المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8222 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
وظـائـف اتـجاهـات المـستهـلك
2024-11-28
كيفيّة محاسبة النّفس واستنطاقها
2024-11-28
المحاسبة
2024-11-28
الحديث الموثّق
2024-11-28
الفرعون رعمسيس الثامن
2024-11-28
رعمسيس السابع
2024-11-28

محطات تاريخية في استعمال النباتات الطبية
سيرة المختار أبن أبي عبيد الله الثقفي.
2023-03-23
Graphic Sequence
24-4-2022
كيفية تحسين مستوى عملية تقييم الأداء في المنظمة
11-6-2021
Corrado Gini
18-5-2017
مِلاك الحمل
14-9-2016


تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري  
  
1115   09:14 صباحاً   التاريخ: 26-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 1 ص 375-395.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث العقلية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2016 1771
التاريخ: 3-8-2016 3248
التاريخ: 25-8-2016 708
التاريخ: 25-8-2016 683

...عرّف الأصحاب الواجب النفسي بأنّه عبارة عن ما أمر به لنفسه، والغيري بأنّه عبارة عن ما أمر به لغيره.

وهيهنا إشكال معروف وهو أنّ هذا التعريف يوجب كون جلّ الواجبات غيريّة لأنّها إنّما وجبت لغيرها وهو المصالح التي تترتّب عليها، فينحصر الواجب النفسي في مثل معرفة الله تعالى حيث إنّها مطلوبة لذاتها.

ولعلّ هذا أوجب عدول المحقّق الخراساني(رحمه الله) من التعريف المشهور إلى قوله في الكفاية: «فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري وإلاّ فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة بالله أو محبوبيته بما له من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليات».

ولكنّه أورد عليه أخيراً بما حاصله: أنّ أكثر الواجبات النفسيّة التي أمر بها لأجل ما فيها من الخواصّ والفوائد على هذا تكون واجبات غيريّة، فإنّ تلك الفوائد لو لم تكن لازمة واجبة

لما دعت المولى إلى إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذ على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

ثمّ ذكر في مقام دفع هذا الإيراد وتصحيح التعريف ما حاصله: إنّ الخواص والفوائد المترتّبة على أكثر الواجبات النفسيّة وإن كانت لازمة قطعاً ولكنّها حيث كانت خارجة عن تحت قدرة المكلّف لم يصحّ تعلّق التكليف بها لتكون واجبة وينطبق على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

وأجاب عنه: بأنّ الفوائد وإن كانت بنفسها خارجة عن تحت القدرة ولكنّها مقدورة للمكلّف بالواسطة، وهي تكفي في صحّة تعلّق التكليف بها فإنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب، ولذا قد يؤمر بالتطهير والتمليك والطلاق إلى غير ذلك من المسبّبات التي هي خارجة بنفسها عن تحت القدرة.

ثمّ صحّحه بطريق آخر وحاصله: أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ولم يؤمر به إلاّ لحسنه الكذائي وإن كان مقدّمة لواجب آخر، أي لما يترتّب عليه من الخواصّ والفوائد اللازمة الواجبة، والواجب الغيري ما أمر به لأجل واجب آخر وإن كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه كما في الطهارات الثلاثة (انتهى).

واستشكل عليه المحقّق النائيني (رحمه الله): بأنّ «حسن الأفعال المقتضى لإيجابها إن كان ناشئاً من كونها مقدّمة لما يترتّب عليها من المصالح فإشكال لزوم كون جلّ الواجبات واجبات غيريّة قد بقي على حاله، وإن كان الحسن ثابتاً لها في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن ما يترتّب عليها من المصالح فلازمه أن لا يكون الوجوب المتعلّق بها متمحّضاً في النفسيّة ولا في الغيريّة لثبوت ملاكهما حينئذ كما في أفعال الحجّ فإنّ المتقدّم منها واجب لنفسه ومقدّمة للمتأخّر فلا يكون وقع للتقسيم حينئذ أصلا»(1).

ثمّ أجاب المحقّق المذكور عن أصل الإشكال بأنّ «الأفعال بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات التي يتوسّط بينها وبين المعلول اُمور غير اختياريّة، فلا يمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة بها، فكذلك التشريعيّة لما بيّنا من الملازمة بينهما إمكاناً وامتناعاً، فهي من قبيل الدواعي لتعلّق الإرادة بالأفعال لا أنّها بأنفسها تحت التكليف حتّى يكون الأمر المتعلّق بالأفعال مترشّحاً من الأمر المتعلّق بها، وما قيل من أنّها مقدورة بالواسطة ولا فرق في القدرة بين أن تكون بلا واسطة وأن تكون بالواسطة قد عرفت ما فيه من أنّه إنّما يتمّ في الأفعال التوليديّة لا في العلل المعدّة»(2).

أقول: يمكن النقاش في جميع ما ذكر، أمّا ما ذكره المحقّق الخراساني(رحمه الله)بعنوان الحلّ النهائي للإشكال من أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه، ففيه: أنّه لا تتصوّر عبادة يكون لها حسن ذاتي مع قطع النظر عن المصالح التي تترتّب عليها بعد تعلّق الأمر بها التي هي عبارة عمّا ورد في قوله(عليه السلام): «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصّلاة تنزيهاً عن الكبر والصّيام ابتلاءً لإخلاص الخلق والحجّ تقوية للدين والجهاد عزّاً للإسلام»(3) وغير ذلك من نظائره، حتّى في مثل السجود والركوع حيث إنّا لا نعقل لحسنهما معنىً غير ما يترتّب عليهما من المصالح من تربية النفوس والقرب إلى الله، نعم أنّه يتصوّر في مثل معرفة الله وغيرها من أشباهها.

وبهذا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في المحاضرات حيث إنّه سلّم وجود حسن ذاتي في مثل السجود والركوع مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من أنّ أفعال الواجبات بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات لا الأسباب.

ففيه: أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات، حيث إنّ ظاهرها أنّ الصّلاة مثلا بنفسها مع جميع اجزائها وشرائطها علّة للتنزيه عن الكبر أو للنهي عن الفحشاء والمنكر، وهكذا الصّوم بالنسبة إلى الاخلاص، والجهاد بالنسبة إلى العزّة، والحجّ بالنسبة إلى تقوية الدين، ولا أقلّ من أنّها مقتضية تؤثّر أثرها مع اجتماع شرائطه لا أنّها معدّات لإفاضة تلك المصالح من جانب الله تعالى.

فالأولى في الجواب أن يقال: إنّ المصالح التي تترتّب على الأفعال اُمور خارجة عن دائرة علم المكلّفين بتفاصيلها، وبالتبع خارجة عن دائرة قدرتهم بل أنّها معلومة للمولى وتكون دواعي لأوامره، وحينئذ لا يعقل تكليف العباد بتحصيلها ولا محالة تكون فوق دائرة الأمر لا تحته.

ويشهد لما ذكرنا اُمور:

الأمر الأوّل: ما اُشير إليه من أنّ العبد غالباً يكون جاهلا بتفاصيل المصالح التي تترتّب على الأحكام، فهو يعلم إجمالا بوجود رابطة بين الصّلاة مثلا والنهي عن الفحشاء وإنّ الصّيام جنّة من النار، وأمّا الجزئيات والخصوصيّات فهي مجهولة له بل قد لا يعلم بعض المصالح لا تفصيلا ولا إجمالا كجعل صلاة الصبح ركعتين، هذا مضافاً إلى كون المصلحة في كثير من مواردها ليست دائمية وبمنزلة العلّة بل بصورة الأغلبية وبمثابة الحكمة كعدم اختلاط المياه في وجوب الأخذ بالعدّة.

الأمر الثاني: أنّ المصلحة قد تكون في نفس الأمر والإنشاء ولا مصلحة في متعلّقه كما في الأوامر الامتحانيّة في الشرع ونظير الأوامر التي تصدر من جانب الموالي العرفيّة أو الاُمراء عند نصبهم لمجرّد تثبيت المولويّة أو الأمارة.

الأمر الثالث: أنّ المصلحة قد لا تترتّب على فعل مكلّف خاصّ حتّى يؤمر بتحصيلها بل أنّها تترتّب على أفعال جماعة من المكلّفين بل قد تترتّب على أفعال أجيال منهم نظير أمر الإمام(عليه السلام) في تلك الرّواية المعروفة بكتابة الأحاديث للأجيال القادمة في غيبة الإمام (عليه السلام)، فإنّ المصلحة التي تترتّب على هذا الأمر تظهر بعد مضيّ مدّة طويلة من الزمان، نسلاً بعد نسل، وجماعة بعد جماعة.

نعم مع ذلك كلّه قد يبيّن المولى شيئاً من المصالح لمجرّد تشويق العباد وإيجاد الرغبة والداعي فيهم إلى إتيان التكاليف نظير قوله تعالى «إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» ونظير جميع الرّوايات التي وردت في باب علل الشرائع.

إن قلت: إن لم تكن المصالح داخلة في دائرة الحكم الشرعي للمكلّف فكيف يقال بوجوب حفظ الغرض في كلماتهم كما مرّ كراراً في الأبحاث السابقة؟

قلنا: المراد من الغرض الواجب تحصيله في هذا التعبير إنّما هو نفس المأمور به قبل تعلّق الأمر به أو شبه ذلك لا الآثار والمصالح المترتّبة عليه، فالغرض من الحجّ مثلا (الذي تمسّكنا في إثبات وجوب مقدّماته المفوتة فيه من قبيل تهيئة الزاد والراحلة بوجوب حفظ الغرض) إنّما هو نفس مناسك الحجّ التي لا يرضى الشارع بتركها لا ما يتربّ عليها من المصالح.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تعريف المشهور للواجب النفسي والغيري ممّا لا غبار عليه، وإنّ ما اُورد عليه من الإشكال المعروف ليس بوارد، فالواجب النفسي هو ما أمر به لنفسه، والغيري ما أمر به للوصول إلى واجب آخر.

ثمّ إنّه إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري كما إذا شكّ في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي مطلوب لنفسه أو أنّه واجب لأجل واجب آخر كالصّلاة والصّيام؟ فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

وقد مرّ إجمال البحث عنه في الفصل الخامس من مبحث الأوامر، وقلنا هناك أنّ موضعه الأصلي هو البحث في تقسيمات الواجب:

فنقول: أمّا الأصل اللّفظي فقد ذهب المحقّق الخراساني(رحمه الله) إلى أنّ مقتضى إطلاق صيغة الأمر كون الواجب نفسياً لا غيريّاً، لأنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم في مقام البيان.

وقد أورد عليه أوّلا: إنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب فإنّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبيّة إلاّ بواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها عليه لا بواسطة مفهومها، ومن المعلوم أنّ الفرد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يعقل فيه التقييد والإطلاق، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيريّاً(4).

ولكن اُجيب عنه: إنّ مفاد الهيئة ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب لأنّ الطلب الحقيقي من الصفات الخارجيّة كالشجاعة والجود ونحوهما لا الاُمور الاعتباريّة كالزوجيّة والملكيّة وغيرهما ممّا يقبل الإنشاء بالصيغة (نعم إنّ منشأ الطلب الإنشائي ربّما يكون هو الطلب الحقيقي) ومن المعلوم أنّ مفهوم الطلب الإنشائي ممّا يقبل التقييد والإطلاق، فقد وقع الخلط بين المفهوم والمصداق.

أقول: يرد عليه ما مرّ في اتّحاد الإرادة والطلب من أنّ الطلب ليس قائماً بالنفس بل القائم بها هو الإرادة وهي غير الطلب، وأمّا الطلب فالحقيقي منه عبارة عن التصدّي الخارجي نحو المطلوب، والإنشائي منه إنّما هو بعث الغير واغرائه إلى المطلوب ولا إشكال في أنّ البعث إيجاد والإيجاد أمر جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق والتقييد.

والأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال: إنّ الجزئي وإن استحال تقييده بعد تحقّقه في الخارج إلاّ أنّه لا ريب في إمكان تقييده وتضييقه قبل الإيجاد من باب «ضيق فم الركّية».

وأورد على التمسّك بالإطلاق ثانياً: بأنّ «المعاني الحرفيّة وإن كانت كلّية إلاّ أنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها أعني المعاني الاسمية لكونها قد اتخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه؟ لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولا عنه بخصوصه وهذا خلف»(5).

والجواب عنه واضح وذلك لما مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة من أنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الذهني والخارجي، وهو لا يلازم كونها مغفولا عنها بل أنّها قد تصير ملحوظة وملتفتاً إليها بتمام اللحاظ والتوجّه، نظير ما نقل عن المحقّق نصير الدين الطوسي(رحمه الله) حيثما حضر في محضر درس المحقّق(رحمه الله) صاحب الشرائع وأفتى المحقّق باستحباب التياسر في القبلة لأهل العراق فسأله المحقّق الطوسي(رحمه الله): التياسر من القبلة أو إلى القبلة؟ فأجاب المحقّق(رحمه الله) بقوله: «من القبلة إلى القبلة»، فلا مانع من إطلاق المعنى الحرفي وتقييده من هذه الناحية أيضاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي، فقد تحصّل أنّ التمسّك بالإطلاق تامّ.

أمّا الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق فيتصوّر له ثلاث صور:

الصورة الاُولى: ما إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة قبل مجيء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له، كما إذا شككنا قبل الظهر في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي أو غيري للصّلاة، فلا إشكال في أنّ الأصل في هذه الصورة إنّما هو البراءة، فإنّه إن كان غيريّاً لم يجب الإتيان به لعدم وجوب ذي المقدّمة فعلا.

الصورة الثانيّة: ما إذا شككنا فيها بعد مجيء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له وبعد فعليّة وجوبه، فالأصل فيه أيضاً هو البراءة عن وجوب إتيانه قبل إتيان ذي المقدّمة، لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب إتيانه قبل ذي المقدّمة، أي يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة، أعني شرطيّة الغسل للصّلاة مثلا، والأصل فيه هو البراءة، نعم يجب الإتيان بهذا الواجب على كلّ حال للعلم بوجوبه حينئذ، إمّا لنفسه أو لغيره.

الصورة الثالثة: ما إذا جاء وقت ما يحتمل كونه ذا المقدّمة ومضي وقته كما إذا صارت المرأة حائضاً بعد دخول وقت الصّلاة بعد أن كانت جنباً، فلا نعلم أنّ غسل الجنابة واجب غيري حتّى يظهر سقوط وجوبه بسقوط وجوب الصّلاة أو أنّه واجب نفسي حتّى يكون باقياً على وجوبه؟

لا إشكال في أنّ الأصل هو الاستصحاب حيث إنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في سقوط وجوب ثبت من قبل، والأصل بقاؤه (بناءً على قول القائلين بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية).

بقي هنا اُمور:

الأمر الأوّل: هل أنّ هنا واجباً آخراً:

ما أفاده بعض الأعلام من أنّه «قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيريّاً، وذلك كالمقدّمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلا لصوم غد، وركوب الدابّة ونحوه للإتيان بالحجّ في وقته بناءً على استحالة الواجب التعليقي.

أمّا أنّه ليس بواجب غيري فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولا لوجوب واجب نفسي ومترشّح منه، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه، وأمّا أنّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه وإنّما يستحقّ العقاب على ترك ذي المقدّمة»(6).

أقول: الحقّ ـ كما أفاد هذا العلم في دفع هذا التوهّم ـ عدم وجود قسم ثالث للواجب لأنّه يمكن أن تكون الموارد المزبورة من مصاديق الواجب الغيري لما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة لا ينشأ ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة كترشّح المعلول من علّته حتّى لا يعقل وجوبها قبل إيجابه، بل العلّة لوجوبها إنّما هي إرادة المولى، وأمّا وجوب ذي المقدّمة فهو مجرّد داع لارادته، ومن المعلوم أنّ الداعي للإرادة كما يمكن أن يكون أمراً حالياً كذلك يمكن أن يكون أمراً استقبالياً، هذا ـ وقد مرّ أنّ هذا هو أحد طرق حلّ الإشكال في المسألة، وقد ذكرنا هناك طرقاً اُخر لحلّها، منها كون وجوب المقدّمة قبل إيجاب ذيها من باب وجوب حفظ غرض المولى وقد مرّ تفصيلها في البحث عن الواجب المعلّق فراجع.

الأمر الثاني: في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه:

والتحقيق في المسألة وتنقيح المقال فيها يحتاج إلى رسم مقدّمة قبل الورود في أصل البحث، وهي أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق، أو التفضّل؟

اختلفت فيه كلمات الفقهاء والمتكلّمين، والمشهور والمعروف أنّه من باب الاستحقاق، ولكن حكي عن الشّيخ المفيد (رحمه الله) وجماعة أنّه من باب التفضّل من الله سبحانه، ولا إشكال في أنّ الظاهر من آيات الكتاب هو الأوّل حيث تعبّر عن الثواب بالأجر في عدد كثير منها(7)وأكثرها مربوطة بمسألة الجزاء في يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ كلمة «الأجر» ظاهرة عند العرف في الاستحقاق لا التفضّل فلا يعبّر عرفاً عن الضيافة والاطعام تطوّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى مثلا بأجر الضيوف كما لا يخفى، كما أنّ ظاهر المقابلة بكلمة الباء في مثل قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] أيضاً هو الاستحقاق، بل وقوع المقابلة بين الأجر والفضل في مثل قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [فاطر: 30] ظاهر في هذا المعنى أيضاً فإنّ الأجر والفضل إذا اجتمعا افترقا.

هذا ـ ولكن الإنصاف أنّ الاستحقاق هنا ليس من قبيل استحقاق العامل الأجير لأجرة عمله، فإنّ المكلّفين هم العبيد والله تعالى هو المولى، ومن المعلوم أنّه يجب على العبيد اطاعة مواليهم لحقّ المولويّة والطاعة، فإنّ العبد بجميع شؤونه وأمواله ملك للمولى، فلا اختيار له في مقابله حتّى يطلب منه شيئاً بإزاء عمله بل أن الوجود كلّه هو من ساحته ويفاض على الموجودات آنفاً فآناً.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ التكاليف الشرعيّة الصادرة من جانب المولى الحقيقي مشتملة على مصالح ترجع إلى العباد أنفسهم، فهي بحسب الحقيقة منّة من جانبه تعالى عليهم فكيف يستحقّون بإطاعاتهم وامتثالهم الأجر والاُجرة؟ وكيف يستحقّ المريض أجراً من الطبيب بإزاء عمله بأوامر الطبيب؟ (ولعلّ هذا هو مراد المفيد (رحمه الله) وأمثاله حيث ذهبوا إلى أنّه من باب التفضّل لا الاستحقاق) بل الاستحقاق هنا بمعنى اللياقة لقبول التفضّل من جانب الباري تعالى، أي أنّ من كان مطيعاً كان إنساناً كاملا، والإنسان الكامل يليق بإنعام الله تعالى وتفضّله عليه بمقتضى حكمة الباري فإنّ التسوية بين المطيع والعاصي والمؤمن والفاسق مخالف للحكمة.

وبعبارة اُخرى: الاستحقاق للأجرة والاستعداد لها (بحيث يعدّ عدم اعطائها ظلماً) شيء، واللياقة للتفضّل شيء آخر، والاستحقاق في ما نحن فيه بالمعنى الثاني لا الأوّل، فلا يعدّ ترك الثواب حينئذ من مصاديق الظلم، نعم أنّه ينافي حكمه الباري الحكيم لأنّ لازمه التسوية بين المطيع والعاصي.

وبهذا يظهر أنّ الاستحقاق في المقام لا ينافي التفضّل بل أنّه بحسب الحقيقة من مصاديقه.

نعم، قد يجتمع مع تفضّل أكثر يعبّر عنه في لسان الآيات بالفضل كما يعبرّ عن الأوّل بالأجر، ويدلّ عليه قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30] (وقد مرّ آنفاً) واختلاف التعبير ناظر إلى اختلاف مراتب الفضل فحسب، فالتعبير بالأجر مخصوص بمرتبة من التفضّل يعطى على أساس الكسب والعمل ولياقة اكتسبها العبد بالطاعة وترك المعصية، والتعبير بالفضل مختصّ بمرتبة اُخرى وليس على أساس العمل مباشرة.

ومع ذلك كلّه فالأصل في كلّ واحد منهما إنّما هو رحمة الربّ لا سعي العبد فلا يكون مقدارهما بمقدار العمل، «وما قدر أعمالنا في جنب كرمك، وكيف نستكثر أعمالا نقابل بها كرمك»(8).

نعم أنّه مع حفظ النسبة بين أعمال العباد أنفسهم.

وما ذكرنا في المقام هو أحد طرق الجمع بين ما ورد في باب ثواب الأعمال التي يكون بعضها معارضاً بحسب الظاهر مع بعض آخر في تعيين مقدار الثواب حيث يكون الدالّ على الثواب الأكثر مشيراً إلى مرتبة الأجر والفضل معاً ويكون الدالّ على الأقلّ مشيراً إلى خصوص مرتبة الأجر فقط، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثالث: كيفية الثواب والعقاب الأخرويين:

حكي في تهذيب الاُصول آراء ثلاثة في كيفية الثواب والعقاب الاُخرويين:

أحدها: أنّهما من لوازم الأعمال بمعنى أنّ الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة في الدنيا تورث استعداداً للنفس حقيقة، به يقتدر على إنشاء صور غيبية بهيئة من الحور والقصور وكذا في جانب الأعمال السيّئة.

ثانيها: الأخذ بظواهر الآيات والأخبار وهي أنّهما من المجعولات كالجزاءات العرفيّة في الحكومات والسياسيات.

ثالثها: أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق وإنّ العبد يستحقّ من عند ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصى، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلا في الطاعة وأمّا جزاء السيّئة فيجوز له العفو.

ثمّ أخذ في تحليل هذه الآراء وقال: «إنّ ترتّب الثواب والعقاب على المسلك الأوّل أمر مستور لنا، إذ لا نعلم أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لإنشاء الصور الغيبية وإيجادها، وعلى فرض العلم بصحّته إجمالا فالعلم بخصوصّياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية ممّا لا يمكن لأمثالنا، نعم لا شبهة أنّ لإتيان الأعمال الصالحة لأجل الله تعالى تأثيراً في صفاء النفس وتحكيماً لملكة الانقياد والطاعة ولها بحسب مراتب النيّات وخلوصها تأثيرات في العوالم الغيبية».

وقال في شرح المسلك الثاني بعد أن اعترف بأنّه ظاهر قوله تعالى { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الأنعام: 160] إلى غير ذلك، وأنّه هو المرضي عند المحقّق النهاوندي(رحمه الله) على ما حكي عنه ـ ما نصّه: «لا شكّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبيح لاستلزامه الكذب لو اُخبر عنه مع علمه بالتخلّف كما في المقام أو لاستلزامه التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه، وامتناعهما عليه تعالى واضح جدّاً»، (ومقصوده أنّ ترتّب الثواب ليس من باب الاستحقاق بحيث يلزم من عدمه الظلم بل أنّه من باب العمل بالوعد والعهد ومن باب أنّ عدمه يلزم الكذب والتخلّف عن الوعد).

وأمّا المسلك الثالث فقال «أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لأنّ من عرف مقام ربّه من الغنى والعظمة ومقام نفسه من الفقر والفاقة يعرف نقصان ذاته وإنّ كلّ ما ملكه من أعضاء وجوارح ونعم كلّها منه تعالى لا يستحقّ شيئاً إذا صرفه في طريق عبوديته»(9).

أقول: أمّا القول الأوّل: فمضافاً إلى ما أورده عليه (من أنّه أمر مستور لنا) يرد عليه أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات حيث إنّ ظاهرها أنّ الجنّة والنار خلقا من قبل كقوله تعالى: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] فإنّ كلمة «اُعدت» ظاهرة أو صريحة في أنّهما مخلوقان في الحال.

نعم هناك أمر يسمّى بتجسّم الأعمال وهو يستفاد من غير واحد من الآيات والرّوايات نظير ما ورد في باب الأعمال من أنّها تظهر للإنسان على أحسن صورة فيسأل عنها ما أنت؟ فتجيب بأنّي صلاتك أو صومك، ولكن هذا شيء آخر غير ما ذكر لأنّ تبدّل العمل بصورة تناسبه شيء، وخلق النفس صوراً غيبية بهيئة من الحور والقصور شيء آخر، فتدبّر جيّداً.

وأمّا القول الثاني: فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا غبار عليه وأنّه موافق لظواهر الآيات والرّوايات، فللثواب والعقاب مصداقان، أحدهما ما اُعدّ للعباد قبل العمل، والثاني ما ينشأ من ناحية العمل ويتجسّم العمل فيه.

وأمّا القول الثالث: فإن كان المراد من الاستحقاق نظير استحقاق العامل الأجير للاُجرة، فالحقّ ما أورده عليه من أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لنفس ما ذكره، وإن كان المراد منه ما مرّ بيانه من اللياقة للمطيع وعدم المساواة بينه وبين العاصي فلا بأس به كما مرّ.

 

هذا كلّه في أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق أو التفضّل، فلنرجع إلى أصل المسألة وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه.

فنقول: فيه وجوه أو أقوال:

1 ـ عدم ترتّب الثواب مطلقاً، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية.

2 ـ ترتّب الثواب مطلقاً، ولم نجد له قائلا.

3 ـ الفرق بين ما تعلّق به الأمر الأصلي وما تعلّق به الأمر التبعي، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني.

4 ـ ما ذهب إليه في تهذيب الاُصول من أنّه يختلف باختلاف المباني الثلاثة المذكورة آنفاً في كيفية ترتّب الثواب والعقاب الاُخرويين، فعلى المبنى الأوّل لا فرق بين الواجبات النفسيّة والواجبات الغيريّة فكما أنّ الإتيان بالواجبات النفسيّة يوجب استعداد النفس لإنشاء صور غيبية كذلك الإتيان بالواجبات الغيريّة، لكن قد عرفت الإشكال في أصل المبنى وتصوّره في مقام الثبوت، وعلى المبنى الثاني فلا فرق أيضاً بين القسمين من الواجبات حيث إنّه كما يجوز الجعل على أصل العمل يجوز الجعل على المقدّمات أيضاً (من دون الالتزام بكونها عبادة برأسها) كما يظهر من عدّة من الأخبار نظير ما ورد في باب زيارة الإمام الطاهر أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) من ترتّب الثواب على كلّ خطوة.

وعلى المبنى الثالث ـ على فرض صحّته ـ المبنى فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، لأنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيريّة، لأنّها بمعزل من الباعثية لأنّ المكلّف حين إتيان المقدّمات لو كان قاصداً لامتثال الأمر النفسي فالداعي حقيقة هو ذاك الأمر دون الغيري، وإن كان راغباً عنه معرضاً فلا معنى لإتيان المقدّمات لأجل ذيها(10).

5 ـ التفصيل بين ما إذا أتى بالمقدّمات بشرط قصد التوصّل به إلى الواجب النفسي، وما إذا أتى بها لا بهذا القصد، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، ذهب إلى هذا التفصيل المحقّق النائيني(رحمه الله) وتلميذه المحقّق في المحاضرات، والفرق بينهما أنّ المحقّق النائيني(رحمه الله)ذهب إلى أنّ الثواب المترتّب على المقدّمة نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة وليس ثواباً مستقلا، غاية الأمر أنّ الآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصّل إلى الواجب النفسي فهو شارع في الإطاعة من حين الشروع بالمقدّمة ويزيد الثواب حينئذ(11)، ولكن قال في المحاضرات أنّه ثواب مستقلّ فيستحقّ العبد على الإتيان بالمقدّمة وذيها ثوابين إذا قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى الواجب النفسي(12).

أقول: الحقّ في المسألة وجه آخر، وهو ترتّب الثواب على المقدّمة بشرط قصد التوصّل بها إلى ذيها مضافاً إلى اشتراط الوصول الفعلي إلى ذي المقدّمة لولا المانع، أي يترتّب الثواب على خصوص المقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها بل يترتّب الثواب أيضاً حتّى لو لم يصل إلى ذي المقدّمة ولكن لحدوث مانع غير اختياري.

أمّا أصل ترتّب الثواب على المقدّمة في مقابل من ينكره على الإطلاق فلما اخترناه في الواجب النفسي في مقدّمة هذا البحث من أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه إنّما هو بمعنى لياقة يكتسبها العبد بطاعته وتقرّبه، وإنّ حكمة المولى الحكيم تقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي فإنّه لا إشكال في أنّ هذه اللياقة وهذا التقرّب يحصل وجداناً أيضاً لمن أتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة حيث إنّ العبد بإتيانه المقدّمات يتقرّب إلى الواجب، والوجدان حاكم بأنّ المتقرّب إلى ما أوجبه الله تعالى متقرّب إلى الله نفسه.

ويؤيّد هذا بل يدلّ عليه ما ورد من الآيات والرّوايات التي تؤكّد جدّاً على ترتّب الثواب على بعض المقدّمات، نظير قوله تعالى بالنسبة إلى مقدّمات الجهاد في سبيل الله بل ومقارناته: { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة: 120، 121]ونظير ما وردت من الرّوايات الكثيرة بالنسبة إلى زيارة قبر الإمام أبي عبدالله (عليه السلام)، وبالنسبة إلى الذهاب إلى المسجد وترتّب الثواب على كلّ خطوة، وهكذا ما ورد بالنسبة إلى مقدّمات تحصيل العلم.

وأمّا ترتّبه على خصوص ما إذا قصد بإتيان المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة فلأنّ الأعمال بالنيّات، والتقرّب المزبور إنّما يحصل فيما إذا قصد بالمقدّمة امتثال تكليف إلهي والوصول إلى واجبه.

وأمّا ترتّبه على خصوص المقدّمة الموصلة بالوصول الفعلي عند عدم المانع فلأنّه لو شرع بالمقدّمات ثمّ انصرف عنها من دون عذر لم يحصل له التقرّب المزبور كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قد يقال «من أنّ الثواب عند العرف والعقلاء لا يترتّب على المقدّمة بل هو إنّما يترتّب على خصوص ذي المقدّمة فإنّهم لا يعطون اُجرة على ما يتحمّله

الأجير للبناء مثلا من مقدّمات الوصول إلى ذي المقدّمة كطيّ مسافة من بلدة إلى بلدة»، في غير محلّه، حيث إنّا قلنا أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه ليس من قبيل الاُجرة للأجير بل هو بمعنى اللياقة والاستعداد لفضل الله تعالى، والمعيار فيه إنّما هو القرب الذي يحصل للعبد وهو حاصل في الإتيان بالمقدّمات أيضاً.

كما يظهر أنّ المترتّب على المقدّمة ثواب مستقلّ وليس هو نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة كما ذهب إليه المحقّق النائيني(رحمه الله).

واستدلّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) لعدم ترتّب الثواب مطلقاً بحكم العقل، بمعنى أنّه إذا أتى بالواجبات بما لها من المقدّمات لم يستقلّ العقل إلاّ باستحقاق ثواب واحد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا الجواب عنه أيضاً، لأنّه إن كان مراده ما إذا لم يقصد من المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة، فالحقّ ما ذهب إليه من حكم العقل بعدم ترتّب ثواب مطلقاً، وأمّا إن كان مراده ما إذا قصد بالمقدّمة الوصول إلى ذيها فالإنصاف أنّ ضرورة العقل على عكس ما ذكر،

فإنّه حكم بترتّب الثواب على إتيان المقدّمة أيضاً، لما يحصل منه من اللياقة والتقرّب كما مرّ.

هذا ـ مضافاً إلى أنّ لازم كلامه رفع اليد عن ظواهر الآيات والرّوايات (وحملها على بعض المحامل كما أنّ المحقّق الخراساني(رحمه الله) حملها على توزيع ثواب ذي المقدّمة على المقدّمة وأنّ المقدّمات مهما كثرت إزداد ثواب ذي المقدّمة لصيرورته حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها وأحمزها) مع أنّه تكلّف واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال سائر الأقوال في المسألة وجوابها.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إنّ الثواب كما يترتّب على المقدّمات يترتّب على لوازم المقدّمات أيضاً، فكما يترتّب الثواب على تهيئة الزاد والراحلة وطيّ الطريق في مثال الحجّ، كذلك يترتّب على تحمّل الأذى والتعب في هذا الطريق أو المرض الذي يعرضه فيه، ويدلّ عليه ملاحظة العناوين الواردة في الآية المزبورة حيث إنّ أكثر هذه العناوين وهي «الظمأ» و «النصب» و «المخمصة» وما ينالونه من العدوّ من المصائب البدنيّة أو الماليّة أو العرضيّة، وهكذا قطع الوادي حين الرجوع من الجهاد من ملازمات الفعل لأنفسه كما لا يخفى.

إن قلت: لازم ترتّب الثواب على فعل المقدّمة ترتّب العقاب على تركها، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلنا: بل نلتزم به فيما إذا ترك مقدّمة الواجب بقصد أن يترك ذيها، وذلك لأنّ ترك المقدّمة مع هذا القصد يوجب بُعداً عن الله تعالى وهو ملاك العقاب، مثل ما إذا منع الآخرين من بناء المساجد لكي يمنع الناس عن الصّلاة والعبادة، نعم إذا ترك مقدّمة الواجب لا بقصد ترك أمر المولى سبحانه بل لما سوّلت له نفسه وغلبه هواه (كما ورد في بيان الإمام السجّاد(عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخفّ ... ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المُرْخى عليّ) فلا يعاقب على ترك المقدّمة عقاباً مستقلا على عقاب ترك ذيها، نعم لمّا كان تركها سبباً لترك الواجب فهو تارك للواجب عالماً عامداً.

ومن هنا يعلم ترتّب العقاب على فعل مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد الإيصال إلى الحرام وقد صرّح به في بعض الرّوايات نظير ما ورد في شرب الخمر: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعن في الخمر عشرة، غارسها وحارثها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها»(13)، حيث إنّ ذا المقدّمة في باب الخمر إنّما هو شربه فقط، وأمّا سائر العناوين (غير آكل الثمن الذي يكون من اللوازم المترتّبة على بيع الخمر) فهي من المقدّمات كما لا يخفى.

اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو من باب دخول هذه العناوين تحت عنوان جامع آخر محرّم، وهو عنوان «الإعانة على الإثم»، ومن المعلوم أنّه عنوان محرّم نفسي لا مقدّمي.

ولكن الظاهر من أدلّة حرمة التعاون على الإثم كقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} أنّه عنوان يرجع إلى فعل الغير، أي المراد منه اعانة الغير على الإثم، فلا يعمّ اعانة الإنسان نفسه على الإثم، بينما هذه الرّواية تشمل من غرس الكرم بقصد أن يصنع من عنبها خمراً لنفسه أيضاً، وهذا يشهد على أنّ اللعن فيها ليس بملاك تطبيق عنوان التعاون على الإثم فقط بل يشمله وغيره، فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع : الكلام في الطهارات الثلاث : وقد اشتهر فيها الإشكال من ثلاثة جوانب :

الأوّل : أنّها تعدّ من العبادات ويترتّب عليها الثواب ، فكيف يجتمع مع القول بعدم ترتّب الثواب على المقدّمة؟

الثاني : أنّه يشترط فيها قصد التقرّب مع عدم إمكان التقرّب بالأمر الغيري المقدّمي.

الثالث : أنّ عباديّة هذه الطهارات متوقّفة على قصد أمرها الغيري مع أنّ قصد الأمر فيها أيضاً متوقّف على عباديتها ، لأنّ قصد الأمر متفرّع على تعلّق أمر بالمقدّمة بما هي مقدّمة ، والمقدّمة في المقام هي الطهارات الثلاث بوصف أنّها عبادة ، فيلزم الدور.

وقد اجيب عنها بوجوه :

الوجه الأوّل : ما هو المختار في الجواب عن الأوّل والثاني من إمكان التقرّب بالمقدّمة وترتّب الثواب عليها إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

وأمّا الإشكال الثالث ، أي إشكال الدور.

ففيه : إنّا نسلّم كون عباديّة الطهارات متوقّفة على قصد الأمر ، ولكن توقّف قصد الأمر على عباديّة الطهارات إنّما يوجب الدور فيما إذا كان المتوقّف عليه عباديتها في الرتبة السابقة على الأمر أو المقارنة معه ، مع أنّه عبارة عن اجتماع شرائط العبادة حين الامتثال ، أي إن تعلّق أمر المولى بها لا يحتاج إلى كونها عبادة حين الأمر بل إنّه يأمر بها لاجتماع شرائط العبادة فيها حين الامتثال ، وذلك نظير توقّف الأمر على قدرة المكلّف على الفعل ، فإنّه ليس معناه لزوم القدرة على الفعل حين الأمر بل تكفي قدرته حين الامتثال ، فلو كان العاجز ممّن يقدر على العمل بعد أمر المولى وحين الامتثال كان للمولى أن يأمره. ولذلك قد يقال : إنّ القدرة شرط للإمتثال لا للتكليف.

هذا كلّه بناءً على شرطيّة قصد الأمر في عباديّة العبادة ، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّها ليست منوطة بقصد الأمر فالأمر أوضح وأسهل.

الوجه الثاني : ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه ‌الله وتبعه المحقّق الخراساني رحمه ‌الله وكثير من الأعاظم ( وهو جيّد لا غبار عليه ) وحاصله : أنّ الطهارات عبادات في أنفسها مستحبّات في حدّ ذاتها ، فعباديتها لم تنشأ من ناحية الأمر حتّى يلزم الدور.

ولكن قد أورد عليه بوجوه أهمّها وجهان :

الأوّل : أنّ هذا تامّ في الوضوء وقد يقال به في الغسل أيضاً ، وأمّا التيمّم فلم يقل أحد باستحبابه النفسي.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه بعد أن لم يكن إجماع على عدم مطلوبيّة التيمّم ذاتاً يكفي في إثباتها له ما ورد في الرّوايات من « أنّ التراب أحد الطهورين » إذا انضمّ إلى ما يستفاد من إطلاقات الباب من أنّ المستحبّ إنّما هو الكون على الطهارة في نفسه.

توضيح ذلك : أنّه قد ذكرنا في محلّه في الفقه من أنّ معنى كون الوضوء مستحبّاً نفسيّاً ليس هو مطلوبيّة الغسلتان والمسحتان فيه ، بل المطلوب ذاتاً إنّما هو الكون على الطهارة الذي يترتّب على الغسلتان والمسحتان ، ويعدّ غاية للوضوء ، وأنّه هو المقدّمة والشرط للصّلاة في الحديث المعروف « لا صلاة إلاّ بطهور » ، ولا إشكال في أنّ مقتضى قوله عليه‌ السلام« إنّ التراب أحد الطهورين » أنّ وزان التيمّم هو وزان الوضوء وأنّ كلّ ما يترتّب على الوضوء يترتّب على

 

التيمّم أيضاً ، ومن الغايات المترتّبة على الوضوء هو الكون على الطهارة ، فيترتّب هو على التيمّم أيضاً ونتيجته كون التيمّم أيضاً ، مستحبّاً نفسيّاً بنفس المعنى في الوضوء.

الثاني : أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كثيراً مّا يكون مغفولاً عنه ولا سيّما للعامي ، بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه بإجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك ، ومع هذا يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بأمرها الغيري صحيحاً ، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.

واجيب عنه : بأنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيري إنّما هو لأجل أنّه لا يدعو إلاّ إلى ما هو عبادة في نفسه ، فإنّها المقدّمة والمتعلّق للأمر الغيري ، فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد في الحقيقة إتيان ما هو عبادة في نفسه إجمالاً فيكون قصد الأمر الغيري عنواناً إجمالياً ومرآتاً واقعياً لقصد ما هو العبادة في نفسه.

الوجه الثالث : أنّ اعتبار قصد القربة في الطهارات ليس لأجل أنّ الأمر المقدّمي ممّا يقتضي التعبّديّة ( أي عدم حصول الغرض منه إلاّ إذا أتى بالفعل بداعي القربة ) بل لأجل أنّ ذوات تلك الحركات الخاصّة في الوضوء والغسل والتيمّم ليست مقدّمة للصّلاة بل هي بعنوان خاصّ تكون مقدّمة لها ، وحيث لا نعلم تفصيل ذلك العنوان المأخوذ فيها فنأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري كي يكون إشارة إلى ذاك العنوان ، فإنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فإذا أتينا بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتينا بها بعنوانها الخاصّ المأخوذ فيها ، والحاصل أنّ قصد الأمر هنا إنّما هو لتحصيل العنوان القصدي لا للحصول على القربة الذي يتمكّن منها بقصد الطاعة.

ولكن يرد عليه إشكالات عديدة :

منها : أنّ لازمه كفاية تحقّق مجرّد العنوان في تحقّق الامتثال وعدم اعتبار عباديّته مع أنّ عباديّة الطهارات إجماعيّة.

وإن شئت قلت : أنّه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات الثلاث هو الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفاً أيضاً بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئاً آخر غير قربى فيقول مثلاً : إنّي آتٍ بالوضوء الواجب لأجل التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانيّة ، فيكون قصد الأمر حينئذ بنحو التوصيف كافياً

 

كالغائي كما إذا قال مثلاً : إنّي آتٍ بالوضوء لوجوبه شرعاً ، بل قصد الأمر بنحو التوصيف يكون أظهر في الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها من قصده غاية ، مع أنّه لا يكفي مثل هذا القصد قطعاً.

منها : أنّ هذا غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها كما لا يخفى.

الوجه الرابع : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌ الله وحاصله : أنّه لا وجه لحصر منشأ عباديّة الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كلّ منهما ، بل هناك منشأ ثالث وهو قصد الأمر النفسي الضمني الذي نشأ من جانب الأمر النفسي على ذي المقدّمة ، لأنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصّلاة مثلاً كما ينحلّ إلى أجزائها كذلك ينحلّ إلى شرائطها وقيودها.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك هو القول بعباديّة الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها لفرض أنّ الأمر النفسي تعلّق بالجميع على نحو واحد.

وأجاب عن ذلك بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث ( وهو رفع الحدث ) لا يحصل إلاّ إذا أتى المكلّف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط ، ولا مانع من اختلاف الشرائط من هذه الناحية بل لا مانع من اختلاف الأجزاء أيضاً بالعباديّة وعدمها في مرحلة الثبوت وإن لم يتّفق ذلك في مرحلة الإثبات ( أي أنّ أمر اعتبار قصد القربة وعدمه بيد المولى الآمر ، فله أن يلغى اعتباره حتّى عن بعض الأجزاء فضلاً عن الشرائط ) (14).

أقول : يرد عليه ما ذكرنا سابقاً من أنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاة مثلاً إنّما تعلّق بأجزائها وتقيّدها بالشرائط ، وأمّا نفس الشرائط فهي خارجة عن ذات المأمور به ، ( كما قيل : التقيّد جزء والقيد خارجي ) فلا يمكن حلّ المشكل من هذا الطريق لأنّه يعود إلى الأمر المقدّمي لا محالة.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا في هذا المجال أنّ لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث طرق ثلاثه:

أحدها قصد الأمر الغيري.

ثانيها قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

ثالثها قصد الأمر النفسي الضمني ، والطريق الأوّل بنفسه يتصوّر على صورتين :

الصورة الاولى : قصد الأمر الغيري بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

الصورة الثانيّة : قصده لتحصيل عناوين الطهارات الثلاث ، فصارت الطرق أربعة ، وقد ناقشنا في اثنين منها ووافقنا على اثنين منها :

أحدهما : قصد الأمر الغيري لما مرّ من كفايته في العباديّة.

ثانيهما : قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

نكتتان :

النكتة الاولى : أنّه قد إتّضح ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في صحّة الوضوء مثلاً إذا أتى به قبل الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي أو بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة ( أي بعض الغايات الاخر غير الصّلاة التي لم يدخل وقتها بعد ) وهكذا بداعي الأمر النفسي الضمني بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه‌ الله وإن مرّ الإشكال فيه ، وكذلك لا إشكال في الإتيان به بعد الوقت بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة أي الصّلاة.

إنّما الإشكال في جواز إتيانه بعد الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي ، فقد يتوهّم أنّ الوضوء بعد اتّصافه بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت خرج عن استحبابه النفسي لوجود المضادّة بين الأحكام الخمسة ، فلا يمكن اجتماع وصف الاستحباب والوجوب في زمان واحد.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من اجتماعهما في ما نحن فيه بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين : لأنّ الجهات في المقام متعدّدة ، فإنّ جهة الوجوب الغيري وهي المقدّميّة غير جهة الاستحباب النفسي الموجودة فيه.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ ملاك الاستحباب وهو المحبوبيّة الذاتيّة للطهارات لا يزول بعد دخول الوقت وبعد تعلّق الأمر الوجوبي الغيري بها بل هو باقٍ على حاله ، وذلك نظير أكل الفاكهة مثلاً فإنّه مطلوب في نفسه ، وهذه المطلوبيّة لا تزول بعد أمر الطبيب بأكلها بل هي باقية على حالها ، نعم أنّه يرتفع حدّها الاستحبابي أي الترخيص في الترك ، إذن فإن أتى

 

المكلّف بها بقصد هذه المحبوبيّة ولو بعد دخول الوقت حصلت العبادة بلا إشكال.

النكتة الثانيّة : إذا أتى المكلّف بالطهارات الثلاث بداعي التوصّل إلى الواجب النفسي وكان غافلاً عن محبوبيّتها النفسيّة ، ثمّ بدا له في الإتيان بذلك الواجب أو نسيه أو مضى وقته ، فهل تقع الطهارات حينئذٍ عبادة حتّى يمكن له إتيان ذلك الواجب بعد الوقت أو إتيان سائر الغايات المترتّبة على الطهارات ، أو لا؟

يختلف الجواب باختلاف المباني في المقدّمة ، فإن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة إنّما هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة ، فلا إشكال في بطلان الطهارة حينئذٍ لعدم تحقّق شرط المقدّمة وهو الإيصال ، وإن قلنا بكفاية قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة وأنّه لا يضرّ عدم الإيصال الفعلي إلى ذي المقدّمة لوجود مانع فلا إشكال أيضاً في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة عند وجود المانع ، وحينئذٍ يمكن إتيان سائر الغايات ، وهكذا إن قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة مطلقاً كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على اشتراط قصد الأمر في تحقّق العبادة.

وأمّا بناءً على عدم اعتباره وكفاية الحسن الذاتي ( وهو كون الفعل قريباً وحسناً ذاتاً ) مع الحسن الفاعلي ( أي كون الفاعل قاصداً للتقرّب به إلى الله ) كما هو الحقّ عندنا في محلّه فلا إشكال في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة ، فيصحّ الإتيان بسائر الغايات ، ومن هنا يظهر الحال فيما إذا اغتسل الجنب لصلاة الصبح ثمّ تبيّن له طلوع الشمس قبل أن يصلّي.

__________________

1. أجود التقريرات: ج1، ص167.

2. أجود التقريرات: ج1، ص167.

3. نهج البلاغة: ح252.

4. مطارح الأنظار: ص67، الهداية: 11 من وجوب مقدّمة الواجب.

5. حكاه في بدائع الأفكار: ج1، ص373.

6. المحاضرات: ج2، ص387.

7. قد تكرّرت مادّة الأجر في القرآن الكريم أربعين مرّة بصيغة «أجر» و «أجرٌ» وسبع وعشرين مرّة بصيغة «أجراً» وأكثرها واردة في أمر القيامة.1. راجع تهذيب الاُصول: ص195 ـ 196، طبع مهر.

8. من دعاء أبي حمزة الثمالي.

9. تهذيب الاُصول: ج1، ص194 ـ 195، طبع مهر.

10. راجع تهذيب الاُصول: ص195 ـ 196، طبع مهر.

11. أجود التقريرات: ج1، ص174.

12. المحاضرات: ج2، ص397.

13. وسائل الشيعة: ج12، الباب 55، من أبواب كتاب التجارة، ح4، وهناك روايات اُخر بهذا المعنى في نفس الباب.

14. أجود التقريرات : ج 1 ، ص 175 ـ 176.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.