أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-2-2017
13849
التاريخ: 9-12-2016
3655
التاريخ: 9-12-2016
2739
التاريخ: 12-2-2017
4942
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 168، 170].
لما قدم سبحانه ذكر التوحيد وأهله والشرك وأهله أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم والإحسان ثم نهاهم عن اتباع الشيطان لما في ذلك من الجحود لنعمه والكفران فقال {يا أيها الناس} وهذا الخطاب عام لجميع المكلفين من بني آدم {كلوا} لفظه لفظ الأمر ومعناه الإباحة {مما في الأرض حلالا طيبا} لما أباح الأكل بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة لأن في المأكول ما يحرم وفيه ما يحل فالحرام يعقب الهلكة والحلال يقوي على العبادة وإنما يكون حلالا بأن لا يكون مما تناوله الحظر ولا يكون لغير الآكل فيه حق وهو يتناول جميع المحللات وأما الطيب فقيل ه والحلال أيضا فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا وقيل معناه ما يستطيبونه ويستلذونه في العاجل والآجل.
{ولا تتبعوا خطوات الشيطان} اختلف في معناه فقيل أعماله عن ابن عباس وقيل خطاياه عن مجاهد وقتادة وقيل طاعتكم إياه عن السدي وقيل آثاره عن الخليل وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أن من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى وقال القاضي يريد وساوس الشيطان وخواطره وقال الماوردي هوما ينقلهم به من معصية إلى معصية حتى يستوعبوا جميع المعاصي مأخوذ من خطو القدم في نقلها من مكان إلى مكان حتى يبلغ مقصده {إنه لكم عدو مبين} أي مظهر للعداوة بما يدعوكم إليه من خلاف الطاعة لله تعالى واختلف الناس في المأكل والمنافع التي لا ضرر على أحد فيها فمنهم من ذهب إلى أنها الحظر ومنهم من ذهب إلى أنها على الإباحة واختاره المرتضى قدس الله روحه ومنهم من وقف بين الأمرين وجوز كل واحد منهما وهذه الآية دالة على إباحة المأكل إلا ما دل الدليل على حظره فجاءت مؤكدة لما في العقل .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
لما قدم سبحانه ذكر الشيطان عقبة ببيان ما يدعو إليه من مخالفة الدين فقال {إنما يأمركم بالسوء } أي المعاصي عن السدي وقتادة وقيل بما يسوء فاعله أي يضره وهو في المعنى مثل الأول {والفحشاء} قيل المراد به الزنا وقيل السوء ما لا حد فيه والفحشاء ما فيه حد عن ابن عباس {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} قيل هو دعواهم له الأنداد والأولاد ونسبتهم إليه الفواحش عن أبي مسلم وقيل أراد به جميع المذاهب الفاسدة والاعتقادات الباطلة .
ومما يسأل على هذا أن يقال كيف يأمرنا الشيطان ونحن لا نشاهده ولا نسمع كلامه فالجواب أن معنى أمره هو دعاؤه إليه كما تقول نفسي تأمرني بكذا أي تدعوني إليه وقيل أنه يأمر بالمعاصي حقيقة وقد يعرف ذلك الإنسان من نفسه فيجد ثقل بعض الطاعات عليه وميل نفسه إلى بعض المعاصي والوسوسة هي الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي فيلقي إليه الشيطان أشياء بصوت خفي في أذنه .
ومتى قيل: كيف يميز الإنسان بين ما يلقي إليه الشيطان وما تدعو إليه النفس فالقول أنه لا ضير عليه إذا لم يميز بينهما فإنه إذا ثبت عنده أن الشيطان قد يأمره بالمعاصي جوز في كل ما كان من هذا الجنس أن يكون من قبل الشيطان الذي ثبت له عداوته فيكون أرغب في فعل الطاعة مع ثقلها عليه وفي ترك المعاصي مع ميل النفس إليها مخالفة للشيطان الذي هو عدوه .
وقوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوكَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}
لما تقدم ذكر الكفار بين سبحانه حالهم في التقليد وترك الإجابة إلى الإقرار بصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما جاء به من الكتاب المجيد فقال {وإذا قيل لهم} اختلف في الضمير فقيل يعود إلى من من قوله {من يتخذ من دون الله أندادا} وهم مشركو العرب وقيل يعود إلى الناس من قوله {يا أيها الناس} فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة كما قال {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة} وقيل يعود إلى الكفار إذ قد جرى ذكرهم ويصلح أيضا أن يعود إليهم وإن لم يجر ذكرهم لأن الضمير يعود إلى المعلوم كما يعود إلى المذكور والقائل لهم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون {اتبعوا ما أنزل الله} أي من القرآن وشرائع الإسلام وقيل في التحريم والتحليل {قالوا} أي الكفار {بل نتبع ما ألفينا} أي وجدنا {عليه آباءنا} من عبادة الأصنام إذا كان الخطاب للمشركين أوفي التمسك باليهودية إذا كان الخطاب لليهود {أ ولوكان آباؤهم لا يعقلون شيئا } أي لا يعلمون شيئا من أمور الدين { ولا يهتدون } أي لا يصيبون طريق الحق ومعناه لو ظهر لكم أنهم لا يعلمون شيئا مما لزمهم معرفته أ كنتم تتبعونهم أم كنتم تنصرفون عن اتباعهم فإذا صح أنه يجب الانصراف عن اتباعهم فقد تبين أن الواجب اتباع الدليل دون اتباع هؤلاء .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص467-470.
{يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً }. هذا الخطاب عام لجميع الناس ، سواء منهم من حرّم على نفسه بعض الأطعمة ، أولم يحرّم ، وسواء منهم المؤمن والكافر ، لأن الكافر يحرم من نعيم الآخرة ، لا من متاع الدنيا ، وفي الحديث القدسي : (أنا أخلق ، ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري) .
ولما كان المأكول منه حلال ومنه حرام ، فقد أباح اللَّه الأول دون الثاني ، وكل ما لم ينه الشرع عنه فهو حلال : جاء في الحديث : (ان اللَّه سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من اللَّه بكم } . وقد يحرم بالعارض الشيء الذي هو حلال بالأصل ، كالمال المأخوذ بالربا والغش والرشوة والسرقة .
{ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ } . بعد أن أباح اللَّه للناس الحلال حذرهم من التعدي إلى الحرام ، وعبّر عن هذا التحذير بالنهي عن اتباع الشيطان ووسوسته التي تزين للإنسان ما لا يحل له . . وكل خاطر يغري بارتكاب الحرام ، كالخمر والزنا والكذب والرياء ، أو يحذر من فعل الواجب ، كالخوف من الفقر إذا أدّى ما عليه من حق ، أومن الضرر إذا جاهد أوقال الحق ، كل ذلك وما إليه هومن وحي الشيطان . . وقد حكى اللَّه عن الشيطان قوله :
{ لأُضِلَّنَّهُمْ ولأُمَنِّيَنَّهُمْ } . وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} – [الأعراف 15].
{إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ والْفَحْشاءِ وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} . هذا
بيان للآثار والنتائج التي تترتب على اتباع دعوة الشيطان وخطواته ، وهي أمور ثلاثة : السوء ، وهو كل فعل تسوء عاقبته ، والفحشاء ، وهي أقبح أنواع المعاصي ، والقول على اللَّه بغير علم من أن له أندادا وأولادا ، ومن تحليل الحرام ، وتحريم الحلال ، ومنه العمل بالرأي والقياس والاستحسان لاستخراج الأحكام الشرعية .
{وإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا} .
الضمير في ( لهم ) يعود على كل من قلد الغير بلا حجة ودليل ، وترك قول اللَّه والرسول بقول الآباء ، والمراد بما انزل اللَّه كل ما قامت عليه الدلائل والبراهين ، وآمنت به العقول السليمة .
{أَو لَوكانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ} . الهمزة للتوبيخ ، والواو للحال ، والمعنى أيتبعون الآباء حال كونهم لا يعقلون شيئا من أمور الدين . .
فليس المراد من قوله {لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} نفي العقل والفهم عنهم في كل شيء ، وان كان الظاهر يعطي ذلك ، بل المراد نفي التعقل في أمور الدين فقط ، لأن الكلام في خصوص الأمور الدينية . وسنشير في الفقرة التالية إلى ان هذه الآية تدل على قبح التقليد في الضلال ، أما التقليد في الهدى فإنه من القدوة الحسنة .
التقليد وأصول العقائد :
ان التقليد كفكرة ، ومن حيث هو، لا يذم ولا يمدح ، ولا يحكم عليه بحسن ولا بقبح بوجه عام ، بل يختلف باختلاف أنواعه التالية :
1 - التقليد الذي يرجع إلى العدوي النفسية ، والغريزة التي تشاهد في الإنسان ، والحيوان على السواء ، من ذلك صياح الديكة حين تسمع صوت أحدها ، ونهيق الأحمرة حين ينهق واحد منها . . وكذلك الحال بالنسبة إلى الإنسان ، يصفق واحد للخطيب ، فيقلده الآخرون من غير شعور ، حتى ولولم يفهموا شيئا مما أراد ، وينظر شخص إلى جهة معينة ، فيصوب النظر إليها كل من يراه من غير قصد ، وهذا النوع من التقليد لا يوصف بحسن ولا بقبح ، لأنه خارج عن دائرة الشعور والإرادة .
2 - ما جرت عليه العادة في طريقة المحاورات والمجاملات ، وفي كيفية اللباس ، وما إلى ذلك مما تستدعيه الحياة الاجتماعية ، ويشترك فيه الكبير والصغير ، والعالم والجاهل ، وهذا النوع من التقليد يوصف بالحسن والقبح تبعا لما يراه الناس .
3 - تقليد الجاهل للعالم في الشؤون الدنيوية ، كالطب والهندسة ، والزراعة والصناعة ، وما إليها من الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص ، وهذا التقليد حسن ، بل هو ضرورة لازمة تفرضها الحياة الاجتماعية ، ولولاه لاختل النظام ، وتعطلت الأعمال ، إذ ليس في مقدور الإنسان أن يعلم كل شيء ، ويحيط بكل ما يحتاج إليه ، وقد كان الإنسان وما زال بحاجة إلى التعاون ، وتبادل الخدمات .
4 - تقليد المجتهد لمجتهد مثله في الأمور الدينية ، فإنه مذموم عقلا وعرفا ، ومحرّم شرعا ، لأن ما علمه هو حكم اللَّه في حقه ، فلا يجوز تركه بقول غيره . . وأي عاقل كفؤ تقوم الحجة لديه فينكرها بحجة سواه ؟ . . وأي عالم يرغب عن قول اللَّه ورسوله المعصوم إلى قول من يخطئ ويصيب ؟ .
5 - تقليد الجاهل للمجتهد العادل في المسائل الدينية الفرعية ، كأحكام العبادات ، والحلال والحرام ، والطهارة والنجاسة ، وصحة المعاملات ، وما إليها ، وهذا التقليد واجب عقلا وشرعا ، لأنه تقليد لمن أخذ علمه من الدليل والحجة ، تماما كتقليد المريض الجاهل بدائه ودوائه للعالم بهما . . ان الجاهل مكلف بالأحكام ، ولا طريق له إلى الامتثال إلا بالرجوع إلى العالم : { فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .
أجل ، إذا صلى الجاهل وصام تبعا لآبائه ومن إليهم ، لا تقليدا للمجتهد العادل ، وطابقت عبادته الواقع صحت منه وقبلت ، لأن التقليد ليس جزءا ولا شرطا من المأمور به ، وانما هو مجرد وسيلة . . وبالأولى ان تصح معاملاته إذا وقعت على وجهها .
أما قول من قال : ان العبادة تفتقر إلى نية القربة ، ونية القربة لا تتحقق إلا من المجتهد أو المقلد له . . أما هذا القول فمجرد دعوى ، لأن معنى نية القربة الإتيان بالمأمور به بدافع الأمر المتعلق به خالصا من كل شائبة دنيوية . . وليس
من شك ان هذا يتحقق من غير المقلد للمجتهد ، وقوله تعالى : { أَولَو كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ } يشعر بأن الأب إذا كان على هدى ، وقلده الابن صح عمله . . فالعبرة ، اذن ، بالمطابقة وكفى .
6 - التقليد في أصول الدين والعقيدة ، كمعرفة اللَّه وصفاته ، ونبوة محمد وعصمته ، والبعث والنشر . . وقد منع أكثر علماء السنة والشيعة هذا النوع من التقليد ، وقالوا بعدم جوازه ، لأن التقليد قبول الشيء بلا دليل ، وهذا هو الجهل بعينه ، أي ان القائل بوجود اللَّه تقليدا ، تماما كمن يجهل وجوده من الأساس . . وقال هؤلاء : انما أجزنا التقليد في الفروع والمسائل العملية دون الأصول العقائدية ، لأن المطلوب في الفروع مجرد العمل على مقتضى قول المجتهد وهذا ممكن بذاته ، بخلاف الأصول العقائدية فان المطلوب فيها العلم والاعتقاد . .
والعلم لا يجتمع مع التقليد ، لأنه جهل محض ، والاعتقاد خارج عن الاختيار والإرادة ، فلا يتعلق التكليف به .
وقال المحققون من السنة والشيعة : إذا أعقب التقليد تصديق جازم مطابق للواقع صح ، لأنه هو المطلوب ، والاجتهاد ليس شرطا ولا جزءا من الايمان والتصديق ، وانما هو وسيلة ، لا غاية .
وهذا هو الحق ، لأن العبرة في أصول العقائد بالايمان الصحيح المطابق ، ومن أجل هذا قبل النبي ( صلى الله عليه واله ) اسلام كل من آمن به ، واطمأنت نفسه لصدقه ونبوته ، دون أن يجتهد ويستعمل النظر . . أما الآيات التي وردت في ذم اتباع الآباء فان سياقها يدل على ان المراد منها التقليد في الباطل والضلال ، لا في الحق والهداية . . وتظهر هذه الحقيقة لكل من أمعن الفكر في قوله تعالى : { أَولَو جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ } . وقوله : { وإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا } . وقوله : { أَولَو كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ } . فان المفهوم من هذه الآيات ان آباءهم إذا كانوا على الهدى الذي نزل على الرسول جاز اتباعهم ، لأن المطلوب هو اتباع ما انزل اللَّه ، فإذا اتبعوه فقد امتثلوا وأطاعوا ، ولا يسألون بعد الطاعة عن شيء .
واختصارا ان كل من اتبع قول اللَّه والرسول فقد اتبع الحق الثابت بالدليل ، سواء أكان على علم من هذا الدليل ، أولم يكن . ويكفي ان يعلم اجمالا بأن هناك دليلا صحيحا يعرفه أهل الاجتهاد والاختصاص ، بل من اتبع الحق دون أن يعلم انه حق فلا يعاقب على ترك التعلم ، وان لم يستأهل المدح والثواب .
ويشعر بذلك قوله تعالى : { وإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما } – [لقمان 14]فان المستفاد منه أيضا ان جاهداك على ان تؤمن باللَّه ، وأطعت من غير علم فلا بأس عليك .
وقد تعرضنا لتقليد الأئمة الأربعة عند تفسير الآية 167 من هذه السورة ، فقرة (تقليد الأئمة الأربعة ) ، فراجع .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص258-262.
قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين}، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، والحل مقابل الحرمة، والحل مقابل حرم، والحل مقابل العقد، وهو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشيء في فعله وأثره، والطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس والشيء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، والطيب من العطر يلائم الشامة، والطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه.
والخطوات بضمتين جمع خطوة، وهي ما بين القدمين للماشي، وقرىء خطوات بفتحتين وهي جمع خطوة وهي المرة، وخطوات الشيطان هي الأمور التي نسبته إلى غرض الشيطان – وهو الإغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده وغرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك والبعد من الله سبحانه، والأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، والأمر من الشيطان وسوسته وتحميله ما يريده من الإنسان عليه بإخطاره في قلبه وتزيينه في نظره والسوء ما ينافره الإنسان ويستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده وتعدى طوره كان فحشاء ولذلك سمي الزنا بالفحشاء وهو مصدر كالسراء والضراء.
وقد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم ويبينه لهم مما يبتلى به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا وخزاعة وبني عامر بن صعصعة وبني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة، هذا في العرب، وفي غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، وأما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الإسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق والآداب القومية والسنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان والقوانين وغيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة وأعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها وقوتها - وذلك بحسن التربية وحسن القبول - أماتت الفروع وقطعت الأذناب وإلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة والتأمت بها وصارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا ولا ذاك.
فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، والأكل هو البلع عن مضغ وربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإنسان والركن في حياته كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، والآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإطلاقها، والمعنى كلوا وتصرفوا وتمتعوا مما في الأرض من النعم الإلهية التي هيأته لكم طبيعة الأرض بإذن الله وتسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم وطبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، ولا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره ويأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.
فقوله تعالى: {كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}، يفيد الإباحة العامة من غير تقييد واشتراط فيه إلا أن قوله {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}، إلخ يفيد: أن هاهنا أمورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الأكل الحلال الطيب - إما كف عن الأكل اتباعا للشيطان، وإما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء وفحشاء، وقول ما لا يعلم على الله سبحانه وإذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الأكل مما في الأرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى ويشرعه وقد شرعه بهذه الآية ونظائرها ولا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} الآية فرجع معنى الآية - والله أعلم - إلى نحو قولنا كلوا مما في الأرض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا ولا تتركوا بعضا منها كفا وامتناعا فيكون سوء وفحشاء وقولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك وهو اتباع خطوات الشيطان.
فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فإن لله سبحانه المنع فيما له الإذن فيه.
وثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.
وثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فإنه لم ينه عن المشي والسلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الإنسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، ومن هنا يعلم أن عموم التعليل، وهو قوله إنما يأمركم "إلخ" وإن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فإنه ليس من اتباع خطوات الشيطان وإن كان اتباعا للشيطان.
قوله تعالى: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}، السوء والفحشاء يكونان في الفعل، وفي مقابله القول، وبذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء وفحشاء، والقول الذي هو قول بغير علم.
قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا}، الإلفاء الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا، والآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.
قوله تعالى: {أ ولوكان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون، جواب عن قولهم}، وبيانه أنه قول بغير علم ولا تبين، وينافيه صريح العقل فإن قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، قول مطلق أي نتبع آباءنا على أي حال وعلى أي وصف كانوا، حتى لولم يعلموا شيئا ولم يهتدوا ونقول ما فعلوه حق، وهذا هو القول بغير علم، ويؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له ولو كانوا اتبعوا آباءهم فيما علموه واهتدوا فيه وهم يعلمون: أنهم علموا واهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم.
ومن هنا: يعلم أن قوله تعالى: {لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حياتهم لا يحتمل إلا المبالغة.
وذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الاتباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آباءنا وهو ظاهر.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ، ص347-349.
خطوات الشيطان!
ذمّت الآيات السابقة الشرك والمشركين، وأحد أنواع الشرك إيكال أمر التقنين والتشريع وتقرير الحلال والحرام إلى غير الله.
الآية أعلاه اعتبرت هذا العمل شيطانياً وقالت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلا طَيِّباً، وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ}.
تكرر في القرآن طلب الإستفادة من الأطعمة، وورد الطلب عادة مقيّداً بالحلال وبالطيّب.
و«الحلال» ما أُبيح تناوله، والطيب ما طاب ووافق الطبع السليم، ويقابله «الخبيث» الذي يشمأز منه الإنسان.
و«الخطوات» جمع «خطوة» وهي المرحلة التي يقطعها الشيطان للوصول إلى هدفه وللتغرير بالنّاس.
عبارة {لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تكررت خمس مرات في القرآن الكريم، وكانت في موضعين بشأن الإستفادة من الأطعمة والرزق الإلهي. وهي تحذير من استهلاك هذه النعم الإلهية في غير موضعها. وحثّ على الإستفادة منها على طريق العبودية والطاعة لا الفساد والطغيان في الأرض.
النهي عن اتباع خطوات الشيطان في استثمار مواهب الطبيعة، توضحه آيات اُخرى تنهى أيضاً عن الإفساد في استثمار ما وهبه الله للناس، كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] ، وكقوله سبحانه {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه: 81].
هذه المواهب والإمكانات ينبغي أن تكون طاقة دافعة نحو الطاعة لا وسيلة لارتكاب الذنوب.
عبارة (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ) تكررت في القرآن الكريم عشر مرات بعد الحديث عن الشيطان، كي تحفّز الإنسان، وتجعله متأهباً لمجابهة هذا العدو اللدود الظاهر.
الآية التالية تؤكد على عداء الشيطان، وعلى هدفه المتمثل في شقاء الإنسان، وتقول: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
منهج الشيطان يتلخص في ثلاثة أبعاد هي: السوء، والفحشاء، والتّقول على الله. الفحشاء من «الفحش»، وهو كل عمل خارج عن حدّ الإعتدال، ويشمل كل المنكرات والقبائح المبطنة والعلنية. واستعمال هذه المفردة حالياً بمعنى الأعمال المنافية للعفّة هومن قبيل استعمال اللفظ الكلي في بعض مصاديقه.
عبارة {تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قد تشير إلى تحريم بعض الأطعمة المحللة، كما مرّ بنا في سبب النّزول. وهو عمل بعض القبائل العربية في الجاهلية، وقيل: إن رواسبه كانت باقية في ذهن بعض المسلمين الجدد(2).
وقد يتسع معناها ليشمل الشرك والتشبيه بالله أيضاً.
على أية حال، العبارة تشير إلى القول غير القائم على العلم، وهو قول شيطاني مذموم، خاصة إذا كان متضمناً نسبة شيء إلى الله.
الإسلام يحثّ دوماً على الانطلاق من العقل والمنطق في اتخاذ المواقف وفي إصدار الأحكام، ولوكان دأب أفراد المجتمع ذلك لزال من المجتمع الشقاء.
كل ما دخل في الأديان الإلهية من تحريف ومسخ إنما كان على يد أفراد بعيدين عن المنطق، والجانب الأكبر من الانحرافات العقائدية يعود إلى عدم رعاية هذا الأصل، لذلك كان محوراً من محاور النشاط الشيطاني بعنوان مستقل ـ في مقابل السوء والفحشاء ـ في الآية المذكورة.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَو كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}
التّقليد الأعمى
تشير الآية إلى منطق المشركين الواهي في تحريم ما أحلّ الله، أو عبادة الأوثان وتقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}.
ويدين القرآن هذا المنطق الخرافي، القائم على أساس التقليد الأعمى لعادات الآباء والأجداد، فيقول: {أَوَلَو كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
أي إن اتباع الآباء صحيح لو أنهم كانوا على طريق العقل والهداية. أمّا إذا كانوا لا يعقلون ولا يهتدون، فما اتباعهم إلاّ تركيز للجهل والضلال.
الإنسان الجاهلي لا يستند إلى قاعدة ايمانية يحسّ معها بوجوده وبشخصيته وبأصالته، لذلك يستند إلى مفاخر الآباء وعاداتهم وتقاليدهم، ليصطنع له شخصية كاذبة وأصالة موهومة. وهذه عادة الجاهليين قديماً وحديثاً في تعصبهم القومي وخاصة في ما يتعلق بأسلافهم.
الإسلام أدان المنطق الرجعي القائم على تقديس ما عليه الآباء والأجداد، لأنه ينفي العقل الإنساني. ويرفض تطوّر التجارب البشرية، ويصادر الموضوعية في معالجة قضايا السلف.
هذا المنطق الجاهلي يسود اليوم ـ ومع الاسف ـ في بقاع مختلفة من عالمنا، ويظهر هنا وهناك بشكل «صنم» يوحي بعادات وتقاليد خرافية مطروحة باسم «آثار الآباء» ومؤامرة باسم الحفاظ على المآثر القوميّة والوطنية، مشكّلا بذلك أهم عامل لانتقال الخرافات من جيل إلى جيل آخر.
لا مانع طبعاً من تحليل عادات الآباء وتقاليدهم، فما انسجم منها مع العقل والمنطق حُفِظَ، وما كان وهماً وخرافة لُفِظ. المقدار المنسجم مع العقل والمنطق من العادات والتقاليد يستحق الحفظ والصيانة باعتباره تراثاً قومياً. أمّا الإستسلام التام الأعمى لتلك العادات والتقاليد فليس إلاّ الرجعية والحماقة.
جدير بالذكر أن الآية أعلاه تتحدث عن آباء هؤلاء المشركين وتقول عنهم إنهم لا يعلمون، ولا يهتدون. وهذا يعني إمكان الإقتداء باثنين. بمن كان يملك الفكر والعقل والعلم، ومن كان قد اهتدى بالعلماء.
أما أسلاف هؤلاء فلم يكونوا يعلمون، ولم يكونوا قد اهتدوا بمن يعلم وهذا اللون من التقليد الاعمى هو السبب في تخلف البشرية لانه تقليد الجاهل للجاهل.
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص391-397.
2 ـ الميزان، ج 1، ص 425.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|