أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2016
1650
التاريخ: 29-8-2016
1179
التاريخ: 9-8-2016
1910
التاريخ: 9-8-2016
1854
|
في حقيقة الطلب وانه هل يكون متحدا مع الارادة أو مغاير لها؟
وقد ذكر في الكفاية في هذا لا مقام مسألة كون المادة موضوعة للوجوب أو الندب، ولكنا نؤخرها إلى المبحث الرابع لتوقفها على فهم حقيقة الطلب.
ولابد لنا قبل الخوض في المقصود من بيان ما هو مطرح انظار الاشاعرة والمعتزلة في النزاع في هذه المسألة، والاشارة الاجمالية إلى مبدأ وجود مذهبي الاعتزال والاشعرية ،
(فنقول) قد كان البحث عن ذات الباري تعالى وحقائق صفاته دائرا بين حكماء العجم والروم بل سائر الناس قل ظهور الإسلام، ولكن طلوع نير الإسلام قد جب هذه المباحث فكان الصحابة رضوان الله عليهم يتلقون معتقداتهم في تلك المسائل بنحو الاندماج من النبي (صلى الله عليه وآله ) والقرآن إلى زمان التابعين، وفي زمنهم قد كثر القتال بين المسلمين وبين الكفار واختلط المسلمون بالأسراء من الكفار، فألقى تلك الاسراء ما كانوا يعلمونه من قبل، (1) في مجالس المسلمين ومحافلهم، وتلقاه المسلمون وباحثوا فيما تلقوه منهم في حلقاتهم التي كانوا يؤسسونها للمناظرات الدينية، فممن اسس حلقة بين المسلمين الحسن البصري (اسير عين التمر) وكان هو رئيسا في الحلقة، وكان يذاكر تلامذته في المسائل الكلامية، وقد وقع يوما من الايام بينه وبين واصل بن عطا (احد من تلامذته) مشاجرة في مسألة، فاعتزل ابن عطا عن حلقته واسس لنفسه حلقة وخالف في اكثر المسائل استاذه ، ومن هنا وجد مذهب الاعتزال، وكان ممن وافق الحسن البصري في معتقداته ابو الحسن الاشعري (من احفاد ابى موسى الاشعري وتلميذ ابي علي الجبائي )، وكان ابو الحسن معاصرا للكليني (رحمه الله)، وكان في الاصل معتزليا ثم اختار مذهب الحسن البصري وتاب عن الاعتزال، لما رأى من اضمحلال المعتزلة، وبه نسبت الطائفة الاشعرية تابعوا الحسن البصري.
(ثم اعلم) ان اول مسألة اختلف فيها بين الاشاعرة والمعتزلة مسألة تكلم الباري تعالى وكان غرضهم من هذا النزاع اثبات ان القرآن حادث أو قديم، وقد سفكت الدماء الكثيرة على هذه المسألة، وكان بعض الخلفاء العباسية كالمأمون مثلا مائلا إلى مذهب الاعتزال فكانوا يحبسون من يعتقد قدم القران من الاشاعرة ويؤذونهم على ذلك.
ولما كان مسألة تكلم الباري اول مسألة وقع فيه البحث من المسائل الكلامية سمي العلم الباحث في الاصول الدينية بعلم الكلام، وبالجملة اول مسألة اختلف فيها بينهما مسألة تكلم الباري فقالت المعتزلة وتبعه الامامية: انه من صفات الفعل، إذ هو عبارة عن ايجاده تعالى اصواتا في احد من الموجودات كالشجرة مثلا فيكون حادثا، وقالت الاشاعرة : انه من صفات الذات فيكون قديما من القدماء الثمانية.
(واستشكل عليهم المعتزلة) بان المراد من التكلم ليس الا ايجاد الاصوات والحروف فلا يتصور كونه من صفات الذات.
(واجاب الاشاعرة) بان المراد من الكلام ليس هو الكلام اللفظي بل الكلام النفسي الذى هو صفة نفسانية للمتكلم، ويكون هو المنشأ للكلام اللفظي، ويكون الكلام اللفظي حاكيا له ودالا عليه دلالة المعلول على علته والمسبب على سببه، ولا يختص ذلك بالباري تعالى بل لنا ايضا كلام لفظي يكون من صفات الفعل وهو الملتئم من الاصوات والحروف، وكلام نفسي قائم بأنفسنا نظير سائر الصفات النفسانية، ويسمى هذا الكلام النفسي طلبا حقيقيا ان كان الطلب اللفظي امرا، وزجرا حقيقيا ان كان اللفظي نهي.
واستشكل عليهم المعتزلة ثانيا بانا لا نجد بعد مراجعة الوجدان غير صفة العلم والارادة والكراهة شيئا قائما بأنفسنا يكون منشئا للكلام اللفظي حتى نسميه بالكلام النفسي أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي، فان الكلام اما ان يكون اخبارا واما ان يكون انشاء، وما يكون موجودا في نفس المتكلم حين الاخبار هو العلم بالنسبة، وما يكون موجودا في نفسه حين الانشاء هو الارادة ان كان الانشاء امرا، والكراهة ان كان نهيا، ولا يمكن ان يكون المراد من التكلم (الذى هو من صفات الله تعالى) العلم أو الارادة أو الكراهة، إذ المقصود اثبات التكلم له في قبال اثبات العلم والارادة والكراهة له تعالى، فما هو مدار كلام الاشاعرة ومختارهم هو ان للمتكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفسه سوى العلم والارادة والكراهة نسميها بالكلام النفسي، ويسمى طلبا حقيقيا في خصوص الاوامر وزجرا حقيقيا في خصوص النواهي، ويكون هذا الزجر الحقيقي منشئا للزجر الإنشائي وذاك الطلب الحقيقي منشئا للطلب الإنشائي وذلك الكلام النفسي منشئا للكلام اللفظي، وقد قالوا:
ان الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلا، وما هو محط نظر المعتزلة نفى تلك الصفة النفسانية المغايرة للعلم والارادة والكراهة بدعوى ان الموجود في اذهاننا عند الاخبار هو صفة العلم فقط.
وعند الامر أو النهي هي الارادة أو الكراهة فقط وليس في اذهاننا في قبال العلم والارادة والكراهة شيء يسمى بالكلام النفسي أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي، وبالجملة نزاع الفريقين انما هو في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم والارادة والكراهة، فالمعتزلة تنفيها وتقول: ان المنشأ للكلام اللفظي ليس سوى العلم أو الارادة أو الكراهة، والاشاعرة تثبتها وتقول: انها المنشأ للكلام اللفظي والامر والنهي ، فاتضح بذلك ان النزاع بينهما لا يكون لغويا: بان ينازعوا في ان لفظي الطلب والارادة هل يكونان مترادفين أو يكون لكل منهما معنى مغاير لمعنى الاخر ولا يكون ايضا مقصود هم من النزاع هو التفحص والدقة في ان المفهوم الذى تصورناه اجمال وعلمنا بالإجمال انه الموضوع له للفظ الارادة هل هو عين ما تصورناه اجمالا وعلمنا انه الموضوع له للفظ الطلب أو مغاير له، بل النزاع بينهما في ثبوت صفة نفسانية فالأشاعرة يثبتون صفة نفسانية في قبال العلم والارادة والكراهة تسمى هذه الصفة في باب الاوامر طلبا فيكون حقيقة الطلب (الذى هو صفة نفسانية) عندهم مغايرة لحقيقة الارادة التي هي ايضا صفة نفسانية، واما العدلية والمعتزلة فينكرون ثبوت تلك الصفة النفسانية فيكون الطلب عندهم متحدا مع الارادة، لا بمعنى ان لنا طلبا وارادة يكونان من صفات النفس وقد اتحدا، بل بمعنى انه لا طلب لنا يكون من صفات النفس في قبال الارادة هذا، ثم ان العالم المحقق الشيخ محمد تقى الأصفهاني صاحب الحاشية لما صادف عنوان اتحاد الطلب والارادة ولم يتتبع حتى يظهر له ما هو مطرح النزاع بن الفريقين، وكان المتبادر إلى ذهنه من لفظ للطلب الطلب الإنشائي ومن لفظ الارادة الصفة النفسانية الخاصة، حكم بتغاير الطلب والارادة وتخيل انه وافق في هذه المسألة الاشاعرة وخالف المعتزلة والامامية (2) مع وضوح انهم لم ينازعوا في ان الطلب الإنشائي هل هو مغاير للإرادة النفسانية أو متحد معها فيختار الاشعري التغاير والمعتزلي الاتحاد، إذ التغاير بينهما اظهر من الشمس وابين من الامس. بل نازعو (كما عرفت) في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم والارادة والكراهة، وكان نزاعهم نزاعا مذهبيا إذ كان مقصودهم اثبات ان القرآن الذى هو كلام الله حادث أو قديم، فم فهمه هذا المحقق من عنوان اتحاد الطلب والارادة وتخيل انه مطرح انظار الاشاعرة والعدلية بعيد عن الصواب ويكون ناشئا من عدم تتبع تاريخ المسألة وما هو محط نظر المتنازعين فيها.
(ثم ان) لشيخنا الاستاذ المحقق الخراساني هيهنا بيانا طويلا في الكفاية زعمه اصلاحا بين الاشاعرة والعدلية مع فساد ما ذكره اولا، وعدم ارتباطه بما هو محط نظر المتنازعين ثانيا وهو (رحمه الله) وان كان قد يقرب في ضمن بيانه إلى ما هو محط نظر المتنازعين خصوصا عند قوله (فان الانسان لا يجد غير الارادة القائمة بالنفس صفة اخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها) الا ان ملاحظة مجموع كلامه من الصدر إلى الذيل توجب الاطمئنان بعدم كون مطرح النزاع معلوما له خصوصا بعد ارادته الاصلاح بين الطرفين بما ذكره تحقيقا للمطلب.
وحاصل ما ذكره ان لفظي الطلب والارادة موضوعان بإزاء مفهوم واحد ولهذا المفهوم الواحد نحو ان من الوجود : الوجود الحقيقي وهو وجوده في النفس، والوجود الإنشائي وهو المنشأ بالصيغة، فالطلب والارادة متحدان في المفهوم والوجود الحقيقي والوجود الإنشائي.
غاية الامر ان لفظ الطلب ينصرف عند اطلاقه إلى وجوده الإنشائي، ولفظ الارادة ينصرف إلى وجوده الحقيقي، وهذا لا يوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم نعم وجود هذا المفهوم الواحد بالوجود الإنشائي (الذي ينصرف إليه لفظ الطلب) مغاير لوجوده الحقيقي (الذى ينصرف إليه اطلاق لفظ الارادة)، وعلى هذا يمكن ان يصلح بين الطرفين بان يقال: ان مراد العدلية من الاتحاد ما ذكرناه من اتحادهما في المفهوم وفي كلا الوجودين، ومراد الاشاعرة من التغاير ما ذكرناه من ان ما ينصرف إليه اطلاق لفظ الطلب (اعني الوجود الانشائى لهذا المفهوم) مغاير لما ينصرف إليه اطلاق لفظ الارادة (اعني الوجود الحقيقي لهذا المفهوم) (انتهى).
(اقول) قد عرفت ان نزاع الاشاعرة والعدلية ليس في ان لفظي الطلب والارادة هل وضعا بإزاء مفهوم واحد أو يكون لكل منهما معنى غير ما للأخر، إذ البحث على هذا لغوى مربوط بعلم اللغة، بل النزاع بينهما في انه هل يكون عند التكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفس المتكلم تكون منشئا للكلام اللفظي سوى العلم والارادة والكراهة أو لا تكون في نفسه صفة وراء هذه الثلاثة؟ وعلي هذا يكون البحث كلاميا، ولا يقبل هذا النزاع اصلاحا ولعله اشار إلى هذا بقوله (في اخر كلامه) فافهم.
(ثم اعلم) ان ما ذكره (من اتحاد الطلب والارادة مفهوما وخارجا وانشاء) فاسد من اصله فان لفظ الارادة موضوع لصفة خاصة من صفات النفس، والصفات النفسانية من الامور الحقيقية التي يكون بحذائها شيء في الخارج فلا تقبل الوجود الإنشائي لإباء الامور الحقيقية هذا النحو من الوجود بخلاف الطلب فان له معنى قابلا لان يوجد بالإنشاء وهو البعث والتحريك، (وبعبارة اخرى) الموجودات على قسمين :
(الاول) ما يكون له وجود حقيقي في الخارج بحيث يكون بازائه شيء فيه كالانسان والحيوان والبياض ونحوها .
(الثاني) ما لا يكون كذلك بل يكون وجوده بوجود منشأ انتزاعه، وهذا القسم يسمى بالأمور الانتزاعية ، وهي ايضا على قسمين:
(الاول) ما ينتزع عن الامور الحقيقية بحيث لا يحتاج في انتزاعه إلى فرض الفارضين واعتبار المعتبرين كالفوقية والتحتية والابوة والبنوة ونحوها .
(الثاني) ما ينتزع عن الاعتبارات والإنشاءات كالملكية والزوجية والسلطنة والحكومة ونحوها، فهذه اقسام ثلاثة، والقسم الاول والثاني لا يقبلان الانشاء، وما يقبله هو القسم الثالث، ومفهوم الارادة (التي هي صفة من صفات النفس) من القسم الاول فلا تقبل الانشاء بخلاف الطلب فان له معنى قابلا لان ينشأ، إذ ليس معناه سوى البعث والتحريك نحو العمل، وكما انهما يحصلان بالتحريك الفعلي بان يأخذ الطالب بيد المطلوب منه ويجره نحو العمل المقصود فكذلك يحصلان بالتحريك القولي بان يقول الطالب: اضرب أو اطلب منك الضرب أو آمرك بكذا مثلا، فقول الطالب: (افعل كذا)، بمنزلة أخذه بيد المطلوب منه وجره نحو العمل المقصود.
(والحاصل) ان حقيقة الطلب مغايرة لحقيقة الارادة، فان الارادة من الصفات النفسانية بخلاف الطلب، فانه عبارة عن تحريك المطلوب منه نحو العمل المقصود: اما تحريكا عمليا مثل ان يأخذ الطالب بيده ويجره نحو المقصود أو تحريكا انشائيا مثل افعل كذا، ولا ارتباط لهذا المعنى (بكل قسميه) بالإرادة التي هي من صفات النفس (نعم) الطلب (بكلا معنييه) مظهر للإرادة ومبرز لها، فمن اراد من عبده تحقق فعل خاص أو وجود مقدماته بقصد التوصل بها إلى الفعل، قد يحركه نحو الفعل تحريكا عمليا، وقد يقول له (افعل كذا) مريدا بهذا القول تحقق ذاك التحريك، فمفاد افعل تحريك تنزيلي يعبر عنه بالطلب الإنشائي.
(ولا يتوهم) مما ذكرنا (من اختلاف الطلب والارادة مفهوما) موافقتنا الاشاعرة، إذ نزاع الاشاعرة مع العدلية (كما بيناه) ليس في اختلاف الارادة والطلب مفهوما أو اتحادهما كذلك بل في وجود صفة نفسانية اخرى في قبال الارادة وعدم وجودها فافهم.
(ثم انه استدل الاشاعرة) على ما ادعوه (من وجود صفة نفسانية في قبال العلم واختيه) بوجهين (الاول) ان الاوامر الامتحانية والاعتذارية مثل الاوامر الجدية في احتياجها إلى وجو منشأ في نفس المتكلم، وحيث لا ارادة في نفس المتكلم (في تلك الاوامر) فلابد من وجود صفة اخرى في نفسه لتكون هي المنشأ لأمره، وتسمى هذه الصفة بالطلب النفسي، وإذا ثبت ان المنشأ للأوامر الامتحانية صفة اخرى في نفس المتكلم سوى الارادة، ثبت ان المنشأ لجميع الاوامر هذه الصفة، لعدم القول بالفصل بين الاوامر الامتحانية وغيرها.
(ونجيب عن هذا الاستدلال) بان المنشأ للأوامر مطلقا هو الارادة، غاية الامر ان المنشأ للأوامر الجدية ارادة نفس المأمور به، والمنشأ للأوامر الامتحانية ارادة اتيان مقدماته بقصد التوصل به إلى المأمور به: (تفصيل ذلك) ان المقاصد التي تدعو المولى إلى الامر مختلفة :
(فبعضها) مما يحصل بإيجاد العبد نفس المأمور به، مثاله جميع المقاصد والغايات المنظورة من الاوامر الجدية، (وبعضها) مما يحصل بإيجاد المكلف مقدمات المأمور به، بقصد التوصل بها إلى المأمور به بحيث لا دخالة لنفس المأمور به في ترتب الغاية المطلوبة اصلا، بل كل ما يحصل بفعل المأمور به مع مقدماته بقصد التوصل، يحصل بصرف فعل المقدمات بقصد التوصل ايضا، مثال ذلك امره (تعالى) ابراهيم بذبح ولده، فان المقصود من هذا الامر لم يكن الا وصول ابراهيم (عليه السلام) إلى الكمالات النفسانية ومرتبة كمال التسليم والانقياد لرب الارباب بإيثاره رضاية ربه على محبة الولد، وهذه الكمالات النفسانية كانت تحصل له بصرف اتيانه مقدمات الذبح بقصد التوصل بها إلى نفس الذبح بحيث كان وقوع نفس الذبح خارجا وعدم وقوعه متساويين في ذلك.
(ففي القسم الاول) يكون منشأ الامر ارادة نفس الفعل، (وفي القسم الثاني) منشأه ارادة اتيان المقدمات بقصد التوصل، والامر بالفعل انما هو بداعي حصول هذا القصد في نفس العبد، والا فالفعل لا دخالة له في حصول الغاية اصلا، فالذي اراد الله تعالى من ابراهيم (عليه السلام) هو نفس اتيان مقدمات الذبح بقصد التوصل بها إليه فلما اوجدها نزل في حقه (قد صدقت الرؤيا) فتأمل.
(الثاني) مما استدل به الاشاعرة هو ان الكفار واهل العصيان كلهم مكلفون بما كلف به اهل الاطاعة والايمان بضرورة من الاديان، وحينئذ ان لم يكن في نفس المتكلم صفة وراء الارادة حتى تكون تلك الصفة منشئا للأمر وعلة له وكان منشأه الارادة، لزم في تكليف الله تعالى الكفار واهل العصيان تخلف ارادته عن مراده، وهو باطل بالضرورة، فيكشف ذلك عن وجود صفة اخرى له تعالى سوى الارادة حتى تكون تلك الصفة منشئا لأوامره اللفظية وتسمى بالطلب الحقيقي.
(واجاب المتكلمون عن هذ الاستدلال) بان منشأ الامر اللفظي ليس سوى الارادة، وان ارادة الله التي لا تتخلف عن المراد هي ارادته وجود فعل من نفسه لا ارادته صدور فعل عن غيره فانها قد تتخلف. (وقال المحقق الخراساني) في الكفاية (في مقام الجواب عن هذا الاستدلال):
(ان لله تعالى ارادتين: ارادة تكوينية، وارادة تشريعية، وما لا تتخلف هي التكوينية دون التشريعية.) والظاهر ان مراده هو ماقا له المتكلمون، غاية الامر انه عبر بعبارة اخرى، فمراده من الارادة التكوينية ارادته تعالى صدور الفعل عن نفسه، ومن الارادة التشريعية ارادته صدور الفعل عن المكلف.
هيهنا قد تم مبحث الطلب والارادة ولا ارتباط لهذا المبحث ابدا بمسألة الجبر والتفويض، فما تراه في كلام بعض من ابتنائه عليها في غير محله، غاية الامر ان المحقق الخراساني لما قسم الارادة إلى قسمين كما مر آنفا، فسر الارادة التكوينية له تعالى بعلمه بالنظام على النحو الكامل التام (اعني ما تراه وتشاهده في صفحات عالم الوجود من الايمان والكفر والنزاع والجدال وغير ذلك، وبعبارة اخرى كل ما وجد ويوجد إلى يوم القيمة) وفسر الارادة التشريعية له تعالى بعلمه بالمصالح الكامنة في افعال المكلفين الموجبة لأمره تعالى اياهم بفعلها، (ثم قال بعد تفسيرهما): فإذا توافقتا (أي كان صدور فعل من الافعال عن مكلف خاص ذا مصلحة وكان ايضا دخيلا في النظام الاكمل فكان موردا للإرادتين) فلابد حينئذ من الاطاعة والايمان، وإذا تخالفتا (أي كان صدور الفعل عن المكلف ذا مصلحة له ولكن كان مخلا بالنظام الاكمل فكان موردا للإرادة التشريعية دون التكوينية) فلا محيص حينئذ عن ان يختار الكفر والعصيان.
(ثم استشكل) بانه إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان بسبب ارادته التكوينية التي لا تتخلف، فكيف يصح التكليف المشروط بالاختيار؟ لخروجها (على هذا) من الاختيار.
(واجاب عنه) بانه لم يتعلق ارادته (تعالى) التكوينية بصرف صدور الافعال عن المكلفين بل تعلقت بصدوره عنهم مسبوقة بإرادتهم، فما اراد منهم بالإرادة التكوينية هو ان يريدوا ويفعلوا.
(ثم استشكل ثانيا) بانه وان كان صدور الافعال عنهم مسبوقا بإرادتهم واختيارهم الا انه منتهية بالأخرة إلى ارادته تعالى والا لتسلسل، فخرجت من كونها اختيارية، وحينئذ فكيف المؤاخذة. (واجاب عنه) بان المؤاخذة من تبعات الكفر والعصيان المسبوقين بالاختيار الناشئ من مقدماته الناشئة من الشقاوة الذاتية، (إلى آخر ما كتبه حتى انكسر قلمه).
(اقول): الورود في هذا الميدان والاشتغال بمصارعة الفرسان خطير، ورب ذهن صاف لا نرضى ان نورده في هذا البحر العميق الذى لا ينجو منه الا الاوحدي من الناس، فلنشر اشارة اجمالية إلى ما قيل في جواب ما ذكر من الاشكال، ثم نخرج من هذا المبحث، (فنقول) قال الحكيم القدوسي المحقق الطوسي (قدس سره) في مقام الجواب عن هذا الاشكال (أي إذا كان الكفر والعصيان والاطاعة والايمان مسبوقة بإرادته تعالى أو علمه بالنظام الاتم الاكمل فكيف التكليف المشروط بالاختيار): بان العلم تابع للمعلوم لان المعلوم تابع للعلم. (واوردوا) عليه ايرادا واضح الورود فقالوا: ان العلم الذى هو تابع للمعلوم عبارة عن العلم الانفعالي لا العلم الفعلي الذى هو علة لوجود المعلوم في الخارج، وكلامنا في المقام في علمه (تعالى) الذي هو عين ارادته الازلية التي به وجد كل شيء ويوجد من البدو إلى الختم.
(والظاهر) ان هذا المعنى بلغ من الظهور والوضوح درجة لا يمكن ان يقال انه خفى على مثل ذلك المحقق، فالأولى ان نوجه كلامه بحيث ل يرد عليه هذا الايراد.
(فنقول): لا يخفى ان المراد من النظام الاتم الاكمل الذى يكون متعلقا لإرادته تعالى هو سلسلة العلل والمعلولات من بدوها إلى ختمها، فان دار الوجود دار العلل والاسباب ولكل من الموجودات الامكانية تأثيرات مخصوصة بنفسه لا توجد في غيره، وعلية الاشياء لمعلولاتها ليست مجعولة وانما هي من جهة خصوصيات في ذواتها، والذاتيات لا تعلل والمجعول انما هو ذوات العلل والاسباب بالجعل البسيط، فكل موجود وان سبقته الارادة الازلية وكان وجوده مفاضا من قبل المبدأ الفياض الا ان له خواص وآثارا ذاتية غير قابلة للجعل، وبها يصير علة لغيره ومؤثرا فيه، وعلي هذا فما تعلق به العلم الفعلي اعني ارادته التكوينية انما هو وجود الاشياء وتحققها بذواتها، واما عليته ومعلوليتها فمتعلقتان لما يشبه العلم الانفعالي لعدم كونهما مجعولتين حتى يسبقهم العلم القضائي الفعلي.
(إذا عرفت هذا فاعلم) ان الانسان كما يكون بدنه مركبا من طبائع مختلفة متباينة في الاثار والخواص والمقتضيات، فكذلك جوهره الحقيقي وروحه الذى به صار انسانا، مركب من رقائق مختلفة ولطائف متباينة الاثار والخواص بحيث يكون مجموعة من استعدادات متفاوتة وأميال مختلفة يقتضى كل واحد منها شيئا غير ما يقتضيه الاخر، فله ميل إلى العوالم العالية الملكوتية، وميل إلى العوالم السافلة الحيوانية، وقد جعل الله تعالى (مع ذلك) لهذا الوجود الشريف قوة قاضية مميزة يميز بها الخبيث والطيب وطريقي السعادة والشقاوة وهى القوة العاقلة، وأيدها بالكتب السماوية والانبياء والمرسلين، وجعله بحيث لا يقدم على عمل الا بعد ادراكه طرفي الفعل والترك وما يترتب عليهما، وقدرته على كليهما، واختياره بنفسه احدهما على الاخر، (فتارة) يختار ما هو مقتضى اللطيفة الملكوتية والطينة العليينية، (واخرى) ما هو مقتضى الجبلة الشيطانية والطينة السجينية، ففي كليهما يكون صدور الفعل عنه من جهة ما في ذاته من الاستعداد المقتضى لهذا الفعل، لما عرفت من ان روحه مخمرة من الاستعدادات المختلفة المقتضية لأفعال متفاوتة. والمجعول له تعالى نفس تلك الرقائق لا عليتها، ولكن الانسان مع ذلك ليس مسلوب الاختيار بل كل فعل يصدر عنه فإنما يصدر عنه بعد التفاته واختياره بنفسه احد الطرفين على الاخر، وهذا الاختيار هو مناط الثواب والعقاب لا الارادة كما زعمه صاحب الكفاية وكان يكررها في درسه، إذ هي موجودة في ساير الحيوانات غير الانسان ايضا. (3) والفعل الاختياري هو ما كان مسبوق بشعور طرفي الفعل والترك، والقدرة على كليهما، واختيار احدهما على الاخر، لا ما كان مسبوقا بالإرادة مطلقا، نعم اختيار احد الطرفين مستتبع لإرادته، ولكن المناط في الثواب والعقاب هو الاختيار لا الارادة، فبطل ما في الكفاية من اصله واساسه.
(ثم ان ما ذكرناه) من تركب روح الانسان من الرقائق المختلفة، لعله المشار إليه بقوله تعالى في سورة الدهر: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2، 3] ، بناء على كون المراد من النطفة الامشاج (أي المختلطات)، هي اللطائف والرقائق التي خمرت منها روح الانسان وحقيقته التي فيه انطوى العالم الاكبر، لا النطفة الجسمانية التي تكون مبدأ لوجود بدنه، والشاهد على ذلك ترتيب الابتلاء عليه بقوله بعد ذلك (نبتليه) إذ ما هو دخيل في ابتلاء الانسان وامتحانه، هو تركيب روحه من الرقائق المختلفة في الاقتضاء، ثم الانعام عليه بالعقل المميز بين الخير والشر، ثم تأييده بالكتب السماوية والانبياء والمرسلين، ثم اعطائه زمام اختياره بيده حتى يفعل ما يشاء، فقوله (من نطفة امشاج) اشارة إلى تركيب روحه من الرقائق، وقوله {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [الإنسان: 2] ايماء إلى القوة العاقلة، وفي قوله {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] دلالة على ارسال الرسل وانزال الكتب. (وبالجملة) ما ذكرناه يستفاد من خلال الآيات والاخبار، فمن الآيات هذه الآية، (ومنها ايضا) قوله تعالى {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الزمر: 15] ، حيث ان الانسان مع التيام روحه من اللطائف المختلفة إذا غلب فيه جانب بعضها كالشهوة أو الغضب مثلا، ربما ادى ذلك إلى الخسران الذاتي وزوال الملكات الحسنة (التي بها انسانية الانسان) بالكلية ولا يتعقل لخسران النفس معنى الا هذا. واما الاخبار الدالة على هذا المعنى فكثيرة (مثل ما ورد) من ان في قلب الانسان نكتتين: نكتة بيضاء، ونكتة سوداء، فإذا صدر عنه المعصية زاد السواد بحيث ربما يؤدى إلى اضمحلال النكتة البيضاء بالكلية، (ومثل ما ورد) من ان لقلب الانسان اذنين ينفخ في احديهما الملك وفي الاخرى الشيطان، (ومثل ما ورد) من ان الله تعالى بعد ما اراد خلق آدم امر جبرئيل بان يقبض قبضات من السموات السبع وقبضات من الارضين السبع ليخمر طينة آدم منها، إلى غير ذلك من الاخبار الدالة على التيام الروح الانساني من العوالم المختلفة فراجعها وتدبر.
_____________________________
(1) اقول بل لعل المتتبع في كتب التاريخ يطمئن بان اكثر الفتن والمذاهب المختلفة في الديانة الإسلامية انما نشأت من جهة القاء اسراء الكفارة من العجم وغيرهم جميع ما كانوا يعتقدون من الاصول والفروع، بين المسلمين والمؤمنين بالقرآن.
(2) اقول قال حفيده المرحوم الشيخ محمد رضا الأصفهاني في الوقاية ما هذا لفظه. والعلامة الجد لم يخالف العدلية في ذلك ولم يجنح إلى قول الاشاعرة قط بل هو من الد اعداء هذه المقالة واشد من خاصمهم وقد قال في بحث مقدمة الواجب (بعد ما بين مذهب العدلية من ان حقيقة الطلب عندهم هي الارادة المتعلقة بفعل الشيء أو تركه) ما نصه: وقد خالف في ذلك الاشاعرة فزعموا ان الطلب امر آخر وراء الارادة وجعلوه من اقسام الكلام النفسي المغاير عندهم للإرادة والكراهة وقد عرفت ان ما ذكروه امر فاسد غير معقول مبنى على فاسد اخر اعني الكلام النفسي (انتهى) فلينظر المنصف (إلى اخر م في الوقاية فراجع).
(3) ولأجل ذلك عدوا المتحرك بالإرادة فصلا لمطلق الحيوان.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
جامعة كربلاء: مشاريع العتبة العباسية الزراعية أصبحت مشاريع يحتذى بها
|
|
|