أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
359
التاريخ: 15-10-2016
308
التاريخ: 16-10-2016
233
التاريخ: 15-10-2016
235
|
دور الوركاء الاخير":
هذه بعض الملاحظات الأساسية عن ادوار العصر الشبيه بالكتابي. ونبدأ بأول هذه الأدوار وهو الطور الاخير من عصر الوركاء الذي تمثله في الوركاء الطبقتان الخامسة والرابعة (الرابعة أ ، ب ،جـ) كما ترجع إليه الطبقتان السادسة عشرة والخامسة عشرة في نفر(معبد أنانا) والطبقتان (10أ) و (9) في تبه كرا والمعبد الاخير في "أريدوا".
ومن ناحية الفخار اختفى في هذا الدور فخار الوركاء ذو اللون الرمادي باستثناء كميات قليلة وجدت منه في منطقة "أي ــ أنا" في الوركاء، وقل استعمال الفخار الاحمر وظهر نوع من الفخار يعرف بطلائه ذو اللون "الإجاصي" (Plum red slip) وقد بدأ لأول مرة في الطبقة السادسة عشرة من معبد "أنانا" في "نفر" في "أي ــ انا" في الوركاء، وكثر في الاستعمال في الطبقات التالية، كما ظهرت الجرار المزخرفة بأشكال من المثلثات المتصالبة وذات العرى الأربع.
ولعل أبرز ما يميّز هذا الدور ظهور عدد من المعابد المهمة ولا سيما تلك المعابد المقامة على مصاطب أو دكاك اصطناعية. ففي مدينة الوركاء كشف عن عدد منها في منطقة معبد "أي ــ أنا"، وهو المعبد المخصص للإلهة "أنانا" (عشتار). كما شيدت معابد أخرى للإله "آنو" في الموضع الذي شيدت "زقورته". ففي المنطقة الأولى وجدت بعثة التنقيبات الألمانية ما لا يقل عن ستة معابد موزعة بين الطبقتين الخامسة والرابعة، وقد شيدت على هيئة أزواج (Pairs) أي على هيئة معبدين متجاورين، وقد فسر المنقبون هذا الترتيب(1) بأن المعبدين المزدوجين خصص أحدهما للإله "أنانا" (عشتار" والآخر لقرينها أو زوجها الإله "تموز". وقد سمي أحد المعابد من الطبقة الخامسة بالمعبد الكلسي لأنه أقيم على أسس أو مصطبة من حجر الكلس (وسعته 75 × 29 متراً). ويمتاز هذا المعبد والمعابد التالية له بأنها كانت مزينة بزينة من الفسيفساء الجميلة التي تتألف من مخاريط (Cones) من الطين المشوي (تتراوح أطوالها ما بين 3 إلى 4 انجات)، ولونت رؤوسها بأصباغ من اللون الأسود والأحمر والأبيض، وكانت تثبت بالجدران المملطة (Plastered) بالطين. وقد شاع استعمال هذا الطراز من الزخارف المعمارية الجدارية في العصر الشبيه بالكتابي.
وكشف في الطبقة الرابعة (ب) في الوركاء عما لا يقل عن ثلاثة معابد ومعبدين من الطبقة الرابعة أ، أبعاد أحدهما 83 × 53م وأبعاد المعبد الثاني المسمى معبد "C" 54,20×22,20)م). أما معابد الإله "آنو" في الوركاء من هذا العصر فقد سجلت لها ستة أدوار بنائية شيدت متسلسلة الواحد فوق الآخر، وقد تطورت في النهاية إلى زقورة على هيئة دكة أو مصطبة ترتفع خمسين قدماً وفوقها شيّد المعبد الذي أطلق عليه اسم المعبد الأبيض. اما زقورة مدينة الوركاء الكبيرة في منطقة "أي ــ أنا" فيرجع زمن تأسيسها إلى عهد سلالة أور الثالثة، بوجه خاص مؤسس هذه السلالة "أور ــ نمو" وابنه "شولكي"، وقد وجدت تحتها بقايا زقورة أقدم منها تعود إلى العصر الشبيه بالكتابي.
ومن المعابد المهمة التي كشف عنها في العصر الشبيه بالكتابي معبد العقير الذي سبق أن نوَّهنا به في كلامنا على موضع العقير وتنقيبات مديرية الآثار فيه (1941 – 1940)(2). ويعد هذا المعبد أيضاً من أولى المعابد العالية أو " الزقورات"، إذ يرجح أنه يعاصر في زمنه طبقة الوركاء الرابعة، كما يدل على ذلك اللبن المشيد به. وهو مقام على دكة او مصطبة ترتفع زهاء (3) امتار. وزينت جدران المعبد العالي المشيد فوقها بصور جدارية ملونة جميلة قوامها أشكال آدمية رسمت على هيئة موكب، ولكنها مشوهة مع الأسف، وأشكال بعض الحيوانات من بينها صورتا فهدين (Leopard) رابضين، يحرسان على ما يرجح أن يكون عرش إله لا يعلم من هو. وتعد هذه أقدم صورة جدارية اكشفت لحد الآن(4).
وتختص أبنية هذا العهد باستعمال نوع من اللبن أطلق عليه بالألمانية مصطلح "ريمشن" (Riemchen)، وهو لبن مستطيل الشكل مربع المقطع تقريباً، ويرجح أن أول استعمال له ظهر في الطبقة السادسة من الوركاء واستمر في الاستعمال إلى أطوار الوركاء التالية ثم إلى دور "جمدة نصر". ويجدر ان ننوَّه بالعثور على بقايا معبد مشيد على مصطبة من دور الوركاء الرابع في التل المسمى "قالينج آغا" (نحو كيلومتر واحد عن قلعة أربيل).
فن النحت:
لم يعثر على آثار منحوتة من طبقة الوركاء الرابعة ولكن وجدت جمة قطع فنية جميلة في الوركاء من دور "جمدة نصر" يرجع أنها ترجع في أصلها إلى دور الوركاء السالف الذكر(الطبقة الرابعة)، من بينها الإناء الحجري النذري ومسلة صيد الأسود ورأس الامرأة الجميل المنحوت من المرمر، وسنفرد لمثل هذه المنحوتات وصفاً خاصاً في كلامنا على دور "جمدة نصر".
الأختام الاسطوانية:
من العناصر الحضارية المميزة التي سبق أن ذكرنا ظهورها في العصر الشبيه بالكتابي الاختام الاسطوانية (Cylinder seals)، وكانت الاختام في العصور السابقة من النوع المنبسط (Stamp seals). وظهر هذا النوع الجديد من الأختام، كما رأينا، في الطبقة الخامسة من الوركاء ثم كثر استعمالها منذ الطبقة الرابعة التي خصصنا إليها ظهور الكتابة لأول مرة. والختم الاسطواني كما يشير إلى ذلك اسمه، عبارة عن خرزة اسطوانية تصنع من الأحجار المختلفة وبعضها من أحجار شبه ثمينة، وتتراوح أطوال هذه الاختام من عقد واحد (انج) إلى ثلاثة انجات، وتختلف أقطارها أيضاً ما بين زهاء سنتيمتر واحد إلى بضعة مليمترات. وهي مثقوبة طولياً مما يحتمل أنها كانت تعلق من الرقبة، وكانت من المقتنيات الشخصية الملازمة لمعظم الأفراد. ويعد الختم من الناحية الفنية من اجمل ما أنتجه فن النقش والنحت في جميع الحضارات، وكان يحفر وينقش بصور مختلفة المواضيع والطرز بهيئة معكوسة بحيث إذا دحرج على الطين الطري ترك طبعة هذه الصورة بهيئة موجبة، وكان ذلك بمثابة التوقيع أو الختم لتوثيق العقود والمعاملات المختلفة، وصار الكثير منها في العصور التأريخية التالية ينقش أيضاً بكتابة جميلة موجزة قد تذكر اسم صاحب الختم وهويته. ويتميز كل دور من ادوار حضارة وادي الرافدين بأنواع خاصة من الاختام الاسطوانية، وعلى هذا تكون الأختام على جانب كبير من الأهمية في تحديد أزمان الطبقات الأثرية في أثناء التنقيبات. وإلى ذلك فالأختام تعد من المصادر المهمة من مصادر معرفتنا بجوانب مهمة من حضارة وادي الرافدين لأنها، كما بيّنا، كانت تنقش بمواضيع مختلفة من المشاهد المتعلقة (بالعقائد الدينية ومواضع الأساطير وصور الآلهة ورموزها والاحداث المخلدة بالأدب)(5).
الكتابة:
والكتابة التي ظهرت في العصر الشبيه بالكتابي كما رأينا تعد من أعظم الاختراعات في حضارة وادي الرافدين، فهي على ما هو بديهي من مستلزمات الحضارة بل إن الكتابة والتدوين مرادفة للحضارة. وقد تفردت مدينة الوركاء بذلك الإنجاز الخطير، فقد وجدت، كما مرّ بنا، أولى كتابة من النوع الصوري في الطبقة الرابعة من منطقة بعد "أي ــ أنا"، ومع أن هذه الكتابة كما قلنا، أقدم ما جاء إلينا لحد الآن، بيد أنه يعتقد أن محاولات لإيجاد وسيلة للتدوين قد سبقتها في العصور الأقدم. كما أنه لا يعلم بوجه التأكيد من الذي اخترع الكتابة المسمارية، أهم السومريون أم قوم آخرون سبقوهم في استيطان السهل الرسوبي من غير السومريين ولا الساميين كما نوهنا في كلامنا على الأقوام القديمة في وادي الرافدين. وبالإضافة إلى مدينة الوركاء وجد في مدينة "كيش" لوح من الحجر منقوش بكتابة صورية قديمة يرجح أنه يرجع في عهده إلى مطلع العصر الشبيه بالكتابي.
وكانت الكتابة طوال عصر الوركاء الأخير(الطبقة الرابعة من الوركاء) صورية لا تعدو كونها تقييدات بسيطة لواردات المعابد بالدرجة الأولى ولا تعرف اللغة التي دوّنت بها، ولكنها تقدمت أشواطاً اخرى في العصور التالية ابتداء من دور "جمدة نصر" الذي بدأت فيه المحاولات الأولى لكتابة المفردات وبعض الجمل البسيطة، واتضح أن اللغة التي دوّنت بها منذ ذلك الدور كانت اللغة السومرية؛ وفي عصر فجر السلالات الذي تلا دور "جمدة نصر" تقدمت مراحل أخرى بحيث أصبحت وسيلة لتدوين شؤون الحياة المختلفة والسجلات الرسمية. وجاءتنا نماذج من كتابات عصر فجر السلالات الثاني ولا سيما الألواح "الاركائية" (Archaic) التي وجدت في الموضع المسمى "فاره" (شروباك القديمة)، وقد قدر زمنها ببداية عصر فجر السلالات الثالث، وأقدم منها الألواح المكتشفة في "أور" التي تؤرخ ما بين عصر فجر السلالات الأول والثاني (في حدود 2700 – 2800ق.م). ونرجع إلى هذا الزمن على ما يرجح الكتابات المكتشفة في منطقة ديالى والنقوش الكتابية القليلة المنسوبة إلى ملك كيش المسمى "أنميبراكيسي" (Enmebaragisi) ومع أن الألواح الصورية التي جاءت إلينا من العصر الشبيه بالكتابي لم تدون بها شؤون ذات بال إلا أننا نستطيع أن نستنتج منها أموراً مهمة عن بعض الجوانب الاقتصادية، بدراسة صور الاشياء المادية التي دوّنت بها ومنها الأغنام والماعز والأصواف والعلامة المسمارية التي تعبّر عن كلمة تاجر وصور المحراث والعلامة الدالة على البستان وشجرة النخيل، الأمر الذي يشير إلى ظهور المحراث والعلامة الدالة على البستان وشجرة النخيل، الأمر الذي يشير إلى ظهور البساتين والبستنة (Horticulture) والعلامة المعبرة عن العربية ذات العجلة. وظهرت كذلك والسياسة مثل العلامة الدالة على "الحاكم" و "قيم" المعبد: "اين" (En) ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أن العلامة الدالة على الملك (لوكال Lugal) لم تظهر في نظام الخط المسماري قبل عصر فجر السلالات.
إن اكتشاف أقدم كتابة في المعبد وليس في المباني الاخرى له مغزاه ودلالته على أن المعبد منذ ظهوره في عصر العبيد السابق كان مركز الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في قرى ذلك العصر التي تطورت فيما بعد منذ العصر الشبيه بالكتابي إلى المدن التأريخية المشهورة، وسنتناول موضوع المدينة والمعبد في القسم الثاني من كتابنا، كما سنخصص بحثاً عن الكتابة والتدوين.
وننهي هذه الملاحظات الموجزة عن نشوء الكتابة بإيجاز المراحل التطورية التي سار فيها تطور الكتابة:
(1) اختزال الأعداد الكثيرة للعلامات الصورية المعبرة عن الشيء المادي نفسه والاقتصاد على بعض علامات قليلة لمثيل هذا الشيء، وتبسيط رسم العلامات. وللمقارنة نذكر أن عدد العلامات المسمارية الذي بلغ زهاء (2000) علامة في الدور الرابع من عصر الوركاء اختصر واختزل إلى نحو 800 علامة في الدور الرابع من عصر الوركاء اختصر واختزل إلى نحو 800 علامة في اواخر عصر فجر السلالات الثاني. فمثلاً اختزل عدد العلامات المعبرة عن الغنم أي الكلمة السومرية "أدو" (Udu) من 31 علامة في دور الوركاء السالف الذكر إلى 3 علامات ثم علامتين في الاطوار التالية.
(2) ظهور استعمال العلامات الدالة على الكلمات أي التي تقوم مقام الكلمة مما يصطلح عليه بالكتابة الرمزية (Indeogram) أو (Logoram)، ثم استعمال المعاني المشتقة من الأشياء المادية المدونة بالعلامات المسمارية، مثل تأدية صورة القدم (السومرية Du) لجملة كلمات من بينها أفعال مهمة تقترن بعضو القدم والرجل مثل "قام" و "دخل" و "هب" و "حمل" و "رفع"، واكتساب مثل هذه العلامة أصواتاً أخرى أو قيماً صوتية هي أصوات تلك الكلمات المشتقة منها، أي ما يصطلح عليه في الخط المسماري بمبدأ تعدد القيم الصوتية للعلامة الواحدة.
(3)Polyphones) ) الانتقال من هذه المرحلة الرمزية إلى المرحلة الصوتية (Phonetic) باستخدام أصوات العلامات المسمارية المشتقة من ألفاظ أشياء مادية للتعبير عن قيم صوتية مجردة عن معاني الكلمات المشتقة منها لكتابة الكلمات والجمل كتابة صوتية على هيئة مقاطع.
(4)Syllables) ) اختيار طائفة من العلامات المسمارية تكتب قبل أسماء الأشياء أو بعدها لبيان الصنف الذي تعود إليه أو المادة المصنوعة مها مثل العلامة الدالة على الخشب (Gish) للدلالة على أسماء الأشجار والأخشاب، وهذا ما يصطلح عليه في طريقة الكتابة المسمارية بالعلامات الدالة (Determinative)؛ كما طرأ تبدل في اتجاه كتابة العلامات المسمارية، فبعد أن كانت تكتب في الأسطر من الأعلى إلى الأسفل صارت تكتب أفقياً من اليسار إلى اليمين، والطريف ذكره بهذا الصدد أنه في أثناء هذه التطورات التي نوَّهنا بها ظهرت المحاولات الأولى لتأليف أثبات أو جداول بالعلامات المسمارية لشرح أصواتها ومعانيها، أي بعبارة أخرى ظهور فن المعاجم.
دور جمدة نصر:
دور " جمدة نصر" هو الطور الثاني من أطوار العصر الشبيه بالكتابي، فقد قلنا إنه يلي دور الوركاء، أما تسميته فهي مأخوذة من اسم "جمدة نصر" (تل نصر)، وهو موضع أثري صغير على بعد نحو 15 ميلاً شمالي شرقي كيش، وقد حفرت فيه البعثة الأثرية التي كانت تنقب في كيش في عام 1925، فاكتشف المنقب "لنكدون" (Langdon) (6) أواني الفخار والمواد الأثرية الأخرى الخاصة بهذا الدور، ثم عثر عليها في مواضع أخرى كثيرة في العراق وأنحاء الشرق الادنى.
ففي الوركاء، وهو أحسن موضع سجلت فيه الطبقات الأثرية الممثلة لدور" جمدة نصر" في منطقة معبد "أي ــ أنا"، وجدت آثار هذا الدور في الطبقة الثالثة التي قسمت إلى ثلاثة أطوار (أ، ب، جـ) (URUK III, a, b, c,). وتعود إليه الطبقات (12-14) في نفر في معبد "أنانا" وفي منطقة ديالى الادوار المعمارية الخمسة لمعبد الإله "سين" في خفاجى (المعبد الأول إلى المعبد الخامس)، وعثر في موقع العقير على (معبد صغير) يرجع إلى هذا الدور، وفي "تبه كورا" تبدأ آثار دور جمدة نصر من اواخر الطبقة العاشرة وتستمر إلى الطبقة الثامنة، كما يرجع إليه ما سمي (بمعبد العين) في تل براك على الخابور (Eye temple).
واستمر في دور جمدة نصر تطور المقومات والعناصر الحضارية من الاطوار السابقة بالإضافة إلى تفرده بميزات خاصة به. ففي حثل الكتاب حصل ما أشرنا إليه من اختزال في عدد العلامات على هيئة أصوات مقطعية لكتابة الكلمات المختلفة ، كما اتضح أن اللغة السومرية كانت أقدم لغة دوّنت بهذه الكتابة.
وعلى قدر معرفتنا الراهنة ظهر في هذا الدور فن النحت المجسم والبارز لأول مرة في حضارة وادي الرافدين. فقد وجدت في مدينة الوركاء في الطبقات الأثرية التي ترجع إلى هذا الدور قطع فنية نفيسة من النحت بكلا نوعية البارز والمجسم، منها الإناء النذري الشهير الذي وجد في منطقة المعابد (أي ــ أنا) (عام 1934 0 1933) من الطبقة العائدة لدور جمدة نصر، بيد أن بعض الباحثين ارتأى إرجاع زمن نحته إلى دور الوركاء السابق، بناء على اعتبارات فنية وفي مقدمتها مضاهاة أسلوب نحته لأطرزة الأختام الاسطوانية من الطبقة الرابعة ف الوركاء. وقد نحت هذا الإناء الجميل من حجر الرخام الجيد وعلوه (3) أقدام، وتتألف منحوتاته البارزة من ثلاثة أنطقة (Register) من المواضيع الغنية. فالنطاق الأعلى يحتوي على مشهد كاهن (لعله الكاهن الأعلى En) وهو يقدم سلة من الفاكهة إلى إلهة هي بلا شك الإلهة السومرية" أنانا" (عشتار البابلية)، وتقف هذه الإلهة أمام عمودين أو حزمتين من القصب ينتهيان بحزمتين معقوقتين هما شعار تلك الإلهة أو رمزها وأصل العلامة المسمارية التي يكتب بها اسمهما. ويقف خلف الكاهن أشخاص آخرون من الكهنة أيضاً، كما يشاهد خلف الإلهة طائفة من القرابين والنذور من بينها وعاءان يشبهان الوعاء النذري الأصلي، ويشاهد في النطاق الثاني أسفل النطاق الاول موكب من كهنة عراة يحملون سلالاً من الفاكهة وجراراً وصحوناً. ونحتت في النطاق الثالث صفوف من الكباش والغنم مع أشجار نخيل وسنابل. والمرجح أن هذا الإناء قدم إلى الإلهة "أنانا" بصفتها إلهة الخصب. وتشير التصليحات الموجودة في الإناء مما تمّ عمله في الأزمان القديمة إلى أهمية هذا الإناء وإلى تقدم في فن التعدين حيث ربطت الاجزاء المكسورة بأسلاك من النحاس.
ونذكر كذلك رأس الامرأة المنحوت من المرمر الفاخر نحتاً مجسماً. وقد وجد في الوركاء (1939) في طبقة تعود إلى جمدة نصر. وتبلغ هذه القطعة الفنية من الروعة درجة تؤهلها أن تعد من القطع الفنية الفريدة (Objet d'art) في تأريخ الفن العالمي. ومن الآثار الفنية الأخرى التي تستحق الذكر ووجدت في الوركاء أيضاً مسلة صغيرة من حجر "البازلت" نحتت بمشهد صيد الأسود، حيث صور بالنحت البارز رجلان ملتحيان يصطادان الأسود بالسهام والرماح، وهذا أقدم مشهد من نوعه من مشاهد الصيد التي شاعت في فن النحت الآشوري(7).
وبرع فنانو حضارة وادي الرافدين في دور جمدة نصر بتزيين أواني الحجر الجميلة بترصيعها أو تطعيمها بفصوص من الأحجار الجميلة على أطرزة وأشكال بديعة، وقد وجدت نماذج كثيرة منها في الوركاء وفي المواضع الأثرية في منطقة ديالى. ويمكن تمييز الاختام الاسطوانية من هذا العهد من نقوشها الخاصة المؤلفة في الغالب من صفوف (الحيوانات كالأسماك والطيور)، وقد نقشت بطريقة خطية مختصرة ، وهي بوجه عام دون مستوى أختام عصر الوركاء السابق في البراعة ودقة التعبير.
وبالإضافة إلى مثل هذه الآثار الخاصة بدور جمدة نصر يستعين الباحثون في تمييز هذا الدور بالأواني الفخارية الخاصة من ناحية أشكالها وزخارفها وألوانها، فكان الفخار من هذا الدور بوجه عام من النوع المتعدد الألوان (Polychrome)، وتغلب على أشكال الاواني الجراد الكبيرة المزينة بزخارف هندسية أو زخارف طبيعية بلون أسود أو أحمر أو بكلا اللونين على سطح الغناء ذي اللون الأصفر الفاتح (Buff).
ويرجع إلى دور "جمدة نصر" عدد من المعابد والأبنية العامة المهمة كشف عنها في الوركاء وغيرها من المواضع الأثرية مما أشرنا إلى بعضها في أول كلامنا على هذا الدور. وعم في مثل هذه الأبنية استعمال اللبن المستطيل ذي المقطع المربع، وهو نوع اللبن الخاص الذي ذكرناه بالتسمية الألمانية "ريمشن" (Riemchen) والذي كان أول ظهور له في دور الوركاء السابق. فمن هذه المعابد التي سبق أن أشرنا إليها معبد الإله "سين" في خفاجى (منطقة ديالى) وقد سجلت له في هذا الدور خمسة أطوار بنائية سميت بالمعبد الأول والثاني والثالث والرابع والخامس(8).
وعلى زقورة الإله "آنو" في الوركاء (وهي مرتفع اصطناعي ارتفاعه زهاء 40قدماً ويرقى إليها بثلاثة منحدرات) شيد معبدان أطلق عليهما معبد (D) ومعبد (E)؛ ويرجع إلى هذا الدور أيضاً المعبد الذي أطلق عليه اسم "المعبد الأبيض". واستمر استعمال الزخارف الجدارية المؤلفة عن المسامير الطينية الملونة الرؤوس مما لاحظناه في دور الوركاء السابق، وأضيفت إليها في دور جمدة نصر أشكال حيوانية ورموز الإلهة "أنانا"، واستمرت الأبنية الدينية المهمة في منطقة "أي ــ أنا" في الوركاء، وقد وجد فيها مجموعات مهمة من التعاويذ المصنوعة على هيئة الحيوانات. ومن الأبنية التي سبق أن نوهنا بها التي ترجع إلى دور جمدة نصر المعبد الذي عثر عليه في تل "براك" في منطقة الخابور وسمي معبد "العين" (Eye temple) ولما وجد فيه من أشكال او صور حجرية كثيرة نحتت فيها العيون بلا رؤوس.
وكشف في الوركاء عن بناء غريب يرجع إلى دور جمدة نصر أيضاً أطلق عليه المنقبون الألمان اسم "بناء الريمشين" (Riemchen Gebaude) وسمي كذلك لأنه مشيد بنوع اللبن المسمى "ريمشن"، وهو بناء مستطيل (18×20م) ينسبه المنقبون إلى دور الوركاء (الطبقة الرابعة)، ولكن دلالة الفخار والآثار الأخرى التي وجدت فيه تشير إلى أرجحية كونه من دور جمدة نصر. ويتألف هذا البناء الغريب في تخطيطه من (عدة حجرات وممرات)، ولا مدخل له من الخارج. وأغرب ما فيه الحجرة الوسطى (4×6,50م) التي يحيط بها ممر أو ممشى، ووجدت فيها آثار حريق شديد، كما وجدت فيها مجموعات مهمة من الأوعية الحجرية والفخارية والنحاسية ومخاريط الطين وأوراق ذهبية ومسامير مموهة بالذهب. وقد فسّر المنقبون هذا البناء بأنه خصص لحرق الأشياء المقدسة العائدة إلى المعابد القديمة التي تهجر وينقطع استعمالها ويشيد فوق أنقاضها معابدة جديدة، وقد أطلقوا عليها التسمية الألمانية (Opferstatte)، أي من نوع مواضع القرابين. والمحتمل أن أبنية مضاهية لهذا البناء قد أقيمت في مواضع أثرية أخرى ولكن المنقبين فيها لم يفطنوا إلى حقيقتها وماهيتها فوصف البعض منها على أنها بقايا أفران مثل الموضع الذي وجد في إحدى الساحات العائدة إلى معبد الإله "سين" (المعبد الرابع) في خفاجى ( منطقة ديالى).
وفي موضع "جمدة نصر" الذي سمي باسمه هذا الدور الثاني من العصر الشبيه بالكتابي عثر على بناية كبيرة فسرها المنقبون على أنه قصر(9) ، وإذا صح هذا التفسير، فيكون لظهور القصر في دور جمدة نصر دلالته على نشوء الطبقات الاجتماعية المتميزة بالثروة والسلطة ، أي الطبقة الحاكمة.
ونختتم هذه الملاحظات عن دور جمدة نصر بالتنويه بانتشار التأثيرات الحضارية خارج مركز حضارة وادي الرافدين إلى عدة أرجاء من الشرق الأدنى، مثل عيلام، كما تدل على ذلك الاختام الاسطوانية والكتابة الشبيهة بكتابة حضارة وادي الرافدين وأختامها الاسطوانية. ووجدت مثل هذه الكتابة في الموضع المسمى "تبه سيالك" (في منطقة قاشان شمال غربي إيران). كما يرجح تفسير أنواع الكتابات الصورية التي وجدت حديثاً في بعض اجزاء أوروبا الوسطى مثل رومانية إلى تلك التأثيرات الحضارية. وانتشرت عناصر حضارية مهمة إلى جهات الفرات الأعلى والخابور آثار دور جمدة نصر أيضاً في الجديدة في سهل انطاكية. وفي وادي انيل وجدت اختام اسطوانية من النوع الخاص بحضارة وادي الرافدين، من العصر المسمى في تأريخ حضارة وادي النيل بدور "نقاده" الثاني، ونذكر كذلك القبور المشيدة على هيئة مصاطب ذات "الطلعات" و "الدخلات" في جدرانها، وهي الزخارف المعمارية المميزة لعمارة المعابد في حضارة وادي الرافدين، إلى غير ذلك من الآثار والأطرزة الفنية(10).
أما الطور الأول من عصر فجر السلالات الذي جعلناه الطور الاخير من العصر الشبيه بالكتابي فيمكن عده بمثابة مرحلة انتقال إلى عصر فجر السلالات الثاني الذي تلاه. ويمتاز بأطرزة أختامه الاسطوانية التي تشبه زخارفها النسيج (Brocade style)، وبنوع الفخار المسمى "الفخار القرمزي" (Scarlet Ware) الذي وجد أول مرة في مواضع منطقة ديالى.
_________
(1) انظر:
H. Lenzen. ''Die Tempel Der Schicht ''V'' in URUK'' in ZA, 40. (1949), 1ff.
(2) انظر المصدر المذكور في الهامش رقم 23.
(3) انظر المصدر المذكور في الهامش رقم 23.
(4) راجع:
P. Amietm La Glyptique Mesopotaminne (1961), P. 37.
(5) يرجح أن يكون اسم تل "جمدة نصر" القديم "كدنن" (Kidnum) عن التحريات في ذا الموضع انظر:
E. Mackay, Report on the Excavations of jemdet Nasr(1931).
H. Field and Martin, @Painted Pottery from Jemdet Nasr@ in American Journal of Archaeology (1935), 310ff.
Ann Perkins, The Comparative Archaeology of Early Mesopotamia (1947).
(6) توجد هذه المنحوتات الفنية الثلاث في المتحف العراق . انظر عنها الدراسات الآتية:
H. Heinrich in UVB, V, (1934), H. Lenzenm IBID, XI, (1941).
H. Lenzen in ZA, XI, (1939), 85ff.
(7) عن معبد الإله "سين" انظر:
Delougaz and S. Lloyd, Pre-Sargonic Temples in the Temples in the Diyala Region,
(8) يقع تل "براك" على بعد نحو 1/2 ميل من الضفة الغريبة لنهر "الجغجغ" (الهرماس القديم). حول نتائج التنقيبات فيه انطر:
Mallowan in IRAQ, IX, (1947).
(9) راجع:
Langdon in Alte Orient, XXVI (1927).
Moorey in IRAQ, 26, (1964), 93ff.
(10) حول التأثيرات الحضارية التي انتقلت من حضارة وادي الرافدين إلى حضارة وادي النيل في العصر الشبيه بالكتابي. راجع البحوث الآتية:
CAH, I, (1971), chap. IX. Frankfort in AJSL, (1941), 354ff.; Kantor in JNES, XI, (1952), 239ff.
Frankfort, The Birth of Cicilzation in the Ancent Near East (1951
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|