أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-11-2016
261
التاريخ: 14-11-2016
288
التاريخ: 14-11-2016
202
التاريخ: 14-11-2016
956
|
لقبائل كندة تاريخ قديم قد لا تتأخر نشأته عن نشأة تاريخ تنوخ. وقد امتدت أيامها حتى نافست المناذرة والغساسنة في عنفوان مجدهم. ولكن أحاط الغموض بتاريخ كندة أكثر مما أحاط بتاريخ هؤلاء وهؤلاء. ويرجع هذا الغموض إلى عدة أسباب، أهمها أنه لم تكتشف لجماعات كندة آثار قائمة مهمة أو نصوص وفيرة، وأن وجودهم في أغلب عهودهم في قلب البادية أقصاهم إلى حد ما عن معرفة المؤرخين الكلاسيكيين والبيزنطيين فيما خلا إشارات مختصرة ذكرها عنهم كل من بليني وبطلميوس وننوسوس وبروكوبيوس، ومالالاس، وثيوفانيس، ويوشع.
وهي في مجملها إشارات تحتمل كثيرًا من الجدل. ثم إن أوائل المؤرخين والأدباء المسلمين الذين كتبوا عن كندة وملوكها تأثروا إلى حد ما بميولهم القبلية، ونقلوا قصصها من مصادر متضاربة فخرجت أخبارهم عنها متباينة مختلطة.
واستفادت أغلب روايات المؤرخين والأدباء المسلمين القدامى من مؤلفات هشام بن محمد الكلبي المفقودة الآن للأسف وأخصها كتاب ملوك كندة وكتاب الكلاب الأول، وكتاب الكلاب الثاني... إلخ. كما استفادت أغلب الدراسات الحديثة عن كندة مما حققه المستشرق جونار أو لندر عن ملوك كندة أو أسرة آكل المرار في مؤلفه المنشور في عام 1927.
ثم نشرت في الأعوام الأخيرة بضعة نصوص سبأية وحميرية ألقت ضوءًا جديدًا على نشأة كندة وأرجعتها إلى عهود أقدم مما تخيله المؤرخون المسلمون عنها.
وسوف نبدأ بما أتت به المصادر الإسلامية القديمة ونستعين بما حققه أو لندر منها. ثم نعقب أخيرًا بما أضافته حديثاً قراءة النصوص الأثرية القديمة إلى المعروف عن تاريخ كندة.
رد أغلب المؤرخين المسلمين كندة إلى أصل قحطاني، ورووا أنها أقامت في بداية أمرها في شرقي اليمن وغربي حضرموت، ثم احتدمت المنازعات بينها وبين الحضارمة إلى أن تركت موطنها ونزحت إلى الشمال. وتعاقب على كندة رؤساء لقبهم المؤرخون المسلمون بألقاب ونسبوهم إلى جد أعلى يدعى ثور. واختلفوا في حقيقة عددهم وفي مدد حكمهم. وبعد أمد ما تحالفت كندة مع الحميرين لتكون لهم مثل اللخميين بالنسبة للفرس. في عهد الملك الحميري أب كرب أسعد الملقب بلقب تبع الأكبر، أو ولده حسان بن تبع. فولي أحدهما كبيرها حجرًا بن عمرو الملقب بآكل المرار على أرض معد فنزل ببطن عاقل بنجد. وأغار ببكر فانتزع ما كان بأيدي اللخميين من أرض بكر. وكان أب كرب أسعد قد بلغ في هذه النواحي وادي مأسل الجمح جنوب شرق الدوادمي. وسجل اسمه على صخرة فيه.
وانتشرت كندة في أرض نجد وما في شمالها وتصادمت مع الضجاعمة وحلفائهم الغساسنة على أطراف الشام، كما تصادمت مع المناذرة على أطراف العراق.
وولي بعد آكل المرار ولده عمرو بن حجر الذي لقب المقصور ربما لهبوط همته ولأن الظروف قصرت حكمه على جزء من ملك أبيه دون ملكه كله.
فاكتفى بمناطق ربيعة ومعد في نجد وتخلى عن اليمامة لأخيه، وعوض هذا القصور بصداقاته وولائه لجيرانه الحميريين واللخميين، ومحاولته الإغارة على أملاك الغساسنة.
وخلفه ولده الحارث بن عمرو الكندي في نهاية القرن الخامس الميلادي كما يعتقد أولندر، وكان أشد صلابة منه. وامتد حكمه على قبائل بكر بن وائل التي رغبت في الاحتماء بسلطانه حين نزحت هي وقبائل تغلب من أرض اليمامة نحو الشمال بعد أن مزقتها حرب البسوس، تريدان النزول في البحرين والعراق.
وسنحت الفرص لعلو شأن الحارث الكندي نتيجة لأمرين، وهما انتقال صيته إلى فارس بعد أن أغار اتباعه البدو على حدود العراق وحوافه الزراعية وفشلت جيوش الحيرة في إخضاعهم. ثم رغبة الملك الفارسي قباذ في إيجاد منافس قوي أمام المنذر الثالث ملك الحيرة حتى لا تزيد أطماعه بعد انتصاراته الأولية على الغساسنة. وبعد أن وصل إليه رسل قيصر الروم يفاوضونه في فك أسراهم أو يغرونه بالانضمام إلى صفوفهم أو مهادنة أنصارهم، كما سلف القول من قبل، وربما كتغيير يناسب الحركة المزدكية في فارس.
وذكر المؤرخون المسلمون أن قباذًا ملك الفرس أقر الحارث الكندي على ما استولى رجاله عليه من أطراف العراق، وأضافوا أنه استقبله بنفسه عند قنطرة الفيوم قرب هيت في العراق. وبعد أن اطمأن قباذ إليه عزل المنذر الثالث وولى الحارث الكندي على أطراف فحكمها من الحيرة أو من الأنبار، وكان له أولاد كثيرون ولاهم رؤساء على القبائل العربية منذ أن ذاع صيته في البادية وخلال حكمه لمملكة الحيرة بوجه خاص، وأسند إلى أكبرهم حجر رياسة قبائل أسد وكنانة أو بني أسد بن خزيمة وغطفان، وكانت أسد قبيلة كبيرة تركزت في جنوب جبلي طيء على جانبي وادي الرمة وتوزعت بطونها فيما قيل بين المدينة وبين الفرات. فقبلت رياسته على مضض بحيث قيل: إنه لم يكن يقيم فيها وإنما كان يقيم في تهامة ويبعث رسله ليجمعوا الإتاوة منها. ثم تشجع بما صارت إليه رئاسته فشن هجمات خاطفة على حدود الغساسنة، وتجرأ أخوه معد يكرب بمثل جرأته وكان يلي قيس عيلان فأغار على حدود فلسطين وأوغل فيها حتى أوفد قيصر الروم أناستاسيوس وفدًا إلى أبيه الحارث ليوقف شره.
وهكذا زاد شأن الحارث الكندي واستمر على حكم الحيرة وما حولها، ولكن لفترة قليلة تتراوح بين ثلاث وأربع سنوات 525م-528م ثم مالبثت الآية أن انقلبت عليه حين توفي ملك الفرس الذي ولاه وعضده. وكان المنذر الثالث قد لجأ بعد عزله إلى بعض حلفائه من القبائل واستجمع قواه بينهم ثم عاد ليسترجع ملكه. ووجد التأييد من ملك فارس الجديد كسرى أنو شروان الذي سمح له باستعادة ملك الحيرة، وعزل الكندي ففر وتبعته جيوش المنذر، واختلفت الروايات العربية فيما إذا كان أفلت منها أم قتلته.
وأدت هزيمة الحارث أو قتله إلى أن انقلبت القبائل الخاضعة له ضد آله وبنيه بحيث قيل: إن تغلب سلمت ثمانية وأربعين فردًا من أسرته إلى المنذر فأمر بضرب رقابهم جميعًا. ونعاهم امرؤ القيس كثيرًا في شعره. وكان شر البلية أن تناحر أبناء الحارث بعضهم مع بعض حتى ذهبت ريحهم فقيل على سبيل المثال: إن ولدًا للحارث يدعى شرحبيل كان يحكم قبائل بكر بن وائل وما والاها من قبائل المنطقة الشرقية اختلف مع أخر أصغر، له يدعى مسلمة كان يحكم قبائل تغلب والنمر بن قاسط. وزكى المنذر ملك الحيرة الفرقة بين الأخين، فتقاتلا وأضعف كل منهما هيبة الآخر، فتنمر لهما أتباعهما وحلفاؤهما إلى أن قتل الأول فيما يسمى يوم الكلاب وهو ماء بين البصرة والكوفة، وفر الثاني، فكر المنذر ملك الحيرة عليه بجيشه وقتل من اتباعه خلقًا كثيرًا.
أما أسد فقد زاد حقدها على ولده حجر، ولما اشتد وعماله عليها تمكنت من قتله والفتك بأهله في ظروف اختلف الرواة في تصويرها.
وهكذا تشتت أفراد أسرة آكل المرار وفت في عضدهم أن ضعف شأن حليفتهم حمير واحتل الأحباش المسيحيون اليمن في عام 525م، فلم يبق لهم نصير خارجي لا من الفرس ولا من اليمن ولا من الروم ولا من أنفسهم بعد أن فرقت المطامع صفوفهم. وكان لحجر عدة أبناء أصغرهم هو امرؤ القيس الشاعر وكان ميالًا للهو مع شهرته في الشعر. وكان أبوه فيما ذكرته الروايات العربية قد تبرأ منه في حياته حتى يقلع عن لهوه وشعره ففارقه وظل على سفره ولهوه حتى أتاه نعيه وهو يشرب ويسمر في دمون من أرض حضر موت فقال جملته المأثورة: ضيعني صغيرًا وحلمني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر، واستنصر امرؤ القيس قبائل بكر وتغلب على بني أسد قاتلي أبيه. فاستعصم بنو أسد ببني كنانة ثم تركوهم. وتعقبهم امرؤ القيس بحلفائه والتحم معهم في معركة ضارية ولكنهم هربوا منه بليل. واكتفت بكر وتغلب بما حدث وتفرقت عنه.
وأبى امرؤ القيس إلا المضي في الانتقام لأبيه، فمضى يستنصر عرب العراق تارة وعرب اليمن تارة أخرى، ثم قاتل بني أسد مرة أخرى وظفر ببعض بطونهم وقيل: إنه مثل بها تمثيلًا شديدًا، ثم أحل الخمر لنفسه. ولو أن شاعر بني أسد عبيد بن الأبرص نفى في شعره تمكن امرئ القيس من قومه، وأخذ بروايته بعض المؤرخين.
وكان رؤساء الحيرة لا يزالون يكنون البغضاء لكندة، فتعقبوا امرؤ القيس وشردوه ..... ، وتشجعت عليه قبائل أسد ومعد، وتفرق عنه أتباعه. ففر بأهله وأسلحته وماله وظل يتنقل بهم والمكائد تلازمه بين بني يربوع، وإياد. وطيء، وفزارة، ثم ارتحل إلى تيماء ويبدو أنها كانت تحت رئاسة قريب له من كندة يدعى قيس، وإن كانت بعض الروايات قد اكتفت من قصته فيها بأنه أودع أهله ودروعه عند السموأل بن عاديا صاحب الحصن الأبلق ورجاه أن يوصي به الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم قصد بلاد الشام ونم شعره عن أنه مر فيها بحوران وبعلبك وحمص وحماة ... ومن هناك أوفده الحارث الغساني بتزكية منه إلى قيصر الروم في القسطنطينية، حيث مات فيها مريضًا أو مسمومًا، أو مات أثناء رجوعه منها في فترة ما بين 530و540م من قبل أن يحقق هدفه، وأضافت الروايات نفسها أن بعض أعدائه أو بعض أنصاره عندما تحققوا من وفاته طالبوا السموأل بودائعه فأبى، فحاصروا حصنه وقتلوا ولده، ولكنها اختلفت فيمن طالب السموأل وحاصره، إن كان الحارث بن أبي شمر الغساني، أو الأبرد ابن عمه، أو الحارث بن ظالم حليف المنذر ملك الحيرة. ونظر بعض المؤرخين المحدثين ومنهم فنكلر ومارجوليوت إلى المشكلة من وجهة نظر أخرى، فقد لاحظوا أن شاع القصة وأشاد بوفاء السموأل مصدر يهودي يتمثل في دارم بن عقال الذي قيل: إنه كان من نسل السموأل، وسعية بن عريس، وغيرهما من رواة اليهود، ثم الأعشى الشاعر الجاهلي، ورأى فنكلر علامات الشك محتملة فرجح أن تكون قصة السموأل قصة موضوعة استوحاها رواة اليهود هؤلاء من بعض قصص التوراة وأشاعوها تمجيدًا لقومهم، ثم رددها بعض الإخباريين بعدهم وأعجبوا بها لما اصطبغت به من روح الوفاء والإباء المحببة إلى العرب.
واعتاد الباحثون في تاريخ كندة أن يقفوا قليلًا عند قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية ومصيره فيها. حيث لم تذكر المصادر البيزنطية شيئًا عن امرئ القيس هذا ولا عن زيارته لعاصمتها من طرف صريح، وإن أشارت في مناسبات أخرى متفرقة إلى أن أعوان القيصر كانوا يقربون بين مشايخ العرب وملوكهم الصغار وبين قيصرهم ويشجعونهم على زيارة بلاطه أو يسعون عنده في أن يسمح لهم بزيارته في عاصمته.
ويفهم من بعض هذه المصادر على سبيل المثال أن شيخًا من شيوخ العرب الكبار يسمى امرأ القيس ارتحل من نواحي العراق إلى دومة الجندل واتخذها مركزًا لغزو جنوب فلسطين وساحل البحر الأحمر أو ساحل العقبة واستولى على جزيرة فيه. ثم اتصلت الأسباب بينه وبين الأسقف العربي بطرس فأقنعه بمهادنة الروم والسعي إليهم. وسعى له هو عند القيصر ليو حتى دعاه إلى القسطنطينية حوالي عام 473م فزاره وتنصر، وأقره على أرضه ولقبه بلقب فيلارخوس. وليس لامرئ القيس هذا صلة بامرئ القيس الشاعر وهو يسبق عهده بأكثر من نصف قرن.
واتصلت الأسباب بين شيخ عربي آخر دعته المصادر البيزنطية أبا كرب وبين القيصر يوستينيانوس (جوستين) وكان أبو كرب يتزعم قبيلته في جنوب فلسطين، وله واحة هناك كثيرة النخيل تقرب بها إلى القيصر فقبلها منه ولقبه هو الآخر بلقب فيلارخوس، وجاور أرضه أعراب من معد كانوا يدينون بالولاء للحميريين، مما يحتمل معه أنهم كانوا من كندة. وأراد أن يستعين بالقيصر ضدهم.
وذكرت رواية أخرى أن الإمبراطور يوستنيانوس أرسل رسولًا إلى سميفع إشوع المسيحي عامل الأحباش على اليمن، يدعوه إلى أن يصفح عن رئيس عربي يدعى قيس ويعاونه على رياسة معد ويتعاون معه على غزو أملاك فارس-وكانت هذه السفارة قبل عام 531م ولم تحقق غرضها - إما للخوف من فارس أو لأن سميفع لم تكن له سيادة فعلية على معد بحيث يولي قيسًا عليها.
وذكر الكاتب البيزنطي نونوسوس أن القيصر أناستاسيوس أرسل وفدًا برئاسة جده إلى الحارث ملك كندة ومعد بعد أن تعددت إغارات ولده معد يكرب على حدود فلسطين. كما أرسل القيصر يوستينيايوس وفدًا برئاسة أبيه أبراهام ليقابل قيسًا حفيد الحارث، ولعله بن معد يكرب، ليعقد حلفًا معه، فقابله وأخذ منه ولده معاوية إلى القسطنطينية كرهينة على وفاته. ثم كلف القيصر نونوسوس نفسه بأن يدعو قيسًا الكندي إلى القسطنطينية فاصطحبه معه إليها ثم أرجعه إلى بلده بعد أن أقره على ولاية جزء من فلسطين. وليس قيس هذا بطبيعة الحال هو امرؤ القيس الشاعر الذي ذكر المؤرخون وفاته بحسرته قبل أن تتحقق أمنيته بالعودة إلى بلده معززًا مكرمًا. وإن افترض بعض الباحثين احتمال صحبته لقيس هذا وهو من أبناء عمومته في رحلته وعودته معه وإن اهتم الرواة المسلمون بقصته هو وتناسوا ابن عمه.
أسلفنا أن ثمة ضوءًا جديدًا ألقته النصوص السبأية الحميرية المكتشفة حديثًا على بداية تاريخ كندة، وأن ما أضافته هو الرجوع بهذا التاريخ إلى أبعد مما ذهب به المؤرخون المسلمون وإلى ما حول ميلاد المسيح عليه السلام، وأن كندة ارتبطت في نشأتها بالعرب الشماليين أكثر مما ارتبطت بالعرب الجنوبيين على عكس ما رواه أغلب المؤرخين المسلمين، وأن الجنوبيين كانوا ينطقون اسمها كدة بدال مشددة مما قد يعني أن اسمها لم يكن من أسمائهم فحرفوه.
ويرجع أقدم هذه النصوص إلى عهد شعر أوتر ملك سبأ وذوريدان في أواخر القرن الميلادي الثاني، وهو ملك عمل أن يجمع شمل المناطق العربية الجنوبية وأن يقضي شبهة النفوذ الحبشي عن ساحل تهامة كما ذكرنا في سياق الفصل العاشر. فتعددت معارك جيوشه في حضرموت وفي ردمان وعلى ساحل تهامة الجنوبي وفي نجران.
ومن نجران اتجهت قواته إلى قرية ذات كاهل ولعلها كانت قريبة من الفاو الحالية ونسبت إلى معبودها كاهل، وحاربت ربيعة ذو آل ثور مالك كدة وقحطان وهو ملك قد ينتمي إليه معاوية بن ربيعة ملك قحطان ومذحج الذى ذكره نص من قرية الفاو أيضًا.
وكان الرحالة بليني قد ذكر في أوائل القرن الأول الميلادي منطقة آل ثور هذه مع ملاحظة أن المؤرخين المسلمين قد ردوا نسب ملوك كندة إلى ثور فعلًا واعتبروه رجلًا، وقد يكون معبودًا قديمًا عبدوه.
وذكر الجغرافي بطلميوس السكندري اسم العاصمة ماؤوكسموس كعاصمة لكندة في القرن الثاني الميلادي.
وبالاستفادة من هذه المصادر مجتمعة وبخريطة بطلميوس الجغرافي السكندري التي أثبتها في كتابه، يذهب الرأي الحديث إلى الاتجاه بديار كندة الأولى إلى ما في شمال نجران في منطقة الأفلاج والعارض وجبل طويق في قلب نجد. وإذا صحت قراءة قحطان التي تضمنها نص شعر أوتر وذكر ارتباطها بكندة وخضوعهما معًا لملك واحد يدعى ربيعة ومن بعده لولده؟ معاوية، فإنها قد تعني منطقة ما من أرض قحطان الواسعة في خولان الشمالية التي تمتد بين شمال شرق جيزان وبين شمال نجران.
وبعد جيل أو نحوه في أوائل القرن الثالث الميلادي، روي نص من عهد ايلشرح يخضب وأخيه يأزل بين ملكي سبأ وذوريدان خبر حرب شنتها قوات هذين الملكين ضد مالك ملك كندة وشعب كندة كدة لمؤازرته لامرئ القيس بن عوف ملك خصاصة، وأسرت هذه القوات قادة كندة واحتجزتهم في مأرب حتى سلموا الغلام امرأ القيس لملكي سبأ وذوريدان وتركوا أبناءهم رهائن لديهما، وأدوا الجزية والفدية من الخيول والإبل والمتاجر. وربما قامت خصاصة هذه حليفة كندة قريبة من منازلها في شمال نجران، إلى القرب من بيشة وإلى الجنوب الغربي منها.
وبعد قرن تقريبًا وفي أوائل القرن الرابع الميلادي تحدثت نصوص شمر يهرعش الثالث ملك سبأ وذوريدان عن كندة ومذحج كأحلاف له ثم كأتباع له.
وكانوا في الحالة الأولى لا يزالون في منطقة الأفلاج في قلب نجد، ومثلت كندة القبيلة الرئيسية في مذحج, وتعاونوا جميعًا مع قواته على مهاجمة أرض تنوخ في المنطقة الشرقية على الخليج العربي وما يمتد منها إلى جنوب العراق. ولكن ضربة مضادة وجهت إليه وإليهم في أواخر عهده على يد ملك تنوخ امرئ القيس بن عمرو الذي استشهدنا بملخص نصه العربي المتأثر قليلًا باللغة الآرامية واللهجة النبطية في الفصل الرابع عشر، وبما ذكره فيه من أنه حاصر نجران مدينة شمر يهرعش, وشتت -حلفاءه- قبائل مذجح عن أرضها. وهاجرت هذه القبائل حينذاك ومعها كندة إلى دولة حليفها شمر يهرعش في الجنوب، وأصبح رجالها من فرق الأعراب في جيوشه. وأقطعهم منطقة أوسان ومضحاي القديمة فأصبحوا سادتها تحت حكمه.
واستمر وضع مذحج وكندة هكذا في عهود خلفاء شمر يهرعش، فظهر رجالهما بين الأعراب في جيوش ياسر يهنعم الثالث وذرأ أمر أيمن ملكي سبأ وذوريدان في حوالي عام 330م، كما ظهروا بعد نحو قرن من الزمان بين الأعراب في جيوش أب كرب أسعد وولده حسان يهأمن في حملتها على أرض معد في وادي مأسل حمح، وفي بداية القرن الخامس الميلادي.
أن النصوص الحميرية القديمة والروايات العربية معًا قد نسبت إلى أب كرب أسعد وولده حسان في فترة اشتراكهما في الحكم مجهودًا حربيًا في منطقة أحلاف معد، وفي بعض نواحي الحجاز من ناحية، وحتى الربع الخالي في أواسط شبه الجزيرة العربية من ناحية أخرى، وأنه كان من بين قواته الراكبة رجال مذحج وكندة. وبالربط بين هذا العهد وبين ما كان يجري خارج حدود اليمن يتضح أنه كان يعاصر نهضة اللخميين على حدود العراق, ووثيق صلتهم بفارس في عهد النعمان الأول. وهكذا يبدو أنه كان من أهداف حملة أب كرب أسعد التي اصطحب معه فيها كندة ومذحج إعادة كيان إمارة كندة في الشمال تحت طاعة دولة سبأ وذوريدان أو حمير أو في حلفها، لكي ترأس قبائل معد العدنانية سبأ وذوريدان أو حمير أو في حلفها، لكي ترأس قبائل معد العدنانية وتقف في وجه التوسع اللخمي المنتظر من ناحية، وتؤمن الطرق التجارية المتجهة إلى نجد والحجاز وما ورائهما من ناحية أخرى.
ومن هنا تلاقت النصوص السبأية القديمة مع الروايات العربية التي روت أن تبعًا أب كرب أسعد وهو في طريقه إلى أرض العراق نزل بأرض معد فجعل حجرًا بن عمرو الكندي ملكًا هناك. وإذا كانت قد خلطت بين أب كرب وبين ابنه حسان في هذا الأمر فذلك يرجع إلى اشتراكهما في الحكم معًا لفترة طويلة.
وقامت كندة بدورها حتى الربع الأول من القرن السادس م، وفيه احتدم التنافس بين القوى الثلاث الكبيرة في شبه الجزيرة العربية وعلى أطرافها، وكل منها نجد خلفها من يؤيدها، نعني بذلك مملكة الحيرة في عهد المنذر الثالث 512 - 554م وتؤيدها دولة الفرس، ومملكة الغساسنة في عهد الحارث بن جبلة 528 - 569م وتؤيدها دولة الروم، ومملكة كندة في عهد الحارث بن عمرو بن حجر 528 - 540م وتؤيدها دولة حمير سبأ وذوريدان, وعن مرحلة من مراحل هذا التنافس تحدث نص سبأي قديم عن خروج قوات معد يكرب ملك سبأ وذوريدان مع مذحج وكندة في عام يقع بين 516 و 522م لإعادة الاستقرار إلى منطقة بني ثعلبة ومضر بعد مشاكلهم مع المنذر ملك الحيرة.
وهكذا يتضح إلى أي مدى أفادت النصوص القديمة الأصلية في توضيح التاريخ العربي القديم وتحقيق قضاياه، وكلما زاد المكتشف منها وتمت دراسته كلما أثري هذا التاريخ وزادت حصيلته.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|