أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-5-2017
3360
التاريخ: 2023-11-30
1308
التاريخ: 15-12-2020
7807
التاريخ: 30-10-2018
2719
|
أ- التلال واللقى الأثرية:
لقد أقامت شعوب غرب آسية القديمة خلال مراحل تاريخها الطويل القرى والمدن وساهم كل منها بنصيبه في بناء الحضارة الانسانية ، فتأثرت اللاحقة منها بالتراث الحضاري للسابقة . واضافت ما لديها من جديد لهذا التراث فغيرت قليلاً في تركيبه احياناً وكثيراً اخرى ، تارة سلما واخرى حربا . وكان يحدث أيضا ان تتعرض المدنيات القائمة لدمار شامل بسبب همجية الغزاة وعقمهم الحضاري .
وشكلت احيانا المواقف السياسية والعقائدية أيضاً أسباباً لتدمير مدنيات شعوب غرب آسية وطمس معالم حضاراتها . وقد كونت بيئة المواطن الأصلية لبعض الشعوب عاملاً ايجابيا تارة ، وسلبيا تارة اخرى في تطوير الحضارة الانسانية أو عرقلة نموها . لذلك هجرت مدن كثيرة من قبل بناتها أو من أحفادهم الى منطقة اخرى لأسباب سياسية أو اقتصادية أو نتيجة لعوامل ضغط خارجية ، فتركت منازلها بما تحويه أحياناً من كنوز ثمينة وكتابات قيمة تنهار وتغوص في الرمال أو تطمرها الأتربة بفعل الرياح والعوامل الطبيعية الأخرى على مر الأجيال . وحدث أحياناً أن أقامت الأجيال اللاحقة مدناً جديدة على أنقاض المدن السابقة ورممت أو وسعت أحياناً اخرى ما بقي من أبنيتها بما اتفق مع مستلزماتها الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية الجديدة . كما حدث ايضا ان اقدم الغزاة على ترميم هذه البقايا القائمة أو تهيئة المكان المناسب في موقعها لإقامة الجديد من المدن . وقد اهملت احيانا هذه المدن فأصبحت خرابا خلال العصور اللاحقة ، فزادت الأتربة والرمال والانهيارات المتعاقبة لجدرانها من حجم موقعها وارتفاعه ، فتشكل ما نسميه الآن " التلال الأثرية " المنتشرة في ربوع بقاع عديدة من اقطار غرب آسية .
واصبحت هذه التلال وما عليها من معالم أثرية ظاهرة احيانا للعيون شاهدا على وجود مدنية مندثرة وجهود حضارية لأجيال عديدة من البشر لم تزل الأرض الأمينة تحتفظ ببقاياها للأحفاد والباحثين . ويضم هذا التراث أيضاً اللقى الأثرية من أدوات صوانية أو حجرية اخرى أو معدنية او فخارية أو رسوم ملونة أو كل هذه مجتمعة . وهناك المشاهد البارزة المحفورة على الحجر أو الجص أو النصب التذكارية المنحوتة من الحجر والمصهورة من المعدن أو المطروقة منه . وتلعب هذه اللقى الأثرية دوراً كبيراً في تذليل الصعاب العديدة التي ما زالت تعترض سبيلنا عند كتابة التاريخ السياسي والحضاري للشعوب القديمة في غرب آسية ، وخاصة خلال الحقب التي لم يكن انسانها قد عرف الكتابة بعد . ولهذه اللقى أيضاً شأن كبير حتى خلال الحقب التاريخية التي عجز كتابها عن تدوين الاحداث العسكرية والسياسية ووصف المستويات الاجتماعية والاقتصادية التي بلغتها تلك الشعوب .
فمثلاً لم يرد – حتى الآن – في الكتابات من بداية الألف الثالث قبل الميلاد ذكر لمعرفة الانسان " عجلة الفاخروي " واستخدامه لها في صناعة الفخار بدلا من اعتماده على اليد وحدها ... ولم تتناول هذه الكتابات ايضا موضوع الأفران التي اخترعها الانسان واستخدمها لشي الفخار ثم لصهر المعادن ناهيك عن عدم ذكرها لصنع القوالب التي صب فيها الانسان المعدن المصهور وانتج اعداداً ضخمة من أداة واحدة . والى جانب ذلك نجد الكثير من أساليب تحسين الحرفة والصناعة كأدوات الغزل والنسيج وصناعة الأحذية وصياغة المجوهرات .. ولم يذكر لنا الكتاب القدامى ايضا الا القليل النادر عن المقاييس المعمارية التي اعتمدها مهندسو الابنية السكنية والقصور الملكية والمعابد الضخمة عند تشييدهم لهذه المنشآت الخاصة منها والعامة . ولم تحدثنا الكتابات بشيء عن نسب تركيب الألوان التي خلد الفنان بواسطتها المشاهد الجميلة على الطوب المشوي أو الفخار أو زين بها جدران المعابد والقصور الملكية .. فمن لنا ان نعرف ذلك والكثير الكثير من امثاله الا بواسطة اللقى الأُثرية ؟ ولا شك في أن الكتابات ذكرت اشياء كثيرة عن الحروب والغزوات والتجارة ، ولكن اللقى الأثرية التي خلفتها لنا شعوب غرب آسية القديمة وخلدت لنا حصار مدينة وسجلت لنا مشاهد من معارك حربية في نقوش روائية تبين لنا من جانبها بكل وضوح التكتيك العسكري الذي استخدم خلال هذه المعارك . وتدلنا اللقى الأُثرية ايضا على الصلات التجارية التي كانت تربط اقطار غرب آسية القديمة بعضها ببعض من جهة وبمناطق الشرق القديم الاخرى من جهة ثانية . ولم تبخل علينا اللقى الاثرية حتى بالبراهين المادية التي نستطيع ان نتعرف بواسطتها على لباس شعوب غرب آسية القديمة وعاداتها وتقاليدها في مناسبات الأفراح والأثرية وممارستها الطقوس الدينية . ونستطيع ايضاً بواسطة بعض انواع هذه اللقى ان نخترق جدار صمت اشكال هذه الآلهة ورموزها عبر جميع المراحل التاريخية حتى عصور وصول الانسان الى مرحلة العبادة الوحدانية وخلالها .
وتجسد لنا هذه اللقى كذلك تطور الفن عبر تاريخ الانسانية ونمو الذوق الفني عند الانسان من خلال قدرته على التعبير عما يجول في خاطره من تصورات واحساسات فنية تعكس فهمه لذاته ولذات اخيه الانسان ، اذ ترجم لنا هذه التصورات والاحساسات في رسوم مجسمة معبرة ، مكننا بعضها من معرفة اصول كثير من الشعوب القديمة . ومن هنا تأتي أهمية دراسة الآثار والدور الكبير الذي يقوم به عالم الآثار في سد ثغرات كثيرة تعترض المؤرخين عند دراستهم وكتابتهم للتاريخ السياسي لشعوب الشرق القديم وخاصة شعوب غرب آسية القديمة منها.
ب- الكتابة المسمارية ونصوصها:
يجب الا يحط تأكيدنا على أهمية اللقى الأثرية المادية من شأن ومكانة كتابات شعوب غرب آسية القديمة ، التي نقشها كتاب عاشوا احداث تاريخ شعوبهم .
لقد دون هؤلاء بخط يدهم ما أمرهم به ملوكهم وأمراؤهم واحياناً كهنتهم أو ما أمكنهم فهمه وملاحظته بدافع ذاتي . وقد جاء ذلك بأسلوب مختصر احياناً ومستفيض احياناً اخرى تبعا لغنى لغتهم بالثروة اللفظية وقدرتها على مد الكاتب المعني بالمفردات اللغوية . وحدد ذلك أيضا تنوع رموزهم الكتابية وتأمين متطلبات مقاطع أو احرف الكلمة المكتوبة ، لأن اللغة والكتابة خضعتا للتطور شأنهما في ذلك شأن تطور الانسان الفيزيولوجي وجوانب حياته الحضارية والسياسية الأخرى . ولعبت ايضا درجة وعيهم الاجتماعي وفهمهم للمواضيع دوراً كبيرا في تسجيلهم هذه الاحداث خلال كل حقبة من حقب تطور حضارات شعوبهم .
وكانت اولى كتابات شعوب غرب آسية هي المعروفة حاليا بـ " المسمارية " التي انبثقت عن التصويرية البدائية . وهي عبارة عن رموز في شكل " مسمار " أو " اسفين " نقشها الكتاب القدامى على لوحات من الطين المشوي ، وتراوح سمك معظمها ما بين 1 و 5 و 2 سم تقريباً . ونقشت هذه الكتابة ايضاً على النصب التذكارية وعلى المعدن والأختام الاسطوانية والفخار .. لقد تمكن الكتاب خلال الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين أولاً من تدوين بعض اسماء العلم . ثم طوروا هذه الكتابة مع مرور الزمن واغنوا ثروتها اللفظية بالمفردات الجديدة ، حتى اصبحت نسبيا قادرة على سد حاجاتهم عند تدوينهم لحوليات ملكية متسلسلة كاملة وقوانين وتشريعات عامة واتفاقيات دولية ذات نصوص دقيقة . وكذلك سجلوا بها وصفا لمعارك الحروب وكثيراً من الأحداث السياسية والنصوص الدينية والملاحم والأساطير وغير ذلك من الانتاج الادبي .
ولذا تفوق اهميتها بدون شك ما وصلنا من الكتاب الكلاسيكيين حول تاريخ غرب آسية القديم (انظر ص 27-31).
لقد طاف رحالة اوربيون في انحاء عديدة من ربوع اقطار غرب آسية منذ بداية عصر النهضة الاوربية وزاروا كثيرا من مواقعها الاثرية . ولكنهم لم ينتبهوا الى وجود نقوش محفورة على جدران من بقايا بعض قصور ملوك غرب آسية القدماء ، التي لم تزل قائمة حتى الآن . واخيراً اهتدى الرحالة الايطالي بيترودلا فاليّ (Pietro Della Valle) خلال القرن السابع عشر الى رؤية بعض هذه النقوش من الكتابة المسمارية في بلاد فارس ، فقام بنقل بعضها عن نص منقوش على جدران قصر الملك " داريوس " في عاصمة فارس القديمة " بيرسيبوليس " واتى بها الى اوروبة .
وبعد ذلك حاول الدارسون الغربيون فك هذه الرموز ولكنهم فشلوا في ذلك ، الى ان قام الباحث الدانماركي نيبهور (Niebhur) في نهاية القرن الثامن عشر بالخطوة الأولى . فبالرغم من انه لم يستطع ان يذلل الصعاب التي اعترضته في انجاز مهمته الصعبة ، فقد تأكد من ان النص مؤلف من ثلاثة نماذج من الكتابة المسمارية وان اسهلها مؤلف من اثنين واربعين رمزاً " أبجديا " . وجرب باحثون آخرون حظهم في هذا الميدان فاكتشفوا ان الخط المائل في هذه الكتابة يعني " اشارة الفصل " بين كلمات النص .
وكان العالم الألماني الشاب كروتفند Grotefend (1775-1853م) اثناء ذلك منكبا على دراسة هذه الرموز خلال عمله مديرا لمدرسة ثانوية في مدينة كوتنكن Göttingen . وقد تأكد في عام 1802م ان هذه الكتابة ترمز الى القاب ملكين فارسيين هما " داريوس " و " كسيركسيس " ومعهما والد " داريوس " المعروف باسم " هيستابيس " وتوج نجاحه هذا بعمل رائع عندما فك تسعة رموز من هذه الكتابة ، وبذلك وضع حجر الأساس لبناء علم الكتابات المسمارية (1) .
وتابع المهتمون في الغرب ابحاثهم في هذا المجال فتأكد لهم صحة ما توصل اليه العالم الألماني، وذلك بواسطة نص مسماري آخر لأربع لغات ورد فيها ايضا اسم الملك الفارسي " كسيركسيس " بالكتابتين المسمارية والهيروغليفية . ثم اكمل الالمانيان لاسن Lassen و بُرنوف Bumouf ابحاث كروتفند Grotefend في فك الرموز المتبقة من الكتابة الفارسية القديمة وظهرت النتيجة في بحث نشره العالم بُرنوف Burnouf خلال عام 1836م اعلن فيه حله بشكل صحيح لأربعة وثلاثين رمزا من نقوش هذه الكتابة .
وأثناء ذلك انتشرت في بلدان اوروبية اخرى حمى ابحاث علم الكتابات المسمارية اذ نقل الرحالة الانكليزي هـ . رولنسن H. Rawlinson بيده خلال عام 1836م ، اي في نفس العام الذي صدرت فيه نتائج ابحاث الألماني بُرنوف Burnouf عددا من الكتابات المسمارية ومن بينها الكتابة المشهورة المعروفة بـ " كتابة بهيستون " المنقوشة على جدران صخرية شاهقة الارتفاع في بلاد فارس . وتمكن هذا الرحالة وقبل ان يطلع على ابحاث كروتفند Grotefend من فك ثمانية عشر رمزا من الكتابة الفارسية القديمة . وقد شكل تنوع هذه الكتابة مادة غنية لابحاثه ودراسات آخرين غيره في هذا المجال ، اذ مكنتهم هذه الكتابة من حل رموز الكتابتين الأخريين خاصة الثانية منهما والمعروفة باسم " العيلامية الحديثة " . وبلغ مجموع الرموز التي فكها العالمان رولنسن Rawlinson ولورونس Lowrens ما يقارب المائتين . وتضافرت جهود رولنسن Rawlinson مع جهود هِنْك Hink وأتُن Atton من اجل حل رموز الكتابة الثالثة ، ففكوا ايضا اكثر من مائتين من رموزها المقطعية وعدد آخر من المقاطع المساعدة . وتبين لهم أنها تنتسب الى مجموعة اللغات المعروفة بـ " السامية " (1- أ) في حين تعود " العيلامية الحديثة " في اصلها الى ما تسمى " اليافيثية " (= الآرية) . وبعد ان وضع هؤلاء الاوائل المداميك الأولى لأساس بناء علم اللغات المسمارية انكب خلفاؤهم من بعدهم على متابعة الدراسة ، وأقاموا المدماك فوق الآخر ، حتى تمكنوا أخيرا من حل معظم الرموز المتبقية من هذه الكتابات المقطعية . وما كاد القرن التاسع عشر يشرف على نهايته حتى اصبحت الطريق ممهدة لقراءة وترجمة نصوص مشهورة ساعدت العلماء في كتابة تاريخ شعوب غرب آسية القديمة .
وبالإضافة الى الكتابات المسمارية المنقوشة على النصب التذكارية والآثار الظاهرة الاخرى ، كشفت لنا اعمال التنقيب عن الاثار في كثير من تلال مناطق غرب آسية عن اعداد ضخمة من اللوحات الطينية نقشت عليها كتابات مسمارية ما زال علماء أصول المسمارية (Philologie) منكبين على دراستها وترجمتها الى اللغات الحية : لقد عثر منها على اعداد ضخمة كونت ما يشبه مكتبات كاملة في مدن ما بين النهرين القديمة مثل " أور" و " تللو – لاجاش " و " لارسا " و " اومّا " و " اوروك " (الوركاء ) و " بابل " و " كيش " و " ماري " .. وغيرها وفي مدن سورية مثل " اوغاريت " (رأس الشمرة) . و " ابلا " (تل مرديخ) ويضاف الى هذه المجموعة الرقم المطينية الضخمة التي عثر عليها في العاصمة الحثية " خاتّوشا " (بوغازكوي) في آسية الصغرى وفي " تل العمارنة " في مصر . ولتبيان اهمية هذه الكتابات ، نذكر على سبيل المثال ما يتطرق من بينها لموضوع العلاقات التجارية مثل صكوك البيع والشراء وقوائم السلع التجارية والمبيعات اليومية . ومنها ايضا الخاص بالقوانين والتشريعات كالقوانين السومرية وقانون " حمورابي " والقوانين الآشورية والحثية ..
وكان من بينها ايضا نصوص المراسلات الديبلوماسية بين الملوك الكاشيين في بلاد ما بين النهرين والميتانيين في شمال شرق سورية وبين بعض فراعنة مصر ، وكذلك نص المعاهدة الدولية التي ابرمت بين الحثيين والمصريين . كما علينا ألا ننسى النصوص الأدبية والشعرية كالأساطير والملاحم وغير ذلك من الانتاج الفكري لشعوب غرب آسية القديمة .
ج- الكتاب الكلاسيكيون:
ويأتي الى جانب هذين المصدرين الرئيسين لتاريخ شعوب غرب آسية القديمة ومنجزاتها الحضارية ايضا ما خلفه لنا الكتاب الكلاسيكيون والشرقيون من كتابات حول غرب آسية القديمة. منهم من عاصر آخر فترة من هذا التاريخ السياسي مثل هيرودوت (حوالي 480-425ق.م) وكتيسياس – كنيدوس – (ktesias ، Knidos) الذي ولد في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد والكاهن البابلي بيروسّوس Berossos (برعوثا) الذي عاش خلال الثلث الأخير من القرن الرابع والنصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد . ومنهم الآخر الذي عاش خلال العصر الروماني مثل ديودور (Diodor) (القرن الاول قبل الميلاد) والرحالة الجغرافي سترابو (Strabo) حوالي الميلاد .
ويعتبر هيرودوت اعظم المؤرخين الكلاسيكيين الذين كتبوا حول الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لشعوب غرب آسية وشمال افريقية القديمة . ولم يتناول هذا الكاتب في مؤلفه الضخم موضوع دراسة الاحداث التي عاصرها وحسب ، وانما ركز جهده ايضا على وصف الاحداث التي سبقت ولادته : لقد طالما كان الفرس الأعداد التقليديين للهيللينيين ؟ ومن خلال اهتمامه بالفرس تعرض في كتاباته بين الحين والآخر الى وصف عادات وتقاليد شعوب الاقطار التي خضعت للحكم الفارسي وخاصة شعب مصر . وبالرغم انه لم يخصص بحثا مستقلا حول غرب آسية الا انه استطاع ان يعطي لمحة حول واقع بعض اقطار هذه المنطقة . لقد وصف مثلا مدينة " بابل " أنها " اهم واحصن مدينة " في بلاد ما بين النهرين ، وتعرض ايضا لوصف الهندسة المعمارية الهامة فيها . وكتب حول غزو الملك الفارسي " كيروش " لهذه المدينة وعصيان اهلها في عهد " داريوس " . كما تناول في بحثه ايضا غزو الملك الأشوري " سنحاريب " لمصر (2) .
وقد كان " هيرودوت " مصمما ايضا على تخصيص مجلد ضخم عن بلاد آشور ضمن سلسلة ابحاثه حول اقطار غرب آسية وشمال افريقية ، غير ان المنية عاجلته قبل ان ينفذ هذا المشروع . ولكنه خلف لنا عوضا عن ذلك وصفا لعادات شعوب ما بين النهرين وتقاليدها . فذكر لنا مثلا بعض احتفالاتها في مناسبة الافراح وطقوس دفن الموتى . ولم ينس كذلك ان يركز انتباهه على اهمية خصوبة تربة البلاد وان يعدد انواع المحاصيل الزراعية التي تنتجها، وأشار الى تنظيم شبكات الري فيها.
ويأتي (كتيسياس ) في الدرجة الثانية من الاهمية بعد (هيرودوت) بين الكتاب الكلاسيكيين ، الذين تعرضوا في ابحاثهم لمناطق غرب آسية القديمة . وترجع اهميته الى اطلاعه على الملفات ، التي كانت تحويها مكتبة العاصمة الفارسية "سوسا " ونسخة نصوصها بيده . وقد استطاع ان يصل اليها بحكم عمله في العاصمة الفارسية كـ " طبيب " للملك الفارسي (ارتاكسيركسيس) . ولكن لم يصلنا للأسف من نصوص هذه "الملفات" الا نتف من بعض مضامينها بواسطة كتاب كلاسيكيين متأخرين امثال (ديودور) . وكتب (كتيسياس) كسابقه (هيرودوت) حول عادات سكان ما بين النهرين وتقاليدهم خلال الحقبة التي عاصر احداثها في تلك المنطقة .
وبالرغم من ان هذين المؤرخين عاشا خلال الحقب الأخيرة من تاريخ استقلال شعوب غرب آسية القديمة ، وكان بإمكانها الاقتصار في كتاباتهما على مشاهداتهما الشخصية لأحوال الاقطار التي زاراها ، الا انهما اعتمدا في كثير من هذه الكتابات على اقوال الآخرين واعتبراها وقائع مسلما بهما . فمثلا اخذ (هيرودوت) الكثير من معلوماته عن اقوال الكهنة العاديين وقواد الجيوش وما سمعه هؤلاء بدورهم عن غيرهم وادعوا ان رواياتهم اعتمدت على ما شاهدوه بأعينهم او عاشوا احداثه بانفسهم ، في حين ان معظم هذه الأقوال لم يكن سوى اساطير او روايات وخرافات شعبية تناقلتها السن الناس آنذاك . ويؤكد هذا المؤرخ مثلا ان المدعو " نينوس بن بعل " قد انحدر من سلالة الهيرقليين وانه هو الذي اسسس الدولة الآشورية (3) . ويقول " كتيسياس " ان "نيونس وسميراميس قد اسسا الدولة الآشورية " واعتبر " اخيقار الحكيم " شخصية حقيقية شغلت منصب وزير لدى الملك الآشوري " اسار حدون " . وبالرغم من هذه الأخطاء المتكررة ، يبقى بعض ما جاء في مؤلفات هذين الكتابين جديراً بالاعتماد ، لأن سجلها هذان الكاتبان عن غرب آسية القديمة . وبالإضافة الى ذلك كان " هيرودوت " يتحلى بنظرة نقدية تتصف في كثير من جوانبها بالموضوعية كقوله ان " الهيللينيين اخذوا عن البابليين الساعة الشمسية والمؤشر الشمسي وتقسيم النهار الى اثنتي عشرة ساعة " .
واما البابلي " برعوثا " فقد كان كا هنا في اكبر معابد بلاد ما بين النهرين وهو معبد الاله " مردوك " في العاصمة " بابل " ، وكان اغنى البيوتات المقدسة في الشرق القديم بكنوزه الثمينة من الوثائق القيمة المكتوبة على رقم طينية محفوظة في اجنحة مستودعاته الضخمة . وكان " برعوثا " على درجة كبيرة جدا من الثقافة شأنه في ذلك شأن الكثيرين من كهنة المعابد وخاصة كهنة معابد " مردوك " الاله الذي سجدت له شعوب كثيرة وامم غفيرة في العالم القديم لمدة زادت على خمسة عشر قرنا من الزمن خلت على عصر هذا الكاهن الكبير العالم . ولذلك حوت مكتبته هذا التراث الضخم ، الذي وجد " برعوثا " طريقة مفتوحة اليه بحكم مهنته . وهناك ايضا عاملان آخران يضفيان على اعماله اهمية خاصة ، هما :
1- معاصرته للإسكندر المكدوني .
2. اتقانه الى جانب " اللغات الشرقية " المعروفة في عصره ، اللغة اليونانية كتابة وحديثاً ، وقد اختارها كذلك وسيلة لتأليف مجلده الضخم وتدونيه . لقد توفرت له اذن جميع الاسباب التي مكنته من انجاز مهمته الضخمة ، والاستفادة من مكتبة معبد " مردوك " قبل ان تأتي يد الغزاة المخربة على ما تبقى قائماً من معابده في " بابل " وغيرها من مدن بلاد ما بين النهرين القديمة . وبدأ " برعوثا " حوالى عام 280 ق.م . بكتابة ثلاثة مؤلفات حول التاريخ البابلي وقدمها هدية للملك " انتيوخوس " الأول .
كان المؤلف الأول بعنوان " الحكمة " سرد فيه الاساطير البابلية ، وبحث في الثاني تاريخ بلاد ما بين النهرين منذ " بداية الخليقة " حتى عهد الملل الآشوري " تيغلات بيليزر" الثالث . وخصص المؤلف الثالث لتدوين تاريخ بلاد ما بين النهرين حتى وفاة " الاسكندر " .
ولكن لم يصلنا – للأسف الشديد – هذه المجلد الضخم بنصوصه الأصلية وانما وصلنا منه بعض الفصول والأخبار التي نقلها عنه فلافيوس يوسفوس Flavlos Josephus ويوليوس افريكانوس Julius Africanus واويزيبيوس Eusebius وخاصة اسكندر بولهيستور Alexander Polyhistor (حوالي 70 ق . م .) الذي عرّف العالم اليوناني بهذه المؤلفات القيمة . ونقل عنه اتينايوس(4)Atenaeos) ) ونجد ايضا عند اويزيبيوس Eusbius تسجيلاً لقائمة الملوك التي وضعها " برعوثا " (5) : لقد حدد " برعوثا " المدة التي شغلتها العصور الزمنية بدءا من الطوفان الكبير وانتهاء بوفاة الاسكندر بـ 36000 سنة ، والمدة التي سبقت عصر " الطوفان " بـ 432000 سنة . فإذا كان هذا العالم الكاهن قد عنى بالدهور التي سبقت " عصر الطوفان " العصور الحجرية ، فيكون تحديده لها قد جاء قريباً من تقديراتنا الحالية للمدة الزمنية التي استغرقتها العصور الحجرية وهي نصف مليون عام ، ان هذا يؤكد بلاشك الدقة التي اتصفت بها دراسات هذا العالم البابلي (6) .
وفي الروايات التوراتية التي يفترض ان احداثها تعود الى ما بعد بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد نجد في سياقها تناقضات وتشويشا ظاهرا في ربطها الأحداث بعضها ببعض . فمثلاً عندما يتحدث كتاب التوراة حول اسحق يذكرون الفلسطينيين ايضا ، علما ان هؤلاء لم يعرفوا في ارض كنعان الا بعد بداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد . ولابد ان اسحق عاش قبل ذلك بعدة قرون من الزمن ، وذلك في حالة اقترضنا جدلا انه كان شخصية حقيقية على مسرح التاريخ .
______________________
(1) Meyer, W. Nachrichten Göttingen Gesellschaft, 1893.
انظر توفيق سليمان: نقد النظرية السامية، 1982م، دار دمشق للطباعة والنشر – دمشق.
(2) Herodot, II 150.
(3) Herodot, I, 7.
(4)Atenaeos, XIV 639 c.
(5) Schnabel, Die babylonische Chronologie des Berossos, Mittellungen der Vorderaslatischen Gasellschft, 1908.
(6) يعتبر البعض – وخاصة المؤرخون الصهاينة – نصوص التوراة كأحد المراجع المهمة في أبحاثهم الخاصة في تاريخ وآثار مناطق غرب آسية القديمة. غير ان معظم نتائج أعمال التنقيب عن الآثار في ربوع هذه المناطق اكد على وجوب الحذر الشديد في اعتماد هذه النصوص كمرجع " تاريخي " علمي . وفي هذا الصدد يجب ان نتذكر ان نصوص التوراة الأصلية لم تصلنا بصيغها الاولى الحقيقة ، لأنها حرفت لأغراض سياسية ولدوافع دينية – صهيونية (راجع ص 90 وما بعدها) . ولذلك لا يجوز ان نعتمد هذه النصوص الا في بحثنا للتطور الفكري والسياسي لليهود الصهاينة . الذين تبنوا تراث المنطقة العربية قبل الميلاد ، علما ان هذا التراث هو تراث العرب انفسهم . كما لم يتم وضع هذه النصوص الا خلال عصور متأخرة جدا من تاريخ غرب آسية القديم ، وذلك بعد ان تناقلت الأجيال بعضها على مر قرون زمنية عديدة . واذا كانت اعمال التنقيب عن الآثار قد اكدت صحة بعضها ، فإن ذلك لا يشجعنا على الأخذ علميا بغير المؤكد منها . ومع ذلك صدرت كتب وابحاث كثيرة في علم اثار ولغات غرب آسية القديمة حاول اصحابها ان يبرهنوا فيها على صحة ما ورد في نصوص التوراة من روايات " تاريخية أ " . ولكنهم ظلوا يدورون في حلقات مفرغة من الظنون والتخمينات بسبب عجزهم عن ايجاد اثر مادي واحد او وثيقة مدونة تؤكد صحة تخمينهم او صدق ظنهم (راجع بهذا الخصوص ايضا الدراسة الثانية عشرة من هذا الكتاب ) . - انظر ايضاً بهذا الخصوص ، توفيق سليمان : " نقد النظرية السامية " 1982 م ، دار دمشق للطباعة والنشر – دمشق .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|