أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2016
620
التاريخ: 25-8-2016
540
التاريخ: 25-8-2016
827
التاريخ: 3-8-2016
560
|
منها : تقسيمها إلى الداخلية والخارجية
يظهر من المحقّق صاحب «الحاشية» خروج الاُولى من حريم النزاع ; بتقريب أنّ الأجزاء بالأسر عين المركّب في الخارج ، فلا معنى للتوقّف حتّى يترشّح الوجوب . مع أ نّه يستلزم اجتماع المثلين ، وهو محال(1) .
وربّما يقال : إنّ المقدّمة هي الأجزاء بالأسر لا بشرط ، والواجب هي الأجزاء بشرط الاجتماع; فتحصل المغايرة الاعتبارية(2) .
ولا يخفى ما فيه من التكلّف ، والذي يقتضيه الذوق العرفي ويساعده البرهان : أنّ المقدّمة إنّما هو كلّ واحد واحد مستقلاّ ، لا الأجزاء بالأسر حتّى يصير المقدّمة عين ذيها . وبعبارة اُخرى : ليس هنا مقدّمة واحدة ; وهو الأمر الوحداني من الأجزاء بل هنا مقدّمات ، وكلّ جزء مقدّمة برأسها ، وفي كلّ واحد ملاك الغيرية ، والجزء يغاير الكلّ الاعتباري في وعاء الاعتبار .
وتوضيح المقام يتوقّف على بيان كيفية الإرادة الفاعلية ; كي يعلم منه حال الإرادة الآمرية ، فنقول : تعلّق الإرادة بشيء إمّا لأجل إدراك مصلحة فيه نفسه ، فيطلبه بذاته ، وإمّا لأجل كونه ممّا يتوصّل به إلى ما فيه المصلحة .
ثمّ إنّه ربّما تتعلّق الإرادة بالواحد البسيط واُخرى بالمركّب ، والأوّل خارج من المقام ، والثاني على أقسام :
قسم يكون تركيبه تركيباً حقيقياً ; لتألّفه ممّا هو شيء بالقوّة ; أعني المادة ، وممّا هو شيء بالفعل ; أعني صورته وفصله .
وقسم يكون تركيبه تركيباً صناعياً ، وهو المؤلّف من أجزاء ملتئمة ومجتمعة ، على ما يقتضيه الاُصول الفنّية ، لا كالتئام اللامتحصّل بالمتحصّل حتّى يحصل الفناء والاندكاك ، بل لها بعد التركيب أيضاً فعلية ، إلاّ أنّ الفاعل الفنّي قد ألصق بعضها بعضاً ; بحيث قد حصل له نحو وحدة وتركيب مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر ، كالمعاجين والسيّارة والبيت والمسجد .
وقسم ثالث يكون التأليف اعتبارياً ، مثل اجتماع الاُمور المتغايرة التي اعتبرت أمراً جملياً وواحداً اعتبارياً ، ومنه الفوج والعسكر والماهيات الاختراعية كالصلاة والحجّ ; فإنّ الوحدة في هؤلاء ليست إلاّ بحسب الجعل والاعتبار ، ومع قطع النظر عن الاعتبار فهي وحدات عديدة مستقلّة ، وهناك وحدات اُخرى ، قد قرّرت في محلّه(3) .
ثمّ إنّ ما هو المنظور من التقسيم إنّما هو القسمان الأخيران ، فنقول :
إنّ الغرض قد يكون قائماً بوجود كلّ واحد من الأفراد ـ وإن كان بينها وحدة وارتباط ـ كدفع الملالة الحاصل من لقاء الأصدقاء ; إذ هو يحصل بلقاء كلّ واحد منهم مستقلاّ ، فعند تصوّر كلّ واحد يريد لقائه بإرادة مستقلّة .
وقد يكون قائماً بالمجتمع لا بالأفراد ، كمن يريد فتح عاصمة أو هزم جند الخصم ; فإنّه لا يحصل إلاّ بالمئات المؤلّفة والوفود المجتمعة من أنصاره وعساكره . فحينئذ كلّ واحد منها غير مراد ولا يحصل به الغرض ، وإنّما المراد والمحصّل له هو الفوج ، فيتصوّره ويشتاقه ويريد إحضاره . ففي هذا التصوّر تكون الآحاد مندكّة في الفوج ، ولا يكون كلّ واحد مشتاقاً إليه ولا متعلّقاً بالإرادة النفسية ; لعدم قيامه بفرد فرد مستقلاّ حتّى يتوجّه إليه الاشتياق والإرادة النفسية .
نعم ، بعد ما أراد إحضار الفوج ثمّ أدرك أنّ وجود الفوج يتوقّف على وجود كلّ واحد واحد ، لا جرم يقع كلّ واحد في اُفق النفس مورد التصوّر ، ويتعلّق به الإرادة لأجل غيره ، لا لأجل نفسه، فيريد كلّ فرد فرد مستقلاّ لأجل المقصود الأسنى . وعليه : ففي الفوج المؤلّف ملاك الإرادة النفسية لا الغيرية ، وفي كلّ واحد ملاك الإرادة الغيرية لا النفسية . فهناك إرادة نفسية واحدة ، وملاك إرادات غيرية بحسب الأفراد ، فيتعلّق الإرادة الفاعلية .
فإن قلت : إنّ هنا شيئاً ثالثاً ; وهو غير الفوج الذي فيه ملاك النفسية ، وغير كلّ فرد فرد الذي فيه ملاك الغيرية ، بل عبارة عن تألّف هذا مع الآخر ; أعني اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة من الأفراد ، فهل فيه ملاك الإرادة أولا ؟
قلت : قد عرفت ما هو الملاك للإرادة في صدر البحث ، وما ذكر ليس فيه ملاك النفسية ـ كما هو واضح ـ ولا الغيرية ; لعدم توقّف العسكر عليهما ، زائداً على توقّفه على الآحاد .
والحاصل : أنّ زيداً موقوف عليه بنفسه ، وعمراً موقوف عليه رأساً بالضرورة ، لكن زيداً وعمراً لا يكونان موقوفاً عليهما ، مقابل زيد منفرداً وعمرو مستقلاّ . وقس عليه المركّبات الصناعية ; أعني ما له وحدة خارجية في نظر أهل الفنّ وغيرهم ، فإذا كان الغرض قائماً بمركّب صناعي كالبيت فيخطر بباله إيجاده وإحداثه ، فإذا وقف على توقّف البيت على الأحجار والأخشاب فلا محالة يدرك فيهما ملاك الغيرية ، فيريد كلّ واحد لأجل تحصيل الغير ، ففي المصنوع ملاك النفسية ، وفي كلّ واحد ملاك الغيرية ، هذا كلّه حال الإرادة الفاعلية .
ويستوضح منها حال الآمرية ، فيقال : إنّ الإرادة الآمرية المتعلّقة بما له وحدة صناعية أو اعتبارية فهل هي ملازمة لإرادة ما رآه مقدّمة ، من غير فرق بين الداخلية والخارجية .
وتوهّم : أنّ ما هي المقدّمة هي عين ما تعلّقت به النفسية ، فكيف تتوارد الإرادتان على أمر واحد ، مدفوع بأنّ ما هي المقدّمة بالحمل الشائع ليس نفس الأجزاء مجتمعة ; إذ هو مصداق لذيها ، بل كلّ جزء جزء ممّا أدرك المولى أ نّه موقوف عليه . والخلط إنّما هو لأجل تخيّل أنّ المقدّمة هي الأجزاء بالأسر ، مع أ نّك قد عرفت : أنّ هنا مقدّمات لا مقدّمة واحدة .
ثمّ إنّ ما ذكرنا هنا لا ينافي مع ما أشرنا إليه سابقاً ، من أنّ الداعي إلى إتيان الأجزاء عين الإرادة المتعلّقة بالكلّ ، ولا تحتاج إلى إرادة اُخرى ; لأنّ الغرض هنا بيان إمكان تعدّد الإرادة بتعدّد متعلّقها ، ودفع ما يتوهّم كونه سبباً للاستحالة .
وهم ودفع :
أمّا الأوّل : فربّما يظهر عن بعض الأعاظم في بيان عدم وجوب الداخلية من الأجزاء ما ملخّصه : أنّ الوحدة الاعتبارية يمكن أن تكون في الرتبة السابقة على الأمر ; بأن يعتبر عدّة اُمور متباينة شيئاً واحداً بلحاظ تحصيلها غرضاً واحداً فيوجّه أمره إليه .
ويمكن أن تكون في المرتبة اللاحقة ; بحيث تنتزع الوحدة من الأمر بلحاظ تعلّقه بعدّة اُمور ، فيكون تعلّقه عليها منشأ لانتزاع الوحدة عنها الملازمة لاتّصافها بعنواني الكلّ والجزء .
فحينئذ فالوحدة بالمعنى الثاني لا يعقل أن يكون سبباً لترشّح الوجوب من الكلّ إلى الجزء بملاك المقدّمية ; لأنّ الكلّية والجزئية ناشئتان من الأمر ـ على الفرض ـ فتكون المقدّمية في رتبة متأخّرة عن تعلّقه بالكلّ ، ومعه لا يعقل ترشّحه إلى مالا يكون مقدّمة في رتبة سابقة على الأمر(4) ، انتهى .
وأمّا الثاني : فلأنّ تقسيم الوحدة على قسمين : قسم يتقدّم على الأمر وقسم يتأخّر عنه ، لا وجه له فيما نحن بصدده ، بل هي متقدّمة على الأمر مطلقاً .
توضيحـه : أنّ المراد مـن لزوم اعتبار الوحـدة في المتعلّق ما هـو وحـدة بالحمل الشائـع ; أعني الوحـدة غير الملحوظـة بالاستقلال ، المندكّـة في الأجزاء ; بحيث تجعل الآحاد مغفولا عنها أو كالمغفول عنها ، لا ما هي وحـدة بالحمل الأوّلي .
فحينئذ : وحدة الأمر كاشفة عن وحدة المتعلّق ـ ولو اعتباراً ـ إذ مع تكثّره في حدّ كونه متعلّقاً لايعقل تعلّق الإرادة الواحدة على المتشتّتات المتفرّقة التي لا ترتبط بعضها ببعض ، بل لابدّ قبل إنشاء الأمر من تصوّر هذه المتكثّرات بنعت الجمع والوحدة ـ ولو على نحو الإجمال والارتكاز ـ حتّى يوجّه أمره نحوه ، فالوحدة ـ مطلقاً ـ متقدّمة على الأمر .
وبعبارة أوضح : تعلّق الأمر بشيء إنّما هو لأجل كونه محصّلا للغرض ، وهو في البسائط نفس ذاته الواحد البحت ، وفي المركّبات هو المجموع بوصف الاجتماع ، ولو لم يعتبره المعتبر، كفوج من العسكر لفتح الأمصار ; فإنّ الغرض لا يتعلّق بواحد واحد ، بل الفاتح هو المجتمع من الأفراد .
فلو كان الغرض قائماً بفرد من الأفراد فلا يعقل تعلّقه بالمجموع ، ولو كان من قبيل الثاني فلا يتصوّر تعلّقه بكلّ واحد ; لعدم قيامه بالغرض .
فحينئذ : على المفروض ـ من قيام الغرض بالمجموع ـ ليس هنا إلاّ أمر واحد نفسي متعلّق بالمجموع ، فإذا لاحظ محصّل غرضه قبل الأمر فلا محالة يتصوّر المجموع بما هو مجموع ، فعند ذلك تصير الأفراد معتبرة بوحدة اعتبارية بالضرورة ، كما أنّ الأجزاء والأفراد تصير مندكّة فيه مغفولا عنها .
وبذلك يظهر تقدّم الوحدة على الأمر بوجوب تصوّر ما هو الموضوع للأمر ، وتصوّر ما هو المحصّل للغرض قبل إنشاء الأمر . وهذا التصوّر يلازم الوحدة الاعتبارية قبل تعلّقه .
وأمّا اعتبار الكلّية والجزئية للمأمور به ـ بما هو كذلك ـ فهو غير مربوط بما نحن فيه . أضف إليه : ما في استنتاجه عن مبناه من أنّ عنوان الجزئية والكلّية تنتزعان بعد تعلّق الأمر ، وفي مثله لا يعقل ترشّح الوجوب من الكلّ إلى الأجزاء بملاك المقدّمية ; إذ فيه :
أوّلا : أنّ التعبير بالترشّح ومثله ـ كما جرت عليه الألسن ـ في غاية السقوط ; إذ الإرادة ـ سواء كانت نفسية أو غيرية ـ تابعة لمبادئها المقرّرة ، وليست الاُولى مبدأ للثانية حتّى تصير منشأ للترشّح والتولّد كما تقدّم(5) ، وأمّا الوجوب فهو أسوأ حالا منها ; إذ هو ينتزع من تعلّق البعث ، ولا يعقل ترشّح بعث من بعث .
وأظنّ أنّ الذي أوقعه في الاشتباه هو توهّم ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ، وأنّ إرادة المقدّمة مترشحة من إرادة ذي المقدّمة ; ولذلك نفاه فيما يتأخّر انتزاع الوحدة عن الأمر ; لأنّ الكلّية والجزئية ـ حينئذ ـ تنتزع بعد تعلّق الأمر ، ولايعقل ترشّحه بما لايكون مقدّمة في رتبة سابقة على الأمر .
وثانياً : أنّ الملاك للوجوب المقدّمي ليس عنواني الكلّية والجزئيـة للمأمور به بما هو كذلك حتّى تكون المقدّمية في رتبة متأخّرة عن تعلّق الأمـر بالكلّ ويمتنع الترشّح ، بل الملاك لتعلّق الإرادة بالمقدّمـة هو الالتفات إلى توقّف ذي المقدّمة عليها في نفس الأمر ، وتوقّف المركّب على كلّ جزء من الأجزاء بحسب الواقع ضروري .
والحاصل : أنّ الجزئية بالحمل الأوّلي ليس فيها ملاك المقدّمية ، بل لا تتأخّر عن عنوان الكلّية; لأنّهما متضائفان ، وهما متكافئان قوّة وفعلا ، بل ما فيه الملاك هو واقع كلّ جزء جزء ، الذي هو الموقوف عليه ، ونفس الكلّ هو الموقوف ; وإن غفلنا عن عنواني الجزئية والكلّية .
هذا كلّه في المقدّمات الداخلية ، وقد عرفت وجود ملاك النزاع فيها .
وأمّا الخارجية : فالحقّ وجود الملاك في جميعها ; علّة تامّة كانت أم غيرها ، توليدية كانت أم غيرها .
وربّما يقال بخروج العلل التوليدية عن محطّ البحث ـ كالإلقاء والإحراق ـ لأنّ العنوان وإن كان متعدّداً إلاّ أنّ المعنون في الخـارج واحد ، يعبّر عنه بتعبيرين(6) .
وفيه : ـ بعد التسليم ـ أنّ تسمية ذلك علّة مع فقدان التأثير والتأثّر وعدم الاثنينية غير وجيهة .
وأمّا ما ربّما يتوهّم من أنّ الأمر في المسبّبات التوليدية يرجع إلى أسبابها ; معلّلا بخروج المسبّبات عن القدرة ; لانعدامها بانعدام أسبابها وحصولها بحصولها فلم يتعلّق به الاختيار والإرادة ، ففي غاية السقوط ; إذ الإرادة المولوية لا تفترق عـن الإرادة الفاعلية ، مع أنّ الثانية تتعلّق ـ بالضرورة ـ على ما هـو غير مقدور إلاّ بأسبابه ، كقتل عدوّه الذي لا يحصل إلاّ بالتوصّل لأسبابه . على أنّ ملاك تعلّق الأمر ليس إلاّ كون المتعلّق مقدوراً في نظر العقلاء ، وهي عندهم كذلك .
والإنصاف : أنّ ذلك يستلزم التصرّف في كثير من الأوامر التي تحتاج إلى مباد ومقدّمات ، وهو أمر غير هيّن .
ومنها : تقسيمها إلى المقدّمة المقارنة والمتقدّمة والمتأخّرة والـذي دعاهم إلى هـذا التقسيم ـ بعد مـا كان مقتضى البرهان عند أكثرهم هـو انحصاره في قسم واحد ; وهو المقارن لئلاّ يلزم تفكيك المعلول عن علّته ـ هـو الوقوف على عدّة شرائط أو مؤثّرات في الشرعيات متقدّمة ، كالعقود المتصرّمـة غير الباقية إلى زمان حصول الآثار ، وكما في عقد السَلَم وفي الوصيـة ، أو متأخّرة ، كأغسال الليلة المستقبلة بالنسبة إلى صوم المستحاضة ـ على رأي بعض الفقهاء(7) ـ وكالإجازة ـ على القول بالكشف الحقيقي في الأحكام الوضعية ـ وكالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلى التكليف المتقدّم في شرائط نفس التكليف .
ثمّ إنّ حلّ العويصة على نحو يطابق البرهان المقرّر عندهم في التكوين جعل القوم في موقف عظيم :
فمنهم : من صار بصدد تصحيح الشرط المتأخّر ، وهم جماعة قليلة .
ومنهم : من تمسّك بأجوبة ; فراراً عن الشرط المتأخّر .
كلام المحقّق العراقي لدفع الإشكال في الشرط المتأخّر وبعض أهل التحقيق من الطائفة الاُولى قد صار بصدد تصحيحه بما حاصله إمكان تقدّم الشرط على المشروط في التكوين والتشريع ; لأنّ المقتضي للمعلول هو حصّة خاصّة من المقتضي لا طبيعية ; لأنّ النار الخاصّة ـ وهي التي تماسّ الجسم المستعدّ باليبوسة للاحتراق ـ تفعل الاحتراق ، لا الحصص الاُخرى .
فتلك الخصوصية التي بها تحصّصت الحصّة لابدّ لها من محصّل في الخارج ، وما به تحصل خصوصية الحصّة المقتضية يسمّى شرطاً ، والخصوصية المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلك الحصّة حاصلة من إضافتها إلى شيء ما ، فذلك الشيء المضاف إليه هو الشرط ، والمؤثّر في المعلول هو نفس الحصّـة الخاصّـة ، فالشرط هو طرف الإضافة المزبورة ، وما كان شأنه كذلك جاز أن يتقدّم على ما يضاف إليه أو يتأخّر عنه أو يقترن به .
وقس عليه الشرائط الشرعية ; فإنّ شرطية شيء للمأمور به ترجع إلى كون حصّة من الطبيعي متعلّقة للأمر ، وهي تحصل بالتقييد ، وكما يمكن التقييد بأمر مقارن يمكن بالمتقدّم والمتأخّر .
وكذا الحال في شرط التكليف والوضع ; فإنّ قيود الوجوب دخيلة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً . ومعنى شرطيتها في حال التأخّر ليس إلاّ كونها بحيث تحصل للشيء بالإضافة إليها خصوصية بها يكون ذا مصلحة ، وهذا كما قد يحصل بإضافة الشيء إلى المقارن يحصل بإضافته إلى المتقدّم والمتأخّر سواء(8) ، انتهى .
وفيه أنظار ، قد سبق التنبيه إلى بعضها ، ونعيده توضيحاً :
أمّا أوّلا : فلأنّ إسراء الأمر إلى التكوين ممّا لا مجال له ; لأنّ المقتضي التكويني نحو وجود خاصّ متشخّص ، لايكون تشخّصه بالإضافات والاعتبارات . فما هو المقتضي ليس الحصّة الحاصلة بالإضافة إلى المقارن ولا إلى غيره ، بل المقتضي نحو وجود متشخّص من ناحية علله الفاعلية ، أو هو مع ضمّ القابل إذا كانا مادّيين ، فالنار بوجودها مقتضية لإحراق ما وقع فيها ممّا هو قابل للاحتراق ، من غير أن يكون الوقوع والتماسّ وقابلية المتأثّر محصّلات للحصّة المؤثّرة ، وهو أوضح من أن يحتاج إلى البيان .
والحاصل : أنّ المقتضي في التكوين نحو وجود يكون تشخّصه بمبادئ حقيقية تكوينية ، لا بإضافات واعتبارات تخيّلية ، كما في المقام .
وأمّا ثانياً : فلأنّ الإضافة التي هي من إحدى المقولات هي النسبة الحاصلة للشيء بانتسابه إلى غيره .
وإن شئت قلت : إنّ الحقيقي من المضاف هي النسبة المتكرّرة بين الموصوفين أو المضافين ; مضافاً مشهورياً ، ومعنى تكرّرها أ نّها ماهية معقولة بالقياس إلى ماهية اُخرى معقولة بالقياس إلى الاُولى ، كما تجد صدق المقال في الاُبوّة والبنوّة المتكرّر كلّ واحد بين الموصوفين ، ومن خواصّها كون المتضائفين متكافئين قوّة وفعلا .
فحينئذ فلو كانت تلك الخصوصية حاصلة من إضافتها إلى الشيئين فلا معنى لحصول أحد الطرفين ـ أعني الواجب ـ دون الطرف الآخر ـ أعني الشرط ـ إذ الإضافة الفعلية تستلزم تحقّق الطرفين بالفعل ; فإنّ الاُبوّة والبنوّة الفعليتين يستلزم وجود الأب والابن فعلا حتّى تتحصّل بين الطرفين .
وفي المقام نقول : إنّ الحصّة من طبيعي المقتضي المتّصف بكونه مضافاً فعلا ، وإضافيته حيثية زائدة على ذاته كيف ينتزع منه هذا العنوان ، مع عدم شيء يصلح أن يكون مضافاً إليه بالفعل ؟
فإن قلت : ما ذكرت من التحقيق أمر مسلّم لا غبار عليه ، لكن إسرائه إلى المقام خلط بين الحقائق والاعتباريات ، وقد قرع أسماعنا مراراً : أنّ العلوم الاعتبارية لا تتحمّل أحكام التكوين، كما مرّ أنّ التمييز بين أحكام المقامين هو الحجر الأساسي لحلّ معضلات العلوم ; لا سيّما الاعتباريات .
قلت : نعم ، لكن الإضافة إلى المعدوم ممّا لا يعقل ـ حتّى الاعتباري منها ـ لأنّ الإضافة الاعتبارية نحو إشارة ، ولا تمكن الإشارة بالنسبة إلى المعدوم . فما يتخيّل أنّه إضافة إلى المعدوم لا يخرج عن حدّ الذهن والتخييل ، فهي ـ حينئذ ـ تخيّل الإضافة لأنفسها .
وبالجملة : أنّ الإضافة بين الشيئين ـ ولو بنحو الاعتبار ـ نحو إثبات شيئية لهما ، وهو إن لم يكشف عن الثبوت في ظرفه لا يكون إلاّ توهّماً وتخيّلا ، ومع كشفه عنه يكون ثبوته له فرع ثبوت المثبت له .
فإذا تحقّقت الإضافة بين الموجود والمعدوم يكون المعدوم مضافاً أو مضافاً إليه في ظرف تحقّق الإضافة ، فلابدّ من صدق قولنا : المعدوم مضاف ومضاف إليه في حال عدمه ; لتحقّق الإضافة في حاله ، فلابدّ من تحقّق المعدوم في حال عدمه ; قضاءً لحقّ القضية الموجبة ، ولقاعدة الفرعية .
وإن شئت قلت : إنّ القضايا المبحوث عنها في الفنّ ـ سوى السالبة المحصّلة ـ يجب فيها تحقّق الموضوع في مقام الصدق ، فلو فرض كون الصوم مضافاً بالفعل لزم صدق كون الأغسال مضافاً إليه بالفعل ، وإلاّ تنتقض القاعدة المسلّمة من وجوب وجود الموضوع في الموجبات .
فإن قلت : إنّ العلّية والمعلولية من الاُمور المتضائفة ، مع أنّ العلّة مقدّم على المعلول ـ تقدّماً رتبياً وعقلياً ـ فيكون صدق العلّية عليها قبل صدق المعلولية عليه ، فانتقض القاعدة المبرمة : «المتضائفان متكافئان قوّة وفعلا» . وقس عليهما أجزاء الزمان ; فإنّ لأجزائه تقدّماً على بعض في الوجود ; لكونه متصرّم الذات ، فيصدق كون اليوم متقدّماً على الغد مع معدومية الغد .
قلت : إنّ العلّة لا تكون متقدّمة على المعلول بالمعنى الإضافي ، بل هما في إضافة العلّية والمعلولية متكافئان ، لا يتقدّم أحدهما على الآخر ; حتّى في الرتبة العقلية . نعم ذات العلّة لا بوصفها متقدّم على المعلول تقدّماً عقلياً ، وكذا الزمان لا يكون بين أجزائه الوهمية تقدّم وتأخّر بالمعنى الإضافي ، بل ذات الجزء متقدّم على الآخر على نحو لا ينافي القاعدة الفرعية ، ولا يوجب ثبوت المعدوم واتّصافه بشيء وجودي ، بل سيجيء(9) على نحو الإجمال أنّ تقدّم بعض أجزائه على آخر بالذات ; لكون ذاته التقضّي والتدرّج ، فهو يكون ذا تقدّم وتأخّر بالذات، لا بالمعنى الإضافي ولا بمعنى صدق التقدّم على الجزء حال عدمه .
هذا ، وإنّي لا اُحبّ أن أحوم حول هذه المباحث ، إلاّ أنّ التنبيه على الخلط في كلمات الأعلام يجرّ الكلام إلى ما هو خارج من وضع الكتاب .
وثالثاً : أنّ جعل جميع الشرائط دخيلـة في اتّصاف الشيء بكونه صلاحاً مـن الغرائب جدّاً ، والمنشأ له هو الخلط بين الشرائط الشرعية التي يصحّ فيها ما ذكر ، وبين العقلية التي لا يصحّ فيها ذلك ; فإنّ القدرة ـ مثلا ـ غير دخيلـة في اتّصافـه بأنّه ذو صلاح ، فإنّ إنقاذ الغريق وإنجـاء النبي فيه كلّ صلاح وخير ; قدر عليه المكلّف أم لا .
وبذلك يظهر : ضعف ما عن صاحب «الفصول» من أنّ الشرط إنّما هو العناوين الانتزاعية ـ أعني التعقّب والتقدّم ـ وهي كانت حاصلة عند تحقّق الموضوع بعد العلم بوجود المتعقّب المتأخّر(10) .
وإلى ذلك يرجع ما ربّما يقال من أنّ الشرط إنّما ينتزع عمّا يقوم به ، وليس للطرف الآخر دخل في انتزاعه عن منشأ انتزاعه فالسبق إنّما ينتزع عن نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك، وكذا اللحوق بالقياس إلى ما وجد قبله ، ولا دخل للسابق في انتزاع اللحوق عن اللاحق ، ولا للاّحق في انتزاع السبق عن السابق حتّى يلزم دخل المعدوم في الموجود(11) ، انتهى .
قلت : إنّ انتزاع شيء عرضي عن شيء ليس باعتبار ذاته بذاته ، وإلاّ صار ذاتياً وهو خلف ، بل لأجل تحيّثه بحيثية عارضه . فحينئذ : للاّحق دخل في انتزاع السبق وبالعكس . فلو صحّ انتزاع السابقية أو عنوان التعقّب قبل وجود الآخر لزم وجود الإضافة والحيثية الوجودية بين الموجود والمعدوم ، ولزم كون المتضائفين غير متكافئين قوّة وفعلا ، وغير ذلك ممّا هو بديهي لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وحذف من نفسه قيود التقليد .
الجواب الحقيق عن الإشكال في الشرط المتأخّر هذا ، ولكن التحقيق في تصحيح الموارد المتوهّم فيها تأخير الشرط عن مشروطه أن يقال :
أمّا في شرائط التكليف كالقدرة مثلا : فلأنّ شرط انقداح الإرادة أو صدور البعث الاعتباري ليس هو القدرة الواقعية ـ علم به المولى أولا ـ بل علمه واستحضاره وقت التكليف بقدرة العبد على إيجاد المأمور به في وقت العمل وإن كان ذلك العلم غير مطابق للواقع ولكن ذلك لا يجعل الإرادة الجدّية صورية ، كما لا يجعل البعث الحقيقي غير واقعي ، بل يلزم لغوية الإرادة والتكليف ، وهو غير القول بأنّ التكليف غير واجد لشرطه .
والحاصل : أنّ الإرادة معلولة علم المولى بالصلاح مع سائر مبادئها ويعقّبه البعث الاعتباري . فظهر : أنّ شرط التكليف أو ما يتوقّف عليه الإرادة موجود مع سائر المبادئ ; وهو علمه بالصلاح وسائر شرائط التكليف ، ولا يتفاوت في ذلك كون الخطاب شخصياً ، كما في الموالي العرفية ; فيشترط علمه بقدرة مخاطبه في ظرف العمل ; واحداً كان المخاطب أو أكثر ، أو كونه مجعولا على العنوان قانوناً ; بحيث يشمل كلّ من دخل تحت العنوان ، نحو قولك «يا أيّها الناس» .
نعم ، يكفي في الثاني العلم بباعثيـة الخطاب لعدّة مـن الأفراد ، والعلم باقتدار جمـع منهم عليه ، وسيوافيك(12) تفصيل القول فـي مبحث الترتّب عند التعرّض لملاك الخطاب الشخصي والقانوني . فحينئذ : ما هـو شرط التكليف حاصل فيها ، ولا مجال لتوهّم التأخّر أصلا . ولعلّه إلى ذلك يرجع كلام المحقّق الخراساني(13) ; وإن كان إلحاق الوضع بالتكليف ـ كما في ظاهر كلامه ـ وقع في غير محلّه .
وأ مّا شرائط الوضع ، كالإجازة بناءً على الكشف الحقيقي ، وشرائط المأمور به ، كصوم المستحاضة بناءً على صحّته فعلا لحصول شرطه في المستقبل ـ أعني أغسال الليلة الآتية ـ فلنا في حلّه وجهان : أحدهما من طريق العقل والبرهان ، وهو حلّ صناعي ، وثانيهما من طريق العرف ، وهو أقرب ; خصوصاً في الاُمور الاعتبارية :
أمّا الأوّل ، فنقول : إنّ الاُمور التدريجية ـ كالزمان والحركة ـ ممّا يعدّ من المتصرّم بالذات ، فلبعض أجزائها تقدّم على البعض ، وهو تقدّم يعبّر عنه في الاصطلاح بواقع التقدّم ، وليس عنوان التقدّم ومفهومه ; إذ عنوان التقدّم والتأخّر من المفاهيم المتضائفة ، ولا يعقل انتزاع التقدّم فعلا بلا انتزاع رديفه ، كما أنّ انتزاع التأخّر من الغد حين انتزاع التقدّم من اليوم يستلزم وجود أمر انتزاعي بلا منشأ انتزاعه ، وهو خلف إلاّ أن يرجع إلى أمر عرفي سيوافيك بيانه .
فظهر : أنّ انتزاع التقدّم بعنوانه من المتقدّم فقط يستلزم وجود أحد المتضائفين بدون الآخر ، والحال أنّ المتضائفين متكافئان قوّة وفعلا ، وانتزاع كليهما يستلزم وجود أمر انتزاعي فعلا ، بلا وجود منشئه .
فإن قلت : نرى بديهة صدق قولنا لدى العرف بأنّ اليوم متقدّم على الغد ، وصدق قولنا : إنّ الغد متأخّر ، فهذا يكشف عن بطلان كلتا القاعدتين .
قلت : الكلام هاهنا في حكم العقل ومقتضى البرهان لا العرف ، ولاريب في أنّ مقتضى العقل والبرهان تكافؤ المتضائفين قوّة وفعلا ، وعدم إمكان اتّصاف المعدوم بشيء ، وسيأتي حال حكم العرف ، فانتظر .
والحاصل : أنّ هذه القطعة الموهومة من الزمان ـ لأنّ الزمان لا ينقسم إلاّ وهماً ، كما ثبت في محلّه(14) ـ له التقدّم بالذات إذا كان القطعة الاُخرى موجودة في محلّه ، ولم ينقطع عمود الزمان عليها ، بل جرى على منواله وطبعه .
ولا يتوهّم من ذلك : أنّ لما يأتي من الأجزاء تأثيراً في كون هذه القطعة متقدّمة بالطبع ، مع أنّ تأثير المعدوم في الموجود واضح الفساد ; إذ المراد : أنّ جوهر الزمان وسنخ وجوده جوهر وسنخ مخصوص ، يكون بعضه متقدّماً جوهراً وبعضه متأخّراً عنه ذاتاً ; بحيث يكون كلّ من التقدّم والتأخّر عين ذاته ، كما هو الحال في بعض الأقسام من المقول بالتشكيك .
فتلخّص : أنّ الزمان وما شابهه أمر متصرّم الذات ومتقضّ بالحقيقة ، له تقدّم وتأخّر بالذات ، لا بالمعنى الإضافي المقولي ; وإن كان عنوان التقدّم والتأخّر من الاُمور الإضافية ، ولايلزم أن يكون مصداق المعنى الإضافي إضافياً ، كالعلّة والمعلول ; فإنّ عنوانهما من الاُمور الإضافية ، ولكن المنطبق ـ بالفتح ـ عليهما أعني ذات المبدأ تعالى وتقدّس مثلا ومعلوله ليسا من الإضافية .
وأوضح من هذا ، مسألة التضادّ ; حيث إنّ بين ذات الضدّين ـ كالأسود والأبيض ـ تقابل التضادّ ، مع أنّ مفهوم التضادّ من الاُمور المتضائفة .
هذا حكم الزمان .
وأمّا الزمانيات : فحيث إنّ الحوادث الواقعة في طول الزمان لها نحو اتّحاد مع الزمان ـ على تحقيق مقرّر في محلّه(15) ـ فلا محالة يكون بعضها متقدّماً على بعض بتبع الزمان ، وتصير الحوادث الواقعة في هذا الزمان متقدّمة بواقع التقدّم ـ لا بمفهومه الإضافي ـ على الحوادث الآتية ، لكن بتبع الزمان .
إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ ما سنرتّب على هذا التدقيق العقلي وإن كان خلاف ظواهر الأدلّة ، لكنّ الكلام هنا في دفع الإشكال العقلي لا في استظهار الحكم من الأدلّة ، وعليه يمكن أن يقال : إنّ الموضوع في الوضعيات وما هو شرط في متعلّق الأحكام هو ما يكون متقدّماً بحسب الواقع على حادث خاصّ .
مثلا الأثر في البيع الفضولي مترتّب على العقد المتقدّم بالحقيقة ـ تبعاً للزمان ـ على وقوع الإجازة ; بحيث لا يكون العقد متقدّماً عليها بواقع التقدّم التبعي إلاّ أن تكون الإجازة متحقّقة في ظرفها ، فوقوعها في عمود الزمان المتأخّر يوجب كون العقد متقدّماً حقّ التقدّم .
وقد مضى أنّ ذلك ليس لأجل تأثير المعدوم في الموجود أو لوقوع المعدوم طرفاً للإضافة ، بل مقتضى ما يقع في الزمان أن يكون بعضه متقدّماً وبعضه متأخّراً ; بحيث لو فرض انقطاع سلسلة الزمان بعد ذلك الحادث الأوّل لما اتّصف ذلك الظرف ومظروفه بالتقدّم الواقعي .
وقس عليه مسألة الصوم ; إذ يمكن أن يقال : إنّ موضوع الصحّة في صوم المستحاضة ما يكون متقدّماً بالتقدّم الواقعي على الأغسال الآتية ـ تبعاً للزمان ـ بحيث لولم توجد الأغسال في محلّها لا يصير الصوم متقدّماً بالذات عليها ; وإن كان متقدّماً على سائر الحوادث ، لكن الموضوع هو المتقدّم الخاصّ ; أعني المتقدّم بالذات على الأغسال .
لا يقال : إنّ مقتضى كون الموضوع هو ذات العقد والصوم هو إنكار دخل الشرط ولزومه ; إذ الحامل للأثر ـ حينئذ ـ هو وجوده بلا اقترانه بالتراضي أو تعقّبه بالأغسال .
لأنّا نقول : قد عرفت أنّ تقدّم بعض أجزاء الزمان على بعض بالتقدّم الواقعي فرع اتّصال أجزاء الزمان وامتداده ; بحيث يكون انقطاعه موجباً لعدم ثبوت التقدّم بالذات له . فحينئذ ذات العقد إنّما يثبت له حقّ التقدّم ـ ولو تبعاً للزمان ـ إذا وجدت الإجازة في محلّها لا مطلقاً ، ومثله الصوم .
وإن شئت فاستوضح المقام عن تقدّم العلّة على معلولها ; فإنّه مالم يحصل الثاني لا يصحّ انتزاع عنوان التقدّم عنها ; لقضية التكافؤ بين المتضائفين ، مع أنّ العلّة في حدّ ذاتها مقدّمة على معلولها ; بحيث يتخلّل بينهما «الفاء» عند التعبير .
فتلخّص : أنّ الموضوع على ما حقّقناه مقدّم على حكمه بشراشر أجزائه وشرائطه .
وأمّا الثاني ـ وهو حلّ الإشكال على مشرب العرف ـ فنقول : إنّ الموضوعات الواقعة في لسان الأدلّة اُمور عرفية ، لا تنالها يد الدقّة العقلية ، بل يقدّم في مبحث الأحكام ; خصوصاً على القول باعتباريتها على ما يثبته البرهان .
فحينئذ بما أنّ العرف يرى الإضافة إلى المتقدّم والمتأخّر كالمقارن ، ويرى العقد متعقّباً بالفعل مع عدم الإجازة الفعلية يصحّ انتزاع هذه العناوين عندهم لأجل ملاكات وتخيّلات مركوزة في أذهانهم ، ومن الممكن كون الأثر مترتّباً على المتعقّب في نظر العرف دون العقل ، كما هو السند والمعتمد في سائر الموضوعات الشرعية . وعليه فالشرط مقارن أيضاً ، وهذا الوجه يرجع إلى ما ذهب إليه القوم .
مقال المحقّق النائيني في تحرير محلّ النزاع ودفعه إنّ بعض الأعاظم من أهل العصر حرّر النزاع على خلاف ما هو المعروف ، وحاصله : أنّه لا إشكال في خروج المقدّمات العقلية وعدم جواز تأخّرها عن معاليلها .
كما لا إشكال في خروج العناوين الانتزاعية ; لأنّها إنّما تنتزع عمّا تقوم به ، وليس للطرف الآخر دخل في انتزاعها عن منشأها ; لأنّ السبق إنّما ينتزع من نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك ، وكذا اللحوق من اللاحق ، ولا دخل بشيء منهما في انتزاع العنوان عن صاحبه فما فرض شرطاً هو المقارن لا المتأخّر .
كما أنّ التحقيق خروج شرائط المأمور به من حريـم النزاع ; بداهة أنّ شرطية شيء للمأمور به ليست إلاّ بمعنى أخذه قيداً في المأمور به ، فكما يجوز تقييده بأمر سابق أو مقارن كذلك يجوز تقييده بأمر لاحق ، فلا ينبغي الإستشكال في جواز تأخّر شرط المأمور به عن مشروطه ; إذ لا يجاوز الشرط بالمعنى المزبور عن الجزء الدخيل في المأمور به تقيّداً وقيداً ، بل لا يعقل تعلّق الأمر بالانتزاعيات ، فلابدّ من إرجاعه إلى القيد . فكما أنّ الأمر بالمركّب يتعلّق بكلّ واحد من أجزائه فكذلك الأمر بالمقيّد يتعلّق بقيده . فامتثال الأمر المتعلّق بما تقيّد بقيد متأخّر إنّما يكون بإتيان الشرط المتأخّـر ، كما أنّ امتثال المركّب التدريجي إنّما هو بإتيان الجزء الأخير .
وأ مّا شرائط الجعل والعلل الغائية : فبما أ نّها لا تكون بوجودها الخارجي مؤثّرة في الحكم ، بل بوجودها العلمي فلا محالة يكون مقارناً مع الجعل ، فالنزاع ينحصر في شرائط الحكم المجعول.
وتوضيحه : أنّ القضايا إمّا خارجية ; وهي التي يكون الموضوع فيها الأشخاص الموجودة في الخـارج في زمان الحكم ، فلا يتوقّف الحكم فيها على غير دواعي الحكم المؤثّرة فيه بوجودهـا العلمي ; طابـق الواقـع أم لا ، فيخرج عن محطّ الكلام ; فإنّ الحكم فيها يدور مدار علم الحاكم ; كان المعلوم مقارناً أم مؤخّراً .
وإمّا حقيقية ; وهي التي حكم فيها بثبوت الحكم على الموضوعات المحقّق أو المقدّر وجودها ، فيحتاج الحكم فيها إلى أمرين :
أحدهما : ما يكون داعياً إلى جعل الحكم ، وهو أيضاً كالعلل الغائية خارج عن البحث .
وثانيهما : ما يكون موضوعاً له وقد اُخذ مفروض الوجود في مقام الحكم ، والشرائط داخلة في ذلك القسم ; لأنّ شرائط الحكم ترجع إلى قيود الموضوع ، وهذا هو الذي وقع محلّ البحث .
والحقّ : امتناع الشرط المتأخّر منه ; سواء قلنا بأنّ المجعول هي السببية وأمثالها ، أو المجعول هو الحكم عند وجود السبب :
أمّا الأوّل فواضح ; لأنّه يرجع إلى تأخّر أجزاء العلّة الفعلية عن المعلول ، وأمّا الثاني فللزوم الخلف والمناقضة من وجود الحكم قبل وجود موضوعه ، وقد عرفت أنّ الشرائط ـ كلّها ـ ترجع إلى قيود الموضوع(16) ، انتهى ملخّصاً .
ولا يخفى : أنّ في كلامه مواقع للنظر :
أمّا أوّلا : فلأنّ خروج العلل العقلية إنّما هو لعدم وجود ملاك البحث فيها ، الذي يتعلّق به غرض الفقيه ; فإنّ البحث عن التكوين ليس من شؤون المجتهد حتّى يبحث عنه ويجزم بأحد الطرفين .
وثانياً : أنّ خروج الانتزاعيات وإن كان صحيحاً ، وإنّما انجرّ الكلام إليها لدفع الإشكال ، لكن خروجها ليس بالملاك الذي قرّره من جواز انتزاعها عمّا تقوم به ، من غير دخالة الطرف الآخر فيه ; لأنّه إن أراد أنّ العنوان الانتزاعي الإضافي ينتزع من غير إضافة إلى الطرف الآخر فهو واضح البطلان ، مع أ نّه صرّح بأنّ السبق ينتزع من نفس السابق بالقياس إلى ما يوجد بعد ذلك .
وإن أراد أ نّه ينتزع منه فعلا بالقياس إلى ما سيصير طرف الإضافة ، من غير أن يكون الطرف موجوداً بالفعل فهو مثله ; لأنّ كون المنتزع موجوداً بالفعل مع عدم منشأ له يكفي في بطلانه أدنى تصوّر ، وهل هذا إلاّ كادّعاء جواز انتزاع الاُبوّة من طفل نعلم أ نّه سيولد له ولد ؟
وإن أراد أنّ المعدوم مضاف إليه فعلا فهو أوضح بطلاناً .
وإن تعجب فعجبٌ قوله وإصراره بأ نّه لا يتوقّف انتزاع عنوان عن شيء على وجود المتأخّر في موطن الانتزاع ; لأنّ عنوان التقدّم ينتزع من اليوم الحاضر ; لتحقّق الغد في موطنه ; إذ فيه الخلط بين التقدّم الذاتي وبالواقع ، وبين التقدّم بالمعنى الإضافي المقولي ، وقد مرّ وجه انتزاع العرف مفهوم التقدّم من اليوم قبل حلول الغد .
فإن قلت : فرق واضح بين الاُبوّة وبين المفاهيم الانتزاعية المتضائفة ; فإنّ الاُولى التي ربّما يعتمد عليها في إثبات تكافؤ المتضائفين لها ماهية ووجود ، وهذا بخلاف الانتزاعيات ; فإنّه لا وجود لها حتّى تنزع الماهية من حدودها ، سوى كونها موجودة بوجود منشأ انتزاعها .
قلت : كون شيء ذا ماهية ووجود لا يجدي في المقام ; إذ البحث في الانتزاعيات التي هي مفاهيم إضافية ، ولا ينتزع إلاّ وينتزع معه معنى إضافي آخر ، والبرهان المبرم في محلّه من تكافؤ المتضائفين(17) جار في الجميع .
وثالثاً : أنّ القول بأنّ الأمر بالمقيّد يتعلّق بقيده من العجائب ; إذ لازم ذلك انقلاب الشرط عن كونه شرطاً إلى كونه جزءً . والحقّ : أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة المتقيّدة ، وتحصيل التقيّد بإيجاد القيد عقلي .
ورابعاً : فإنّ إخراج شرائط المأمور به ممّا لا وجه له ; لأنّ الكلام ليس في تقيّد المركّب بقيد خارجي ، بل في صحّة المأمور به فعلا ـ أعني صوم المستحاضة إذا أتت بالأغسال المستقبلة ـ والإشكال المتوهّم في هذا الباب جار في الأجزاء أيضاً لو قيل بصحّة الجزء الأوّل ، كصحّة التكبيرة بالفعل ، مع كونها مشروطة بوقوع الأجزاء الاُخر ، فلا ينفع الفرار عن الإشكال بجعل شرائط المأمور به من قبيل الأجزاء حكماً .
وخامساً ـ بعد تسليم إمكان القضية الحقيقية في الإنشائيات ـ : أ نّه لا وجه لتخصيص الامتناع على الحقيقية ، بل الخارجية مثلها في الامتناع ، فلو حكم المولى القائل بشرطية الإجازة بصحّة عقد معيّن ، كقول رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في بيع عروة(18) فيسري الإشكال إليه أيضاً ، فيقال : كيف صحّ العقد من أوّله مع عدم اقترانه بالشرط ؟
والقول بأنّ الخارجية لا يتوقّف إلاّ على شرائط الجعل ; وهي الشرائط العلمية التي تؤثّر بوجودها العلمي لا العيني ، عجيب جدّاً ; إذ الخلط حصل من بعض الأمثلة الجزئية ، وقد عرفت خلافه في توقّف البيع الشخصي على الإجازة .
فتلخّص : أنّ البحث لملاكه عامّ يشمل شرائط الجعل كالقدرة المتأخّرة ، وشرائط المكلّف به كالأغسال المتأخّرة ، وشرائط الوضع كالإجازة في البيع الفضولي ـ بناءً على الكشف ـ والجواب هو الجواب .
____________
1 ـ اُنظر هداية المسترشدين 2 : 164 .
2 ـ كفاية الاُصول : 115 .
3 ـ راجع الحكمة المتعالية 2 : 82 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 108 .
4 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 315 ـ 316 .
5 ـ تقدّم في الصفحة 283 ـ 284 .
6 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 269 ـ 271 ، أجود التقريرات 1 : 219 ـ 220 .
7 ـ راجع شرائع الإسلام 1 : 27 ، اُنظر مدارك الأحكام 6 : 57 .
8 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 320 ـ 321 .
9 ـ يأتي في الصفحة 304 ـ 305 .
10 ـ الفصول الغروية : 80 / السطر35 .
11 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 273 و 281 .
12 ـ يأتي في الصفحة 437 .
13 ـ كفاية الاُصول : 118 ـ 119 .
14 ـ المباحث المشرقية 1 : 678 ، الحكمة المتعالية 3 : 115 ـ 118 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 257 .
15 ـ الشفاء ، الطبيعيات 1 : 170 ، الحكمة المتعالية 3 : 180 .
16 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 271 ـ 280 ، أجود التقريرات 1 : 220 ـ 226 .
17 ـ الحكمة المتعالية 2 : 109 ـ 111 و 4 : 188 ـ 198 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 145 .
18 ـ عوالي اللآلي 3 : 205 / 36 ، مستدرك الوسائل 13 : 245 ، كتاب التجارة ، أبواب عقد البيع وشروطه ، الباب 18 ، الحديث 1 .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|