أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2016
1955
التاريخ: 30-10-2016
1039
التاريخ: 31-10-2016
1446
التاريخ: 30-10-2016
2286
|
العمران والفنون:
أرادت بابل الكلدانية أن تعوض أجيال التبعية الطويلة التي مرت عليها، وقد أسكرتها نشوة النصر على الآشوريين على الرغم من قرابة الجنس والديار بينهما. ووجدت فرصتها الذهبية في طول عهد ملكها نبوخذ نصر الثاني، الذي امتد ثلاثة وأربعين عامًا، وفيما مر بنا من تعدد انتصاراته وأمجاده. فنشطت حركة العمران فيها كما لم تنشط من قبل، وبلغ محيط عمرانها حينذاك نحو 18 كيلومترًا، وذكر المؤرخون الإغريق أن أسوارها كانت أسوارًا دائرية عظيمة وأنه أحاطت بها أربعة خطوط دفاعية. أولها هو السور الداخلي للمدينة وقد بني من اللبن، وكان ذا أبراج، وبلغ سمكه 7.12 من الأمتار، وتلاه على مبعدة اثني عشر مترًا سور آخر خارجي ضخم بلغ محيطه أحد عشر ميلًا ونصف ميل، بني من الأجر وثبت بالقار وبلغ سمكه 7.81 من الأمتار، وأطل على خندق واسع، ودعم أصحابه أساسه بجدار ساند يرتفع بارتفاع الخندق ويبلغ سمكه 3.25 من الأمتار. أما خطا الدفاع الخارجيان، فسُمي أحدهما باسم السور الماذي، وامتد من الشمال إلى الجنوب من بلدة الحديثة على نهر دجلة حتى أبو حبة على نهر الفرات، وامتد الآخر من خان الناصرية على نهر الفرات حتى مدينة كيش على أحد فروعه.
وتمثلت أهم عمائر ومعالم بابل الكلدانية في قصر نبوخذ نصر؛ وفي زقورة "إ. تمن. آنكي" أو برج بابل كما سماها العبرانيون والإغريق والمسلمون؛ وحدائق المدرجات التي اشتهرت خطأ باسم الحدائق المعلقة، ثم بوابة إشتار "عشتار" فضلًا عن الأسوار الضخمة التي ذكرناها. وتعصب البابليون لتقاليدهم القديمة في تنفيذ أمثال هذه العمائر والمشروعات، وودوا لو اعتبروا تجديدات خصومهم الآشوريين كأنها لم تكن، ولو أن ذلك لم يكن متيسرًا دائمًا. فرجعوا من ناحيتهم بتخطيطات المعابد إلى أصولها البابلية القديمة، وأزادوا استخدام الآجر المحروق والمزجج، وأحلوا محل الرسوم المسطحة التي استحبها الآشوريون نقوشًا غائرة.
توسط قصر نبوخذ نصر الجدار الشمالي للمدينة، وبُني داخل حصن كبير على عادة القصور الملكية في بلده، وتألف من وحدات معمارية كثيرة، وتضمن عدة أفنية، وأحاطت به ملحقاته التي يحتمل أنه كان منها بعض إدارات الدولة، وتميزت فيه قاعة عرشه "التي بلغت مساحتها 52×17 مترًا" عن قاعات العروش الآشورية ببساطة طابعها، واحتل عرشها مشكاة كبيرة "أو حنية أو محرابًا ضخمًا" توسطت الجدار المواجه للمدخل. وكسيت جدران بهو القصر الكبير بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفية الزرقاء الداكنة، وزخرفت في أسافلها بإفريز من الأسود الحارسة صورت تصويرًا جانبيًّا "على العكس من أسود خور سباد الآشورية التي تواجه الداخل"، كما زخرفت في أعلاها بما يمثل أساطين ذات تيجان مركبة، تصل بين تيجانها وتعولها زخارف تكوينية تتألف من زهيرات محورة ومعينات صغيرة. وتعاقبت في كل هذه الوحدات الزخرفية ألوان بيضاء وصفراء فوق الأرضية الزرقاء الداكنة فخلعت طابعًا من البهجة على زخارفها الرقيقة(1).
بدأ تجديد زقورة "إ. تمن. آنكي" في عهد نابو بولاسر مؤسس الأسرة. وأكدت نصوص الرجل ومناظره أنه استفتى وحي الأرباب في تخطيطها القديم واشترك مع ولديه في وضع أساسها، فحمل أدوات البناء فوق رأسه، وحمل ولي العهد طين اللبنة الأولى، ورفع ولده الآخر "نابوشوم ليشو" معولًا ومجرفة.
وخدمت الزقورة معبد الإله مردوك أساسًا، وهو ذلك الإله البابلي القديم الذي اعتبر أتباعه بقية الأرباب الكبار مجرد صور لنواحي قدرته، وقالوا يمجدونه: "سين قدسيتك، وآنو نصيحتك، وداجان قيادتك، وإنليل ملكيتك، وأداد قدرتك، وإيا حكمتك" "وكان الآشوريون قد نسبوا مثل هذه الصفات أيضًا إلى ربهم نينورتا في عصرهم الوسيط، وإلى معبودهم الأكبر آشور في عصرهم الحديث". وخدمت زقورة بابل في أربعة معابد أخرى كبيرة أو نحوها، كان منها معبد "نين ماخ" "إي. ماه" ربة الخصب. وهي معابد أخذت في تخطيطها وتنظيم قاعاتها وقواعد تماثيلها بالأسلوب الأكدي القديم دون الأسلوب الآشوري الخصيم(2).
ووصف المؤرخ هيرودوت هذه الزقورة إبان اكتمالها وصفًا شائقًا(3)، ثم وصفت لوحة من القرن الثالث ق. م. ما بقي منها على أيامها، كما احتفظت لها أجيال الرواة العبرانيين والمسلمين بصورة أسطورية غالية. أما من حيث الواقع فلم يتبق منها ما ينم عنها حتى الآن غير خطوطها الأرضية وأطلال ثلاث درجات تؤدي إلى مسطحها الأول من ناحية الجنوب، وترتب على ذلك أن تعددت النظريات المعمارية في تصوير هيئتها الأولى(4)، دون أن تسلم إحداها من شك ونقد. ويحتمل مما أتى به هؤلاء جميعًا أنها بنيت من اللبن وكسيت بالآجر. وأن واجهاتها كلها شكلت فيها مشكاوات رأسية متعاقبة، وأنها توسطت فناء مسورًا عظيم الاتساع "667×365 مترًا" يقع المدخل الرئيسي لسوره ناحية الشرق، وأن طول ضلع مسطحها الأول بلغ حوالي 183 مترًا، وربما تعاقبت على جوانبه أعمدة مربعة، بينما بلغ طول ضلع مسطحها الثاني نحو 106 من الأمتار وتضمن عدة مقاصير لكبار أرباب بابل والمدن المجاورة لها مثل الأرباب: مردوك ونابو وإيا وآنو وسين وتاشمتوم ونوسكو ... ، وعدة مقاصير لكنوز الزقورة. ثم قام في وسط المسطح، وهذا هو الأهم، بناء مدرج تألف من خمسة مسطحات تصغر مساحة كل مسطح منها عما تحته ويصل بينها درج جانبي صاعد يدور حولها حتى يؤدي إلى أعلاها حيث يتوسط المسطح العلوي منها ويتوجه قدس الأقداس الكبير. ويرى المعماريون الآثاريون الأخذ بما رواه هيرودوت وغيره من أن كل مسطح من المسطحات المتعاقبة للزقورة قد لون بلون مختلف عن لون الآخر، ومن الألوان التي يقترحونها لها على التتابع ألوان: الأبيض فالأسود فالبنفسجي فالأزرق فالبرتقالي فالقرمزي فالفضي فالذهبي، ولكن كل هذه الألوان والأصباغ ذهبت معه زقورتها حينما دمر الفرس أغلبها في عهد الملك أخشويرش، وبعد أن استخدم أهل المنطقة معظم لبناتها في مبانيهم المتعاقبة(5).
ووصل بين زقورة بابل وبين "إساجيل" " E-Sag-Il" معبد مردوك الأرضي، طريق للمواكب ارتفعت أرضيته عن مستوى أرض المدينة ورصفت باللبن المكسو بالقار ثم غطيت ببلاطات متسعة من الحجر الجيري وحفت بها مربعات صغيرة من قطع الرخام الزاوي الأحمر "البرشيا". وكان يحف بالطريق جداران وتطل على جانبيه أبراج متباعدة. ويبدو أن بعض واجهات جدارية كسيت بأفاريز من الخزف الملون نقشت نقشًا بارزًا بما يمثل الكائنات الحارسة وبخاصة الأسود.
ويخترق طريق المواكب بوابة إشتار "قاهرة أعدائها" وكان لها أصل قديم ثم جددت في العصر الكلداني وزيد ارتفاعها حتى بلغ أربعين قدمًا، فأصبحت من معالمه الرئيسية. وتقع في الركن الشمالي الشرقي من الحصن الجنوبي لبابل وتؤدي في الوقت نفسه إلى صرحين كبيرين يرتبط بهما جسر معلق يصلهما بالقصر الملكي. وتألفت البوابة من صرحين رئيسين علتهما زخرفة معمارية مسننة. وكسيت مساحة كبيرة من جوانبها الكلدانية المستحدثة بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفية الزرقاء، وتعاقبت على سطوحها هذه تسعة صفوف نقشت بالنقش الغائر، مثل بعضها ثيرانًا ذات أشكال محورة، ومثل بعضها صور حيوانات خرافية متباعدة، وجمع بعضها الآخر في صوره بين أجزاء التنين والنسر والأسد والأفعوان ووحيد القرن. وعبرت هذه الصور في مجموعها عن رموز حيوانية للمعبودين أداد ومردوك، وسمي بعضها باسم سيروش، وتعاقبت في جسومها وشعورها وقرونها وأقدامها ومخالبها ألوان صفراء وخضراء وزرقاء بدرجات متفاوتة، وتعاقبت ظلالها فوق أرضية زرقاء، وبهذا أكسبت بوابتها طابع الجمال وخدمت غرض الدين وغرض الزخرف معًا، وزادها جمالًا أنه أحاطت بها أطر منقوشة تتألف من مربعات زخرفية وزهيرات كبيرة رقيقة. وكانت جدران البوابة القديمة قد تضمنت قبل العصر الكلداني صور الحيوانات نفسها، ولكن بعضها كان منقوشًا فوق الآجر العادي. وعندما رفع رجال نبوخذ نصر مستوى طريق المواكب غطت هذه التعلية على جزء كبير من صور البوابة القديمة، وكان ذلك لحسن حظها إذ بقي عدد منها كاملًا حتى الآن، بينما لم يبق من مناظر الآجر الخزفي التي شكلت في عهد نبوخذ نصر نفسه غير أسافلها التي حالت ألوانها. ويبدو أن الصور القديمة والحديثة قد بلغ عددها حين اكتماله نحو 575 صورة.
وصاحب الاهتمام بمعابد العاصمة بابل اهتمام مماثل بمعابد المدن الأخرى ذات الشهرة الدينية، فجددت في مدينة بورسيا "برص نمرود الحالية"، إلى الجنوب الغربي من بابل بنحو سبعة أميال، زقورة تشبه زقورة بابل، كانت بعض مداميك الآجر فيها مزججة، وكانت مسطحاتها ملونة بألوان مختلفة، وتحدثت نصوص العصر نفسه عن عربة "صغيرة" للربة إنانا "أو إشتار" ربة الوركاء، شدت إليها سبعة أسود. أعادها نبوخذ نصر إلى معبدها "إيانا" بعد أن أبعدها عن أهل المدينة في عهد الملك إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة وأقاموا لها تمثالًا مزيفًا، وترتب على فعلتهم هذه أن هجرت المعبودة معبدهم واعتكفت في مكان قصي كما روى نص الملك(6).
الأفول أمام نهضة الفرس:
كانت انطلاقة بابل الكلدانية أشبه بصحوة الموت بالنسبة للعراق القديم، ولم يكن من المنتظر أن تستمر هذه الانطلاقة أمدًا طويلًا على الرغم من حدتها في عصر ماجت الهضاب الإيرانية المجاورة لها خلاله موجًا شديدًا بتحركات قبائل فتية عاتية أصرت على أن تفرض نفسها على عصرها فرضًا وأن تبدأ فيه من حيث انتهى غيرها. فقد أدى نجاح قبائل مانداهور في زعامة الدولة الماذية وتحطيم القوة الآشورية إلى نتيجتين متضادتين: نتيجة مباشرة، وهي تشجيع بقية الماذيين على مواصلة التوسع والدق العنيف على أبواب جيرانهم، ثم نتيجة لاحقة وهي تشجيع قبائل جبلية أخرى على أن تسلك سبيل الماذيين وتستفيد من تجاربهم بكل ما فيها من فشل ونجاح.
ورث الماذيون أملاك الآشوريين الشمالية والشرقية كما أسلفنا، وابتلعوا مناطق أورارتو شيئًا فشيئًا، وامتدوا شمالًا بغرب حتى بلغوا نهر هاليس في آسيا الصغرى، وهناك اصطدمت أطماعهم بدولة ليديا التي جمعت في سياستها وعلومها وحياة ملوكها بين تقاليد الشرق والغرب معًا واتخذت عاصمتها في مدينة سارديس . وتطور التنافس بين الماذيين وبين الليديين بعد فترة إلى صدام مسلح لزمت بابل فيه جانب حلفائها الماذيين، ولكن هذا الصدام توقف بصلح روى المؤرخون الإغريق من أسبابه المباشرة أنه حدث في أحد أيام العام السادس للحرب "وهو ما يوافق يوم 28 مايو عام 585ق. م" أن أظلمت السماء فجأة في واضحه النهار فأجفلت جيوش الفريقين واعتبراها نذيرًا من السماء، فتوقفا عن الحرب، وقيل إن ملكيهما اتفقا على توسيط ملكي بابل وكيليكيا بينهما، ثم انتهى الأمر إلى هدنة أيدها البيتان الحاكمان بالمصاهرة، واعتبرا نهر هاليس حدًّا فاصلًا بينهما. وأضاف الإغريق أن الفيلسوف ثاليس "طاليس" الميليتي أبا العلم الإغريقي كان قد تنبأ لقومه بكسوف الشمس في نفس العام(7). وهي المرة الأولى التي تنبأ فيها عالم إغريقي بحدوث ظاهرة فلكية تنبأ صحيحًا.
ولكن لم يطل الأمد بالنهضة الماذية، وأحاط بها بعد وفاة ملكها هواخشير "كياكساريس"، ما أحاط بجيرانها أكثر من مرة. ترف مسرف ترتب على كثرة الأسلاب والمغانم، وطغيان سياسي ترتب على غرور الحكام الذين أسكرتهم نشوة انتصاراتهم المتكررة(8)، ثم طموح قبلي صدر عن جزء من الدولة للسيطرة على أجزائها الأخرى، وقد صدر في هذه المرة عن إقليم أنشان "في إلام القديمة". وهو إقليم كانت حياة أهله شاقة جافة ويمت حكامه بصلة القرابة أو المصاهرة للبيت المالك الماذي واستطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم إزاءه طوال ثلاث أجيال، ولكنهم ظلوا يعتقدون أنهم أعرق أصالة وأحق بالملك وروى المؤرخون الإغريق روايات شتى عن قسوة آخر الملوك الماذيين ستياجيس، فذكرو أنه غضب ذات مرة على أحد كبار رجال دولته فقتل ولده أمامه وأرغمة على أن يأكل أحشاءه.
وأقدر على تحقيق العدالة منه. وحقق حلمهم ذاك أميرهم "قورش" "وذكر أحد الأخبار الإغريقية أن أمه هي ابنة ستياجيس آخر الملوك الماذيين"، فلم شمل الحاقدين على البيت المالك وقضى على عرش ماذي حوالي عام 555ق. م(9)، وبدأ أسرة حاكمة جديدة، أو دولة جديدة ذكرتها المصادر الفارسية الحديثة باسم الدولة الهخامنشية، وأطلقت المصادر اليونانية عليها اسم الدولة الأخمينية، واعتادت المؤلفات الحديثة على أن تذكرها باسم الدولة الفارسية "الأولى" وهو ما سنجري عليه فيما يلي "راجع كذلك ص311". وكان من تمجيد هذا الملك لنفسه قوله "أنا ابن كامبوزيا "قمبيز" الملك العظيم ملك أنشان حفيد قورش الملك العظيم ملك أنشان، سليل شيشبيش الملك العظيم ملك أنشان، من أسرة "مارست" الملكية دائمًا". وقال حفيده أخشويرش ما معناه: أنا ابن الملك دارا الهخامنشي، فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري. ورثت الدولة ملك الماذيين، ولم تكن تقف بعزائمها الجديدة عندما وقفوا عنده، فتخوفت نهضتها كل من بابل وليديا ومصر، وكانت ليديا هي البادئة بعد أن بلغت أوج مجدها وثرائها في عهد ملكها كرويسوس Croesus "560-546 ق. م" وأخضعت المدن الإيونية والأيولية في آسيا الصغرى لنفوذها، حتى امتد سلطانها من نهر هاليس إلى بحر إيجه، وطمعت في أن تستغل البحر وتسيطر على جزره، وأصبحت شيئًا عظيمًا في نظر إغريق الشرق والغرب معًا. ثم أقلقتها نهضة فارس فأرادت أن تكون هي البادئة، وطلبت عون إغريق شبه جزيرة لاكيدايمونيا وزعيمتها إسبارطه، كما طلبت عون بابل ومصر. وتقدمت جيوشها ناحية الشرق، ولكنها ما لبثت حتى تحطمت أمام الطوفان الفارسي، فتراجعت فلولها إلى سارديس ولحق بها قورش وجنوده، فدمروا العاصمة وأسروا ملكها في عام 546ق. م. قبل أن يتمكن حلفاؤه من نجدته(10)... أتت نهايته على غير ما توقع لنفسه وعلى غير ما توقع الإغريق له.
وفي بابل لم تستمر النهضة بعد نبوخذ نصر طويلًا، وتعاقب ثلاثة من أسرته على العرش في مدى سبع سنوات ملؤها التفسخ والقلق، ثم انتقل الحكم منهم إلى "نابونهيد"، وكان من أسرة كهنوتية، أو على الأقل من أسرة يؤيدها الكهنة، ولو أنه لم يعتبر نفسه في نصوصه غريبًا عن الدوحة الحاكمة، فادعى أن الرؤى والآيات تعاقبت لتبشيره بأنه سيكون خليفة نبوخذ نصر ومتبعًا لسنته، برضا مردوك وبقية الأرباب. وأراد الرجل بعد اعتلائه العرش في عام 555ق. م(11). أن يحقق حسن ظنه بنفسه، فأسرف في إظهار تقواه إزاء المعبودات بتجديد معابدهم وزيادتها، ومن أشهر ما جدده منها زقورة أور التي اعتبر مشيدها القديم أورنمو من أسلافه، ومعبد الشمس في سيبار الذي اعتبر مشيده نرام سين الأكدي من أجداده، وأسرف في إظهار حب العلم والشغف بجمع اللوحات والآثار القديمة(12)، وشاركته هذه الهواية ابنته التي عينها كبرى كاهنات رب القمر وادعى أن الرب اختارها زوجة بنفسه بعد أن هدد الدنيا باسوداد وجهه، أي بخسوفه. كما شاركته الدعوة إلى رعاية المعابد سيدة عجوز لعلها كانت أمه، تعدت المائة في عهده وكانت لا تزال ذات سلطان وقوة جسدية وعقلية كاملة(13).
وجرب نابونهيد أن يكون سياسيًّا، فتظاهر بمناصرة قورش الفارسي ضد الماذيين حلفاء بابل بالأمس، وهدف من ذلك تخليص مدينة حران الآشورية من سلطانهم لحسابه، ونجح في استعادتها فعلًا وجدد معبدها(14)، فكانت من الحسنات القليلة التي أداها لدولته. ثم تمادى في الثقة بنفسه فغزا شمال سوريا حتى وصل حماة وجبال أمانوس، وغزا جنوبها حتى إدوم وغزة. ولأمر ما أناب عنه على عرش بابل ولده بال شار أوصر "بعل إحم الملك"، واتجه إلى واحة تيماء(15)، ربما ليحيي أهميتها التجارية على الطريق التجاري بين ساحل البحر المتوسط وشمال غرب شبة الجزيرة العربية وبين العراق، ثم ينتفع باقتصادياتها، أو على أمل أن يستعين بها وبوسطها البدوي على تطعيم جيشه بقوات فتية يحيي بها مجد دولته ويستعد بها لمعركة قريبة لا محيص عنها بينه وبين الفرس الطموحين، أو ليتخذها ملجأ أخيرًا له لو عجز أمام الفرس.
ولكن خاب أمل الرجل في هذا كله وخابت سياسته مع تيماء وجيرانها؛ إذ اشتد عليها وقتل ملكها، ثم سورها وأقام بها بضع سنوات في قصر جديد، على الرغم من سوء ظنه بأهلها وسوء ظنهم به، بينما أناب عنه ولي عهده في العاصمة بابل سرة الدولة التي وجب عليه أن يرعاها بنفسه. وعندما عاد إليها في عام 545ق. م. كان سوء الإدارة قد عمل عمله فيها، وانتشرت المجاعة حولها(16). وفي هذه الظروف صحت عزيمة الملك الفارسي على ضمها إلى ملكه في بداية تنفيذ مشروعه لغزو الهلال الخصيب كله. وهنا حاول نابونهيد أن يجمع الأحلاف حوله، ولكنه لم ينجح في ذلك غير نجاح قليل، وخشي الآخرون من بطش الفرس العتاة. ويبدو أن كلف نابونهيد بآثار الماضي جعله يكثر من صور وتماثيل آلهة المدن الأخرى القديمة في عاصمته مما جلب عليه كره كهنته. فاستعاض عن ولائهم باستدعاء تماثيل المعبودات إلى بابل ليشتركوا مع إلهها مردوك في حمايتها، ولكنه بمعبوداته كان أقل من أن يقف أمام الطوفان الفارسي فانهزم. ودخل قورش بجيوشه إلى بابل وادعى في نصوصه أنها فتحت أبوابها له ورحبت به ملكًا رد عليها مقومات الحياة، وروى أن أهلها فرشوا طريقه فيها بالرياحين.
وزاد قورش، أو من كتب نصوص النصر على لسانه، فرمى نابونهيد بالكفر والسخافة وتعقيد طقوس الأرباب، بل وبفساد الذوق حتى في اختيار تمثال معبوده الذي بدا وجهه فيه قائمًا كهيئة القمر في المحاق، ووصلت جدائل شعره حتى عرقوبيه. واتهمه بأنه تسبب في قتل نبلائه وتعطيل طرق التجارة بمشروعاته التوسعية الفاشلة، حتى غضب عليه كل الأرباب والناس(17)، وما إلى ذلك من ادعاءات يعجز التاريخ عن تبين حقيقتها لأنها صدرت عن مصدر واحد وعلى لسان منتصر لا منافس له ولا معقب عليه. وزيادة في الاستمتاع بمظاهر النصر أبقى قورش على حياة نابونهيد وبعث به إلى كرمان. ومرة أخرى هلل اليهود للمنتصر وتشفوا في المنهزم وقالوا بلسان النبي دانيال: "قسمت مملكتك وأعطيت للميديين والفرس"، وزعموا أنها كانت نبوءة كتبت على أحد جدران قصر ملك بابل(18).
خاتمة:
انتهى دور بابل في التاريخ القديم كدولة مستقلة في عام 539ق. م، كما انتهى قبلها دور آشور بعد عام 612ق. م، ولكن زوال دورهما السياسي لم يستتبعه إطلاقًا زوال تأثيرهما الحضاري في الشرق والغرب معًا. ولم تكن بابل أقل حظًّا من أختها في ذلك، حتى لقد رأى فيها المؤرخون الإغريق الذين زاروها منذ عصرها الفارسي وخلال عصرها السليوكي، صورة تجمعت فيها المفاخر العقلية للعراق القديم كله، فتحدثوا عن تراثها الفلكي بما فيه من تقسيمات دائرة البروج ورموزها الاثنى عشر، وإضافة وتنظيم شهر النسيء "أو الكبس" فيها على أساس دورة زمنية مقدارها ثمان سنوات ودورة أخرى مقدارها تسعة عشر عامًا، وتحدثوا عن قدرة علمائها على التنبؤ بخسوف القمر مستعينين بدورة الثمانية عشر عامًا، وعن معرفتهم بالمزولة الشمسية والمزولة المقعرة ثم بالساعة المائية، مع تقسيم الساعة إلى أجزاء ودقائق ... ، وبراعتهم في استخدام الطريقة الستينية التي توارثوها عن عصورهم القديمة ... إلخ(19).
ومن طريف ما صوره أحد البابليين الأواخر، خريطة لما تشغله بابل وجاراتها من العالم المعروف لديه، على لوحة مسمارية سجلت في أعلاها بعض حملات سرجون الأكدي "ولعله أراد أن يفسر بها مواقع هذه الحملات"، فصور العالم على هيئة دائرة تحيط بها دائرة أوسع منها قليلًا، بهرتها بابل العظيمة على هيئة دائرة سوداء صغيرة، ويشقها طولًا الفرات ودجلة إلى حيث يصبان في مياه الخليج. ثم صور مدنًا أخرى وشعوبًا على هيئة دوائر سجل أسماءها فيها وبجوارها "ولكن دون اهتداء إلى توزيعاتها الجغرافية الصحيحة بطبيعة الحال". وصور في شمال البحر الكبير ثماني جزر قال عنها إنها لا ترى الشمس. وصور على أطراف دائرته مثلثات كبيرة تخيلها فيما يبدو جبالًا بعيدة أو رواسي ترتكز قبة السماء عليها.
__________
(1) Koldewey, Das Weiderstehende Babylon, Abb. 64.
(2) Op. Cit., Abb. 32; Antiquaries Journal, X, Pi. Xxxv, 374 F.
(3) Herodotus. I, 181; O.E. Ravn, Herodotus's Description of Babylon, 1932.
(4) Memoires De L'academie Des Inscriptions, Xxxix., 1913.
(5) See, Parrot, Ziggurats Et Tour De Babel, 1949.
(6) See, Anet, 399.
(7) See, J. E. Bury, History Of Greece, 222.
(8) See, Anet, 316.
(9) Anet, 316.
(10) Herodotus, I, 129, 177, Ete…
(11) See, Anet, 309 F..
(12) انظر مجلة سومر 1961 - ص5.
(13) Anet, 311, 560-62.
(14) S. Smith. Babylonian Hisrtorical Texts. 1924. 27 F.
(15).See, J. Lewy, Huca, 1946, 434 F.; R...P.Dougherty, Nabonidus and Belshazzar, New Haven. 1929; Mizraim. I; 1933; 140 F.; W.F. Albright. Jras. 1925. 293 F.
(16) R.P.Dougherty, Records from Erech.1920.No.154; "Nabonidus in Arabia. Jaos, Xlii. 395 F.; Anet. 1968.562-63
(17) Sindey Smith, Babylonian Historical Texts, Pls. V-X, P. 83 F.; E Ebelling, Aot, 368 F.; Anet, 312 F., 315 F.
(18) سفر دانيال: 5: 28.
(19) See, F. Thureau-Dangin, Esquisse D'une Histoire Du Systeme Sexagesimal, Paris, 1932; A.T. Olmstead, "Babylonian Astronomy", Ajsk, 1938, 113-129; O. Neugebauer, The History Of Ancient Astronomy", Jnes, Iv, 1944, 1 F.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|