المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8198 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
الموطن الاصلي للفجل
2024-11-24
التربة المناسبة لزراعة الفجل
2024-11-24
مقبرة (انحور خعوي) مقدم رب الأرضين في مكان الصدق في جبانة في دير المدينة
2024-11-24
اقسام الأسارى
2024-11-24
الوزير نفررنبت في عهد رعمسيس الرابع
2024-11-24
أصناف الكفار وكيفية قتالهم
2024-11-24

الكالسيوم
19-4-2018
جهاز الناظم الحيوي (Biostat)
28-8-2017
معنى كلمة فزع
27-8-2022
معنى كلمة خشع
4-06-2015
رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير
6-7-2022
جسم المقال الافتتاحي
9-7-2019


جولة من الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري  
  
751   01:12 مساءاً   التاريخ: 10-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني.
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج2. ص. 382
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعاريف ومفاهيم ومسائل اصولية /

إنّ الأعلام قد مالوا يميناً ويساراً في هذا الباب ; فكلٌّ اختار مهرباً للجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، فلا بأس بالإشارة إلى بعضها ، فنقول :

تقريب المحقّق النائيني للجمع:

قد ذكر بعض أعاظم العصر جواباً لتخلّف الطرق والأمارات ، وجواباً آخر للأصول المحرزة ، وثالثاً لغير المحرزة منها .

فأفاد ـ قدس سره ـ في الجمع عند تخلّف الطرق ما هذا حاصله : إنّ المجعول فيها ليس حكماً تكليفياً حتّى يتوهّم التضادّ بينها وبين الواقعيات ، بل الحقّ أنّ المجعول فيها هو الحجّية والطريقية ، وهما من الأحكام الوضعية المتأصّلة في الجعل ; خلافاً للشيخ ـ قدس سره ـ  ; حيث ذهب إلى أنّ الأحكام الوضعية كلّها منتزعة من الأحكام التكليفية(1) .

والإنصاف : عدم تصوّر انتزاع بعض الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية ، مثل الزوجية فإنّها وضعيـة ويتبعها جملة مـن الأحكام ، كوجـوب الإنفاق على الزوجة وحرمة تزويج الغير لها ، وحرمة ترك وطيها أكثر من أربعة أشهر إلى غير ذلك .

وقد يتخلّف بعضها مع بقاء الزوجية ، فأيّ حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه ؟ وأيّ جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأً لانتزاع الزوجية ؟ فلا محيص في أمثالها عن القول بتأصّل الجعل .

ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات ; فإنّها متأصّلة بالجعل ـ ولو إمضاءًـ لما تقدّمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا يعتمدون عليها العقلاء في مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع ، فنفس الحجّية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار ، من دون أن يكون هناك حكم تكليفي منشأ لانتزاعه .

إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ظهر لك : أ نّه ليس فيها حكم حتّى ينافي الواقع ، فلا تضادّ ولا تصويب . وليس حال الأمارات المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً ، فعند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي ـ كالعلم الموافق ـ ويوجب تنجيزه ، وعند الخطأ يوجب المعذورية وعدم صحّة المؤاخذة عليه ـ كالعلم المخالف ـ من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول (2)، انتهى .

وفيما أفاده مواقع للنظر :

أمّا أوّلاً : فقد أشرنا إليه (3) وسيوافيك تفصيله عند البحث عن حجّية الأمارات العقلائية(4) ، ومحصّله : أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكم وضعي ولا تكليفي ، وإنّما عمل بها الشارع كما يعمل بها العقلاء في مجاري اُمورهم من معاملاتهم وسياساتهم .

وليس إمضاء الشارع العمل بالأمارات مستتبعاً لإنشاء حكم ، بل مآله إلى عدم الردع وعدم التصرّف في بناء العقلاء . وما ورد من الروايات(5)  كلّها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ، وقد اعترف به ـ قدس سره ـ فيما سبق(6) ، ولكنّه أفاد هنا ما ينافيه .

وثانياً : لو كان المستند للقول بجعل الوسطية والطريقية من جانب الشارع هـو الأخبار الواردة في شأن الآحاد من الأخبار أو شأن مخبريها ، كقولـه ـ عليه السلام ـ  : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» وأشار إلى زرارة(7) ، ومثل قولـه ـ عليه السلام ـ  : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(8) ، ومثل قولـه ـ عليه السلام ـ  : «عليك بالأسـدي» ; يعني أبا بصير(9) ، وقولـه ـ عليه السلام ـ  : «العمري ثقتي ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمـون»(10) ، إلى غير ذلك مـن الروايات الكثيرة التي سيجيء كثير منها في بابه .

 

فلا شكّ أنّه لو كان المستند هذه الأخبار فالمجعول فيها ـ مع قطع النظر عمّا قلنا من أ نّها إرشاد إلى ما عليه العقلاء ـ هو وجوب العمل على طبقها تعبّداً على أنّها هو الواقع ، وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، وليس فيها أيّ أثر من حديث جعل الوسطية والطريقية .

نعم ، لو كان المدرك مفهوم آية النبأ {ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6] يمكن أن يقال : إنّها بصدد جعل الكاشفية لخبر العادل ولكنّه ـ مع قطع النظر عن الإشكالات المقرّرة في محلّه(11) ، وعمّا احتملناه في الأخبار ; من كونها إرشاداً إلى عمل العقلاء ـ مدفوع بأنّها بصدد جعل وجوب العمل على طبق قول العادل ، لا جعل المبيّنية والكاشفية ، وإنّما المبيّنية جهة تعليلية لجعل وجوب العمل ، وليست موردة للجعل .

وثالثاً : أنّ ما هو القابل للجعل في المقام إنّما هو وجوب العمل على طبق الأخبار ووجوب ترتيب الأثر على مؤدّاها ، وأمّا الطريقية والكاشفية فليس ممّا تنالها يد الجعل ; فلأنّ الشيء لو كان واجداً لهذه الصفة تكويناً فلا معنى لإعطائها لها ، وإن كان فاقداً له ـ كالشكّ ـ فلا يعقل أن يصير ما ليس بكاشف كاشفاً ، وما ليس طريقاً طريقاً ; فإنّ الطريقية والكاشفية ليست أمراً اعتبارياً كالملكية حتّى يصحّ جعلها بالاعتبار .

وقس عليه تتميم الكشف وإكمال الطريقيـة ، فكما أنّ اللاكاشفية ذاتيـة للشكّ لا يصحّ سلبه ، فكذلك النقصان في مقام الكشف ذاتي للأمارات لا يمكن سلبها . فما ينالـه الجعل ليس إلاّ إيجـاب العمل بمفادهـا والعمل على طبقها وترتيب آثـار الواقـع عليها ، ولمّا كـان ذاك التعبّد بلسان تحقّق الواقـع وإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً صحّ انتزاع الوسطية والكاشفية .

وقس عليه الحجّية ; فلأنّ معناها كون الشيء قاطعاً للعذر في ترك ما اُمر بفعله وفعل ما اُمر بتركه ، ومعلوم أ نّه متأخّر عن أيّ جعل ـ تكليفاً أو وضعاً ـ فلو لم يأمر الشارع بوجوب العمل بالشيء ـ تأسيساً أو إمضاءً ـ فلا يتحقّق الحجّية ولا يقطع به العذر .

ورابعاً : أنّ عدم إمكان انتزاع الزوجية عمّا ذكره مـن الأحكام لا لعدم الجامـع بينها ، بل لأجـل كونها آثـاراً متأخّرة عـن الزوجيـة ، وهي بعد يعـدّ موضوعاً لهذه الأحكام المتأخّرة ، فلا معنى لانتزاع ما هو المتقدّم طبعاً عمّا هـو متأخّر كـذلك .

نعم ، هاهنا أحكام تكليفية يمكن أن يتوهّم إمكان انتزاع الزوجية منها ، كالأوامر الواردة بالنكاح في الآيات({ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] و{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] ) ، أو قوله تعالى : {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] .

ومع ذلك كلّه فالتحقيق : أنّ الزوجية ليست من المخترعات الشرعية ، بل مـن الاعتبارات العقلائية التي يدور عليها فلك الحياة الإنسانية ، فبما أنّ الزوجية ممّا يتوقّف عليه نظام الاجتماع ويترتّب عليه آثار ومنافع لا تحصى قام العقلاء على اعتبارها ، نعم الشرائع السماوية قد تصرّف فيها ; تصرّفاً يرجع إلى إصلاحها وبيان حدودها .

وخامساً : فبعد هذا الإطناب فالإشكال باق بعد بحاله ; فإنّ جعل الوسطية والطريقية والحجّية للطرق والأمارات مع العلم بأنّها ينجرّ أحياناً إلى المخالفة والمناقضة للواقع لا يجتمع مع بقاء الأحكام الواقعية على ما عليها من الفعلية التامّة .

وبالجملة : أنّ الإرادة الجدّية الحتمية بالأحكام الواقعية لا تجتمع مع تعلّق مثل تلك الإرادة على جعل الوسطية للطرق التي ربّما يوجب تفويت الواقع ; فإنّ ذلك الجعل يلازم الترخيص الفعلي في مخالفة الأحكام الواقعية .

وقياس جعل الوسطية في الإثبات بالعلم المخالف للواقع أحياناً قياس مع الفارق ; فإنّ العمل بالعلم المخالف ليس ترخيصاً من الشارع في مخالفة الأحكام الواقعية ، وإنّما هو ضرورة ابتلى به المكلّف لا من جانب الشارع بل لقصور منه ، وهذا بخلاف جعل الحجّية على الأمارة المؤدّية إلى خلاف الواقع .

هذا كلّه إذا قلنا ببقاء الواقع على ما عليه من الفعلية ـ أي باعثاً وزاجراً ـ وأمّا إذا قلنا بأنّه يصير إنشائياً أو فعلياً بمرتبة دون مرتبة ، وأنّ الشارع قد رفع اليد لأجل مصالح اجتماعية عن تلك الواقعيات فلا مضادّة ولا منافاة بين الواقعي والظاهري ، ولا يحتاج إلى إتعاب النفس وعقد هذه المباحث .

وبذلك يظهر ما في كلام المحقّق الخراساني ; حيث تخلّص عن كافّة الإشكالات بأنّ الحجّية غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية (12) ; فإنّ هذا التقريب لا يحسم مادّة الإشكال ، كالقول بأنّ أحدهما طريقي والآخر واقعي (13) ; فإنّ جعل الحجّية والطريقية لمّا كان ينتهي أحياناً إلى مخالفة الواقع ومناقضته لا تجتمع مع فعلية الأحكام الواقعية .

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة:

ثمّ إنّه أفاد فيها ما هذا حاصله : أنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم ، ولأجل ذلك قامت مقام القطع الطريقي . فالمجعول فيها ليس أمراً مغايراً للواقع ، بل الجعل الشرعي تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أ نّه هو الواقع .

كما يرشدنا إليه قوله ـ عليه السلام ـ في بعض أخبار قاعدة التجاوز : «بأنّه قد ركع»(14)  فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو ، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه ، من دون أن يتعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه ، فلا يكون ما وراء الحكم الواقعي حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(15) ، انتهى .

وفيه : أنّ الجري العملي والبناء العملي على أحد طرفي الشكّ ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ممّا لا تناله يد الجعل ; لأنّه فعل للمكلّف ، وما يصحّ جعله إنّما هو إيجاب الجري العملي ، فهو لا يفيد ولا يرفع غائلة التضادّ بين الواقعية والظاهرية ; فإنّ إيجاب الجري العملي على إتيان الشرط أو الجزء بعد تجاوز محلّه ـ مع أ نّه أحياناً يؤدّي إلى ترك الواقع ـ لا يجتمع مع فعلية حكم الجزئية والشرطية ، ولا يعقل جعل الهوهوية بين الواقع وما يخالفه أحياناً .

أضف إلى ذلك : أ نّه ليس من حديث الهوهوية عين ولا أثر في الاُصول التنزيلية ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الاستصحاب وقاعدة التجاوز .

كلام المحقّق النائيني في غير المحرزة من الاُصول

ثمّ إنّه ـ قدس سره ـ قد أفاد في هذا الباب ما هذا ملخّصه : إنّ للشكّ في الحكم الواقعي  اعتبارين:

أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه ، كحالة العلم والظنّ. وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي ; لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .

ثانيهما : اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع ، وعدم كونه موصلاً إليه ومنجّزاً له . وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه . كما أ نّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية.

فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمّم ، كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ; فإنّه أهمّ من مفسدة حفظ نفس الكافر ، فيقتضي جعل حكم طريقي لوجوب الاحتياط في موارد الشكّ .

وهذا الحكم الاحتياطي إنّما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته ; ولذا كان خطابـه نفسياً لا مقدّمياً ; لأنّ الخطاب المقدّمي ما لا مصلحـة فيه أصلاً ، والاحتياط ليس كذلك ; لأنّ أهمّية الواقع دعت إلى وجوبه ، فهو واجب نفسي للغير لا واجب بالغير ; ولذا كان العقاب على مخالفته ـ لا على مخالفة الواقع ـ لقبح العقاب عليه مع الجهل .

فإن قلت : فعليه يصحّ العقوبة على مخالفة الاحتياط ـ صادف الواقع أو لا ـ لكونه واجباً نفسياً .

قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يدور الحكم مداره هو الأوّل دون الثاني، ولا إشكال في أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّة للحكم بالاحتياط . ولا يمكن أن يبقى في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظه ، ولكن لمكان جهل المكلّف كان اللازم عليه الاحتياط ; تحرّزاً عن مخالفة الواقع .

ومن ذلك يظهر : أنّه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ; فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإلاّ فلا; لانتفاء علّته ، والمكلّف يتخيّل وجوبه لجهله بالحال . فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي ; وإن كان من جهة اُخرى يغايره .

والحاصل : أ نّه لمّا كان إيجاب الاحتياط من متمّمات الجعل الأوّلي فوجوبه يدور مداره ، ولا يعقل بقاء المتمّم ـ بالكسر ـ مع عدم المتمّم . فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضادّ بينهما ; لاتّحادهما في مورد المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضادّ ؟ !

هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمّم ، وأمّا مع عدم الأهمّية فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع ، كما في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  : «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون»(16)، وبلسان الوضع ، مثل قوله ـ عليه السلام ـ  : «كلّ شيء حلال»(17) ; فإنّ رفع التكليف ليس من  موطنه ليلزم التناقض ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط .

فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع .

والسرّ فيه : أنّها تكون في طول الواقع ; لتأخّر رتبته عنه ; لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ، ولا منجّز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضادّه ؟ !

وبالجملة : الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً ، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه(18) ، انتهى كلامه رفع مقامه .

ولا يخفى : أنّ في كلامه ـ قدس سره ـ مواقع للنظر ، نشير إلى مهمّاتها :

1 ـ إنّ أخذ الشكّ تارة بما أنّه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي ، واُخرى بما أ نّه موجب للحيرة فيه لا يرجع إلى محصّل ; لأ نّه تفنّن في التعبير وتغيير في اللفظ .

ولو سلّمنا ذلك حكماً يرتفع غائلة التضادّ بالاعتبار الثاني ـ أعني جعله موضوعاً بما أ نّه موجب للتحيّر ـ لكون المجعول والموضوع في طول الواقع .

كذلك يرتفع الغائلة بجعل الحكم على الشكّ بالاعتبار الأوّل ; لكون الشكّ في الشيء متأخّراً عن الشيء ، فجعل أحدهما رافعاً دون الآخر لا محصّل له .

والحقّ : عدم ارتفاعها بكلا الاعتبارين ; لكون الحكم الواقعي محفوظاً مع الشكّ والحيرة .

2 ـ إنّ الحكم الواقعي إن بقي على فعليته وباعثيته فجعل المؤمّن ـ كأصالة البراءة ـ مستلزم لترخيص ترك الواقع الذي هو فعلي ومطلوب للمولى ، ومع هذا فكيف يرتفع غائلة التضادّ ؟ وإن لم يبق على فعليتـه وباعثيتـه ـ كما اعترف في المقام بأنّ الأحكام الواقعيـة بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية(19) ـ فالجمع بين الواقعي والظاهري حاصل بهذا الوجـه ، بلا احتياج إلى ما أتعب به نفسه الزكية .

3 ـ إنّ ما أورده على نفسه من أنّ لازم كون الاحتياط واجباً نفسياً هو صحّة العقوبة على مخالفة الاحتياط ـ صادف الواقع أو لا ـ بعد باق على حاله .

وما تفصّى به عنه من عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظه ; لكون وجوب حفظ المؤمن علّة للحكم بالاحتياط لا علّة للتشريع لا يدفع الإشكال ; فإنّ خلاصة كلامه ـ قدس سره ـ يرجع إلى أنّ وجوب الاحتياط دائر مدار وجود الحكم الواقعي.

وعليه فالعلم بوجود الحكم الواقعي يلازم العلم بلزوم الاحتياط ، كما أنّ العلم بعدمه يلازم العلم بعدم وجوب الاحتياط .

ويترتّب عليه : أنّ الشكّ في الحكم الواقعي يستلزم الشكّ في وجوب الاحتياط ، فكما أنّ الحكم الواقعي لا داعوية له في صورة الشكّ في وجوده فهكذا وجوب الاحتياط ، فلا يصلح للباعثية في صورة الشكّ .

ولو تعلّق وجوب الاحتياط بمورد الشكّ الذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمّم آخر ، ويصير إيجاب الاحتياط حينئذ لغواً ; فإنّ موارد الاحتياط ـ كافّة ـ ممّا يكون وجود الحكم الواقعي مشكوكاً ، كما في الاحتياط في الدماء والأعراض والأموال .

وبذلك يظهر : أنّ ما ذكره من أنّ المكلّف لمّا لم يعلم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه أو لا يجب كان اللازم هو الاحتياط ; تحرّزاً عن مخالفة الواقع غير واضح ; فإنّ وجوب الاحتياط على النحو الذي قرّره لا يقصر عن الأحكام الواقعية . فكما لا داعوية له في ظرف الشكّ في وجوده فهكذا ما هو مثلها ; أعني وجوب الاحتياط على ما التزم به .

وعليه يصير الاحتياط في عامّة الموارد اللازمة في الشبهات البدوية لغواً باطلاً ; فإنّ الاحتياط في كافّة الموارد إنّما هو في صورة الشكّ في الحكم الواقعي ، لا غير .

والتحقيق : ما هو المشهور من أنّ الاحتياط ليس محبوباً وواجباً نفسياً ومتعلّقاً لغرض المولى ، والغرض من إيجابه هو حفظ الواقع لا غير ، ولأجله لا يستلزم ترك الاحتياط عقوبة وراء ترك الواقع .

4 ـ إنّ ما ذكره في بعض كلامه من أنّ متمّم الجعل ـ أصالة الاحتياط ـ فيما نحن فيه يتكفّل بيان وجود الحكم في زمان الشكّ فيه لا يخلو من ضعف ; لأ نّه ـ  مضافاً إلى مخالفته لما قال سابقاً من أنّ الاحتياط أصل غير محرز ـ يستلزم كون الاحتياط أو إيجابه أمارة لوجود الحكم في زمان الشكّ ، وهو خلاف الواقع ; فإنّ إيجاب الاحتياط مع الشكّ لغرض الوصول إلى الواقع غير كونه كاشفاً عن الواقع .

5 ـ ما ذكره من أنّ أصالة البراءة والحلّية في طول الواقع ; لأنّهما في عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع غير واضح ; فإنّ التقدّم الرتبي غير التقدّم الزماني والمكاني ; فإنّ ما ذكره صحيح فيهما ، وأمّا الرتبي فالتقدّم والتأخّر تابع لوجود الملاك في الموصوف ; فإنّ مجرّد كون الشيء في عرض المتأخّر رتبة عن الشيء لا يستلزم تأخّره عنه أيضاً ; فإنّ المعلول متأخّر رتبة عن علّته . وأمّا ما هو في رتبة المعلول من المقارنات الخارجية فليس محكوماً بالتأخّر الرتبي عن تلك العلّة ، كما هو واضح في محلّه وعند أهله(20) .

وأمّا حديث قياس المساواة فقد ذكر المحقّقون : أنّ مجراها إنّما هو المسائل الهندسية ، فراجع إلى مظانّها وأهلها(21) .

تقريب المحقّق العراقي للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

وهو ما أفاده بعض محقّقي العصر ـ قدس سره ـ  ، وخلاصة ما أفاده لرفع التضادّ هو أنّ الأحكام متعلّقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوّري كونها غير الخارج ; وإن كانت بالنظر التصديقي غيره ، مع وقوف الحكم على نفس العنوان وعدم سرايته إلى المعنون .

وأ نّه قد ينتزع من وجود واحد عنوانان طوليان ; بحيث يكون الذات ملحوظة في رتبتين : تارة في رتبة سابقة على الوصف ، واُخرى في رتبة لاحقة ، نظير الذات المعروضة للأمر التي يستلزم تقدّم الذات عليه ، والذات المعلولة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة التي يستلزم تأخّر الذات عنها ، وكالجهات التعليلية التي اُنيط بها الحكم ; فإنّه لابدّ فيها من فرض وجود الوصف قائماً بموصوفه ، والحكم في هذا الظرف على نفس الذات الملحوظة في الرتبة المتأخّرة عن الوصف بلا أخذ الوصف قيداً للموضوع ، كالجهات التقييدية .

ومن هذا القبيل صفة المشكوكية ; لأ نّها جهة تعليلية لتعلّق الحكم بالموضوع حسب ظاهر أدلّتها لا تقييدية لموضوعاتها ، ولازم ذلك اعتبار الذات في رتبتين : تارة في الرتبة السابقة على الوصف ، واُخرى في الرتبة اللاحقة .

فيختلف موضوع الحكم الظاهري والواقعي رتبة ; بحيث لا يكاد يتصوّر الجمع لهما في عالم عروض الحكم ، بخلاف الطولية الناشئة من الجهات التقييدية ; لعدم طولية الذات رتبة ، ومحفوظيتها في رتبة واحدة . فلا يمكن رفع التضادّ كما اُفيد ، انتهى . ومن أراد التوضيح فليرجع إلى كتابه(22) .

وفيما ذكره جهات من الخلل :

منها : أنّ ما ذكره في المقدّمة الاُولى من أنّ كلّ حكم لا يتجاوز عن عنوان إلى عنوان آخر ـ وإن اتّحدا وجوداً ـ صحيح جدّاً ، إلاّ أنّ ما ذكره من أنّ الأحكام متعلّقة على العناوين الذهنية الملحوظة خارجية على وجه لا يرى بالنظر التصوّري كونها غير الخارج ـ وإن كانت بالنظر التصديقي غيره ـ غير صحيح ; فإنّه إن كان المراد أنّ الحاكم يختلف نظره التصوّري والتصديقي عند الحكم فهو واضح الفساد ، وإن أراد أنّ الحاكم لا يرى الاثنينية حين الحكم ; وإن كانت المغايرة موجودة في نفس الأمر أو في نظرة اُخرى فهو يستلزم تعلّق الأمر بالموجود، وهو مساوق لتحصيل الحاصل بنظره .

وبالجملة : أنّ مآله إلى تعلّق البعث إلى الأمر الخارجي ; فإنّ إلقاء الصورة الذهنية من رأس وعدم التوجّه إليها عند الحكم يستلزم تعلّق البعث على الطبيعة الموجودة .

والظاهر : أنّ منشأ ما ذكره هو ما اشتهر بينهم من أ نّه لو تعلّق الأحكام بالطبائع بما هي هي بلا لحاظ كونها مرآة للخارج يلزم كون الطبيعة مطلوبة من حيث هي هي ، وقد ذكرنا ما هو الحقّ في مباحث الألفاظ(23) .

منها : أنّ ما ذكره ـ قدس سره ـ من أنّ الذات في الجهات التعليلية والقضايا الطلبية الشرطية يلاحظ مرّتين : متقدّماً تارة ومتأخّراً اُخرى ، كما في باب الأوامر غير صحيح ; لا في المقيس ولا في المقيس عليه :

أمّا الثاني : فإنّ الأوامـر والأحكام التي يعبّر عنها بالزجـر والبعث ـ إلزامياً أو غير إلزامي ـ ليست من قبيل الأعراض بالنسبة إلى موضوعاتها حتّى يكون فيها مناط التأخّر الرتبي ، بل لها قيام صدوري بالأمر ، كما أنّ لها إضافة اعتبارية بالنسبـة إلى المأمور والمأمـور به والآمـر ، وإنّما قلنا اعتباريـة ; لأ نّها تحليلات ذهنيـة لا يقابلها شيء في الخارج ; بحيث لولاه فهي ليست عرضاً ; لا في الذهن ولا في الخارج .

وأمّا الداعوية : فلو كانت داعوية الأمر أمراً تكوينياً حقيقياً كان لما ذكره وجه ; لأ نّه حينئذ يتأخّر الانبعاث عن البعث ; تأخّر المعلول عن علّته .

ولكن داعويته ليس إلاّ إيقاعياً ـ أي مبيّناً لموضوع الإطاعة فقط ـ لا محرّكاً للمأمور نحو الأمر; ضرورة أنّ العبد إنّما ينبعث عن المبادئ الحاصلة في نفسه ; من الخوف والرجاء ، وأمّا مجرّد الأمر فليس محرّكاً ; ولو مع العلم به .

وعلى هذا : فانبعاث العبد ليس من البعث حتّى يقال : إنّ الانبعاث متأخّر عن البعث رتبة ; لعدم ملاك التأخّر الرتبي .

وأمّا تأخّر الانبعاث عن البعث زماناً وتصوّراً فهو لا يستلزم التأخّر الرتبي الذي لا يتحقّق إلاّ بين العلل والمعاليل .

وأمّا المقيس : فلو سلّم في المقيس عليه لأجل أنّ الذات تارة يلاحظ معروضة فيصير متقدّمة ، واُخرى معلولة لدعوته فتصير متأخّرة ، فلا نسلّم في المقيس ; فإنّ الجهات التعليلية ليست إلاّ علّة لتعلّق الحكم بالموضوع ، فهي مقدّمة على الحكم وتعلّقه بالموضوع ، وأمّا تقدّمها على الذات فلا وجه له .

فلو قلنا : «العصير العنبي يحرم ; لغليانـه» فهنا موضوع وحكم وعلّـة ، فلا  شكّ أنّ الذات مقدّم على الغليان لكونه وصفاً له ، والحكم متأخّر عن الوصف لكونه علّة له .

وعلى ذلك : فتقدّم العلّة على الحكم تقدّم رتبي ، وتأخّره عنها أيضاً كذلك ، وأمّا تقدّمها على الذات فليس له وجه ولا ملاك .

هذا ، مع أنّ القول بارتفاع التضادّ بالجهات التقييدية أولى بارتفاعه من التشبّث بالجهات التعليلية; فإنّه يمكن أن يقال : إنّ بين عنواني الخمر والمشكوك فيه عموماً من وجه ; لتصادقهما في الخمر المشكوك فيه مع كونه خمراً في الواقع ، وتفارقهما في الخمر المعلومة ، والمشكوك فيه إذا كان خلاًّ ، فيمكن أن يكون أحد العنوانين مصبّاً للحلّية واُخرى للحرمة ، كما في عنواني الصلاة والغصب .

لكن قد مرّ منّا في مباحث القطع ما يردّه أيضاً ; للفرق بين المقامين ; فإنّ الدليل الدالّ على وجوب الصلاة غير ناظر إلى ما يدلّ على حرمة الغصب ، وهذا بخلاف المقام فإنّ الأدلّة المرخّصة ناظرة إلى العناوين المحرّمة .

والشاهد عليه : تحديد الحلّية إلى زمن العلم بالخلاف . ولأجل ذلك لا يجتمع الإرادة الحتمية التحريمية على نحو الإطلاق مع الترخيص الفعلي لأجل الاشتباه ، أو جعل الطرق وإمضائها ، التي يؤدّي أحياناً إلى خلاف الواقع .

ومنها : أنّ ما ادّعاه من أنّ صفة المشكوكية والمشتبهية جهات تعليلية خلاف ظاهر أدلّة الباب ; فإنّ الظاهر من حديث الرفع وروايات الحلّ والطهارة وأدلّة الاستصحاب والشكّ بعد تجاوز المحلّ أنّ الأحكام متعلّقة بالمشكوك بما أ نّه مشكوك ، وغير المعلوم بما أ نّه كذلك .

تقريب السيّد الفشاركي للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

إنّ شيخنا العلاّمة قد نقل وجوهاً للجمع ، ونقل وجهاً عن السيّد الجليل الاُستاذ السيّد محمّد الفشاركي ، ومحصّله : عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشكّ في الأوّل .

وتوضيحه : أنّ الأحكام تتعلّق بالمفاهيم الذهنية ; من حيث إنّها حاكية عن الخارج ، فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبية والمبغوضية . ثمّ المفهوم المتصوّر : تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في غير ذلك المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع .

وهذا الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقاً ، إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر الأهمّ ، فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيّد الرقبة بالمؤمنة ، لا لعدم المقتضي بل لمزاحمة المانع ، وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتّحد معه، المخرج له عن المطلوبية الفعلية .

فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن ; بحيث يكون تعقّل أحدهما لا مع الآخر دائماً لا يتحقّق الكسر والانكسار بين الجهتين .

فاللازم منه : أ نّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً مطلقاً ; لعدم تعقّل منافيه ، ومتى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك ; لعدم تعقّل منافيه. والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً ; لأنّ الحالات اللاحقة للموضوع بعد تحقّق الحكم وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، لا يمكن إدراجها في موضوعه .

فلو فرضنا بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقّق جهة المبغوضية فيه، ويصير مبغوضاً بهذه الملاحظة ، لايزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته ; لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً ; لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وهذه ملاحظته مع الحكم .

إن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات ، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعلّق العنوان المتأخّر ، فيجتمع العنوانان ، وعاد الإشكال .

قلت : كلاّ ، فإنّ تصوّر موضوع الحكم الواقعي مبني على تجرّده عن الحكم ، وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم ، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد واللاتجرّد(24) ، انتهى كلامه رفع مقامه .

وفيه أوّلاً : أنّ ذلك مبني على امتناع أخذ ما يأتي من قبل الأمر في دائرة موضوع الحكم ، كالشكّ في الحكم والعلم به ، وقد قدّمنا صحّة الأخذ في باب التعبّدي والتوصّلي(25) ، واعترف ـ قدس سره ـ بصحّته(26) . فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع .

وثانياً : أنّ تأخّر الشكّ عن الحكم وتحقّقه بعد تعلّقه بالموضوع ممنوع ; فإنّ الشكّ في الشيء لا يستلزم تحقّق المشكوك في الخارج كما هو واضح ، وإلاّ لزم انقلاب الشكّ علماً لو علم بهذه الملازمة ، ومع الغفلة ينقلب إذا توجّه .

مضافاً إلى أنّ تعلّقه مع الغفلة دليل على بطلان ما ذكر .

وأمّا لغوية جعل الحكم على المشكوك من دون سبق حكم من الحاكم على الطبيعة المحضة فإنّما يلزم لو لم يكن للحاكم حكم أصلاً ، وهو لا يستلزم تأخّر جعل الحكم على المشكوك عن نفس الحكم على الذات الواقعي .

وثالثاً : أنّ ما أفاده ـ قدس سره ـ من مزاحمة جهة المبغوضية مع جهة المحبوبية مرجعها إلى التصويب الباطل ; فإنّ تلك المزاحمة يستلزم تضيّق الحكم في المزاحم ـ بالفتح ـ بحسب اللبّ .

وما ذكره من إطلاق الحكم بسبب الغفلة عن المزاحم غير مفيد ; فإنّ الإهمال في الثبوت غير متصوّر ; فإنّ الصلاة وإن كانت واجبة في نفس الأمر إلاّ أنّ الصلاة المشكوك حكمها ـ لأجل ابتلائها بالمزاحم الأقوى ، ومزاحمة الجهة المبغوضية الموجود فيها في حال الشكّ مع المحبوبية الكامنة في ذاتها ـ يستلزم تقيّد الوجوب في ناحية الوجوب المتعلّق بالصلاة ، ويختصّ الوجوب بغير هذه الصورة ، وينحصر بالصلاة المعلومة الوجوب ، فعاد الإشكال .

ورابعاً : أنّ ما أفاده في دفع الإشكال من أنّ موضوع الحكم الواقعي هو الذات المجرّد عن الحكم غير واضح ; فإنّه إن أراد من التجرّد لحاظ الماهية مقيّدة بالتجرّد عن الحكم حتّى يصير الموضوع هو الطبيعة بشرط لا ، فهو خلاف التحقيق ; فإنّ متعلّق الأوامر إنّما هو نفس الطبائع، غير مقيّدة بشيء من القيود ; حتّى التجريد .

على أنّه ـ أي لحاظ تجرّد الموضوع عن الحكم ـ يستلزم تصوّر الحكم في مرتبة الموضوع ، مع أنّه حكم بامتناعه ، وجعل الحالات اللاحقة للموضوع كالحكم والشكّ فيه ممّا يمتنع لحاظه في ذات الموضوع .

وإن أراد من التجرّد عدم اللحاظ ـ أعني اللا بشرط ـ فهو محفوظ في كلّ مرتبة ; مرتبة الحكم الواقعي والظاهري ، فيصير مقسماً لمعلوم الحكم ومشكوكه ، فعاد المحذور .

وبقي في المقام تقريبات ، ضربنا عنها صفحاً ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية .

____________

1 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 125 .

2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 105 ـ 108 .

3 ـ تقدّم في الصفحة 332 .

4 ـ يأتي في الصفحة 472 .

5 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 136 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 .

6 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 30 و 90 .

7 ـ اختيار معرفة الرجال : 136 / 216 ، وسائل الشيعة 27 : 143 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 19 .

8 ـ كمال الدين : 484 / 4 ، وسائل الشيعة 27 : 140 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 9 .

9 ـ اختيار معرفة الرجال : 171 / 291 ، وسائل الشيعة 27 : 142 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 15 .

10 ـ الكافي 1 : 329 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 138 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 ، الحديث 4 .

11 ـ يأتي في الصفحة 437 .

12 ـ كفاية الاُصول : 319 .

13 ـ نفس المصدر : 319 ـ 320 .

14 ـ راجع وسائل الشيعة 6 : 317 ، كتاب الصلاة ، أبواب الركوع ، الباب 13 ، الحديث 2 و 3 .

15 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 110 ـ 112 .

16 ـ الخصال : 417 / 9 ، التوحيد : 353 / 24 ، وسائل الشيعة 15 : 369 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحديث 1 .

17 ـ الكافي 5 : 313 / 40 ، وسائل الشيعة 17 : 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ، الباب 4 ، الحديث 4 .

18 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 114 ـ 119 .

19 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 113 .

20 ـ راجع شرح الإشارات والتنبيهات 3 : 233 ـ 236 ، الحكمة المتعالية 2 : 138 ـ 141 .

21 ـ راجع شرح الإشارات والتنبيهات 1 : 279 ـ 280 ، التحصيل : 109 .

22 ـ نهاية الأفكار 3 : 60 ـ 62 .

23 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 487 .

24 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 351 ـ 353 .

25 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 208 .

26 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 94 ـ 95 .

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.