أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-8-2016
1104
التاريخ: 26-8-2016
1862
التاريخ: 26-8-2016
3773
التاريخ: 26-8-2016
1180
|
تحرير محل النزاع: واختلف الأصوليون من القديم في إنه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا يجوز؟ ذهب إلى الجواز أغلب الأشاعرة وجملة من أصحابنا أولهم الفضل أبن شاذان على ما هو المعروف عنه، وعليه جماعة من محققي المتأخرين، وذهب إلى الامتناع أكثر المعتزلة وأكثر أصحابنا. وكان المسألة - فيما يبدو من عنوانها - من الأبحاث التافهة، إذ لا يمكن إن نتصور النزاع في أمكان اجتماع الأمر والنهي في واحد حتى لو قلنا بعدم امتناع التكليف بالمحال كما تقوله الأشاعرة، لأن التكليف هنا نفسه محال، وهو الأمر والنهي بشيء واحد. وامتناع ذلك من أوضح الواضحات، وهو محل وفاق بين الجميع. أذن، فكيف صح هذا النزاع من القوم؟ وما معناه؟ والجواب: إن التعبير باجتماع الأمر والنهي من خداع العناوين، فلا بد من توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة في هذا العنوان، وهي كلمة: الاجتماع، الواحد، الجواز. ثم ينبغي إن نبحث أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع، وهو قيد (المندوحة) الذي أضافه بعض المؤلفين، وهو على حق. وعليه نقول:
1 - (الاجتماع). والمقصود منه هو الالتقاء الاتفاقي بين المأمور به والمنهي عنه في شيء واحد. ولا يفرض ذلك الا حيث يفرض تعلق الأمر بعنوان وتعلق النهي بعنوان آخر لا ربط له بالعنوان الأول،، ولكن قد يتفق نادرا إن يلتقي العنوانان في شيء واحد ويجتمعا فيه، وحينئذ يجتمع - أي يلتقي - الأمر والنهي.
ولكن هذا الاجتماع والالتقاء بين العنوانين على نحوين:
1 - إن يكون اجتماعا مورديا، يعني إن لا يكون هنا فعل واحد مطابقا لكل من العنوانين، بل يكون هنا فعلان تقارنا وتجاورا في وقت واحد، أحدهما يكون مطابقا لعنوان الواجب وثانيهما مطابقا لعنوان المحرم، مثل النظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة، فلا النظر هو مطابق عنوان الصلاة ولا الصلاة مطابق عنوان النظر إلى الأجنبية، ولا هما ينطبقان على فعل واحد. فإن مثل هذا الاجتماع الموردي لم يقل أحد بامتناعه، وليس هو داخلا في مسألة الاجتماع هذه. فلو جمع المكلف بينهما بأن نظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة فقد عصى وأطاع في إن واحد ولا تفسد صلاته.
2 - إن يكون اجتماعا حقيقيا - وإن كان ذلك في النظر العرفي وفي بادئ الرأي - يعني إنه فعل واحد يكون مطابقا لكل من العنوانين كالمثال المعروف (الصلاة في المكان المغصوب). فإن مثل هذا المثال هو محل النزاع في مسألتنا، المفروض فيه إنه لا ربط لعنوان الصلاة المأمور به بعنوان الغصب المنهي عنه، ولكن قد يتفق للمكلف صدفة إن يجمع بينهما بأن يصلي في مكان مغصوب، فيلتقي العنوان المأمور به وهو الصلاة مع العنوان المنهي عنه وهو الغصب وذلك في الصلاة المأتي بها في مكان مغصوب فيكون هذا الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصلاة ولعنوان الغصب معا. وحينئذ إذا اتفق ذلك للمكلف فإنه يكون هذا الفعل الواحد داخلا فيما هو مأمور به من جهة فيقتضي إن يكون المكلف مطيعا للأمر ممتثلا، وداخلا فيما هو منهي عنه من جهة أخرى فيقتضي إن يكون المكلف عاصيا به مخالفا.
2 - (الواحد) - والمقصود منه الفعل الواحد باعتبار إن له وجودا واحدا يكون ملتقى ومجمعا للعنوانين، في مقابل المتعدد بحسب الوجود، كالنظر إلى الأجنبية والصلاة فإن وجود أحدهما غير وجود الآخر، فإن الاجتماع في مثل هذا يسمى (الاجتماع الموردي) كما تقدم.
والفعل الواحد بما له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانين، فإن التقاء العناوين فيه يخلو من حالتين: إحداهما إن يكون الالتقاء بسبب ماهيته الشخصية وثانيهما إن يكون الالتقاء بسبب ماهيته الكلية كان يكون الكلي نفسه مجمعا للعنوانين كالكون الكلي الذي ينطبق عليه إنه صلاة وغصب. وعليه فالمقصود من الواحد في المقام: الواحد في الوجود، فلا معنى لتخصيص النزاع بالواحد الشخصي. وبما ذكرنا يظهر خروج الواحد بالجنس عن محل الكلام، والمراد به ما إذا كان المأمور به والمنهي عنه متغايرين وجودا ولكنهما يدخلان تحت ماهية واحدة، كالسجود لله والسجود للصنم، فإنهما واحد بالجنس باعتبار إن كلا منهما داخل تحت عنوان السجود ولا شك في خروج ذلك عن محل النزاع
3 - (الجواز) - والمقصود منه الجواز العقلي، أي الإمكان المقابل للامتناع وهو واضح، ويصح إن يراد منه الجواز العقلي المقابل للقبح العقلي، وهو قد يرجع إلى الأول باعتبار إن القبيح ممتنع على الله تعالى. والجواز له معان أخر كالجواز المقابل للوجوب والحرمة الشرعيين، والجواز بمعنى الاحتمال. وكلها غير مرادة قطعا.
* إذا عرفت تفسير هذه الكلمات الثلاث الواردة في عنوان المسألة يتضح لك جيدا تحرير النزاع فيها، فإن حاصل النزاع في المسألة يكون إنه في مورد التقاء عنواني المأمور به والمنهي عنه في واحد وجودا هل يجوز اجتماع الأمر والنهي؟ ومعنى ذلك: إنه هل يصح إن يبقى الأمر متعلقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد ويبقى النهي كذلك متعلقا بالعنوان المنطبق على ذلك الواحد، فيكون المكلف مطيعا وعاصيا معا في الفعل الواحد.
أو إنه يمتنع ذلك ولا يجوز، فيكون ذلك المجتمع للعنوانين أما مأمورا به فقط أم منهيا عنه فقط، أي إنه أما إن يبقى الأمر على فعليته فقط فيكون المكلف مطيعا لا غير، أو يبقى النهي على فعليته فقط فيكون المكلف عاصيا لا غير. والقائل بالجواز لا بد إن يستند في قوله إلى أحد رأيين:
1 - إن يرى إن العنوان بنفسه هو متعلق التكليف ولا يسري الحكم إلى المعنون فانطباق عنوانين على فعل واحد لا يلزم منه إن يكون ذلك الواحد متعلقا للحكمين، فلا يمتنع الاجتماع، أي اجتماع عنوان المأمور به مع عنوان المنهي عنه في واحد، لأنه لا يلزم منه اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد.
2 - إن يرى إن المعنون على تقدير تسليم إنه هو متعلق الحكم حقيقة لا العنوان، يكون متعددا واقعا إذا تعدد العنوان لا تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون بالنظر الدقيق الفسلفي، ففي الحقيقة - وإن كان فعل واحد في ظاهر الحال صار مطابقا للعنوانين - هناك معنونان كل واحد منهما مطابق لأحد العنوانين، فيرجع اجتماع الوجوب والحرمة بالدقة العقلية إلى الاجتماع الموردي الذي قلنا: إنه لا بأس فيه من الاجتماع. وعلى هذا فليس هناك واحد بحسب الوجود يكون مجمعا بين العنوانين في الحقيقة، بل ما هو مأمور به في وجوده غير ما هو منهي عنه في وجوده. ولا تلزم سراية الأمر إلى ما تعلق به النهي ولا سراية النهي إلى ما تعلق به الأمر، فيكون المكلف في جمعه بين العنوانين مطيعا وعاصيا في إن واحد كالناظر إلى الأجنبية في أثناء الصلاة. وبهذا يتضح معنى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي، وفي الحقيقة ليس هو قولا باجتماع الأمر والنهي في واحد، بل أما إنه يرجع إلى القول باجتماع عنوان المأمور به والمنهي عنه في واحد دون إن يكون هناك اجتماع بين الأمر والنهي، وأما إن يرجع إلى القول بالاجتماع الموردي فقط، فلا يكون اجتماع بين الأمر والنهي ولا بين المأمور به والمنهي عنه. وأما و القائل بالامتناع فلا بد إن يذهب إلى إن الحكم يسري من العنوان إلى المعنون وإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون. فإنه لا يمكن حينئذ بقاء الأمر والنهي معا وتوجههما متعلقين بذلك المعنون الواحد بحسب الوجود، لأنه يلزم اجتماع نفس الأمر والنهي في واحد، وهو مستحيل، فأما إن يبقى الأمر ولا نهي أو يبقى النهي ولا أمر. ولقد أحسن صاحب المعالم في تحرير النزاع إذ عبر بكلمة (التوجه) بدلا عن كلمة (الاجتماع) فقال: (الحق امتناع توجه الأمر والنهي إلى شيء واحد..) المسألة من الملازمات العقلية غير المستقلة: ومن التقرير المتقدم لبيان محل النزاع يظهر كيف إن المسألة هذه ينبغي إن تدخل في الملازمات العقلية غير المستقلة، فإن معنى القول بالامتناع هو تنقيح صغرى الكبرى العقلية القائلة بامتناع الأمر والنهي في شيء واحد حقيقي. توضيح ذلك: إنه إذا قلنا بأن الحكم يسري من العنوان إلى المعنون وإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون فإنه يتنقح عندنا موضع اجتماع الأمر والنهي في واحد الثابتين شرعا فيقال على نهج القياس الاستثنائي هكذا: إذا التقى عنوان المأمور به والمنهي عنه في واحد بسوء الاختيار فإن بقي الأمر والنهي فعليين معا فقد اجتمع الأمر والنهي في واحد. (وهذه هي الصغرى) ومستند هذه الملازمة في الصغرى هو سراية الحكم من العنوان المعنون وإن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون. وإنما تفرض هذه الملازمة حيث يفرض ثبوت الأمر والنهي شرعا بعنوانيهما. ثم نقول: ولكنه يستحيل اجتماع الأمر والنهي في واحد. (وهذه هي الكبرى) وهذه الكبرى عقلية تثبت في غير هذه المسألة. وهذا القياس استثنائي قد استثني فيه نقيض التالي فيثبت به نقيض المقدم، وهو عدم بقاء الأمر والنهي فعليين معا.
وأما بناء على الجواز فيحرج هذا المورد مورد الالتقاء عن إن يكون صغرى لتلك الكبرى العقلية. ولا يجب في كون المسألة أصولية من المستقلات العقلية وغيرها إن تقع صغرى للكبرى العقلية على تقدير جميع الأقوال، بل يكفي إن تقع صغرى على أحد الأقوال فقط. فإن هذا شأن جميع المسائل الأصولية المتقدمة اللفظية والعقلية، الا ترى إن المباحث اللفظية كلها لتنقيح صغرى أصالة الظهور، مع إن المسألة لا تقع صغرى لأصالة الظهور على جميع الأقوال فيها كمسألة دلالة صيغة افعل على الوجوب، فإنه على القول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي لا يبقى لها ظهور في الوجوب أو غيره. ولا وجه لتوهم كون هذه المسألة فقهية أو كلامية أو أصولية لفظية. وهو واضح بعد ما قدمناه من شرح تحرير النزاع وبعد ما ذكرناه سابقا في أول هذا الجزء من مناط كون المسألة الأصولية من باب غير المستقلات العقلية. مناقشة الكفاية في تحرير النزاع: وبعد ما حررناه من بيان النزاع في المسألة يتضح ابتناء القول بالجواز فيها على أحد رأيين: أما القول بأن متعلق الأحكام هي نفس العنوانات دون معنوناتها، وأما القول بأن تعدد العنوان يستدعي تعدد المعنون. فتكون مسألة تعدد المعنون بتعدد العنوان وعدم تعدده حيثية تعليلية في مسألتنا ومن المبادئ التصديقية لها على أحد احتمالين، لا إنها هي نفس محل النزاع في الباب، فإن البحث هنا ليس الا عن نفس الجواز وعدمه كما عبر بذلك كل من بحث هذه المسألة من القديم. ومن هنا تتجلى المناقشة فيما أفاده في (كفاية الأصول) في رجوع محل البحث هنا إلى البحث عن استدعاء تعدد العنوان والمعنون وعدمه. فإنه فرق عظيم بين ما هو محل النزاع وبين ما يبتني عليه النزاع في أحد احتمالين. فلا وجه للخلط بينهما وإرجاع أحدهما إلى الآخر، وإن كان في هذه المسألة لا بد للأصولي من البحث عن إن تعدد العنوان هل يوجب تعدد المعنون، باعتبار إن هذا البحث ليس مما يذكر في موضع آخر. قيد المندوحة: ذكرنا فيما سبق إن بعضهم قيد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة في مقام الامتثال. ومعنى المندوحة إن يكون المكلف متمكنا من امتثال الأمر في مورد آخر غير مورد الاجتماع. ونظر إلى ذلك كل من قيد موضع النزاع بما إذا كان الجمع بين العنوانين بسوء اختيار المكلف. وإنما قيد بها موضع النزاع للاتفاق بين الطرفين على عدم جواز الاجتماع في صورة عدم وجود المندوحة، وذلك فيما إذا انحصر امتثال الأمر في مورد الاجتماع لا بسوء اختيار المكلف. والسر واضح فإنه عند الانحصار تستحيل فعلية التكليفين لاستحالة امتثالهما معا لأنه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي وإن تركه فقد عصى الأمر، فيقع التزاحم حينئذ بين الأمر والنهي. وظاهر إن اعتبار قيد المندوحة لازم لما ذكرناه، إذ ليس النزاع جهتيا - كما ذهب إليه صاحب الكفاية - أي من جهة كفاية تعدد العنوان في تعدد المعنون وعدمه وإن لم يجز الاجتماع من جهة أخرى، حتى لا نحتاج إلى هذا القيد. بل النزاع - كما تقدم - هو في جواز الاجتماع وعدمه من أية جهة فرضت وليس جهتيا. وعليه فما دام النزاع غير واقع في الجواز في صورة عدم المندوحة فهذه الصورة لا تدخل في محل النزاع في مسألتنا. فوجب - أذن - تقييد عنوان المسألة بقيد المندوحة كما صنع بعضهم. الفرق بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة الاجتماع: من المسائل العويصة مشكلة التفرقة بين باب التعارض وباب التزاحم، ثم بينهما وبين مسألة الاجتماع. ولا بد من بيان الفرق بينها لتنكشف جيدا حقيقة النزاع في مسألتنا مسألة الاجتماع. وجه الإشكال في التفرقة: إنه لا شبهة في إن من موارد التعارض بين الدليلين ما إذا كان بين دليلي الأمر والنهي عموم وخصوص من وجه، وذلك من أجل العموم من وجه بين متعلقي الأمر والنهي، أي العموم من وجه الذي يقع بين عنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه، بينما إن التزاحم بين الوجوب والحرمة من موارده أيضا العموم من وجه بين الأمر والنهي من هذه الجهة. وكذلك مسألة الاجتماع موردها منحصر فيما إذا كان بين عنواني المأمور به والمنهي عنه عموم من وجه. فيتضح إنه مورد واحد - وهو مورد العموم من وجه بين متعلقي الأمر والنهي - يصح إن يكون موردا للتعارض وباب التزاحم ومسألة الاجتماع، فما المائز والفارق؟ فنقول: إن العموم من وجه إنما يفرض بين متعلقي الأمر والنهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان في فعل واحد سواء كان العنوان بالنسبة إلى الفعل من قبيل العنوان ومعنونه أو من قبيل الكلي وفرده (1). وهذا بديهي. ولكن العنوان المأخوذ في متعلق الخطاب من جهة عمومه على نحوين:
1 - إن يكون ملحوظا في الخطاب فانيا في مصاديقه على وجه يسع جميع الأفراد بما لها الكثرات والمميزات فيكون شاملا في سعته لموضع الالتقاء مع العنوان المحكوم بالحكم الآخر، فيعد في حكم المتعرض لحكم خصوص موضع الالتقاء. ولو من جهة كون موضع الالتقاء متوقع الحدوث - على وجه يكون من شأنه إن ينبه عليه المتكلم في خطابه، فيكون أخذ العنوان على وجه يسع جميع الأفراد بما لها الكثرات والمميزات لهذا الغرض من التنبيه ونحوه. ولا تضايقك إن تسمي مثل هذا العموم: العموم الاستغراقي كما صنع بعضهم. والمقصود إن العنوان إذا أخذ في الخطاب على وجه يسع جميع الأفراد بما لها من الكثرات والمميزات يكون في حكم المتعرض لحكم كل فرد من أفراده، فيكون نافيا بالدلالة الإلتزامية لكل حكم مناف لحكمه.
2 - إن يكون العنوان ملحوظا في الخطاب فإنيا في مطلق الوجود المضاف إلى طبيعة العنوان من دون ملاحظة كونه على وجه يسع جميع الأفراد، أي لم تلحظ فيه الكثرات والمميزات في مقام الأمر بوجود الطبيعة ولا في مقام النهي عن وجود الطبيعة الأخرى، فيكون المطلوب في الأمر والمنهي عنه في النهي صرف وجود الطبيعة. ولتسم مثل هذا العموم: العموم البدلي كما صنع بعضهم. فإن كان العنوان مأخوذا في الخطاب على (النحو الأول) فإن موضع الالتقاء يكون العام حجة فيه كسائر الأفراد الأخرى، بمعنى إن يكون متعرضا بالدلالة الإلتزامية لنفي أي حكم آخر مناف لحكم العام بالنسبة إلى الأفراد وخصوصيات المصاديق.
وفي هذه الصورة لا بد إن يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي في مقام الجعل والتشريع لأنهما يتكاذبان بالنسبة إلى موضع الالتقاء من جهة الدلالة الإلتزامية في كل منهما على نفي الحكم الآخر بالنسبة إلى موضع الالتقاء. والتحقيق إن التعارض بين العامين من وجه إنما يقع بسبب دلالة كل منهما بالدلالة الإلتزامية على انتفاء حكم الآخر، وما أجلها يتكاذبان. وإلا فالدلالتان المطابقيتان بأنفسهما في العامين من وجه لا يتكاذبان، فلا يتعارضان ما لم يلزم من ثبوت مدلول إحداهما نفي مدلول الأخرى، فليس التنافي بين المدلولين المطابقيين الا تنافيا بالعرض لا بالذات. ومن هنا يعلم إن هذا الفرض - وهو فرض كون العنوان مأخوذا في الخطاب على (النحو الأول) - ينحصر في كونه موردا للتعارض بين الدليلين، ولا تصل النوبة إلى فرض التزاحم بين الحكمين فيه، ولا إلى النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، لأن مقتضى القاعدة في باب التعارض هو تساقط الدليلين عن حجيتهما بالنسبة إلى مورد الالتقاء فلا يجوز فيه الوجوب ولا الحرمة. ولا يفرض التزاحم أو مسألة النزاع في جواز الاجتماع الا حيث يفرض شمول الدليلين لمورد الالتقاء وبقاء حجيتهما بالنسبة إليه. أي إنه لم يكن تعارض بين الدليلين في الجعل والتشريع. وإن كان العنوان مأخوذا على (النحو الثاني) فهو مورد التزاحم أو مسألة الاجتماع ولا يقع بين الدليلين تعارض حينئذ، وذلك مثل قوله: صل، وقوله: لا تغصب، باعتبار إنه لم يلحظ في كل من خطاب الأمر والنهي الكثرات والمميزات على وجه يسع العنوان جميع الأفراد وإن كان نفس العنوان في حد ذاته وإطلاقه شاملا لجميع الأفراد، فإنه في مثله يكون الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة للصلاة وامتثاله يكون بفعل أي فرد من الأفراد، فلم يكن ظاهرا في وجوب الصلاة حتى في مورد الغصب على وجه يكون دالا بالدلالة الإلتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافيا لحرمة الغصب في المورد. وكذلك النهي يكون متعلقا بصرف طبيعة الغصب فلم يكن ظاهرا في حرمة الغصب حتى في مورد الصلاة على وجه يكون دالا بالدلالة الإلتزامية على انتفاء حكم آخر في هذا المورد ليكون نافيا لوجوب الصلاة. وفي مثل هذين الدليلين إذا كانا على هذا النحو يكون كل منهما أجنبيا في عموم عنوان متعلق الحكم فيه عن عنوان متعلق الحكم الآخر، أي إنه غير متعرض بدلالته الإلتزامية لنفي الحكم الآخر، فلا يتكاذبان في مقام الجعل والتشريع. فلا يقع التعارض بينهما إذ لا دالة إلتزامية لكل منهما على نفي الحكم الآخر في مورد الالتقاء، ولا تعارض بين الدلالتين المطابقتين بما هما، لأن المفروض إن المدلول المطابقي من كل منهما هو الحكم المتعلق بعنوان أجنبي في نفسه عن العنوان المتعلق للحكم الآخر. وحينئذ إذا صادف إن ابتلي المكلف بجمعهما على نحو الاتفاق فحاله لا يخلو عن أحد أمرين: أما إن تكون له مندوحة من الجمع بينهما، ولكنه هو الذي جمع بينهما بسوء اختياره وتصرفه، وأما إن لا تكون له مندوحة من الجمع بينهما. فإن كان (الأول) - فإن المكلف حينئذ يكون قادرا على امتثال كل من التكليفين فيصلي ويترك الغصب، وقد يصلي ويغصب في فعل آخر. فإذا جمع بينهما بسوء اختياره بأن صلى في مكان مغصوب، فهنا يقع النزاع في جواز الاجتماع بين الأمر والنهي، فإن قلنا بالجواز كان مطيعا وعاصيا في إن واحد، وإن قلنا بعدم الجواز فإنه أما إن يكون مطيعا لا غير إذا رجحنا جانب الأمر أو عاصيا لا غير إذا رجحنا جانب النهي، لأنه حينئذ يقع التزاحم بين التكليفين فيرجع فيه إلى أقوى الملاكين. وإن كان (الثاني) - فإنه لا محالة يقع التزاحم بين التكليفين الفعليين، لأنه - حسب الفرض - لا معارضة بين الدليلين في مقام الجعل والإنشاء، بل المنافاة وقعت من عدم قدرة المكلف على التفريق بين الامتثالين: فيدور الأمر - حينئذ - بين امتثال الأمر وبين امتثال النهي، إذ لا يمكنه من امتثالهما معا من جهة عدم المندوحة.
هذا هو الحق الذي ينبغي إن يعول عليه في سر التفريق بين بابي التعارض والتزاحم وبينهما وبين مسألة الاجتماع في مورد العموم من وجه بين متعلقي الخطابين خطاب الوجوب والحرمة، ولعله يمكن استفادته من مطاوي كلماتهم وإن كانت عباراتهم تضيق عن التصريح بذلك بل اختلفت كلمات أعلام أساتذتنا رضوان الله عليهم في وجه التفريق. فقد ذهب صاحب الكفاية إلى (إنه لا يكون المورد من باب الاجتماع الا إذا أحرز في كل واحد من متعلقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتى في مورد التصادق وإلاجتماع، وأما إذا لم يحرز مناط كل من الحكمين في مورد التصادق مع العلم بمناط احد الحكمين بلا تعيين، فالمورد يكون من باب التعارض للعلم الإجمالي حينئذ بكذب احد الدليلين الموجب للتنافي بينهما عرضا). هذا خلاصة رأيه (رحمه الله)، فجعل إحراز مناط الحكمين في مورد الاجتماع وعدمه هو المناط في التفرقة بين مسألة الاجتماع وباب التعارض، بينما إن المناط عندنا في التفرقة بينهما هو دلالة الدليلين بالدلالة الإلتزامية على نفي الحكم الآخر وعدمها، فمع هذه الدلالة يحصل التكاذب بين الدليلين فيتعارضان وبدونها لا تعارض فيدخل المورد في مسألة الاجتماع. ويمكن دعوى التلازم بين المسلكين في الجملة، لأنه مع تكاذب الدليلين من ناحية دلالتهما الإلتزامية لا يحرز وجود مناط الحكمين في مورد الاجتماع، كما إنه مع عدم تكاذبهما يمكن إحراز وجود المناط لكل من الحكمين في مورد الاجتماع، بل لا بد من إحراز مناط الحكمين بمقتضى إطلاق الدليلين في مدلولهما المطابقي. وأما شيخنا (النائيني) فقد ذهب إلى: (إن مناط دخول المورد في باب التعارض إن تكون الحيثيتان في العامين من وجه حيثيتين تعليليتين لأنه حينئذ يتعلق الحكم في كل منهما بنفس ما يتعلق به فيتكاذبان) وأما إذا كانتا تقييديتين فلا يقع التعارض بينهما ويدخلان حينئذ في مسألة الاجتماع مع المندوحة وفي باب التزاحم مع عدم المندوحة). ونحن نقول: في الحيثيتين التقييديتين إذا كان بين الدلالتين تكاذب من أجل دلالتهما الإلتزامية على نفي الحكم الآخر على نحو ما فصلناه فإن التعارض بينهما لا محالة واقع ولا تصل النوبة في هذا المورد للدخول في مسألة الاجتماع. ولنا مناقشة معه في صورة الحيثية التعليلية يطول شرحها ولا يهم التعرض لها الآن وفيما ذكرناه الكفاية وفوق الكفاية للطالب المبتدئ. الحق في المسألة بعد ما قدمنا من توضيح تحرير النزاع وبيان موضع النزاع نقول: إن الحق في المسألة هو (الجواز). وقد ذهب إلى ذلك جمع من المحققين المتأخرين. و (سندنا) يبتني على توضيح واختيار ثلاثة أمور مترتبة:
(أولا) - إن متعلق التكليف سواء كان أمرا أو نهيا ليس هو المعنون، أي الفرد الخارجي للعنوان بماله من الوجود الخارجي، فإنه يستحيل ذلك، بل متعلق التكليف دائما وأبدا هو العنوان، على ما سيأتي توضيحه. واعتبر ذلك بالشوق فإن الشوق يستحيل إن يتعلق بالمعنون، لأنه أما إن يتعلق به حال عدمه أو حال وجوده، وكل منهما لا يكون، أما الأول فيلزم تقوم الموجود بالمعدوم وتحقق المعدوم بما هو معدوم لأن المشتاق إليه له نوع من التحقق بالشوق إليه وهو محال واضح، وأما الثاني فلأنه يكون الاشتياق إليه تحصيلا للحاصل وهو محال. فأذن لا يتعلق الشوق بالمعنون لا حال وجوده ولا حال عدمه. مضافا إلى إن الشوق من الأمور النفسية، ولا يعقل إن يتشخص ما في النفس بدون متعلق ما، كجميع الأمور النفسية كالعلم والخيال والوهم والإرادة ونحوها، ولا يعقل إن يتشخص بما هو خارج عن أفق النفس من الأمور العينية. فلا بد إن يتشخص بالشيء المشتاق إليه بما له من الوجود العنواني الفرضي، وهو المشتاق إليه أولا وبالذات وهو الموجود بوجود الشوق لا بوجود آخر وراء الشوق، ولكن لما كان يؤخذ العنان بما هو حاك ومرآة عما في الخارج - أي عن المعنون - فإن المعنون يكون مشتاقا إليه ثانيا وبالعرض، نظير العلم فإنه لا يعقل إن يتشخص بالأمر الخارجي، والمعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان الموجود بوجود العلم ولكن بما هو حاك ومرآة عن المعنون، وأما المعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه. وفي الحقيقة إنما يتعلق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدإن وجهة فقدان فلا يتعلق بالمعدوم من جميع الجهات ولا بالموجود من جميع الجهات. وجهة الوجدان في المشتاق إليه هو العنوان الموجود بوجود الشوق في أفق النفس باعتبار ماله من وجود عنواني فرضي. وجهة الفقدان في المشتاق إليه هو عدمه الحقيقي في الخارج، ومعنى الشوق إليه هو الرغبة في إخراجه من حد الفرض والتقدير إلى حد الفعلية والتحقيق. وإذا كان الشوق على هذا النحو فكذلك حال الطلب والبعث بلا فرق فيكون حقيقة طلب الشيء هو تعلقه بالعنوان لإخراجه من حد الفرض والتقدير إلى حد الفعلية والتحقيق. (ثانيا) - إنا لما قلنا بأن متعلق التكليف هو العنوان لا المعنون لا نعني إن العنوان بماله من الوجود الذهني يكون متعلقا للطلب، فإن ذلك باطل بالضرورة، لأن مثار الآثار ومتعلق الغرض والذي تترتب عليه المصلحة والمفسدة هو المعنون لا العنوان. بل نعني إن المتعلق هو العنوان حال وجوده الذهني لا إنه بما له من الوجود الذهني أو هو مفهوم، ومعنى تعلقه بالعنوان حال وجوده الذهني إنه يتعلق به نفسه باعتبار إنه مرآة عن المعنون وفان فيه، فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهني عين التحلية به.
(ثالثا) - إنا إذ نقول: إن المتعلق للتكليف هو العنوان بما هو مرآة عن المعنون وفان فيه - لا نعني إن المتعلق الحقيقي للتكليف هو المعنون وإن التكليف يسري من العنوان إلى المعنون باعتبار فنائه فيه - كما قيل - فإن ذلك باطل بالضرورة أيضا، لما تقدم إن المعنون يستحيل أن يكون متعلقا للتكليف بأي حال من الأحوال، وهو محال حتى لو كان بتوسط العنوان، فإن توسط العنوان لا يخرجه عن استحالة تعلق التكليف به بل نعني ونقول: إن الصحيح إن متعلق التكليف هو العنوان بما هو مرآة وفان في المعنون على إن يكون فناؤه في المعنون هو المصحح لتعلق التكليف به فقط، إذ إن الغرض إنما يقوم بالمعنون المفني فيه، لا إن الفناء يجعل التكليف ساريا إلى المعنون ومتعلقا به. وفرق كبير بين ما هو مصحح لتعلق التكليف بشيء وبين ما هو بنفسه متعلق التكليف. وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلين بأن التكليف يسري إلى المعنون باعتبار فناء العنوان فيه ولا يزال هذا الخلط بين ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثير من الاشتباهات التي تقع في علمي الأصول والفلسفة. والفناء والآلية في الملاحظة هو الذي يوقع الاشتباه والخلط فيعطي ما للعنوان للمعنون بالعكس. وإذا عسر عليك تفهم ما نرمي إليه فاعتبر ذلك في مثال الحرف حينما نحكم عليه بأنه لا يخبر عنه، فإن عنوان الحرف ومفهومه اسم يخبر عنه، كيف وقد أخبر بأنه لا يخبر عنه، ولكن إنما صح الأخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه في المعنون لأنه هو الذي له هذه الخاصية ويقوم به الغرض من الحكم، ومع ذلك لا يجعل ذلك كون المعنون - وهو الحرف الحقيقي - موضوعا للحكم حقيقة أولا وبالذات، فإن الحرف الحقيقي يستحيل إن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأي حال من الأحوال ولو بتوسط شيء، كيف وحقيقته النسبة والربط وخاصته إنه لا يخبر عنه. وعليه فالمخبر عنه أولا وبالذات هو عنوان الحرف، لكن لا بما هو مفهوم موجود في الذهن فإنه بهذا الاعتبار يخبر عنه، بل بما هو فإن في المعنون وحاك عنه، فالمصحح للأخبار عنه بأنه لا يخبر عنه هو فناؤه في معنونه فيكون الحرف الحقيقي المعنون مخبرا عنه ثانيا وبالعرض، وإن كان الغرض من الحكم إنما يقوم بالمفني فيه وهو الحرف الحقيقي. وعلى هذا يتضح جليا كيف إن دعوى سراية الحكم أولا وبالذات، من العنوان إلى المعنون منشأها الغفلة بين ما هو المصحح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك المصحح فيجعل الموضوع عنوانا حاكيا عنه، وبين ما هو الموضوع للحكم القائم به الغرض فالمصحح للحكم شيء والمحكوم عليه والمجعول موضوعا شيء آخر. ومن العجيب إن تصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفن في المعقول. نعم إذا كان القائل بالسراية يقصد إن العنوان يؤخذ فانيا في المعنون وحاكيا عنه وإن الغرض إنما يقوم بالمعنون فذلك حق ونحن نقول له ولكن ذلك لا ينفعه في الغرض الذي يهدف إليه، لأنا نقول بذلك من دون إن نجعل متعلق التكليف نفس المعنون وإنما يكون متعلقا له ثانيا وبالعرض، كالمعلوم بالعرض كما أشرنا إليه فيما سبق. فإن العلم إنما يتعلق بالمعلوم بالذات ويتقوم به وليس هو إلا العنوان الموجود بوجود علمي، ولكن باعتبار فنائه في معنونه، يقال للمعنون إنه معلوم ولكنه في الحقيقة هو معلوم بالعرض لا بالذات، وهذا الفناء هو الذي يخيل للناظر إن المتعلق الحقيقي للعلم هو المعنون ولقد أحسنوا في تعريف العلم بأنه حصول صورة الشيء لدى العقل، لا حصول نفس الشيء، فالمعلوم بالذات هو الصورة والمعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل.
وإذا ثبت ما تقدم وأتضح ما رمينا إليه من إن متعلق التكليف أولا وبالذات هو العنوان وإن المعنون متعلق له بالعرض - يتضح لك الحق جليا في مسألتنا (مسألة اجتماع الأمر والنهي) وهو: إن الحق (جواز الاجتماع). ومعنى جواز الاجتماع إنه لا مانع من إن يتعلق الإيجاب بعنوان ويتعلق التحريم بعنوان آخر، وإذا جمع المكلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإن ذلك لا يجعل الفعل الواحد المعنون لكل من العنوانين متعلقا للإيجاب والتحريم الا بالعرض، وليس ذلك بمحال فإن المحال إنما هو إن يكون الشيء الواحد بذاته متعلقا للإيجاب والتحريم. وعليه، فيصح إن يقع الفعل الواحد امتثالا للأمر من جهة باعتبار انطباق العنوان المأمور به عليه وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان المنهي عنه. ولا محذور في ذلك ما دام إن ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه و بذاته يكون متعلقا للأمر وللنهي ليكون ذلك محالا، بل العنوانان الفانيان هما المتعلقان للأمر والنهي. غاية الأمر إن تطبيق العنوان المأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إلى إتيان الفعل، ولا فرق بين فرد وفرد في انطباق العنوان عليه، فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان المنهي عنه كالفرد الخالي من ذلك في كون كل منهما ينطبق عليه العنوان المأمور به بلا جهة خلل في الانطباق. ولا فرق في ذلك بين إن يكون تعدد العنوان موجبا لتعدد المعنون أو لم يكن ما دام إن المعنون ليس هو متعلق التكليف بالذات. نعم لو كان العنوان مأخوذا في المأمور به والمنهي عنه على وجه يسع جميع الأفراد حتى موضع الاجتماع، وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ولو كان ذلك من جهة إطلاق الدليل، فإنه حينئذ تكون لكل من الدليلين الدلالة الإلتزامية على نفي حكم الآخر في موضع الالتقاء فيتكاذبان، وعليه يقع التعارض بينهما ويخرج المورد عن مسألة الاجتماع كما سبق بيان ذلك مفصلا. كما إنه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة في متعلق الأمر على وجه يكون الواجب هو العنوان المقدور بما هو مقدور فإن عنوان المأمور به حينئذ لا يسع ولا يعم الفرد غير المقدور، فلا ينطبق عنوان المأمور به بما هو مأمور به على موضع الاجتماع ولا يكون هذا الفرد غير المقدور شرعا من أفراد الطبيعة بما هي مأمور بها. بخلاف ما إذا كانت القدرة مصححة فقط لمتعلق التكليف بالعنوان فإن عنوان المأمور به يكون مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده. ولهذا قلنا إنه لو انحصر تطبيق المأمور به في خصوص موضع الاجتماع كما في مورد عدم المندوحة يقع التزاحم بين الحكمين في موضع الاجتماع، لأنه لا يصح تطبيق المأمور به على هذا الفرد وهو موضع الاجتماع الا إذا لم يكن النهي فعليا، كما لا يصح تطبيق عنوان المنهي عنه عليه الا إذا لم يكن الأمر فعليا، فلا بد من رفع اليد عن فعلية أحد الحكمين وتقديم الأهم منهما. ولقد ذهب بعض أعلام أساتذتنا إلى إن القدرة مأخوذة في متعلق التكليف باعتبار إن الخطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك، لأن الأمر إنما هو لتحريك المكلف نحو الفعل على إن يصدر منه بالاختيار، وهذا نفسه يقتضي كون متعلقه مقدورا لامتناع جعل الداعي نحو الممتنع وإن كان الامتناع من ناحية شرعية. ولكننا لم نتحقق صحة هذه الدعوى لأن صحة التكليف بطبيعة الفعل لا تتوقف على أكثر من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها، فالفعل هو الذي يحكم بلزوم القدرة في متعلق التكليف، وذلك لا يقتضي على كل فرد من أفراد الطبيعة الا إذا قلنا بأن التكليف يتعلق بالأفراد أولا بالذات. وقد تقدم توضيح فساد هذا الوهم. تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون: بعد ما تقدم من البيان من إن التكليف إنما يتعلق بالعنوان بما هو مرآة عن أفراده لا بنفس الأفراد، فإن القول بالجواز لا يتوقف على القول بأن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون كما اشرنا إليه فيما سبق، لأنه سواء كان المعنون متعددا بتعدد العنوان أو غير متعدد فإن ذلك يرتبط بمسألتنا نفيا وإثباتا ما دام إن المعنون ليس متعلقا للتكليف أبدا. وعلى كل حال فالحق هو الجواز تعدد المعنون أو لم يتعدد. ولو سلمنا جدلا بأن التكليف يتعلق بالمعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إلى المعنون كما هو المعروف، فإن الحق إنه لا يجب تعدد المعنون بتعدد العنوان فقد يتعدد وقد لا يتعدد، فليس هناك قاعدة عامة تقضي بأن نحكم بأن تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون كما تكلف بتنقيحها بعض أعاظم مشايخنا، وكان نظره الشريف يرمي إلى إن العامين من وجه يمتنع صدقهما على شيء واحد من جهة واحدة وإلا لما كانا عامين من وجه، فلا بد إن يفرض هناك جهتان موجودتان في المجمع إحداهما هو الواجب وثانيهما هو المحرم، فيكون التركيب بين الحيثيتين تركيبا انضماميا لا اتحاديا الا إذا كانت الحيثيتان المفروضتان تعليليتين لا تقييديتين فإن الواجب والمحرم على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا وهو ذات المحيث بهاتين الحيثيتين. وحينئذ يقع التعارض بين دليلي العامين ويخرج المورد عن مسألتنا. وفي هذا التقرير ما لا يخفى على الفطن أما (أولا) فإن العنوان بالنسبة إلى معنونة تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضم حيثية زائدة على الذات مباينة لها ماهية ووجودا كالأبيض بالقياس إلى الجسم فإن صدق الأبيض عليه باعتبار عروض صفة البياض عليه الخارجة عن مقام ذاته، وأخرى يكون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بلا ضم حيثية زائدة على الذات كالأبيض بالقياس إلى نفس البياض فإن نفس البياض ذاته بذاته منشأ لانتزاع الأبيض منه بلا حاجة إلى ضم بياض آخر إليه، لأنه بنفس ذاته أبيض لا بياض آخر. ومثل ذلك صفات الكمال لذات واجب الوجود فإنها منتزعة من مقام نفس الذات لا بضم حيثية أخرى زائدة على الذات. وعليه فلا يجب في كل عنوان منتزع إن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضم حيثية زائدة على الذات. وأما (ثانيا) فإن العنوان لا يجب فيه إن يكون كاشفا عن حقيقة متأصلة على وجه يكون انطباق العنوان أو مبدأه عليه من باب انطباق الكلي على فرده، بل من العناوين ما هو مجعول ومعتبر لدى العقل لصرف الحكاية والكشف عن المعنون من دون إن يكون بإزائه في الخارج حقيقة متأصلة، مثل عنوان العدم والممتنع، بل مثل عنوان الحرف والنسبة، فإنه لا يجب في مثله فرض حيثية متأصلة ينتزع منها العنوان. ومثل هذا العنوان المعتبر قد يكون عاما يصح انطباقه على حقائق متعددة من دون إن يكون بإزائه حيثية واقعية غير تلك الحقائق المتأصلة. ولعل عنوان الغصب من هذا الباب في انطباقه على الصلاة التي تتألف من حقائق متباينة وعلى غيرها من سائر التصرفات، فكل تصرف في مال الغير بدون رضاه غصب مهما كانت حقيقة ذلك التصرف ومن أية مقولة كانت. ثمرة المسألة: من الواضح ظهور ثمرة النزاع فيما إذا كان المأمور به عبادة، فإنه بناء على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي كما هو المعروف - تقع العبادة فاسدة مع العلم بالحرمة والعمد بالجمع بين المأمور به والمنهي عنه كما هو المفروض في المسألة، لأنه لا أمر مع ترجيح جانب النهي، وليس هناك في ذات المأتي به ما يصلح للتقرب به مع فرض النهي الفعلي لامتناع التقرب بالمبعد وإن كان ذات المأتي به مشتملا على المصلحة الذاتية وقلنا بكفاية قصد المصلحة الذاتية في صحة العبادة. نعم إذا وقع الجمع بين المأمور به والمنهي عنه عن جهل بالحرمة قصورا لا تقصيرا أو عن نسيان وكان قد أتى بالفعل على وجه القربة - فالمشهور إن العبادة تقع صحيحة، ولعل الوجه فيه هو القول بكفاية رجحانها الذاتي واشتمالها على المصلحة الذاتية في التقرب بها مع قصد ذلك وإن لم يكن الأمر فعليا. وقيل: إنه لا يبقى مصحح في هذه الصورة للعبادة فتقع فاسدة، نظرا إلى إن دليلي الوجوب والحرمة على القول بالامتناع يصبحان متعارضين وإن لم يكونا في حد أنفسهما متعارضين. فإذا قدم جانب النهي، فكما لا يبقى أمر كذلك لا يحرز وجود المقتضى له وهو المصلحة الذاتية في المجمع إذ تخصيص دليل الأمر بما عدا المجمع يجوز إن يكون لوجود المانع في المجمع عن شمول الأمر له، ويجوز إن يكون لانتفاء المقتضي للأمر فلا يحرز وجود المقتضى. هذا بناء على الامتناع وتقديم جانب النهي، وأما بناء على الامتناع وتقديم جانب الأمر فلا شبهة في وقوع العبادة صحيحة إذ لأنهي حتى يمنع من صحتها، لاسيما إذا قلنا بتعارض الدليلين بناء على الامتناع فإنه لا يحرز معه المفسدة الذاتية في المجمع. وكذلك الحق هو صحة العبادة إذا قلنا بالجواز، فإنه كما جاز توجيه الأمر والنهي إلى عنوانين مختلفين مع التقائهما في المجمع فقلنا بجواز الاجتماع في مقام التشريع، فكذلك نقول لا مانع من الاجتماع في مقام الامتثال أيضا كما أشرنا إليه في تحرير محل النزاع، حتى لو كان المعنون للعنوانين واحدا وجودا ولم يوجب تعدد العنوان تعدده، لما عرفت سابقا من إن المعنون لا يقع بنفسه متعلقا للتكليف لا قبل وجوده ولا بعد وجوده، وإنما يكون الداعي إلى إتيان الفعل هو تطبيق العنوان المأمور به عليه الذي ليس بمنهي عنه، لا إن الداعي إلى إتيانه تعلق الأمر به ذاته، فيكون المكلف في فعل واحد بالجمع بين عنواني الأمر والنهي مطيعا للأمر من جهة انطباق العنوان المأمور به وعاصيا من جهة انطباق العنوان المنهي عنه، نظير الاجتماع الموردي، كما تقدم توضيحه في تحرير محل النزاع. وقيل:: إن ((الثمرة) في مسألتنا هو إجراء أحكام المتعارضين على دليلي الأمر والنهي بناء على الامتناع، وإجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز. ولكن إجراء أحكام التزاحم بينهما بناء على الجواز إنما يلزم إذا كان القائل بالجواز إنما يقول بالجواز في مقام الجعل والإنشاء دون مقام الامتثال، بل يمتنع الاجتماع في مقام الامتثال، وحينئذ لا محالة يقع التزاحم بين الأمر والنهي، أما إذا قلنا بالجواز في مقام الامتثال أيضا كما أوضحناه فلا موجب للتزاحم بين الحكمين مع وجود المندوحة، بل يكون مطيعا عاصيا في فعل واحد كالاجتماع الموردي بلا فرق، إذ لا دوران حينئذ بين امتثال الأمر وامتثال النهي. اجتماع الأمر والنهي مع عدم المندوحة تقدم الكلام كله في اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت هناك مندوحة من الجمع بين المأمور به والمنهي عنه، وقد جمع المكلف بينهما في فعل واحد بسوء اختياره. ويلحق به ما كان الجمع بينهما عن غفلة أو جهل. وقد ذهبنا إلى جواز الاجتماع في مقامي الجعل والامتثال. وبقي الكلام في اجتماعهما مع عدم المندوحة، وذلك بأن يكون المكلف مضطرا إلى هذا الجمع بينهما. والاضطرار على نحوين:
(الأول) - إن يكون بدون سبق اختيار للمكلف في الجمع كمن اضطر لإنقاذ غريق إلى التصرف في ارض مغصوبة، فيكون تصرفه في الأرض واجبا من جهة إنقاذ الغريق وحراما من جهة التصرف في المغصوب. فإنه في هذا الفرض لا بد إن يقع التزاحم بين الواجب والحرام في مقام الامتثال، إذ لا مندوحة للمكلف حسب الفرض، فلا بد في مقام إطاعة الأمر بإنقاذ الغريق من الجمع لانحصار امتثال الواجب في هذا الفرد المحرم، فيدور الأمر بين إن يعصي الأمر أو يعصي النهي. وفي مثله يرجع إلى أقوى الملاكين، فإن كان ملاك الأمر أقوى - كما في المثال المذكور - قدم جانب الأمر ويسقط النهي عن الفعلية، وإن كان ملاك النهي أقوى قدم جانب النهي، كمن إنحصر عنده إنقاذ حيوان محترم من الهلكة بهلاك إنسان. (تنبيه) - مما يلحق بهذا الباب ويتفرع ما لو اضطر إلى ارتكاب فعل محرم لا بسوء اختياره، ثم اضطر إلى الإتيان بالعبادة على وجه يكون ذلك فعل المحرم مصداقا لتلك العبادة، بمعنى إنه اضطر إلى الإتيان بالعبادة مجتمعة مع فعل الحرام الذي قد اضطر إليه. ومثاله: المحبوس في مكان مغصوب فيضيق عليه وقت الصلاة ولا يسعه الإتيان بها خارج المكان المغصوب. فهل في هذا الفرض يجب عليه الإتيان بالعبادة وتقع صحيحة، أو لا؟ نقول: لا ينبغي الشك في إن عبادته على هذا التقدير تقع صحيحة، لأنه مع الاضطرار إلى فعل الحرام لا تبقى فعلية للنهي لاشتراط القدرة في التكليف فالأمر لا مزاحم لفعليته، فيجب عليه أداء الصلاة، ولا بد إن تقع حينئذ صحيحة. نعم يستثنى من ذلك ما لو كان دليل الأمر ودليل النهي متعارضين بأنفسهما من أول الأمر، وقد رجحنا جانب النهي باحد مرجحات باب التعارض، فإنه في هذه الصورة لا وجه لوقوع العبادة صحيحة، لأن العبادة لا تقع صحيحة الا إذا قصد بها امتثال الأمر الفعلي بها - إن كان - أو قصد بها الرجحان الذاتي قربة إلى الله تعالى. والمفروض إنه هنا لا أمر فعلي لعدم شمول دليله بما هو حجة لمورد الاجتماع لأن المفروض تقديم جانب النهي. وقيل: إن النهي إذا زالت فعليته من جهة الاضطرار لم يبق مانع من التمسك بعموم الأمر. وهذه غفلة ظاهرة فإن دليل الأمر بما هو حجة لا يكون شاملا لمورد الاجتماع لمكان التعارض بين الدليلين وتقديم دليل النهي، فإذا اضطر المكلف إلى فعل المنهي عنه لا يلزم منه إن يعود دليل الأمر حجة في مورد الاجتماع مرة ثانية. وإنما يتصور إن يعود الأمر فعليا إذا كان تقديم النهي من باب التزاحم فإذا زال التزاحم عاد الأمر فعليا. وأما الرجحان الذاتي، فإنه بعد فرض التعارض بين الدليلين وتقديم جانب النهي لا يكون الرجحان محرزا في مورد الاجتماع، لأن عدم شمول دليل الأمر بما هو حجة لمورد الاجتماع يحتمل فيه وجهان: وجود المانع مع بقاء الملاك، وانتقاء المقتضى وهو الملاك، فلا يحرز وجود الملاك حتى يصح قصده متقربا به إلى الله تعالى
(الثاني) - إن يكون الاضطرار بسوء الاختيار، كمن دخل منزلا مغصوبا متعمدا، فبادر إلى الخروج تخلصا من استمرار الغصب، فإن هذا التصرف بالمنزل في الخروج لا شك في إنه تصرف غصبي أيضا، وهو مضطر إلى ارتكابه للتخلص من استمرار فعل الحرام وكان اضطراره إليه بمحض اختياره إذ دخل المنزل غاصبا باختياره. وتعرف هذه المسألة في لسان المتأخرين بمسألة (التوسط في المغصوب) والكلام يقع فيها من ناحيتين:
1 - في حرمة هذا التصرف الخروجي أو وجوبه.
2 - في صحة الصلاة المأتي بها حال الخروج. حرمة الخروج من المغصوب أو وجوبه أما (الناحية الأولى) - فقد تعددت الأقوال فيها، فقيل: بحرمة التصرف الخروجي فقط، وقيل: بوجوبه فقط ولكن يعاقب فاعله، وقيل: بوجوبه فقط ولا يعاقب فاعله، وقيل: بحرمته ووجوبه معا، وقيل: لا هذا ولا ذاك ومع ذلك يعاقب عليه. فينبغي إن نبحث عن وجه القول بالحرمة، وعن وجه القول بالوجوب ليتضح الحق في المسألة وهو القول الأول.
أما (وجه الحرمة) - فمبني على إن التصرف بالغصب بأي نحو من إنحاء التصرف (دخولا وبقاء وخروجا) محرم من أول الأمر قبل الابتلاء بالدخول، فهو قبل إن يدخل منهي عن كل تصرف في المغصوب حتى هذا التصرف الخروجي، لأنه كان متمكنا من تركه بترك الدخول. ومن يقول بعدم حرمته فإنه يقول به لأنه يجد إن هذا المقدار من التصرف مضطر إليه سواء خرج الغاصب أو بقي فيمتنع عليه تركه. ومع فرض امتناع تركه كيف يبقى على صفة الحرمة. ولكنا نقول له: إن هذا الامتناع هو الذي أوقع نفسه فيه بسوء اختياره، وكان متمكنا من تركه الدخول، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، فهو مخاطب من أول الأمر بترك التصرف حتى يخرج، فالخروج في نفسه بما هو تصرف داخل من أول الأمر في أفراد العنوان المنهي عنه، أي إن العنوان المنهي عنه وهو التصرف بمال الغير بدون رضاه يسع في عمومه كل تصرف متمكن من تركه حتى الخروج، وامتناع ترك هذا التصرف بسوء اختياره لا يخرجه عن عموم العنوان. ونحن لا نقول - كما سبق - إن المعنون بنفسه هو متعلق الخطاب حتى يقال لنا إنه يمتنع تعلق الخطاب بالممتنع تركه وإن كان الامتناع بسوء الاختيار. وأما (وجه الوجوب) - فقد قيل: إن الخروج واجب نفسي باعتبار إن الخروج معنون بعنوان التخلص عن الحرام، والتخلص عن الحرام في نفسه عنوان حسن عقلا وواجب شرعا. وقد نسب هذا الوجه إلى الشيخ الأعظم الأنصاري - أعلى الله تعالى مقامه - على ما يظهر من تقريرات درسه. وقيل: إن الخروج واجب غيري - كما يظهر من بعض التعبيرات في تقريرات الشيخ أيضا - باعتبار إنه مقدمة للتخلص من الحرام، وهو الغصب الزائد الذي كان يتحقق لو لم يخرج. والحق: إنه ليس بواجب نفسي ولا غيري. أما إنه ليس (بواجب نفسي) فلأنه:
(أولا) - إن التخلص عن الشيء بأي معنى فرض عنوان مقابل لعنوان الابتلاء به بديل له لا يجتمعان، وهما من قبيل الملكة وعدمها. وهذا واضح. وحينئذ نقول له: ما مرادك من التخلص الذي حكمت عليه بأنه عنوان حسن؟ إن كان المراد به التخلص من أصل الغصب فهو بالخروج - أي الحركات الخروجية - مبتل بالغصب، لا إنه متخلص منه، لأنه تصرف بالمغصوب. وإن المراد به التخلص من الغصب الزائد الذي يقع لو لم يخرج، فهو لا ينطبق على الحركات الخروجية، وذلك لأن التخلص لما كان مقابلا للابتلاء بديلا له - كما قدمنا - فالزمان الذي يصلح إن يكون زمانا للابتلاء لا بد إن يكون هو الذي يصدق عليه عنوان التخلص، مع إن زمان الحركات الخروجية سابق على زمان الغصب الزائد عليها لو لم يخرج، فهو في حال الحركات الخروجية لا مبتل بالغصب الزائد ولا متخلص منه، بل الغاصب مبتل بالغصب من حين دخوله إلى حين خروجه، وبعد خروجه يصدق عليه إنه متخلص من الغصب.
و (ثانيا) إن التخلص لو كان عنوانا يصدق على الخروج، فلا ينبغي إن يراد من الخروج نفس الحركات الخروجية، بل على تقديره ينبغي إن يراد منه ما تكون الحركات الخروجية مقدمة له أو بمنزلة المقدمة. فلا ينطبق أذن عنوان التخلص على التصرف بالمغصوب المحرم كما يريد إن يحققه هذا القائل. والسر واضح، فإن الخروج يقابل الدخول ولما كان الدخول عنوانا للكون داخل الدار المسبوق بالعدم فلا بد إن يكون الخروج بمقتضى المقابلة عنوانا للكون خارج الدار المسبوق بالعدم. أما نفس التصرف بالمغصوب بالحركات الخروجية التي منها يكون الخروج فهو مقدمة أو شبه المقدمة للخروج لا نفسه.
و (ثالثا) - لو سلمنا إن التخلص عنوان ينطبق على الحركات الخروجية فلا نسلم بوجوبه النفسي، لأن التخلص عن الحرام ليس هو إلا عبارة أخرى عن ترك الحرام، وترك الحرام ليس واجبا نفسيا على وجه يكون ذا مصلحة نفسية
في مقابل المفسدة النفسية في الفعل، نعم هو مطلوب بتبع النهي عن الفعل، وقد تقدم ذلك في مبحث النواهي في الجزء الأول وفي مسألة الضد في الجزء الثاني، فكما إن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام أي نقيضه وهو الترك، كذلك إن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده العام أي نقيضه وهو الترك. ولذا قلنا في مبحث النواهي: إن تفسير النهي بطلب الترك كما وقع للقوم ليس في محلة وإنما هو تفسير للشيء بلازم المعنى العقلي، فإن مقتضى الزجر عن الفعل طلب تركه عقلا لا على إن يكون الترك ذا مصلحة نفسية في مقابل مفسدة الفعل. وكذلك في الأمر فإن مقتضى الدعوة إلى الفعل الزجر عن تركه عقلا لا على إن يكون الترك ذا مفسدة نفسية في مقابل الفعل مصلحة الفعل، بل ليس في النهي الا مفسدة الفعل وليس في الأمر الا مصلحة الفعل. وأما إن الخروج ليس (بواجب غيري)، فلأنه: (أولا) قد تقدم إن مقدمة الواجب ليست بواجبة على تقدير القول بأن التخلص واجب نفسي. و (ثانيا) - إن الخروج الذي هو عبارة عن الحركات الخروجية في مقصود هذا القائل ليس مقدمة لنفس التخلص عن الحرام، بل على التحقيق إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار والكون في خارج الدار ملازم لعنوان التخلص عن الحرام لا نفسه، ولا يلزم من فرض وجوب التخلص فرض وجوب لازمه فإن المتلازمين لا يجب إن يشتركا في الحكم كما تقدم في مسألة الضد. وإذا لم يجب الكون خارج الدار كيف تجب مقدمته. و (ثالثا) - لو سلمنا إن التخلص واجب نفسي وإنه نفس الكون خارج الدار فتكون الحركات الخروجية مقدمة له وإن مقدمة الواجب. واجبة - لو سلمنا كل ذلك فإن مقدمة الواجب إنما تكون واجبة حيث لا مانع من ذلك، كما لو كانت محرمة في نفسها كركوب المركب الحرام في طريق الحج فإنه لا يقع على صفة الوجوب وإن توصل به إلى الوجب. وهنا الحركات الخروجية تقع على صفة الحرمة كما قدمنا باعتبار إنها من أفراد الحرام وهو التصرف بالمغصوب فلا تقع على صفة الوجوب من باب المقدمة. فإن قلت: إن المقدمة المحرمة إنما لا تقع على صفة الوجوب حيث لا تكون منحصرة، وأما مع انحصار التوصل بها إلى الواجب فإنه يقع التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها لأن الأمر يدور حينئذ بين امتثال الوجوب وبين امتثال الحرمة، فلو كان الوجوب أهم قدم على حرمة المقدمة فتسقط حرمتها. وهنا الأمر كذلك فإن المقدمة منحصرة، والواجب - وهو ترك الغصب الزائد - أهم. قلت: هذا صحيح لو كان الدوران لم يقع بسوء اختيار المكلف، فإنه حينئذ يكون الدوران في مقام التشريع. وأما لو كان الدوران واقعا بسوء اختيار المكلف كما هو مفروض في المقام، فإن المولى في مقام التشريع قد استوفى غرضه من أول الأمر بالنهي عن الغصب مطلقا ولا دوران فيه حتى يقال: يقبح من المولى تفويت غرضه الأهم. وإنما الدوران وقع في مقام استيفاء الغرض استيفاء خارجيا بسبب سوء اختيار المكلف بعد فرض إن المولى من أول الأمر - قبل إن يدخل المكلف في المحل المغصوب - قد استوفى كل غرضه في مقام التشريع إذ نهى عن كل تصرف بالمغصوب، فليس هناك تزاحم في مقام التشريع، فالمكلف يجب عليه إن يترك الغصب الزائد بالخروج عن المغصوب، ونفس الحركات الخروجية تكون أيضا محرمة يستحق عليها العقاب لأنها من أفراد ما هو منهي عنه، وقد وقع في هذا المحذور والدوران بسوء اختياره. صحة الصلاة حال الخروج: وأما (الناحية الثانية) وهي صحة الصلاة حال الخروج، فإنها تبتني على اختيار أحد الأقوال في الناحية الأولى. فإن قلنا: بأن الخروج يقع على صفة الوجوب فقط، فإنه لا مانع من الإتيان بالصلاة حالته، سواء ضاق وقتها أم لم يضق، ولكن بشرط الا يستلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا على الحركات الخروجية فإن هذا التصرف الزائد حينئذ يقع محرما منهيا عنه. فإذا استلزم أداء الصلاة تصرفا زائدا فإن كان الوقت ضيقا، فلا بد إن يؤدي الصلاة حال الخروج ولا بد إن يقتصر منها على أقل الواجب فيصلي أيماء بدل الركوع والسجود. وإن كان الوقت متسعا لأدائها بعد الخروج وجب إن ينتظر بها إلى ما بعد الخروج. وإن قلنا: بوقوع الخروج على صفة الحرمة فإنه مع سعة الوقت لا بد إن يؤديها بعد الخروج سواء استلزمت تصرفا زائدا أم لم تسلتزم، ومع ضيق الوقت يقع التزاحم بين الحرام الغصبي والصلاة الواجبة، والصلاة لا تترك بحال فيجب أداؤها مع ترك ما يستلزم منها تصرفا زائدا فيصلي أيماء للركوع والسجود ويقرأ ماشيا فيترك الاطمئنان الواجب وهكذا. وإن قلنا: بعدم وقوع الخروج على صفة الحرمة ولا صفة الوجوب فلا مانع من أداء الصلاة حال الخروج إذا لم تستلزم تصرفا زائدا حتى مع سعة الوقت على النحو الذي تقدم.
________________
(1) إنما يفرض العموم من وجه بين العنوانين إذا لم يكن الاجتماع بينهما اجتماعا مورديا بل كان اجتماعا حقيقيا: ونعني بالاجتماع الحقيقي إن يكون فعل واحد ينطبق عليه العنوانان على وجه يصح في كل منهما إن يكون حاكيا عنه ومرآة له وإن كان منشأ كل من العنوانين مباينا في وجوده بالدقة العقلية لمنشأ العنوان الآخر. ولكن انطباق العناوين على فرد واحد لا يجب فيه إن يكون من قبيل انطباق الكلي على فرده، أي لا يجب إن يكون المعنون فردا للعنوان ومن حقيقته، لأن المعنون كما يجوز إن يكون من حقيقة العنوان يجوز إن يكون من حقيقة أخرى وإنما الذهن يجعل من العنوان حاكيا ومرآة عن ذلك المعنون كمفهوم الوجود الذي هو عنوان لحقيقة الوجود مع إنه ليس من حقيقته، ومثله مفهوم الجزئي الذي هو عنوان للجزئي الحقيقي وليس هو بجزئي بل كلي، وكذا مفهوم الحرب والنسبة وهكذا. ولأجل هذا عممنا العنوان إلى قسمين. وهذا التعميم سينفعك فيما يأتي في بيان المختار في المسألة فكن على ذكر منه. ولقد أحسن المولى صدر المحققين في تعبيره للتفرقة بين القسمين إذ قال في الجزء الأول من الأسفار (وفرق بين كون الذات مصدوقا عليه بصدق مفهوم وكونها مصداقا لصدقه). وقد أراد بالمصدوق النحو الثاني وهو المعنون الصرف بالنسبة إلى معنونه، وأراد بالمصداق فرد الكلي، ويا ليت إن يعمم هذا الاصطلاح المخترع منه للتفرقة بين القسمين.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
خدمات متعددة يقدمها قسم الشؤون الخدمية للزائرين
|
|
|