أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-10-2016
1302
التاريخ: 31-10-2016
1396
التاريخ: 31-10-2016
1363
التاريخ: 31-10-2016
2727
|
في الفن:
حاول الفن البابلي أن يحتفظ خلال فترات الضعف السياسي هذه بإثارات من تقاليده القديمة تذكر أهله بمجدهم الغابر، مع تلوينها بصبغة حديثة خفيفة تتفق مع اتجاهات عصره والتجديدات الآشورية التي ظهرت فيه. ووجد فن النقش سبيله حينذاك على نصب الهبات ونصب الحدود الإقليمية "كودورو" وعلى النصب التذكارية للملوك. فاحتفظت آثار القرن الحادي عشر ق. م بنصب صغير "من عهد نبوخذ نصر الأول" صور فنانه عليه عددًا من هيئات الأرباب وصور مقاصيرهم ونواويسهم ورموزهم الحيوانية والنجمية والاصطلاحية. وليس للفن نصيب كبير في هذا النصب فيما خلا مجهود ناقشه في تصوير مفرداته الكثيرة على مسطحه الصغير ومحاربه ... طيات الثوب الواسع لصاحب النصب في جلوسه، ولكن بقيت له قيم أخرى معمارية ودينية تمثلت في صور ما ذكرناه من المقاصير والرموز المقدسة، مثل تصوير سقوف المقاصير على هيئات مخروطية ومائلة ومقبية، وتصوير أسطون لولبي بتاج على هيئة رأسي أسدين متدابرين، وقد ظهر له ما يماثله في الفن الإيراني، ومثل وضوح التفرقة بين رموز الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة، فظهر رمز الشمس على هيئة قرص تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها؛ وظهر رمز القمر على هيئة هلال داخل قرص القمر، وظهر رمز الزهرة على هيئة نجمة مثمنة داخل قرص كبير. وظهر من رموز النصب صورة حيوان بارك يخرج من ظهره خطان لولبيان يعبران فيما يبدو عن تموجات البرق ويرمزان إلى المعبود أداد رب العواصف والبروق(1).
واحتفظت آثار القرن التاسع ق. م. بلوحة تذكارية مستطيلة سجلت قصة تجديد معبد شمش في سيبار "أبو حبة الحالية" خلال عهد نابو بالدينا "حوالي عام 870ق. م"(2)، وظهر شمش في أعلاها بهيئته البابلية التي صورتها له لوحة حمورابي، شيخًا مهيبًا برداء كاس وتاج ذي أربعة أزواج من القرون، مع تحوير يسير في طريقة تمشيط لحيته الطويلة، وزخارف ثوبه، ووضع عصاه، وزخارف عرشه التي مثلت معبودين يرفعان سقفه، وأشرقت عليه ثلاثة أقراص قد ترمز إلى الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة. وجلس شمش بعرشه داخل ناووس ينحدر سقفه انحدارًا لطيفًا إلى الخلف وتعتمد واجهته على أسطونين صور الفنان أسطونًا منهما مضلع الساق بما يشبه حراشيف النخيل، وشكل قاعدته وتاجه بوحدات نباتية محورة اعتبرها بعض الباحثين سلفًا قديمًا لما سُمي فيما بعد باسم زخارف الأعمدة الدورية وتقدم ناووس شمش صوان استند فوقه رمزه، وهو عبارة عن قرص ضخم ذي قاعدة مزخرفة تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها. ولم يصور الفنان القرص بجانبه الضيق الظاهر، وإنما صوره بواجهته الواسعة على عادة تقاليد الفن القديم في تصوير الأشياء من أوضح هيئاتها ووجوهها، ولكنه تحرر من ناحية أخرى في تصوير معبودين متجاورين يطلان من السماء على سقف الناووس ويشدان القرص، فصورهما تصويرًا جانبيًّا سليمًا بحيث أخفى أقربهما إلى الرائي جذع زميله، وصور ذراعيهما البعيدتين أكثر انخفاضًا من ذراعيهما القريبتين، وذلك مما ينم عن إحساسه بالفارق بين ما يبدو فوق مستوى النظر وما يبدو تحته. وصور الفنان ملكه يبتغي القربى من ربه في هيئة خاشعة تنم عن إحساسه بعظم الفارق بينه وبينه وتختلف إلى حد كبير عن هيئة حمورابي القديمة أمام ربه، فصوره بحجم صغير يحيي إلهه، متواضعًا يرفع يده ويبسط كفه، ويتقدمه كاهن يأخذ بيده، ويلمس مائدة ربه بيده الأخرى متبركًا بها، وتتبعه راعيته إشتار "؟ ". وصور الفنان هذه الشخصيات الثلاث تصويرًا جانبيًا سليمًا على الرغم من صغر أحجامها، وجعل اختلاف أوضاع أيدي أصحابها سببًا للتنويع ودفع الرتابة في التصوير. ثم فصل بين هذه المجموعة المصورة وبين نصوص اللوحة بفاصل عريض يعبر عن تموجات الماء، ورتب نصوصه تحته في سطور أفقية وزعها على ثلاثة أنهر رأسية وقص فيها نبأ آخر إصلاح للمعبد في عهدي ملكين بابليين سبقا عهد ملكه بأكثر من قرنين وتخرب المعبد بعدهما إلى أن انتهز مولاه فرصة عقد صلح مع آشور والتفت إلى أداء واجباته نحو معابد أربابه.
عاصرت الأسرة البابلية التاسعة بداية المرحلة الآشورية الثانية من عصرها الحديث، ولم تكن ذات أثر هام في حياة بلدها، فدانت بالطاعة لجبروت تيجلات بيليسر الثالث الآشوري. ثم انتقل الحكم منها إلى أسرة حاكمة جديدة خلال عهده، وهي الأسرة البابلية العاشرة منذ عام 732ق. م، وكان الحدث الهام في أوائل أيامها هو نجاح مردوك أبال أدين الكلدانى زعيم بيت ياكين في اعتلاء عرش بابل مستغلًا فرصة البابلية التي صاحبت انتقال العرش الآشوري إلى البيت السرجوني منذ عام 721ق. م، ومدعيًا أنه من سلالة إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة، هادفًا بذلك إلى صبغ حكمه بصبغة شرعية، ولكن ذلك جر عليه وعلى أسرته عداء البيت السرجوني حتى عهد آشور بانيبال، كما فصلنا ذلك في حينه.
وتركت أواخر القرن الثامن ق. م نصبًا من نصب الهبات "كودورو"، ظهر عليه الملك البابلي يعلن هبته لأحد أتباعه المقربين ويضعها تحت حماية أرباب ظهرت صور مقاصيرهم، وحيواناتهم المقدسة في أعلى النصب(3). وصور الفنان ملكه وتابعه تصويرًا جانبيًّا سليمًا لا سيما بالنسبة للصدر الذي لم يلتزم بتقليد تصويره باتساعه، وبالنسبة لتصوير قدمي التابع العاريتين اللتين اكتفى بتصوير أصابعهما الظاهرة وحدها، فأظهر الإصبع الكبير لإحداهما والأصابع الخمس للأخرى، ولو أنه تصوير سبقت له أمثلة قديمة أخرى كثيرة. ثم صور ملامح وجه ملكه ومسطح رقبته وصدره ورداء رأسه واستدارة ذراعه بخطوط ناعمة وروح بسيطة تختلف عن الروح الآشورية الرسمية المعاصرة لها في تصوير الملوك.
يقظة بابل وماذي وانهيار آشور:
شكلت علاقات بابل بآشور في أواخر عهد آشور بانيبال وعقب وفاته عدة عوامل، وهي اهتزاز الحدود الآشورية تحت ضغط القبائل الهندوآرية والجبلية من السميريين والسكيثيين والماذيين، واهتزاز العرش الآشوري نتيجة للخلافات الداخلية في البيت المالك، وازدياد حقد البابلين والكلدانيين بعد الانتقامات العنيفة التي أنزلها الآشوريون بهم مرة بعد مرة، ثم انتقال الحكم في بابل إلى أسرة كلدانية قوية استطاعت أن تستغل الظروف المحيطة بها وهي الأسرة الحادية عشرة والأخيرة.
وأسس الحكم البابلي الجديد كلداني يدعى نابو بولاسر "626 - 604ق. م" يحتمل أنه كان ولدًا لأمير يدعى كاندا لونو عينه آشور بانيبال على بابل بعد مقتل أخيه، وعمل قائدًا في الجيش الآشوري وحاكمًا على الأقاليم الجنوبية، ثم عمل لحسابه فزحف على بابل وولي عرشها بعد تفكك أواصر البيت الآشوري الحاكم، ولكن لم يتعد سلطانه في بداية أمره ما حولها.
وتتابعت الأحداث فيما حول بلاد النهرين، ففي شرقها بدأ الماذيون يلعبون دورهم، وكان هؤلاء "وهم من سماهم الإغريق باسم الميديين" فرعًا من الجماعات الإيرانية ذات الأصل الآري، رددت النصوص الآشورية اسمهم منذ القرن التاسع ق. م على أقل تقدير "وأن كان يحتمل ورود اسم قريب من اسمهم في عهد تجلات بيليسر الأول في أواخر القرن الحادي عشر أيضًا"، ثم ذكرتهم نصوص شلما نصر الثالث هم الفرس "باراسو" في جبال كردستان - وخضع القريبون منها لسلطانها. ثم اتضحت تجمعاتهم وأطماعهم منذ أواخر القرن الثامن ق. م، ومالوا إلى التحرر من نفوذ الآشوريين، وذكرت نصوص سرجون انتصاراته عليهم وأنه نفى بعضهم إلى سوريا وأحل محلهم مهاجرين من سماريا ومن شعوب مغلوبة أخرى، وأشارت الروايات العبرية إلى شيء من ذلك. ثم نجح الماذيون في تحقيق كيانهم المستقل حوالي عام 708ق. م بزعامة "دايوكو"، وروت القصص الإغريقية عن هذا الزعيم الذي سمته دايو كيس أن شعبه انتخبه ملكًا وأنه نجح في توحيد كلمة القبائل الماذية تحت حكمه واتخذ إكباتانا "وهي همدان الحالية" عاصمة. وأقام قصرة داخل حصن تحيط به سبعة أسوار، ثم احتجب عن رعاياه ولم يسمح لهم بأن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا(4). ولم يكن من المنتظر أن ترضى آشور عن انسلاخ ماذي عنها في عهدها السرجوني العظيم، فتكرر الصدام بينهما، ولكن قضاء الآشوريين على ممكلة إلام في عام 644ق. م أراح الماذيين من منافسيهم الخطرين في جنوب إيران الذين قاموا رغبتهم في الاتساع ناحية الجنوب منذ عهد ملكهم فرفارتي " Phraortes" في منتصف القرن السابع ق. م. وهكذا استغلوا الجبال الجنوبية الغنية بمعادنها وأحجارها الكريمة، كما استغلوا مزارع السفوح والوديان في بناء اقتصادهم، ولكنهم ظلوا أقل قوة من الآشوريين، وقُتل ملكهم فرافارتي في الحرب(5).
واتسعت أمام الماذيين فرص الانطلاق بعد أن اهتزت أركان الآشوريين بطرد حاميتهم من مصر وخروج أغلب ولايات الشام عليهم وحدوث الانقسامات الداخلية في دولتهم، فانتظمت قبائل مانداهور الماذية تحت زعامة هواخشير "كيخسرو في الفارسية وأوماكيشتار في البابلية وكياكساريس Cyaxares" في اليونانية". وتوالت هجمات جيشه على آشور منذ العام الأول من حكمه، وحاصر نينوى بعد أن أعاد تنظيم قواته على نسق التنظيم الآشوري، لولا أن اهتز الشرق حينذاك باندفاع السكيثيين الذين أخذوا يضربون شرقًا وغربًا دون هدى، ومالوا في بداية الأمر إلى محالفة الآشوريين، ولكنهم ما لبثوا حتى هاجموا كلًّا من أطراف ماذي وآشور معًا، مما اضطر هواخشير الماذي إلى التراجع عن آشور ليحمي مملكته(6).
وإلى الغرب من آشزر كانت دولة ليديا المتأغرقة تحاول طرد السميريين البرابرة من آسيا الصغرى. والتمس ملكها جيجيس عون آشور في عهد ملكها آشور بانيبال ولكنه لم يجد من معونتها ما كان يبتغيه، فقتل في الحرب ثم انفردت دولته بالمهمة وطردت السميريين من آسيا الصغرى في عهد ولده أرديس. واندفع السميريون في تقهقرهم على الحدود الآشورية فصدتهم عنها جيوش آشور بانيبال بعد جهد جهيد. واقتفى السكيثيون أثر السميريين في الاندفاع إلى الغرب فاقتحموا ممرات طوروس واجتاحوا مناطق غرب الدولة وولاياتها الساحلية دون مقاومة تذكر من الجيوش الآشورية التي أنهكتها الحروب المتواصلة، ولا من الفرق المؤلفة من الشعوب الخاضعة التي لم يكن لها من حسن التدريب ولا من الإخلاص للدولة ما يعوض ضعضعة الآشوريين. بل إن هذه الهزة قد شجعت المدن السورية على أن تنفض ما بقي من النفوذ الآشوري عنها، واحدة إثر الأخرى، بعد أن تبينت ضعف أصحابه. أما السكيثيون فيروي هيرودوت أنهم أوشكوا أن يصلوا في اندفاعتهم إلى الحدود المصرية لولا أن صرفهم الفرعون بسماتيك عنها بالعطايا، مفضلًا ذلك عن استهلاك قوته الحربية معهم(7).
وأدلى نابو بولاسر البابلي الكلداني بدوره في أحداث عصره، فاشتبكت جيوشه مع الآشوريين منذ العام العاشر من حكمه على أقل تقدير، في قابلينو ومادانو وعلى نهر الزاب وحول العاصمة آشور نفسها، وفي تكريت "تاكريتين"(8)، ولكن دون نتائج حاسمة لأحد الجانبين، لا سيما وأنه لم يلق العون مخلصًا من كل البابليين، كما ظلت بقية القبائل الأرامية المجاورة له حريصة على استقلالها الذاتي بجانبه. وفي ظل هذه الظروف التي أحاطت بآشور وجيرانها، تلفت كل من الطرفين القريبين منها والطامعين فيها، ونعني بهما الكلدانيين والماذيين، كل منها إلى عون الآخر، بعد أن أيقنا أنه لا قبل لأحدهما منفردًا بأن يهدم آشور، فتحالفا وأيدا تحالفهما بمصاهرة البيتين الحاكمين فيهما(9)، وابتدأت جيوش الحليفين تدق على أبواب آشور من جديد.
ويفهم من الروايات البابلية أن المصريين كان لهم دور في معاونة الجيوش الآشورية(10)، وإذا صح ذلك معناه أن آشور لجأت في محنتها إلى عون مصر خصيمتها العتيدة، وأن مصر استجابت لها حرصًا على الوضع القائم ودفعًا للخطر الثنائي الجديد، ولكن الدفعة التي خرج بها الماذيون المتحفزون والبابليون الكلدانيون الحاقدون على آشور، كانت أقوى من أن تصدها دولة مزقتها الخلافات أو يصدها حليف بعيد الديار. فشدد الماذيون والبابليون حصارهم على نينوى ودمروها تدميرًا عنيفًا في عام 612ق. م، وقضوا على استقلالها، وقتلوا ملكها "سين شار إشكين" أو دفعوه إلى الاحتراق بنيرانها كما ذكرت الروايات الإغريقية، على نحو ما ملك شمش شوموكين قبل ذلك بست وثلاثين عامًا في نيران بابل. واعترفت الوثائق البابلية بأن أكثر الجهد كان من نصيب الماذيين العتاة، ليس في القضاء على نينوى وحدها، وإنما في اجتياح الأقاليم العراقية التي لم تعترف بالوضع الجديد ولم تنتظم في سلك الزعيم البابلي أيضًا. ولم يأبه الماذيون حين ذاك بمقدسات العراق ومعابدها(11)، ويذكر النص البابلي أنهم اكتسحوا ما فوقهم وما تحتهم وما على يمينهم ويسارهم، وكانوا كإعصار الفيضان. ولم يكن في وسع حليفهم البابلي غير السكوت في سبيل القضاء على الغول الآشوري، أو على حد تعبير النصوص البابلية لم يجد أمامه إلا أن يرسب شعره مهوشًا دون تمشيط ويؤثر النوم على الأرض دون المضاجع؛ تدليلًا على براءته من انتهاك حرمه المعابد على أيدي حلفائه(12).
وجمع الآشوريون فلولهم وتحصنوا في حران بقيادة آشور أو بالليط وريث العرش الآشوري، وكانت حران عصبًا رئيسيًّا لأحد الطرق التجارية الكبيرة في بلاد النهرين "وقد يعني اسمها معنى الطريق أيضًا"، ولكنهم ما لبثوا حتى أخلوها تحت ضغط الغزاة، فدخلها البابليون والماذيون وتركوا حامية بها "حوالي عام 610ق. م". ثم حاول آشور أو بالليط أن يجرب حظه للمرة الأخيرة فاستعان بجيش مصري على حد رواية البابليين وحاصر الحامية البابلية في حران "حوالي عام 609ق. م"، ولكن طال حصارها حتى لحقت بها النجدات البابلية والماذية وهزمت جيوشه بعد أن قاومها نحو ثلاث سنوات(13).
وبذلك انتهى دور الآشوريين من التاريخ بعد أن أثبتوا أنهم كانوا أعنف قوة عسكرية منظمة شهدها الشرق القديم حتى عصرهم، وبعد أن ضربوا المثل في ضراوة القتال وأساليب العنف لجيرانهم الإيرانيين، لا سيما الماذيين والفرس، وبعد أن شتتوا جهودهم بتوسيع أملاكهم إلى آفاق بعيدة يصعب الاحتفاظ بها ويصعب الدفاع عنها سواء من الشرق أم من الغرب مما أدى إلى تفسخ قواهم، وبعد أن أثاروا حقد بقية بلاد النهرين عليهم بإصرارهم على إذلال بابل والسيطرة عليها على الرغم من سمعتها الواسعة القديمة، وعلى الرغم من استفادتهم من حضارتها.
الاتساع البابلي:
زادت صحوة الكلدانيين البابليين بعد القضاء على الغول الآشوري، واستمروا في تقوية جبهتهم الداخلية والتمسح بالدين عن طريق تعمير المعابد وتشييد الجديد منها، وسيطروا على أواسط بلاد النهرين وجنوبها، ورضوا مؤقتًا بسيطرة الماذيين على شمال العراق وأملاك الآشوريين في شرق دجلة. ثم طمعوا في إحياء الأملاك الآشورية الغربية لحسابهم، وبدءوا يعملون للسيطرة على بادية الشام وسوريا وفلسطين، ولكن طموحهم أثار مخاوف مصر من عودة التنافس على الطرق التجارية في الشام، فخرج الفرعون نيكاو الثاني بجيشه إلى فلسطين وكسر شوكة مملكة يهوذا التي أرادت أن تنتصر في عهد يوشيا(14) للقوة البابلية الجديدة، وواصل طريقة إلى سوريا وأوقف مسيرة الاحتلال البابلي الجديد، ثم واصل طريقة نحو الفرات، ولكن انتصاراته أسكرته وأخذه الزهو فعاد وتوقف بجيوشه فترة طويلة في أرض لبنان، حيث أمر بتسجيل انتصاراته على صخور وادي الكلب "تلك الصخور التي حفلت بنقوش الفاتحين والمنتصرين" فكان توقفه بجيوشه فرصة سانحة اغتنمتها الجيوش البابلية فتجمعت وأزدادت أعدادها بقيادة ولي العهد البابلي نبوخذ نصر، والتقت بالمصريين في موقعة قرقميش عام 605 "أو 604" ق. م، ونجحت في أن توقف زحفهم(15). وحاول المصريون أن يعيدوا الكرة لمهاجمة مصالح بابل في الشام عن طريق البحر مرة أو مرتين، ولكن مشروعاتهم لم يكتب لها التوفيق(16). ويحتمل أنهم عاودوا إرسال الجيوش بالبر مرة أخرى في عهد بسماتيك الثاني "594 - 588ق. م" حيث أشارت نصوص عسكرية في أبي سنبل إلى امتداد نفوذه حتى قرقميش. ثم روى هيرودوت أن الفرعون أبريس "واح إب رع" "588 - 568ق. م" هاجم صيدا وصور برًّا وبحرًا بعد خضوعها للبابليين خوفًا من اتخاذهما سبيلًا لمهاجمة مصر عن طريق البحر(17) .
وواصل بنوخذ نصر الثاني "وصحيح اسمه في البابلية "نابو -كدوري -أوصر" بمعنى "الإله نابو يحمي الحدود" مشروعاته في الشام بعد اعتلائه العرش "605 - 562ق. م"، وسيطر على لبنان "لبنانو" وبرر عمله فيها بمنطق الفاتحين، فاعتبر نفسه محررها وناشر السلام في ربوعها، وادعى رعايته لأهلها المشردين، وبرر اهتمامه بها بملكية ربه مردوك لغاباتها وحب أربابه العراقيين لأخشابها وروائحها الزكية، ثم وعد أهلها بأن ينقش صورته على سفوح جبالهم حتى لا يعتد معتدٍ عليهم أو يعكر أحد صفو أمنهم(18).
وخلدت التوراة والأساطير حروب نبوخذ نصر مع مدينتين، وهما: أورشليم عاصمة يهوذا، وصور الميناء الحصينة. وقد أسلفنا كيف تذبذبت يهوذا بين مصر وبين بابل في بداية النهضة البابلية، وكيف هزم فرعون نيكاو حاكم أورشليم اليهودي يوشيا عام 608ق. م. في مجدو، وكيف عزل ولده من بعده وعين على المدينة يهو ياقيم وألزمه الجزية. وظل الأمر كذلك حتى زال خوف أورشليم من مصر بعد موقعة قرقميش، فعادت إلى ترددها في علاقاتها مع بابل بين الطاعة وبين العصيان، حتى هاجمها نبوخذ نصر حوالي عام 600ق. م فاستسلمت له بسهولة، وأعلن له حاكمها يهو ياقيم الطاعة وصار عبده ثلاث سنوات على حد تعبير سفر الملوك، ثم ثار عليه بعدها وكون حلفًا ضده، فهاجمه نبوخذ نصر وضربه بمن خرجوا عن حلفه من أهل الشام و"أرسل ضده جيشًا مؤلفًا من كلدانيين وسوريين ومؤابيين وعمونيين" كما روت التوراة. وانتصر البابليون وأعوانهم في عام 597ق. م. وأسروا ملك أورشليم وعدة آلاف من جنوده وأهل دولته، وكان فيهم ألف من الصناع، وأمر نبوخذ نصر بنفي الأسرى جميعًا إلى بابل. وأطلق اليهود على هذا النفي اسم السبي الأول، ويبدو أن صحبهم فيه نبيهم حزقيال.
وعين نبوخذ نصر "صدقيا" اليهودي واليًا على أورشليم، تحت إشرافه، فظلت يهوذا خاضعة للبابليين أحد عشر عامًا، ثم ثارت عليهم، وانقسم أهلها حينذاك شيعتين، أشرنا إليهما في صفحة 306، شيعة تزعمها صدقيا وتكلم باسمها النبيء حننيا فدعا إلى كسر نير بابل والثورة عليها باسم الرب، وشيعة أخرى مضادة تزعمها النبي إرميا ودعا معها إلى وضع أعناق الأمة تحت نير ملك بابل بأمر الرب أيضًا(19) وكان في تعارض دعوة النبيين وتمسحهما في أوامر الرب ما دعا كلًّا منهما إلى إنكار نبوة الآخر(20). وعاودت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة أورشليم في عام 588 أو 587ق. م. وشددت الحصار عليها، ولكنها اضطرت إلى رفع هذا الحصار، بعد أن تحركت الجيوش المصرية لمساعدتها "في عهد واح إب رع"(21)، ثم عاودت حصارها مرة أخرى وضيقت عليها تضييقًا شديدًا نحو عام ونصف العام حتى دخلتها في عام 586 أو 585ق. م. ودمرتها، وأحرقت هيكل سليمان ونقلت خزائنه، ونفت أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا من أهلها إلى بابل لينوحوا عند مياه الفرات على قول التوراة. وأسر البابليون صدقيا عند أريحا، وفعلوا معه ما اعتاد اليهود أن يفعلوه مع بعضهم البعض، بل ومع أنبيائهم أيضًا الذين كانوا يقتلونهم بغير حق، فقتلوا أولاده أمامه ثم فقئوا عينيه ليكون سفك دم أولاده آخر منظر يراه "في ربلة على نهر العاصي". واعتبرت التوراة ما حل باليهود حينذاك عقابًا لهم على "تماديهم في عصيان الرب حتى ثار غضبه على شعبه فأصعد عليهم الكلدانيين"(22). وصدق الله تعالى حين قال في قرآنه الكريم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } [الإسراء: 4، 5] (23)، والعلو هنا هو التمادي في الظلم. أما إرميا داعية الخضوع لبابل، فقد لجأ مضطرًا مع جماعة كبيرة ممن نجوا من القتل والتشريد إلى مصر، فوسعتهم رحابة صدرها(24). وتابعت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة المدن الفينيقية والسورية، وكانت أشد هذه المدن مقاومة لها مدينة صور التي ظلت على مقاومتها ثلاثة عشر عامًا "585 - 573ق. م" أبدت فيها من البسالة صورًا كثيرة وساعدها على المقاومة سهولة اتصالاتها بالبحر، ثم رضيت في نهاية الأمر بصلح اعترفت فيه بسيادة البابليين، واضطرت تحت ضغطهم إلى معاونتهم ضد مصر حين أرادوا أن يتخذوها قاعدة لمهاجمة السواحل المصرية عن طريق البحر(25).
__________
(1) B. Prichrd, the Ancient near East, Fig. 142.
(2) Frankfort, The Art And Architecture...., Pl. 121.
(3) Frankfort, Op. Cit., Pl. 120.
(4) ديلابورت: المرجع السابق -ص320 Herodouts, I. 95 F.; J. Bury, The History Of Greece, 221.
(5) Herodouts, I, 192..
(6) See, Landsberger-Bauer, Za. Xxxvii, Nf. Iii, 82 F...
(7) Herodotus., I, 105: Ii, 30, 153-154, 157; IV, 46...
(8) Anet, 20.
(9) ديلابورت: المرجع السابق -67.
(10) See, Anet, 304.
(11)Ibid., 309; Npfund-Langdon, VAB. IV, 270 F.
(12) Ibidem.
(13) See, Gadd, The Fall Of Niniveh, 1923.
(14) الملوك الثاني 23: 29 - 35 - وراجع ص302.
(15) " Woolley, Carchemish, Ii 125-127."
(16) Herodotus, Ii, 159."
(17) Ibid., Ii. 161."
(18) Anet, 307; F.H. Wissbach, Die Inschriften Nebukhadenzars Ii Im Wadi Brissa and Am Nahr El-Kelb, 1966; Zehnpfund-Langdon, VAB, IV, 151 F.
(19) الملوك الثاني 24: 15 - 16.
(20) إرميا 28: 1، 12 - 14، 15 - 17، 37: 1 - 5.
(21) حزقيال 27: 15، إرميا 27: 5.
(22) الأيام الثاني -الإصحاح 36.
(23) سورة الإسراء -الآية 3 وما بعدها.
(24) الملوك الثاني 25: 25 - 26، إرميا 44: 21، 30.
(25) " Herodouts, Ii, 161."
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|