أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2016
1207
التاريخ: 30-10-2016
1012
التاريخ: 31-10-2016
1242
التاريخ: 31-10-2016
794
|
هذه لمحة في وصف بابل لأنها خير ما يمثل لنا العصر وبقاياه الأثرية، ولأنها غذت في عهد ملكها الشهير "نبوخذ نصر" الثاني (562 – 604 ق.م) اكبر مدن الدنيا القديمة، وبهرت العالم القديم بحيث دها المؤرخون والكتاب القدماء لا تضاهيها في عظمتها وسعتها مدينة اخرى كما وصفها المؤرخ الشهير "هيرودوتس"(1)، وبلغت هذه المدينة من الشهرة درجة بحيث صارت عنوان حضارة وادي الرافدين ونسب إليها القطر جميعه فقيل بلاد بابل (بابليونيا) وأهله "البابليون"، وعدت أسوارها وجنائنها المعلقة من عجائب الدنيا السبع المشهورة(2) وانبهر بها حتى أعداؤها من أنبياء بني إسرائيل حين قال عنها النبي "أرميا": " كأس ذهب بيد الرب جعل الأرض سكرى" (سفر أرميا 7:41). واعتبر أرسطو المدينة أعجوبة في سعتها (Politics III3). فلا عجب والحالة ذه إذا ما تبجج نبوخذ نصر ببابله فقال عنها كما جاء عن لسان حالة في التوراة: "أليست هذه بابل العظيمة التي بيتها لبيت الملك باقتداري ولجلال مجدي!". فهل أسفرت التنقيبات الواسعة التي أجراها المنقبون الألمان فيها (1917-1899) عما يبرر تلك الشهرة العريضة التي جعلت اسم بابل رمزاً لحضارة وادي الرافدين وعلماً معروفاً لدى العالم القديم والحديث" وموجز الإجابة عن هذا التساؤل ان نتائج تلك التنقيبات مشفوعة بما ورد عن المدينة في النصوص المسمارية تبرر تلك الشهرة، وتجعل في إمكان الباحث ان يعيد إلى الوجود شكل المدينة الأصلي بشوارعها ومعابدها وقصورها وأسورها وماذا كان يسمى به كل منها ومحلات السكن فيها، ولا سيما من عصر نبوخذ نصر. اما أدوار المدينة الأقدم فقد سبق أن نوهنا بأن ارتفاع مناسيب المياه الجوفية طمس تلك الأدوار القديمة الممتدة أبعد من العصر البابلي الوسيط أو العهد الكشي في منتصف الألف الثاني ق.م.
أما اسم المدينة "بابل" الذي لا نبالغ إذا قلنا إنه أضحى اشهر اسم في العالم القديم والحديث فكان أعم التسميات التي اطلقت فالعصر القديم على مدينة "حمورابي" و "نبوخذ نصر". وقد ورد في النصوص المسمارية بهيئة "باب ايلى" و "بابيلم"، وبالسومرية بالصيغة "كا ــ دنكر ــ را" (Ka – Dinger – Ra) ومعنى كلتا الصيغتين البابلية والسومرية "باب الإله" أو "باب الآلهة"، ولكن أخذ الشك يحوم حديثاً حول معنى اسم المدينة "بابيلم" وأنه ليس سومرياً ولا بابلياً بل إنه كان من تراث اولئك القوم المجهولين الذين لم يكونوا سومريين ولا ساميين واستوطنوا السهل الرسوبي منذ أقدم عهود هذا الاستيطان وخلفوا في حضارة وادي الرافدين بعض الآثار اللغوية في مقدمتها أسماء المدن والامكنة وأسماء طائفة من الحرف والمهن. وبالإضافة إلى هذه التسمية المشهورة عرفت مدينة بابل بأسماء أخرى أقل استعمالاً وشهرة نذكر منها :
(1) "تن ــ تر ــ كي" (Tin – Tir – Ki ) الذي قيل في معناه بالسومرية إنه يعني " موطن الحياة"، وقد جاء له مرادف بالبابلية يشير إلى هذا المعنى أي شبات بلاطي"Shubat Balati)).
(2) شو ــ أنا ــ كي ( Shu – Anna –Ki) الذي يعني "كف السماء" أو "يد السماء" وهو اسم إحدى محلات بابل أيضاً. (3) نن ـ كي (Nun – Ki) وهو من أسماء مدينة "أريدو" ايضاً.
(4) "كشكلا" (Gishgalla) الذي يعني البوابة أو المدخل. وذكرتها التوراة بالإضافة إلى اسمها المألوف "بابل" باسم "شيشك" (سفر أرميا : 25 ، 26)، اما الإغريق فقد ذكروا باسمها الغالب في الاستعمال بهيئة "بابيلون" (Babylon) ومنها بلاد بابل (بلبليونيا Babylonia) ومما لا شك فيه أن بابل كانت إحدى القرى الكثيرة منتشرة في عصر فجر السلالات في بلاد أكد (القسم الأوسط من السهل الرسوبي)، والمرجح أنها كانت من القرى التابعة إلى دولة مدينة كيش التي كانت اولى مدينة قامت فيها سلالة حاكمة من بعد الطوفان. وأقدم ذكر لبابل بصفتها مدينة او بلدة يرجع إلى زمن سرجون، مؤسس السلالة الآكدية التي أعقبت عصر فجر السلالات الآكدية. وقد سبق أن ذكرنا في الفصل الخاص بالعصر الآكدي ما روته عندما شيد عاصمته الجديدة أكد التي ينبغي أن تكون غير بعيدة عن بابل. وجاء ذكر بابل أيضاً في الأحداث التي اتخذت لتأريخ أعوام حكم الملك الآكدي "شارل كالي شري" ويبدو أن المدينة أصابها شيء من التدمير في زمن سلالة أور الثالثة (2004 – 2112 ق.م) حيث فتحها ثاني ملوك هذه السلالة "شولكي". ثم انقطعت أخبارها إلى قيام سلالة المسمى "سومو آبم" عاصمة له. وأخذت تتسع وتزدهر بالتدريج في عهود الملوك الذي خلفوه إلى أن غدت في زمن الملك السادس حمورابي (1750 – 1792 ق.م) عاصمة امبراطورية واسعة وظلت عاصمة البلاد إلى آخر عهود العراق التاريخية. ولما فتح الاسكندر الكبير العراق (311 ق.م) حاول إعادة تعميرها وتجديد أبنيتها ويضمن ذلك إعادة بناء برجها المدرج الشهير، لتكون لائقة بأن تصبح العاصمة الثانية لدولته العالمية التي كان يحلم بإقامتها،. ولما شيدت مدينة سلوقية دجلة (مطلع القرن الثالث ق.م) أخذ الاضمحلال والخراب يدبان فيها لانتقال مركز الدولة وأرباب التجارة والحرف إلى العاصمة الجديدة.
طبوغرافية المدينة:
صارت مدينة بابل في العصر البابلي الحديث، ولا سيما في زمن الملك الشهير "نبوخذ نصر" أكبر مدينة في العالم القديم، إذ بلغ محيطها زهاء ثمانية عشر كيلو متراً ومساحتها نحو (2500) ايكر (أي نحو عشرة ملايين متر مربع). وقد بالغ هيرودوتس في تقدير محيطها بأربع مراتب تقريباً إذ جعله (480) فرلونك Furlong ويساوي الفرلونك 1/8 الميل تقريباً. وكانت مستطيلة الشكل تقريباً ويخترقها نهر الفرات من الشمال إلى الجنوب، ولا يمكن تقدير عدد سكانها في أزهى عهودها ، بيد أن مساحتها تتسع لما لا يقل عن ربع المليون نسمة. ويتضح كبر المدينة وكونها أوسع مدينة عرفها العالم القديم من المقارنة الآتية بين مساحتها ومساحات المدن المشهورة:
1ـ بابل : 2500 ايكر ومحيطها زهاء 18 كيلو متراً (الايكر يساوي نحو 4000 متر مربع).
2- نينوى: 1850 ايكر ومحيطها 9 كيلو مترات.
3- الوركاء: 1110 ايكر ومحيطها 9 كيلو مترات.
4- آشور: 150 ايكر.
5- كالح (نمرود): 800 ايكر.
6- دور ــ شروكين (خرسباد): 600 ايكر.
7- حاتوشا (حاتوشاش، عاصمة الحنين): 450 ايكر(3).
8- أثنية: 550 ايكر (في زمن ثيمو ستقلص حيث بلغت أوج اتساعها).
فيبدو من هذه المقارنة أن بابل كانت أكبر مدينة في العالم القديم، فهي مثلاً أكبر من مدينة أثينة بنحو خمس مرات. وكان يحيط بها سوران ضخمان عدا كما قلنا من بين عجائب الدنيا السبع، ويتألف كل منهما من أكثر من جدار واحد. ويمكن مشاهدة بقايا السور الخارجي ابتداء من محاذاة ما يسمى بالقصر الصيفي (وهو تل بابل الآن على يمين الطريق الآتي من بغداد إلى الحلة، حيث يقطع هذا الطريق السور الخارجي). ويمتد السور الخارجي بالقرب من الزاوية الشمالية الشرقية من هذا القصر باتجاه جنوبي شرقي مسافة نحو أربعة كيلو مترات ثم ينعطف إلى الغرب بزاوية قائمة تقريباً حتى الفرات. وكان هذا السور الخارجي من التوسعات الجديدة التي أضافها نبوخذ نصر إلى المدينة لزيادة مناعتها بالإضافة إلى سورها الداخلي الذي قواه وحصنه أيضاً. ويبلغ معدل المسافة ما بين السورين زهاء كيلو مترين، وقد خصصت المساحات التي بين السورين إلى ضواحي المدينة حيث البيوت القروية الريفية المشيدة من اللبن أو الطين وبساتين النخيل والأشجار المثمرة الاخرى. ولم يشيد فيها من المباني الضخمة الرسمية سوى بنايتين، اولاهما قصر نبوخذ نصر الصيفي الذي قلنا إن السور الخارجي يحاذيه من جهة الشمال والبناية الثانية على ما يرجح المعبد المخصص لأعياد رأس السنة المسمى بالبابلية "بيت أكيتو" (Bit Akitu).
يتألف السور الخارجي، ومحيطه زهاء 18-16 كم، من ثلاثة جدران الواحد بعد الآخر، فكان الجدار الاول ابتداء من الداخل مشيداً باللبن وسمكه (7) أمتار ثم الجدار الثاني المشيد بالآجر وثخنه (سمكه) زهاء (7) أمتار أيضاً، وقدامه الجدار الثالث المشيد بالآجر وثخنه (3) امتار وامامه خندق الماء، وقد شيدت أبراج للدفاع في هذا السور. اما السور الداخلي فقوامه جدران ضخمان من الآجر تتخللهما أبراج للدفاع. وقد أطلق على الجدار الأول وهو الداخلي (وسمكه 6,5 متراً) اسم "امكر ــ أنليل" او "امكر ــ بيل" والجدار الثاني ، وثخنه (3,70 متراً) اسمه "نمتى ــ أنليل) أو "نمتى ــ بيل". ويقسم السور الداخلي مجموعة قصور المدينة إلى قسمين، القصر الجنوبي الذي يلي باب ــ عشتار الشهيرة إلى الجنوب أو الأصح إلى جنوبها الغربي، والقصر الشمالي، ويسمى الرئيسي، ويقع شمال السور من بعد بابل عشتار مباشرة، ويقع في هذا القصر أسد بابل الشهير.
لقد خططت المدينة الداخلية تخطيطاً منتظماً، يتميز بالشوارع الواسعة المتعامدة التي تنتخي ببوابات المدينة الرئيسية. وقد وردت في النصوص المسمارية(4) أسماء ثمانية شوارع كبرى ولها ثماني بوابات كبيرة. وقد سميت كل بوابة وكل شارع باسم الإله الذي يقع معبده بالقرب منها. وإلى هذه الشوارع الرئيسية ذكرت النصوص المسمارية أسماء شوارع اخرى، حيث عدد للمدينة أربعة وعشرون شارعاً، وشارعان خاصان بمسيرة الجند (Girri) كما ذكرت ثلاثة جسور على نهر الفرات يعبر منها إلى القسم الثاني من المدينة على الضفة الغريبة من نهر الفرات حيث المدينة الجديدة (Alu Eshshu). ونورد فيما يأتي أسماء بعض البوابات والشوارع الشهيرة:
1ـ بوابة الإله "أدد": واسمها "أدد نفشتي أوماني أوصر" (Adad Napishti Ummane Usur) ومعناه "ادد يحمي نفوس الجند" واطلق الاسم على الشارع المار من هذه البوابة، والمتجه من الغرب إلى الشرق.
2- بوابة الإله "أنليل": واسمها "أنليل موكن شروتيشو" (Enlil Mukin Sharrutishu) ومعناه "أنليل مثبت ملوكيتها" (والضمير يعود إلى المدينة) وهكذا سمي الشارع المار منها. ويرجح أن يكون موقع هذه البوابة في الجهة الشرقية أو الجنوبية الشرقية من السور الداخلي، ويتجه الشارع من هذه الجهة إلى الشمال الغربي من المدينة.
3- بوابة الإله مردوخ: واسمها "شي آشو إريمو" (She Ashu Irimu) وكان يمر منها شارع مردوخ المسمى "مردوخ ريعو ماتيشو" أي "مردوخ راعي أرشها أو بلادها "(أي بلاد بابل)، ويبتدئ الشارع من هذه بوابة بالاتجاه الجنوبي الغربي حتى بابل سور البرج المدرج ومعبد "أي ــ ساكلا)". اما البوابات الخمس الاخرى فقد خصصت للآلهة "شمش " و "سين" و "أوراش" و "نبو" و "زبابا"، وأخيراً بوابة الآلهة عشتار الشهيرة التي جرى التنقيب فيها فيجدر أن نفرد لها بعض الملاحظات الخاصة.
بوابة عشتار وشارع الموكب والقصور الملكية:
ذكرت بوابة عشتار في النصوص المسمارية الخاصة بخطط مدينة بابل باسم "عشتار قاهرة أعدائها" (وبالبابلية Ishtar Shakipat Tebisha ) واسم شارعها، الذي يسمى الآن شارع الموكب "عشتار حامية جيوشها" (أي جيوش المدينة) (وبالبابلية Ishtar Lamassu Ummaishu) والمرجح ان هذا الشارع الكبير يقسم إلى شطرين، شطر جنوبي وهو المسمى بهذا الاسم، وقسم شمالي أطلق عليه اسم Aibur shabu ومعناه "لن يعبر العدو".
وبوابة عشتار التي يمر منها هذا الشارع مدخل المدينة الشمالي او الشمالي الغربي، وقد سبق أن نوهنا بأن التنقيبات تناولت هذه الباب وشارع الموكب، وكشفت عن أدوارهما البنائية، وأعادت قطع الآجر المزججة الجميلة التي كانت تزين جدرانهما وركبت منها الباب كما ينبغي أن يكون عليه في الأصل وبحجمه الأصلي، وهي الآن تزين متحف برلين، واجمل ما فيها صور الحيوانات الزاهية الحمراء والبيضاء ذات الأرضية من الآجر الأزرق، منها الثيران، رمز الإله "أدد" والتنين الخرافي، رمز الإله مردوخ (واسمع بالبابلية Mushkhushshu أو Mushrushshu) وباب عشتار الضخم مكون من مدخلين أي إنه مدخل مزدوج، حيث مواكب أعياد رأس السنة (الأيام الاثني عشر الأولى من شهر نيسان) كانت تسير من منطقة معبد مردوخ (أي ــ ساكلاً) وتجتاز باب عشتار شمالاً إلى حيث المعبد المخصص لهذه الاحتفالات أي "بيت ــ آكيتو". ويكن عرض الشارع في الجهة الشمالية من باب عشتار معدل (63) قدماً وقد بلط بصفاح من الحجر بعضه من حجر الكلس الأبيض وبعضه من حجر البريجا Breccia الاحمر، ويكتنف الشارع من الجانبين جداران ضخمان لا تقل روعتهما عن باب عشتار نفسها، وكان يزين كلاً منهما 60 أسداً (رمز الآلهة عشتار) وهي ذات لبد حمراء أو صفراء على أرضية من الآجر المزجج الازرق.
وتقع خلف جداري الشارع قصور المدينة الضخمة وهي المسماة القصر الشمالي أو الحصن الشمالي. ووجد في هذه القصر الواسع عدد من المنحوتات تتراوح عهودها من الألف الثاني إلى القرن الخامس ق.م، من بينها أسد بابل الشهير المنحوت من قطعة واحدة من حجر البازلت، وهو على هيئة أسد رابض على إنسان، ولا يعلم تأريخه على وجه التأكيد ولعله إحدى الغنائم الحربية التي جلبها "نبوخذ نصر" من حروبه الخارجية، وبالنظر إلى وجود قطع أخرى مختلفة العهود والمصادر فقد فسر هذا الجزء من القصر على أنه كان بمثابة متحف ملكي لحفظ الأشياء الغريبة والغنائم الحربية.
ويستمر شارع الموكب من بعد باب عشتار باتجاه الجنوب، ويأخذ عرضه بالضيق قليلاً، ويمر من الحافة الشرقية للقصر الجنوبي، ويعبر الفتاة أو النهر المسمى (جالب الخير) Libil Khegalla ويستمر جنوباً بمحاذاة سور الزقورة (البرج) ومعبد "أي ــ ساكلاً" ثم ينعطف غرباً حتى يصل إلى الفرات، وقد شيد على النهر جسر حجري أقيم على دعائم من الحجر (Piers) وجد بعض بقاياها.
اما القصر الجنوبي الذي ذكرناه فكان من أضخم القصور التي شيدها "نبوخذ نصر" بجانب قصر أبيه الأصغر منه والمحاذي لحافته الشرقية، وتبلغ مساحة القصر 310× 200م (ما عدا قصر "نابو بولاصر" والبناية الغربية التي تسمى البناية الفارسية). ويدخل إلى القصر من شارع الموكب من مدخل كبير معقود، ويحتوي على مئات من الحجرات والمرافق الأخرى وأبرز ما فيه خمس ساحات كبرى، وقد خصص القصر ليكون المقر الرسمي للملك، وقد عينت الساحة الثالثة (ومساحتها 60×55م) بأنها قاعة العرش حيث يوجد في الجدار الجنوبي منها محراب (Cella) كان موضع عرش الملك.
ما يسمى بالجنائن المعلقة:
في الركن الشمالي الشرقي من القصر الجنوبي وجد المنقبون بناية غريبة التخطيط على هيئة مستطيل غير منتظم (42×30م) ينخفض في مستواه عن أرضية القصر الذي تكون هذه البناية جزءاً منه، وتتألف من حجرات صغيرة (معدل سعة الواحدة منها 3,2×3م)، مؤلفة من صفين على جانبي ممر ضيق (Corridor) كما توجد ممرات أخرى، وعثر في إحدى الحجرات الوسطى على بئر ذات ثلاث حفر الواحدة بجنب الأخرى، فسرت بأن الماء كان يرفع منها بواسطة دولاب. وقد فسر المنقبون هذه البناية الغريبة باحتمال كونها موضع الجنائن المعلقة التي اشتهرت بها مدينة بابل وعدت إحدى عجائب الدنيا السبق كما ذكرنا، وان نبوخذ نصر شيدها لزوجته الفارسية (الماذية) "اميتس"، وانها كانت عبارة عن سطوح مقامة فوق عقادات تلك الحجرات التي وجدت في أثناء التنقيبات حيث كانت الأشجار والأوراد تغرس فوق تلك السطوح المغطاة بالتربة.
والواقع أننا لا نعرف شيئاً مؤكداً عن تلك الجنائن من المصادر المسمارية ولا من نتائج التنقيبات باستثناء تلك الحجرات التي يمكن تفسيرها أيضاً على أنها نوع من "السراديب" لخزن حمور القصر. وجاء ذكر الجنائن في أخبار الكتاب اليونان والرومان، ولكن هيرودوتس لا يذكرها. وأقدم من ذكرها الكاهن البابلي "بيروسس" الذي ألف كتاباً بالإغريقية في تأريخ بلاد بابل في مطلع الثالث ق.م ضاع أصله ولكنه اقتبس منه عدد من المؤلفين الكلاسيكيين. فمثلاً ذكرها "سترابو" (64 ق.م 19م) بالمصطلح اليوناني (Krematos Kepos) أي ما يمكن ترجمته بالجنائن المعلقة، وسماها الكاتب اللاتيني "كورتيوس روفس" (القرن الاول الميلادي بالمصطلح اللاتيني Pemsiles horti ومن هذه التسمية على ما يرجح منشأ ترجمتها إلى الإنكليزية The Hanging Gardens ودعاها المؤرخ اليهودي "جوزيفس" باسم Paeadise Pensile المضاهي للتسمية الأولى. وينسب بناءها بعض المؤرخين إلى الملك الفارسي "كورش" (ديودورس الصقلي، القرن الأول ق.م)، كما ينسبها البعض الآخر إلى "سميراميس".
معابد المدينة:
تعدد النصوص المسمارية لمدينة بابل نحو 1179 معبداً، منه الصغير ومنها الكبير، وبلغ عدد المعابد الكبيرة المخصصة لمشاهير الآلهة (153) معبداً، بالإضافة إلى المزارات الصغيرة وأماكن القرابين. وقد تم الكشف في أثناء التنقيبات عن خمسة معابد كبيرة هي :
(1) المعبد الرئيسي: الضخم المخصص لعبادة الإله مردوخ، واسمه "أي ــ ساكلا" (e-sag-ila).
(2) معبد الالهة ننماخ: المسمى (اي- ماخ) (e-makh) وموقعه بجوار باب عشتار في الجهة الجنوبية الشرقية منها.
(3) معبد الإلهة "عشتار": وموضعه في الحارة المسماة "المركز"، حيث حارات السكن.
(4) معبد الإله "ننورتا".
(5) معبد الإلهة "كولا": ويقع هذان المعبدان في الجزء الشمالي من المدينة، في المحلة المسماة "كلاب".
وكانت المدينة مؤلفة من قسين يفصل ما بينها نهر الفرات، فالقسم الاكبر، وهو الجزء الشرقي ، كان المدينة القديمة الرئيسية، ويقع الجزء الثاني على الضفة الغريبة من النهر، وقد سمي باسم المدينة الجديدة أو الحديثة alu eshshu ويع فيها سبعة معابد من بينها معبد الإله "شمش"(5).
برج بابل ومعبد "أي ــ ساكلا":
إلى الجنوب من منطقة القصر الجنوبي الذي مر ذكره تقع الحارة المخصصة لبرج بابل الشهير، وإلى جنوب البرج بقليل موضع المعبد الكبير الخاص بعبادة كبير آلهة بابل مردوخ، أي المعبد المسمى "أي ــ ساكلاً" كما قلنا. وسمي برج بابل بالعبارة السومرية "اي ــ تمن ــ آن ــ كي" e-teman-an-ki التي تعني "بيت أسس السماء والأرض" ولا يعلم متى شيد هذا البرج المدرج (الزقورة) الذي اشتهرت به مدينة بابل، فإنه لم يرد ذكره في شريعة حمورابي الشهيرة التي عددت في مقدمتها أسماء معظم معابد القطر ومنها معبد "أي ــ ساكلاً"، ولكن هذا لا يعني مطلقاً على أن البرج لم يكن موجداً في زمن حمورابي. واشتهر برج بابل في العالم باقترانه بأسطورة "بلبلة الألسن" المذكورة في التوراة (سفر التكوين 9-1:11)، وقد حاول الاسكندر الكبير (القرن الرابع ق.م) إعادة هذا البناء الشامخ ولكن الموت المفاجئ حال دون تحقيق عزمه، وازداد الخراب والعبث فيه في العصور التالية من جراء نقض آجره وهي عملية استمرت إلى العصور الحديثة بحيث أن المنقبين لم يجدوا من بقاياه سوى أسس قاعدته السفلى العميقة، ولا يجد الزائر لأطلال بابل الآن من هذه البقايا سوى قلب تلك القاعدة يحيط بها خندق مربع، كان بالأصل أسس جدران القاعدة. وإذا جمعنا القياسات والمعلومات الأخرى التي سجلها المنقبون عن قاعدة البرج ومخطط سلمه ووصف هيرودوتس له والأخبار الواردة عنه في النص المسماري الذي جاءنا من العهد السلوقي (القرن الثالث ق.م)، نقول إذا جمعنا كل ذلك وما نعرفه عن الأبراج المدرجة من الأمثلة التي بقيت منها أمكننا أن نكون الخطوط العامة عن هذا البرج الشهير. فهو من نوع الأبراج المريعة القاعدة (91,55×91,55م)، وبني هيكله الداخلي باللبن وغلف بالآجر بغلاف لا يقل ثخنه عن (15م). والقاعدة في الأبراج المربعة أن يكون ارتفاعها بقدر ضلع قاعدتها، وكان يتألف في الأطوار الاخيرة ولا سيما زمن نبوخذ نصر من سبع طبقات كل طبقة أصغر من سابقتها، ويرقى إلى هذه الطبقات بسلمين: وسلم طوله نحو 62 متراً وعرضه (9) امتار وسلمين جانبيين يتصلان به في الأعلى عند الطبقة الثانية أو الثالثة حيث شيد في القمة معبد أو مزار.
أما المعبد الرئيسي (أي ــ ساكلا) الذي يعني البيت الشامخ أو الرفيع، فكان في الواقع مجموعة كبيرة من الأبنية، قوامها الساحات والحجرات الكثيرة. ويستطيع الزائر أن يشاهد موضعه تحت الأنقاض المتراكمة في المنطقة المسماة "عمران بن علي". وتتبع المنقبون مخططاته ومرافقه المختلفة تحت طبقات من الأنقاض ثخنها زهاء (21) متراً من أدوار السكن المتأخرة.
وصف هيرودوتس للبرج والمعبد:
جاء في تأريخ هيرودوتس (الكتاب الاول، 183-181) ما ياتي:
الفقرة 181: يؤلف السور الخارجي وسائل الدفاع الرئيسية للمدينة. ولكن يوجد بالإضافة إلى ذلك سور آخر داخلي ، أقل من الأول ثخناً، ودونه في القوة والمناعة. ويشغل مركز كل قسم من المدينة حصن، يقوم عند أحدها قصر الملك الذي يحيط به سور عظيم القوة والسعة. وعند الحصن الثاني تقع حارة الإلخ "جوبتر ــ بعل" المدقمة وهي فناء مربع طول كل ضلع من أضلاعه 1/2 الميل، وذو أبواب من البرونز الصلد، وكانت ما تزال باقية في زمني، ويقع وسط ذلك الفناء أو الساحة برج ذو بناء صلد طوله 1/8 الميل وعرضه 1/8 الميل ايضاً، أقيم فوقه برج ثان وعلى هذا برج ثالث وهكذا إلى البرج الثامن الأعلى. وكان الصعود إلى القمة من الخارج بواسطة سلم يدور حول جميع الأبراج. وعندما يبلغ المرء منتصف المسافة (في صعوده) فإنه يجد موضعاً للاستراحة حيث اعتاد الناس الجلوس بعض الوقت وهم في طريق ارتقائهم إلى القمة. ويوجد فوق الطبقة العليا معبد فسيح وضع في داخله سرير ذو حجم غير اعتيادي ومزين بزينة فاخرة، وبجانبه منضدة من الذهب، ولا يوجد أي تمثال في هذا المعبد، كما لا يشغل الحجرة في أثناء الليل أحد سوى امرأة يقول عنها كهنة هذا الإله اصطفاها لنفسه من بين نسوة البلاد.
الفقرة 182: "ويقولون أيضاً ــ ولكنني لا أصدق ذلك ــ إن الإله ينزل بخصه إلى تلك الحجرة وينام في ذلك السرير. وهذه تشبه الحكاية التي يرويها المصريون لما يحدث في مدينتهم طيبة، حيث تمضي امرأة الليل في معبد "جوبتر" الطيبي، وفي كل حالة قيل إن تلك المرأة محظور عليها الاتصال بالرجال. وشبيه بهذا العادة التي يمارسها "البتارا" في ليقية (Lycia) حيث يحجز في داخل المعبد على المرأة التي تعلن النبوءات في أثناء قيامها بعملها . . .".
الفقرة 183: "وأسفل من ذلك في الحارة نفسها يوجد معبد ثان وضع فيه تمثال قاعد من الذهب الخالص للإله "جوبتر"، وتقوم قدام التمثال منضدة كبيرة من الذهب أيضاً، وكذلك العرش الذي يجلس فوقه والقاعدة التي يقوم فوقها، كلها من الذهب. وقد حدثني الكلدانيون أن وزن الذهب هذا يبلغ ثلاثمائة وزنة(6). ويقوم خارج المعبد مذبحان، أحدهما من الذهب الصلد والآخر مذبح اعتيادي، ولكنه كبير الحجم، وعليه كانت تضحى الحيوانات وتحرق البخور، وكان يقدم منها كل عام ما زلته ألف وزنة في أعياد الإله.
وفي زمن (الملك" كورش كان يوجد في المعبد أيضاً تمثال إنسان ارتفاعه أثنا عشر ذراعاً كله من الذهب الصلد. ولكنني لم أشاهد هذا التمثال، بيد أنني أروي ما يتحدث عنه الكلدانيون. وقد أراد "دارا" ابن "هستاسبس" أن يأخذ التمثال، ولكنه لم يجرؤ، على أن "احشوبرش" ابن "دارا" قتل الكاهن الذي أنذره ألا يأخذ التمثال ولكنه أخذه. . ".
ونختتم هذه الملاحظات الموجزة عن برج بابل بإيراد القياسات التي سجلها اللوح السلوقي الذي نوهنا به(7) عن قياساته , ويوجد في المتحف البريطاني نص مماثل هو الآن في طريقه إلى النشر من جانب الأستاذ "وايزمان".
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تأريخ هيرودوتس، الكتاب الأول 178 فما بعد. وحول احتمال زيارة هذا المؤرخ لبابل (في حدود 460 ق.م) ووصفه لها انظر:
(1) Ravn, Herodotus Description of Babylon, (1924).
(2) W. Baumgartner, in Archiv Orientalni, XVIII, (1950), 69 ff.
(2) عجائب الدنيا السبع (The Seven Wonders of the World) تسمية أطلقها بعض الكتاب والسياح القدماء على مجموعة من المآثر والبقايا الفنية أشهرها وأقدمها ما ذكره الشاعر الصيداوي "انتيباتر" (القرن الثاني ق.م). وندرج فيما يلي هذه العجائب المتعارف عليها: (1) أهرام مصر (2) منارة الاسكندرية (3) أسوار بابل وجنائنها المعلقة (4) معبد الآلهة "أرطميس" (ديانا) في أفسس بآسية الصغرى (5) تمثال الإله "زيوس" الضخم للنحات اليوناني الشهير "فيدياس" (6) الناووس الضخم "موزوليوم" العائد للملك "موزوليوس"، ملك كاريا بآسية الصغرى (7) تمثال جزيرة رودس الضخم.
(3) L. Oppenheim, Ancient Mesopptamia, (1964), p. 140.
(4) عن خلاصة نتائج التنقيبات والبحوث الخاصة بمدينة بابل راجع:
(1) E. Unger, Babylon, Die Heilige Stadt, (1913).
(2) RLA, I, 330 ff.
(3) Koldewey, Babylon, (1914).
(4) Speiser in Orientalia, 25, (1956), 323 ff.
(5) جاء اسم هذا المعبد بهيئة e-di-tar Kalamma ويمكن قراءته بهيئة e-sa-kud-Kalamma ومعناه "بيت قاضي البلاد". راجع RLA. II.
(6) زهاء 3 اطنان. والمقصود بجوبتر في رواية هيرودوتس الإله البابلي "مردوخ".
(7) يعرف هذا اللوح باسم لوح "أي ــ شاكلاً"، ويؤرخ من عهد سلوقس الثاني في حدود 229 ق.م وهو موجود الآن في متحف اللوفر بباريس.
انظر: Ungerm Babylon, (1931), 239.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|