أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
846
التاريخ: 16-10-2016
898
التاريخ: 16-10-2016
826
التاريخ: 16-10-2016
790
|
قضى الاسكندر تسع سنين في آسية، أحدث فيها من التأثير بانتصاره أقل مما أحدثته هي بأساليبها الشرقية. ذلك أن أرسطو قد علمه أن يعامل اليونان معاملة الأحرار وأن يعامل "البرابرة" معاملة العبيد. ولكنه دهش إذ وجد بين أشراف الفرس مستوى من الرقة وحسن الخلق لم يره كثيراً في الديمقراطيات اليونانية المضطربة؛ وأعجب بالطريقة التي نظم بها الملوك العظام إمبراطوريتهم، وارتاب في مقدرة المقدونيين الغلاظ على أن يحلوا محل حكام هذه الإمبراطورية، وأدرك أن السبيل الوحيدة إلى تثبيت فتوحه واستقرارها بعض الاستقرار هي أن يسترضي أشراف الفرس حتى يقبلوا زعامته، فإذا فعلوا استخدمهم في المناصب الإدارية. وزاد سروره برعاياه الجدد يوماً بعد يوم، فتخلى عن فكرته القديمة وهي أن يحكمهم بوصفه ملكاً مقدونياً، وخال نفسه إمبراطوراً يونانياً - فارسياً يحكم دولة يكون فيها الفرس واليونان أكفاء، وتمتزج ثقافتهم ودماؤهم امتزاجاً سلمياً، فينتهي النزاع الطويل بين أوربا وآسية بذلك الاقتران السعيد بين حضارتيهما.
وكان آلاف من جنوده قد تزوجوا من نساء البلاد المفتوحة، وأخذوا يعاشرونهن؛ فلم لا يفعل هو أيضاً فعلهم؟ فيتزوج بابنة دارا ويسوي النزاع بين الأمتين بأن يلد لهما ملكاً يجري في عروقه دم الأسرتين. لقد تزوج قبل ذلك الوقت ركسانا الأميرة البكترية، ولكنه لم يكن يرى أن هذه عقبة تقف في طريقه، وعرض الفكرة على ضباطه وأشار عليهم أن يتخذوا لهم أزواجاً فارسيات. وتبسموا ضاحكين من فكرة توحيد الأمتين، ولكنهم كانوا قد قضوا زمناً طويلاً بعيدين عن ديارهم، وكانت نساء الفرس ذوات جمال بارع. ومن ثم أقيم عرس عظيم في السوس تزوج فيه الإسكندر استاتيرا Statira ابنة دارا الثالث، وبريساتس Parysatis ابنة أرتخشتر الثالث، وبهذا ربط نفسه بفرعي الأسرة المالكة الفارسية، واتخذ ثمانون من ضباطه لهم زوجات فارسيات. وحذا حذوهم بعد زمن يسير آلاف من الجنود فتزوجوا من فارسيات. ووهب الإسكندر كل ضابط من ضباطه بائنة قيمة وأدى ما على الجنود الذين تزوجوا من ديون - وقد بلغت هذه الهبات (إذا جاز لنا أن نأخذ بأقوال أريان Arrian) عشرين ألف وزنة (000ر000ر120ريال أمريكي). وأراد أن يزيد هذا الاتحاد بين الشعبين قوة، ففتح أراضي الجزيرة وفارس للمستعمرين اليونان؛ وخفف بهذا العمل ضغط السكان في بعض الدول اليونانية وقلل من حدة الطبقات. ومن ذلك الوقت بدأت تقوم تلك المدن المتأغرقة الآسيوية التي صارت فيما بعد جزءاً هاماً من الإمبراطورية السلوقية Seleucid Empire وجمع في الوقت نفسه ثلاثين ألفاً من شباب الفرس وعلمهم على الطريقة اليونانية ودربهم على فنون الحرب اليونانية.
ولعل زوجاته كن من أسباب ميله إلى الأساليب الشرقية، أو لعل هذا الميل كان خطأ وقع فيه لشدة تواضعه، أو لعله كان جزءاً من خطة موضوعة. وفي ذلك يقول بلوتارخ: "فلما كان في فارس بدأ يلبس الثياب "البربرية" (أي الأجنبية) ولعله أراد بذلك أن ييسر تحضير الفرس لأن أكبر ما يؤثر في الناس هو اتباع عاداتهم...بيد أنه لم يتبع عادات الميديين...بل اختط خطة وسطاً بين الأساليب الفارسية والمقدونية، وكيف عاداته بحيث خلت من التفاخر الذي هو من مميزات الأولين، ولكنها كانت أكثر أبهة وفخامة من الآخرين" وكان جنوده يرون هذا التغيير استسلاماً من الإسكندر للشرق، ويحسون أنهم بذلك قد خسروه، وفقدوا ما كانوا يرونه من أدلة العناية والعطف التي كان يضفيها عليهم في كل حين. وأظهر له الفرس فروض الطاعة والولاء، وأرضوه بضروب الملق والدهان؛ وشرع المقدونيون، بعد أن رقق الترف الشرقي طباعهم يظهرون استياءهم من الواجبات الثقيلة التي كان يفرضها عليهم، ونسوا إحسانه لهم، وأخذوا يتهامسون بالفرار من الجيش، بل إنهم شرعوا يأتمرون به ليقتلوه. وبدأ هو يفضل صحبة عظماء الفرس على صحبة اليونان.
وكان أكبر شاهد على ارتداده عن دينه أو على حسن سياسته هو جهره بألوهيته؛ وذلك أنه بعث في عام 324 إلى جميع الدول اليونانية ما عدا مقدونية (لأن ما في الرسالة التي بعث بها من إهانة لفليب قد يثير غضب أهلها) يبلغها أنه يرغب في أن يعترف به من ذلك الوقت ابناً لزيوس - أمون. وصُدعت معظم الدول بما أمرت، ولم ترَ في الأمر أكثر من لقب صوري، بل إن الإسبارطيين المعاندين أنفسهم لم يخرجوا على الأمر وقالوا في أنفسهم: "فليكن الإسكندر إلهاً إذا شاء". ولم يكن تأليه إنسان ما، بمعنى لفظ الألوهية عند اليونان، ليرفع من شأنه كثيراً؛ ذلك أن الهوة التي تفصل بين الإنسانية والألوهية لم تكن وقتئذ واسعة كما أضحت في الأديان الحديثة. ولقد جمع كثيرون من اليونان بين الصفتين، ومن هؤلاء هبوداميا، وأوديب، وأخيل، وإجينيا، وهلن. كذلك كان المصريون يحسبون فراعنتهم آلهة؛ ولو أن الإسكندر غفل عن أن يضع نفسه في هذا الموضع لكان من المحتمل أن يغضب المصريون لخروجه هذا الخروج العنيف عن السوابق المقررة عندهم. ولقد أكد كهنة سيوة، وديديما Didyma، وبابل، وهم الذين يعتقد الناس فيهم أن لديهم مصادر خاصة يستقون منها أمثال هذه الأنباء، أنه من نسل الآلهة. أما أن الإسكندر قد اعتقد بحق (كما يظن جروت) أنه إله بأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ فأمر بعيد الاحتمال. نعم إنه بعد أن أله نفسه أصبح سريع الغضب متغطرساً، وإن سرعة غضبه وغطرسته أخذتا تزدادان على مر الأيام. ولسنا ننكر أيضاً أنه جلس على عرش من الذهب، وارتدى ثياب كهنوتية، وزين رأسه في بعض الأحيان بقرني أمون. ولكنه حين لم يكن يظهر ألوهيته لأغراضه الدنيوية كان يسخر من هذه العظمة التي يدعيها لنفسه؛ ولما أن جرحه سهم قال لبعض أصدقائه: "ها أنتم هؤلاء ترون أن هذا دم لا غذيذة كالتي تسيل من جراح الآلهة المخلدين". وما من شك في أنه لم يكن يحمل قصة والدته عن الصاعقة محمل الجد، ذلك واضح من غضبه الشديد على أتلس حين قال ما قال عن مولده، ومن قوله هو عن حاجته إلى النوم الذي يميز البشر عن الآلهة. وحتى أولمبياس نفسها قد ضحكت ساخرة حين سمعت أن الإسكندر قد سجل قصتها الخرافية في السجلات الرسمية، وسألت قائلة: "ألم يأن للإسكندر أن يمتنع عن التشنيع عليّ عند هيرا"؟ ولقد ظل الإسكندر نفسه بالرغم من ربوبيته يقرب القرابين إلى الآلهة، وهو عمل لم نسمع قط بأن إلهاً قد أتى به. ولم يكن بلوتارخ وأريان وهما الرجلان اللذان يستطيعان أن يحكما في هذه المسألة لأنهما يونانيان، يشكان في أن الإسكندر قد أله نفسه ليتخذ ذلك التأليه وسيلة تيسر له حكم سكان إمبراطوريته المختلفي الأجناس والذين يؤمنون بالخرافات. ولا ريب في أنه كان يحس أن مهمة توحيد العالمين المتعاديين تُيَسَّر له إذا قبلت الطبقات العليا من أهلهما دعوى ربوبيته وعظمته الطبقات الدنيا وقدسته. ولعله قد فكر في أن يتغلب على ما تثيره الأديان المختلفة في الإمبراطورية من نزعة انفصالية بأن ينشر فيها حول شخصيته أسطورة مقدسة وديناً عاماً تؤمن به جميع شعوب هذه الإمبراطورية{تعليق}ويحدثنا لوشيان عن هذا الرأي القديم في إحدى "محاورات الموتى" فيقول: "فليب: لا تستطيع أن تنكر أنك ولدي، ولو أنك كنت ابن أمون لما جاز عليك الموت. الإسكندر: لقد كنت طوال الوقت أعرف أنك أبي، ولم أقبل قول الوحي إلا لأني ظننته خطة سياسية صالحة...ذلك أن البرابرة حين عرفوا أن الذي أمامهم إله، امتنعوا عن القتال، وقد يسر لي ذلك هزيمتهم وفتح بلادهم".{انتهى} .
ولم يكن في مقدور المقدونيين أن يسبروا غور خطط الإسكندر السياسية. ذلك أنهم وإن تأثروا بالروح اليونانية إلى الحد الذي تحررت به عقولهم من الاسترقاق الفكري، لم يرقوا إلى درجة التسامح الفلسفي؛ ورأوا أن ما طلبه إليهم من السجود له حين يقتربون منه لا يرضونها لأنفسهم. ومن أجل ذلك دبر فيلوتاس Philotas ، وهو ضابط من أشجع ضباطه ابن قائد من أكفأ قواده وأحبهم إليه، بالاشتراك مع القائد برمنيو Parmenio مؤامرة لقتل الإله الجديد. ووصلت أنباء المؤامرة إلى مسامع الإسكندر، فأمر بالقبض على فيلوتاس وانتزع منه بضروب التعذيب اعترافاً باشتراك أبيه مع المتآمرين. وأرغم على أن يكرر هذا الاعتراف أمام الجند، فرجموه من فورهم بالحجارة حتى مات، وكانت هذه عادتهم في مثل هذه الحالة. أما برمنيو فقد أعدم بأمر الملك لأنه مجرم في أغلب الظن، وأنه على كل حال عدو لا يؤمن جانبه. وتوترت العلاقات بين الإسكندر وجيشه من ذلك الحين - فأخذ الجنود يزدادون غضباً واستياء، وأخذ الملك يزداد في كل يوم ريبة وقسوة وعزلة.
وحمله تساميه، وعزلته، وكثرة مشاغله المطردة الزيادة، على أن يحاول إغراق همومه في الشراب. وقد حدث في مأدبة أقيمت في سمرقند أن شرب كليتس الذي أنقذ حياة الإسكندر في يوم غرانيقوس حتى فقد وعيه، فقال للإسكندر: إن ما نال من النصر يرجع الفضل فيه إلى جنوده لا إليه، وإن أعمال فليب أعظم من أعماله. وكان الإسكندر هو الآخر ثملاً فقام ليضربه، ولكن بطليموس لاجوس ptolemy Lagus (الذي أصبح بعد قليل والياً على مصر) أخرج كليتس من مكان المأدبة. بيد أن كليتس كان يريد أن يقول أكثر مما قال، فعاد ليواصل طعنه. فرماه الإسكند بحربة أردته قتيلاً. وندم الإسكندر بعدئذ على عمله هذا ندماً حمله على أن يعتزل الناس ثلاثة أيام كاملة، امتنع فيها عن الطعام، وانتابته نوبات هستيرية، حاول فيها أن ينتحر. ولم يمض بعد ذلك ألا قليل من الوقت حتى قام هرمولوس Hermolaus ، وهو خادم من خدم الإسكندر عاقبه في يوم من الأيام عقاباً ظالماً، بتدبير مؤامرة أخرى لقتله. وقبض على الغلام وعُذب حتى أتى باعتراف اتهم فيه كلستانس Callisthenes ابن أخي أرسطو. وكان كلستانس هذا يرافق الحملة بوصفه مؤرخاً رسمياً لها، وكان قد أغضب الملك لأنه أبى أن يسجد له، وأخذ ينتقد أساليبه الشرقية، ويتباهى بأن الخلف لن يعرف الإسكندر إلا عن طريق كلستانس المؤرخ. وأمر به الإسكندر فسجن حتى مات بعد سبعة أشهر من ذلك الوقت{تعليق}تروى قصص متناقضة عن جريمته وموته. وأشهر ما تركه وراءه ثلاثة كتب: "الهلينيكا hellenica " وهو تاريخ لبلاد اليونان من 387 إلى 337، "وتاريخ الحرب المقدسة" و"تاريخ الإسكندر".{انتهى}. وقضت هذه الحادثة على ما كان بين الإسكندر وأرسطو من صداقة، وكان الفيلسوف قد ظل عدة سنين يعرض حياته لأشد الأخطار بدفاعه عن قضية الإسكندر في أثينة.
وظل سخط الجيش يزداد حتى أوشك أن يكون في آخر الأمر تمرداً علنياً. ولما أعلن الملك في يوم من الأيام أنه يريد أن يرجع إلى مقدونية أكبر الجنود سناً بعد أن يمنح كلاً منهم جائزة سنية نظير خدمته{تعليق}ويؤكد لنا أريان أنه وهب كلاً منهم وزنة زيادة على مرتبه الذي لم يكن لينقطع حتى يعود إلى وطنه.{انتهى} ، هاله أن يسمع الجند يتهامسون بأنهم يحبون أن يفصلهم جميعاً من سلك الجندية، لأنه وهو إله لا حاجة له بالناس ليحققوا أغراضه. فلم يكن منه إلا أن أمر بقتل زعماء الفتنة، ثم ألقى على الجنود خطبة مؤثرة (ولكنها في أغلب الظن مشكوك في صحتها) ذكر فيها كل ما فعلوه من أجله، وكل ما فعله هو من أجلهم، وسألهم هل فيهم مَن يستطيع أن يظهر في جسده من الجروح أكثر مما فيه هو؟ وهل فيهم رجل مثله في جسمه أثر من كل سلاح من أسلحة القتال؟ ثم أذن لهم جميعاً في آخرها أن يعودوا إلى ديارهم وقال لهم: " عودوا إلى أوطانكم وقولوا للناس إنكم تخليتم عن مليككم، وتركتموه في حماية الأجانب المغلوبين". ثم آوى إلى حجرته وأبى أن يقابل أحداً من الناس. فندم جنوده أشد الندم، وأقبلوا على قصره، وألقوا بأنفسهم على الأرض أمامه، وأعلنوا أنهم لن يغادروا أماكنهم حتى يعفو عنهم ويعيدهم إلى جيشه. ولما أن ظهر أمامهم في آخر الأمر، أجهشوا بالبكاء وأصروا على أن يقبلوه، فلما رضي عنهم عادوا إلى معسكرهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء.
واغتر الإسكندر بمظاهر الحب هذه، فأخذ يحلم بمواصلة الحروب والانتصارات، ووضع الخطط لفتح بلاد العرب الغامضة، وأرسل بعثة لارتياد أقاليم بحر قزوين، وفكر في الاستيلاء على أوربا حتى أعمدة هرقل. غير أن تعرضه للأجواء المختلفة وإدمانه الشرب كانا قد أضعفا بنيته القوية، كما أن مؤامرات ضباطه وتمرد جنوده كانا قد أوهنا قوته النفسية. وبينما كان الجيش في إكبتانا مرض هفستيون Hephaestion أعز أصدقائه وقضى نحبه. وكان الإسكندر يحبه حباً بلغ من شدته أنه حين دخلت زوجة دارا خيمة الملك الفاتح وانحنت أولاً لهفستيون احترماً له لظنها أنه هو الإسكندر، قال لها الملك الشاب في رقة ولطف: "إن هفستيون هو أيضاً إسكندر" وكأنما أراد بقوله هذا أنه هو وهفستيون رجل واحد. وكثيراً ما كان الرجلان يشتركان في خيمة واحدة، وكانا في الحرب يقاتلان جنباً إلى جنب. وأحس الملك بعد موته أن نصفه قد انتزع منه، فأحزنه ذلك وفت في عضده، وقضى عدة ساعات ملقى على جثة صديقه يبكي وينتحب؛ واقتلع شعره من فرط الحزن، وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام عدة أيام متوالية، وحكم بالإعدام على الطبيب الذي ترك الشاب المريض ليشهد الألعاب العامة، وأمر أن تكرم ذكرى هفستيون بإقامة محرقة جنائزية ضخمة بلغت نفقاتها كما يقولون عشرة آلاف وزنة (000ر000ر60 ريال أمريكي) وبعث يسأل مهبط الوحي من أمون هل يجوز أن يُتخذ هفستيون إلهاً يُعبد؟ وأمر في الوقائع الحربية التي دارت بعدئذ أن تقتل قبيلة على بكرة أبيها قرباناً لروح هفستيون. وكانت الفكرة التي تراوده وهي أن أخيل لم يعش طويلاً بعد موت بتركلس تقض مضجعه كأنها حكم عليه بالإعدام.
ولما عاد إلى بابل زاد انغماسه في الشراب شيئاً فشيئاً. وبينما كان يشرب مع ضباطه ذات ليلة إذ عرض عليهم أن يتباروا في شرب الخمر. فتجرع برامكس نحو ثلاثة جالونات وفاز بالجائزة وهي وزنة من الذهب، ومات بعد ثلاثة أيام. وأقيمت مأدبة أخرى بعد أيام قلائل شرب فيها الإسكندر خابية تحتوي نحو جالون ونصف من الخمر، وعاد في الليلة التالية إلى الشراب، ثم اشتد البرد فجأة فأصيب بالحمى وآوى إلى فراشه. ولم تفارقه الحمى عشرة أيام كاملة ظل في أثنائها يصدر الأوامر إلى جيشه وأسطوله. ثم مات في اليوم الحادي عشر في السنة الثالثة والثلاثين من عمره. ولما سأله قواده لمن يترك ملكه أجابهم بقوله: "إلى أعظمكم قوة".
وقد عجز الإسكندر كما عجز أكثر العظماء عن أن يجد رجلاً جديراً بأن يخلفه على عرشه، وكان قد قضى نحبه قبل أن يتم عمله. على أن هذا العمل رغم هذا لم يكن جليلاً فحسب بل كان فوق ذلك أبقى على الدهر مما يظنه الناس عادة. فكأن الضرورات التاريخية قد اختارت الإسكندر لتغيير الأوضاع السياسية القائمة في ذلك الوقت، فقد قضى على عهد دول المدن، وأنشأ بعد التضحية بقسط غير قليل من حرية هذه المدائن نظاماً أوسع رقعة وأعظم استقراراً من أي نظام عرفته أوربا قبل عهده. وقد ظلت الفكرة التي قامت بذهنه عن الحكم، الحكم الاستبدادي الذي يستعين بالدين لفرض السلم على أمم مختلفة الأجناس والألوان، نقول ظلت هذه الفكرة هي المسيطرة على أوربا حتى العصر الحديث عصر القومية والديمقراطية. وقد حطم الحواجز القائمة بين اليونان و "البرابرة" ومهد السبيل لعالمية العصر الهلنستي؛ وفتح آسية الدنيا للاستعمار اليوناني، وأنشأ في بلاد الشرق مستعمرات يونانية وصلت في هذا الاتجاه إلى بكتريا، وجمع عالم البحر الأبيض المتوسط الشرقي في نظام تجاري موحد واسع النطاق شجع التجارة وأطلقها من قيودها؛ ونقل الآداب والفلسفة والفنون اليونانية إلى آسية، ومات قبل أن يدرك أنه مهد السبيل لذلك الانتصار الديني العظيم الذي ظفر فيه الشرق بالغرب. ولقد كان ارتداؤه الملابس الشرقية وتحوله إلى الأساليب الشرقية بداية انتقام آسية من أوربا.
ولقد كان من الخير للإسكندر أن يموت وهو في عنفوان مجده؛ ولو أنه طال به العمر لتكشف له أنه كان مخدوعاً في كثير من الأمور، ولعله لو عاش لأقضت مضجعه الهزائم والآلام ولأحب السياسة - وكان قد بدأ يحبها - أكثر مما يحب الحرب. لكنه أجهد نفسه فوق طاقته، وأكبر الظن أن ما كان يتطلبه حفظ دولته العظيمة قوية موحدة، ومراقبة أجزائها المختلفة بأجمعها، قد بدأ يحدث الاضطراب في عقله المشرق النير. ذلك أن الجد ليس إلا نصف العبقرية، أما نصفها الآخر فهو السيطرة على أعنة هذا الجد وتملك ناصيته؛ ولكن الإسكندر كان كله جداً ونشاطاً. وكان يعوزه - وإن لم يكن من حقنا أن نتطلب منه - نضج قيصر الهادئ أو حكمة أغسطس ودهاؤه.
ونحن نعجب بنابليون لأنه لاقى بمفرده نصف العالم، ولأنه يشجعنا على أن نؤمن بما في نفوس الأفراد من قوة كامنة لا يكاد الإنسان يؤمن بوجودها فيها. ونحن نشعر بعطف طبيعي عليه رغم إيمانه بالخرافات والأوهام وتصديقه ما لا يصح لمثله أن يصدقه، وذلك لأننا نعرف أن أقل ما يمكن أن يقال فيه أنه كان شاباً كريم النفس قوي العاطفة، كما كان رجلاً قديراً باسلاً لا يكاد يدانيه أحد في قدرته وبسالته، وأنه كان يكافح ليتخلص مما في دمه من تراث من الهمجية يذهب بالعقل الحصيف، وأنه فيما خاض من المعارك العنيفة وفيما أهرق من الدماء الغزيرة لم يغب عنه قط حلمه العظيم وهو نشر نور أثينة في عالم أوسع منها رقعة.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|