فإنه يغفر لمن يشاء ، حتى ولوكان كافرا . . أجل ، انه تعالى لا يعذب المحسن قطعا ، لأنه عادل ، ولكنه يعفو عن المسيء ، مهما كانت الإساءة ، لأنه كريم رحيم .
{وقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} أي ان الجهاد من أجل الايمان باللَّه ، والقضاء على الجحود واجب ما دام على وجه الأرض أثر للشرك والإلحاد ، فإذا زال الإلحاد ، وآمن الناس جميعا باللَّه سقط وجوب الجهاد .
وتجمل الإشارة إلى ان وجوب الجهاد من أجل انتشار الإسلام مشروط بإذن الإمام العادل ، ولا يجوز بحال من غير أمره . أما الجهاد دفاعا عن الدين والنفس فان وجوبه مطلق غير مقيد بشيء .
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} . أي فان انتهوا عن الكفر ، وأسلموا فلا يحل قتالهم إلا بسبب موجب للقتل ، وهو واحد من ثلاثة : كفر بعد ايمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق .
____________________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص296-300.
2- كان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة . وكانت الحديبية يومذاك كثيرة المياه والأشجار ، أما اليوم فصحراء جرداء على ما رأيتها سنة 1964 م .
3- في سنة 1957 صدر كتاب بالولايات المتحدة ، اسمه مستقبل الطاقة الذرية ، واسم المؤلف تريتون ، جاء فيه ان التقدم العلمي خفض كثيرا سعر قتل الإنسان ، فقبل القنبلة الذرية كان قتل الرأس البشرية يكلف العديد من الجنيهات ، وبعدها أصبح يكلف جنيها واحدا ، وبعد القنبلة الهيدروجينية أصبح يكلف شلنا واحدا .
ان سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين، وللفتنة، وللقصاص، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيدا احترازيا، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته، ويقال: لا تقاتله بل إنما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله.
بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم، للحال والوصف للإشارة، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة.
فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40] ، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله، لأصل الحكم، وقوله تعالى: {لا تعتدوا} إلخ، تحديد له من حيث الانتظام، وقوله تعالى: {واقتلوهم} "إلخ"، تحديد له من حيث التشديد، وقوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} "إلخ"، تحديد له من حيث المكان، وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } "إلخ"، تحديد له من حيث الأمد والزمان، وقوله تعالى: {الشهر الحرام} ، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم، وقوله تعالى: {وأنفقوا} ، إيجاب لمقدمته المالية وهو الإنفاق للتجهيز والتجهز، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم، ولا أن تكون نازلة في شئون متفرقة كما ذكره آخرون، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.
قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه، فإن الدفاع محدود بالذات، والتعدي خروج عن الحد، ولذلك عقبه بقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
قوله تعالى: {ولا تعتدوا} "إلخ" الاعتداء هو الخروج عن الحد، يقال عدا واعتدى إذا جاوز وحده، والنهي عن الاعتداء مطلق يراد به كل ما يصدق عليه أنه اعتداء كالقتال قبل أن يدعى إلى الحق، والابتداء بالقتال، وقتل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدو، وغير ذلك مما بينه السنة النبوية.
قوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} إلى قوله: {من القتل}، يقال ثقف ثقافة أي وجد وأدرك فمعنى الآية معنى قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، والفتنة هوما يقع به اختبار حال الشيء، ولذلك يطلق على نفس الامتحان والابتلاء وعلى ما يلازمه غالبا وهو الشدة والعذاب على ما يستعقبه كالضلال والشرك، وقد استعمل في القرآن الشريف في جميع هذه المعاني، والمراد به في الآية الشرك بالله ورسوله بالزجر والعذاب كما كان يفعله المشركون بمكة بالمؤمنين بعد هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبلها.
فالمعنى شددوا على المشركين بمكة كل التشديد بقتلهم حيث وجدوا حتى ينجر ذلك إلى خروجهم من ديارهم وجلائهم من أرضهم كما فعلوا بكم ذلك، وما فعلوه أشد فإن ذلك منهم كان فتنة والفتنة أشد من القتل لأن في القتل انقطاع الحياة الدنيا، وفي الفتنة انقطاع الحياتين وانهدام الدارين.
قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} "إلخ"، فيه نهي عن القتال عند المسجد الحرام حفظا لحرمته ما حفظوه، والضمير في قوله: فيه راجع إلى المكان المدلول عليه بقوله {عند المسجد}.
قوله تعالى: فإن انتهوا {فإن الله غفور رحيم}، الانتهاء الامتناع والكف، والمراد به الانتهاء عن مطلق القتال عند المسجد الحرام دون الانتهاء عن مطلق القتال بطاعة الدين وقبول الإسلام فإن ذلك هو المراد بقوله ثانيا: {فإن انتهوا فلا عدوان}، وأما هذا الانتهاء فهو قيد راجع إلى أقرب الجمل إليه وهو قوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد}، وعلى هذا فكل من الجملتين أعني قوله تعالى: {فإن انتهوا فإن الله}، وقوله تعالى: {فإن انتهوا فلا عدوان}، قيد لما يتصل به من الكلام من غير تكرار.
وفي قوله تعالى: {فإن الله غفور رحيم} ، وضع السبب موضع المسبب إعطاء لعلة الحكم، والمعنى فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم.
قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}، تحديد لأمد القتال كما مر ذكره، والفتنة في لسان هذه الآيات هو الشرك باتخاذ الأصنام كما كان يفعله ويكره عليه المشركون بمكة، ويدل عليه قوله تعالى: {ويكون الدين لله}، والآية نظيرة لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 39، 40] ، وفي الآية دلالة على وجوب الدعوة قبل القتال فإن قبلت فلا قتال وإن ردت فلا ولاية إلا لله ونعم المولى ونعم النصير، ينصر عباده المؤمنين، ومن المعلوم أن القتال إنما هو ليكون الدين لله، ولا معنى لقتال هذا شأنه وغايته إلا عن دعوة إلى الدين الحق وهو الدين الذي يستقر على التوحيد.
ويظهر من هذا الذي ذكرناه أن هذه الآية ليست بمنسوخة بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، بناء على أن دينهم لله سبحانه وتعالى، وذلك أن الآية أعني قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} ، خاصة بالمشركين غير شاملة لأهل الكتاب، فالمراد، بكون الدين لله سبحانه وتعالى هو أن لا يعبد الأصنام ويقر بالتوحيد، وأهل الكتاب مقرون به، وإن كان ذلك كفرا منهم بالله بحسب الحقيقة كما قال تعالى: { لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } [التوبة: 29] ، لكن الإسلام قنع منهم بمجرد التوحيد، وإنما أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية لإعلاء كلمة الحق على كلمتهم وإظهار الإسلام على الدين كله.
قوله تعالى: {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}، أي فإن انتهوا عن الفتنة وآمنوا بما آمنتم به فلا تقاتلوهم فلا عدوان إلا على الظالمين، فهومن وضع السبب موضع المسبب كما مر نظيره في قوله تعالى: {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} الآية، فالآية كقوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة: 11].
___________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص51-54.
القرآن أمر في هذه الآية الكريمة بمقاتلة الذين يشهرون السلاح بوجه المسلمين، وأجازهم أن يواجهوا السلاح بالسلاح، بعد أن انتهت مرحلة صبر المسلمين على الأذى، وحلّت مرحلة الدفاع الدامي عن الحقوق المشروعة.
تقول الآية : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}.
عبارة {فِي سَبِيلِ الله} توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلو في الأرض والتزعم، ولا للاستيلاء على الأراضي، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام. حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والإنحراف.
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن ساير الحروب في العالم، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة «في سبيل الله».
«سبيل» كما يقول الراغب في مفرداته أنها في الأصل تعني الطريق السهل، ويرى بعض أنه ينحصر في طريق الحقّ. ولكن مع الالتفات إلى أن هذه المفردة جاءت في القرآن الكريم تارة بمعنى طريق الحقّ، واُخرى طريق الباطل، فإن مرادهم قد يكون إطلاقها على طريق الحقّ مع القرائن.
ولا شكّ أن سلوك طريق الحقّ «سبيل الله» أي طريق الدين الإلهي مع احتوائه على مشاكل ومصاعب كثيرة إلاّ أنه سهل يسير لتوافقه مع الفطرة والروح الإنسانية للأشخاص المؤمنين، ولهذا السبب نجد المؤمنين يستقبلون تلك الصعوبات برحابة صدر حتّى لو ادّى بهم إلى القتل والشهادة.
وعبارة {الذين يقاتلونكم} تدلّ بصراحة أن هذا الحكم الشرعي يختّص بمن شهروا السلاح ضد المسلمين، فلا تجوز مقاتلة العدو ما لم يشهر سيفاً ولم يبدأ بقتال باستثناء موارد خاصّة سيأتي ذكرها في آيات الجهاد.
وذهب جمع من المفسرين إلى أن مفهوم {الذين يقاتلونكم} محدود بدائرة خاصّة، في حين أن مفهوم الآية عام وواسع. ويشمل جميع الذين يقاتلون المسلمين بنحو من الأنحاء.
ويستفاد من الآية أيضاً أن المدنيين ـ خاصّةً النساء والأطفال ـ لا يجوز أن يتعرّضوا لهجوم، فهم مصونون لأنّهم لا يقاتلون ولا يحملون السلاح.
ثمّ توصي الآية الشريفة بضرورة رعاية العدالة حتّى في ميدان القتال وفي مقابل الأعداء، وتقول : {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.
أجل، فالحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأُصول الخلقية في الحرب، وهوما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار. يوصي مثلاً بعدم الاعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، أو ليست لديهم أصلاً قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدو كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.
الإمام عليّ (عليه السلام) يقول لأفراد جيشه ـ كما ورد في نهج البلاغة ـ وذلك قبل شروع القتال في صفين :
«لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنكم بجهد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة اُخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تُصيبوا مُعوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم»(2).
والجدير بالذكر أن بعض المفسّرين ذهب طبقاً لبعض الروايات أن هذه الآية ناسخة للآية التي تنهى عن القتال من قبيل ({كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } [النساء: 77]. وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بالآية {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [التوبة: 36]. ولكن الصحيح أن هذه الآية لا ناسخة ولا منسوخة، لأن منع المسلمين من قتال الكفّار كان في زمن لم يكن للمسلمين القوّة الكافية، ومع تغيّر الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم، وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية، فعلى هذا يكون تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء، ولكن القرائن تدلّ على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر الحاضر، أي له معنىً واسع يشمل هذه الموارد أيضاً.
في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول : إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم، وأنّ هذا الحكم ه وبمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم}. ثمّ يضيف الله تعالى {والفتنة أشدُّ من القتل}.
أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين وأرباب اللّغة، فهذه المفردة في الأصل من (فَتْن) على وزن مَتْن، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وإصالته، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب(3)، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.
فتارة جاءت بمعنى الامتحان مثل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2].
وتارةً وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } [الأعراف: 27].
وتارةً بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13، 14].
وتارةً وردت بمعنى الضّلال مثل قوله {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [المائدة: 41].
وتارةً بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أوسد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [البقرة: 193].
ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة)، لأنه مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة، مثل الامتحان الّذي يقترن عادةً بالشّدة ويتزامن مع المشكلات، والعذاب أيضاً نوع آخر من الشّدة، وكذلك المكر والخديعة التي تُتّخذ عادةً بسبب أنواع الضغوط والشدائد، وكذلك الشرك وايجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.
والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والإجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن، فكان فسادها ااشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب المسلمين : أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفاً من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.
وقد أورد بعض المفسّرين احتمالاً آخر، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الاجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الاُمور أحياناً أشد من القتل أو سبباً في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع، فنقرأ في الآية (73) من سورة الأنفال قوله تعالى {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الأنفال: 73] أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.
ثمّ تشير الآية إلى مسألة اُخرى في هذا الصدد فتقول : إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائماً وأبداً، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام ،إلاّ أن يبدئوكم بالقتال {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه}.
{فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} لأنّهم عندما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه.
ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائماً الإندار والبشارة معاً، والثواب والعقاب كذلك، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيراً سليماً، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال {فإن انتهوا فإنّ الله غفور رحيم}.
أجل فلو أنّهم تركوا الشرك وأطفؤوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من إخوانكم، وحتّى بالنّسبة إلى الغرامة والتعويضات الّتي تجب على سائر المجرمين بعد قيامهم للجريمة فإنّ هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.
وذهب البعض إلى أنّ جملة {فإن انتهوا} بمعنى ترك الشرك والكفر (كما ذكرنا أعلاه).
وذهب البعض إلى أنّ المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو أطرافه.
ولكنّ الجمع بين هذين المعنيين ممكنٌ أيضاً.
الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول : {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين لله}.
ثمّ تضيف : فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرّضوا لهم {فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظالمين}.
وحسب الظاهر ذُكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي :
1 ـ إزالة الفتنة.
2 ـ محو الشرك وعبادة الأوثان.
3 ـ التصدّي للظلم والعدوان.
ويُحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضاً وعلى هذا يكون الهدف الأوّل والثاني واحداً، وهناك أيضاً احتمال آخر وهو أنّ المراد من الظلم هنا هو الشرك أيضاً كما ورد في الآية (13) من سورة لقمان {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو التصدي للشرك وعبادة الأوثان والّذي يمثّل المصدر الأساس لكلّ أنواع الفتن والمظالم والعدوان.
وذهب البعض إلى أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الابتداء بالحرب أو القتال في الحرم الإلهي الآمن، ولكنّ الإحتمال الأوّل وهو أنّ المراد من الآية هو الأهداف الثلاثة المتقدّمة أقوى، فصحيح أنّ الشرك هو أحد مصاديق الفتنة، ولكنّ الفتنة لها مفهوم أوسع من الشرك، وصحيح أيضاً أنّ الشرك أحد مصاديق الظلم، ولكنّ الظلم له مفهوم أوسع أيضاً، فعندما نرى تفسيره بالشرك أحياناً فهو لبيان المصداق.
وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات، وليس لغرض تحصيل الغنائم، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الاُخرى، أومن أجل غلبة العنصر القومي على آخر.
فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدّمة : إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان، وأيضاً التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص456-460.
2 ـ نهج البلاغة ـ الكتب والرسائل ـ رقم 14.
3 ـ روح المعاني، المجلد الثاني، ص 65.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|