أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-7-2016
1230
التاريخ: 19-7-2016
1574
التاريخ: 19-7-2016
1875
التاريخ: 21-7-2016
2244
|
رأينا العلماء المتقدمين كيف أحاطوا العربية بشيء يشبه السحر تارةً، ويسمو عنه تارةً أخرى، عندما بحثوا المناسبة الطبيعية، بين حروف العربية ومعانيها في حالتي البساطة والتركيب، وطوري النشأة والتولد, ورأيناهم في التماس الأدلة على هذه المناسبة الطبيعة ربما خلطوا بين صورتي الذاتية والاكتساب, فجعلوا الدلالة المكتسبة المتطورة في قوة الدلالة الذاتية الأصلية، وفاتهم ما بين الدلالتين من فروق دقيقة لا تدرك على حقيقته إلّا بتتبع أصول الألفاظ، وأوائل وضعها، وضروب استعمالها، ومراحل تطورها.
ولقد تكون مباحثهم في أنواع الاشتقاق، وما اكتنفها من الغلوّ
ص173
الذي سنراه ... صورةً من خلطهم أيضًا من الدلالة الذاتية والدلالة المكتسبة، فكثير من قضايا الاشتقاق ردوه بلطف الصنعة إلى ما يشبه القول بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، كأنما ودوا لو يتجاهلون أن الاشتقاق وَضْعٌ لأنه أخذ صيغة من أخرى، فهو أجدر أن يكون ذا دلالة مكتسبة لا ذاتية، متطورة لا أصلية، منذ أن اكتسب بالوضع معنًى جديدًا متفرعًا عن الأصل القديم.
وأيًّا ما خلط لغويو العرب بين الطبع والوضع، والأصل والفرع، في دراسة أبواب الاشتقاق، فلا غفران لنا اليوم -بعد أن اتسعت آفاق البحث اللغوي المقارن- في أن نعد الدلالة الاشتقاقية -وهي فرعية- كالدلالة الطبيعة التي كانت هي الأصلية.
إنما ندرس الاشتقاق في ظلال دلالته الوضعية على أنه توليد لبعض الألفاظ من بعض، والرجوع بها إلى أصل واحد يحدد مادتها, ويوحي بمعناها المشترك الأصيل, مثلما يوحي بمعناها الخاص الجديد. وهذه الوسيلة الرائعة في توليد الألفاظ وتجديد الدلالات نجدها في أنواع الاشتقاق الثلاثة الشائعة: الأصغر، والكبير، والأكبر، وفي النوع الرابع الملحق بها، وهو النحت(1) الذي يؤثر بعض المحدثين أن يسميه "الاشتقاق الكُبَار"(2).
والاشتقاق الأصغر أكثر أنواع الاشتقاق ورودًا في العربية، وهو محتجٌّ به لدى أكثر علماء اللغة "وطريق معرفته تقليب تصاريف الكملة، حتى يرجع منها إلى صيغة هي أصل الصيغ كلها, دلالةَ اطراد أو حروفًا غالبًا؛ كضَرْب, فإنه دالٌّ على مطلق الضرب فقط، أما ضارب، ومضروب، ويضرب، وأضرب، فكلها أكثر دلالة وأكثر حروفًا،
ص174
وضَرَبَ الماضي مُساوٍ حروفًا وأكثر دلالة، وكلها مشتركة في "ض ر ب" وفي هيئة تركيبها"(3).
وإذ كانت الصيغة المشتقة متفقة مع الصيغة المشتق منها في المادة الأصلية وهيئة التركيب، كما رأينا في "ضَرَبَ" وتصاريفه، كان لزامًا في كلِّ كلمة بها حروف المادة الأصلية، على ترتيبها نفسه، أن تفيد المعنى العام الذي وضعت له تلك الصيغة، وإن تخللها أو لحقها أو سبقها بعض الأصوات اللينة أو الساكنة؛ فالرابطة المعنوية العامة لمادة "ع ر ف"، التي تفيد انكشاف الشي وظهوره، تتحقق في جميع الكلمات الآتية: عَرَفَ، عَرَّفَ، تَعَرَّفَ، تَعَارَفَ، عُرِفَ، عُرْف، أَعْرَاف، عَرَّاف، تَعْريف، عِرْفَان، معرفة، وهكذا دواليك.
على أننا في الوقت الذي نجد علماء اللغة يكادون يجمعون على وقوع الاشتقاق الأصغر في العربية وكثرته فيها وتوليده قسمًا كبيرًا من متنها، حتى "أفرد الاشتقاق بالتأليف جماعة من المتقدمين؛ منهم الأصمعي, وقطرب, وأبو الحسن الأخفش, وأبو نصر الباهلي, والمفضل بن سلمة, والمبرد, وابن دريد, والزجاج, وابن السراج, والرماني النحاس, وابن خالويه"(4) نلفي طائفة قليلة من الباحثين القدامى ينكرون وقوع الاشتقاق بأنواعه كافَّةً زاعمين "أن الكلم كله أصل"، ولا يقل عن هذا الزعم غُلُوًّا وإغرابًا قول طائفة من المتأخرين اللغوين "كل الكلم مشتق". أما الراي العلمي الجدير بأن ننتصر له, فهو ما ذهب إليه المؤلفون في الاشتقاق الذين ذكرنا أسماءهم آنفًا من أن "بعض الكلم مشتق، وبعضه غير مشتق"(5).
ص175
وبعض الباحثين المعاصرين في فقه اللغة العربية، كالدكتور على عبد الواحد وافي، يؤثرون أن يسموا الاشتقاق الأصغر "بالاشتقاق العام"(6) ولسنا نرى في التسمية الحديثة ما يجعلنا نستبدل بها التسمية القديمة، فإن وصف هذ الضرب من الاشتقاق بالأصغر كافٍ في رأينا لتمييزه من الاشتقاق الكبير والأكبر.
وأهم ما الاشتقاق الأصغر ارتداد التصاريف المختلفة المتشعبة عن المادة الأصلية، إلى معنًى جامعٍ مشترك بينهما، يغلب أن يكون معنًى واحدًا لا أكثر، كما رأينا في تصاريف مادة "ع ر ف" أنها جميعًا تفيد الانكشاف والظهور، ولكن الباحث قد ينقِّب في بعض المعاجم عن طائفة من تصاريف هذه المادة ثم يجدها مردودةً إلى أكثر من أصل واحد، فلا يكون ملومًا إذ ذاك إن خُيِّلَ إليه أن كلًّا من الأصلين أو الأصول المقترحة يباين ما ذكرناه؛ أو يرتبط على الأقل ارتباطًا ضعيفًا بالمفهوم المشترك الذي أخذنا به في هذه المادة.
إن ابن فارس يرى مثلًا أن "العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السكون الطمأنينة"(7)، لكن قوله هذا بتعدد الأصل لا يبدو لنا إلّا لونًا من الترف العقلي أو التزيّد العلمي, ربما أراد به ذلك العلامة الجليل أن يظهر قوة ساعده في تلمس الفروق الدقيقة بين المفردات التي يرجح البحث العلمي المنهجي أنها تفرعت من أصل واحد لا من أصول متفرقة.
وإذا كان ابن فارس قد استشهد على الأصل الثاني "السكون والطمأنية" بنحو عشر كلمات، منها "المعرفة والعرفان" لأن من أنكر شيئًَا توحش منه ونبا عنه، و"العَرْف" وهي الراحئة الطيبة، لأن
ص176
النفس تسكن إليها(8)، و"العُرْف" وهو المعروف؛ لأن النفوس تسكن إليه، و"تعريف" الضالة واللقطة ليعرف صاحبها، و"الاعتراف" بالشيء كأنه معرفة له وإقرار به، فإنه تكلف ما وسعه التكلف حتى وجد على الأصل الأول "تتابع الشيؤ متصلًا بعضه ببعض" شاهدًا في "عُرْف" الفرس الذي سُمِّيَ بذلك لتتابع الشعر عليه، وفي مجيء القطا "عُرْفًا عُرْفًا": بعضها خلف بعض؛ وردَّ إلى عُرْفِ الفرس "العُرْفَة" وهي الأرض المنقادة المرتفعة بين سهلتين.
ولو أنصف لردَّ الأصل الأول إلى الثاني، مستبدلًا بلازم الثاني ملزمومه، وبدلالته المعنوية المجازية دلالته الحسية الحقيقية، فمعنى السكون والطمانينة في العِرْفَان والمعْرِفَة والعَرْف المشموم, والعُرْف بين الله والناس ليس إلّا نتيجةً لانكشاف الشيء وظهوره، تنشأ عنه نشوء الإلزم عن ملزومه(9). وليس من المنطق في شيء أن يضع المتكلم لفظًا يدل على نتيجة الشيء قبل مقدمته، ومجازه قبل حقيقته، ولازمه قبل ملزومه.
وحين نعيد مادة "عرف" إلى انكشاف الشيء وظهوره لا إلى أصل السكون والطمأنينية، يصعب علينا أن نربط بين عُرْف الفرس وعُرْفَة الأرض, ومجيء القطا عُرْفًا -لما فيها جميعًا من البروز والظهور- وبين ما في عرفان الشيء وتعريفه والمعروف والعَرْف الطيب من معنى البروز والظهور أيضًا.
وإمكان الرجعة بالفروع المختلفة -مهما تتعدد صيغها- إلى أصل واحد يوحي بالرابط المشترك بينها، أمر في العربية ذو بالٍ يؤكد اختفاظ
ص177
هذه اللغة بأنسابها مثلها يحتفظ العرب بأنسابهم؛ "فالألفاظ العربية كالعرب أنفسهم، تتجمع في قبائل وأسر معروفة الأنساب، وتحمل هذه الألفاظ دومًا دليل معناها وأصلها وميسم نسبها, وذلك في الحروف الثلاثة الأصلية التي تدور مع ما يتولد عنها ويشتق منها من ألفاظ"(10)
وإنَّ في تجمع الألفاظ العربية في أصل واحد ينتظم فروعها لما يسهل على الباحث التمييز بين الأصيل والدخيل, فليس في العربية مادة "سردق" حتى نظن "السرادق" مشتقًّا منها. ولا مادة "سبرق" حتى نحسب "الإستبرق" متفرعًا عنها، ولا "سندس" حتى نخال "السندس" مقيسًا عليها، بل "السرادق" فارسي معرب, أصله "سرادار " وهو الدهليز، وليس في كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعدها حرفان(11)، و"الإستبرق" الديباج الغليظ، وهو بلغة العجم "استَفْرَه", وممن صرح بأنه بالفارسية أبو عبيد وأبو حاتم وآخرون(12)، ومن أعجب العجب أن ينقب بعض اللغوين عن أصل عربي لهذا اللفظ، منكرًا تعريبه لنزول القرآن به، فإذا بالجوهري يذكره تارةً في الباء من القاف، في مادة "ب ر ق" على أن الهمزة والتاء والسين من الزوائد، وتارةً في السين والراء. بينما يذكره الأزهريّ في خماسي القاف، على أن همزته وحدها زائدة, ويرى في مثله نمطًا خاصًّا من الألفاظ التي وقع فيها وفاق بين العجمية والعربية، ثم يقول: "هذا عندي هو الصواب"(13).
ص178
وليس هذا من الصواب في شيء, فالتردد في رجعة هذا اللفظ إلى مواد متباينة كل التباين، والتكلف في التماس أصله بأي سبيل، والتضارب في الآراء المعزوة إلى العلماء بين تأييد لأعجمية اللفظ وإنكار لها، كل ذلك دليل لا ريب فيه على أن "الإستبرق" ليست خالصة العربية، وأن القرآن بنزوله بها عربها، ونقلها من عجمة فارس إلى لسانه المبين.
وقل مثل ذلك في "السندس"، فهو رقيق الديباج، ولم يختلف أهل اللغة في أنه معرب(14), وإنما اختلفوا في اللغة التي عُرِّبَ عنها، أهي الفارسي كما قال الثعالبي(15)، أم الهندية كما قال شيذالة(16).
ولقد أبى بعض اللغويين أن يستخدموا الاشتقاق وسيلة للتمييز بين الأصل والدخيل، فعطلوا هذه الوسيلة الرائعة وأبطلوها بجنوحهم إلى عربية كل لفظ أعجمي ما دام القرآن قد نزل به, وذلك جمود يبرأ منه القرآن الذي أذهب عجمة الكثير من الألفاظ باشتماله عليها, فإن يقل ابن دريد: "والفردسة السعة, صدر مفردس: واسع" ليستنتج من ذلك أن اشتقاق الفردوس من هناء جاء(17)، ولا يخفَ على ذي بصر أنما أخذ ابن دريد بهذا دفاعًا عن لغة القرآن الذي ذكر الفردوس, كأنما يغضّ ذكره لها من فصاحته وبيانه!
والحق أن هذا غلوّ خرج فيه القوم عل ما أخذو به أنفسهم من التشدد في الاشتقاق من الأعجمي، إذ جعلوا مثل هذا الأخذ بمنزلة من
ص179
ادَّعَى أن الطير ولد الحوت! إلّا أنهم عكسوا الآية، فبدلًا من أن يعترفوا بأن الفردسة بمعنى السعة متفرعة عن "الفردوس" المعربة، جعلوا الفردوس مشتقة من الفردسة، ولم يزيدوا بذلك على أن صيّروا الأصل فرعًا، والفرع أصلًا، وخلطوا بين الاستعمال الأول والاستعمال الأخير، ونسبو إلى العربية من الإعجاز في موافقة اللغات الأجنبية ما لا يجوز أن يدور مثله في خلد الإنسان! (18)
وأيًّا ما كان أمر الاشتقاق, فبه نحدد مادة الكلمة ونربطها بأخواتها وبالمجموعة التي تنسب إليها، فلا يلتبس علينا الفرع بالأصل إن أدركنا عملية الاشتقاق كيف تكون(19).
والمشتقات تَنْمِي وتكثر حين الحاجة إليها، وقد يسبق بعضها بعضًا في الوجود(20), وليس من اليسير دائمًا أن ندرك أسبقها، وأن نعيّن متى استعملت مادتها الأصلية أول مرة, ومتى بدأت تدل على معنًى خاصٍّ, إلّا أننا نرجح دائمًا أن الحسي أٍسبق في الوجود من المعنوي المجرد، وهذا ما يجعلنا ننتصر للرأي القائل بأن أصل المشتقات هي الأسماء لا الأفعال، ولا سيما أسماء الأعيان, قال ابن مالك في "التسهيل": "فصل" انفرد الرباعي بفَعْلَلَ لازمًا ومتعديًا لمعانٍ كثيرة, وقد يصاغ من اسم رباعي(21). فصرَّح باشتقاق الفعل الرباعي "فعلل" من اسم رباعي، وهو يريد اسم العين لا شيئًا آخر, ولقد كان ابن جني صرَّحَ من قبل
ص180
بأن "المصدر مشتق من الجوهر، كالنبات من النبت، والاستحجار من الحجر"(22)، فجعل المصدر نفسه -وهو أصل الاشتقاق- مأخوذًا من اسم الجوهر، أي: اسم العين, لكن العلماء بصورة عامة إذا ترددوا في تحديد أصل الاشتقاق رجَّحُوا الرد إلى المصدر إن كان أحد الأصول التي شكّوا فيها، ونبهوا على أن "اشتقاق العرب من الجواهر قليل جدًّا، والأكثر من المصدر"(23)؛ ولم يقبلوا الاشتقاق من الجواهر إلّا إذا كان أحد الأصلين جوهرًا والآخر عرضًا لا يصلح للمصدرية، ولا شأنه أن يشتق منه، فإن الرد إلى الجوهر حينئذ أولى(24).
ولو كانت موازنة العلماء -في بحث أصل الاشتقاق- بين الفعل والمصدر، لرأينا عبثًا ضائعًا ما ذهب إليه الكوفيون من أن الفعل هو أصل الاشتقاق(25)، ولما ترددنا قط في أن المصدر أجدر أن يكون هو أصل المشتقات كلها؛ "لأن المصدر -كما يقول الأستاذ الأفغاني بحقٍّ- يدل على حدث، والفعل يدل على حدث وزمن، والأسماء المشتقة تدل على حدث وزمنٍ مع زيادة ثالثة؛ كالدلالة على الفاعل أو المفعول أو التفضيل أو المكان, فهذه الكثرة من المشتقات التي جعلت للغة سعتها، ومرانتها أخذت من المصادر التي هي جميعًا أسماء معانٍ"(26).
ولكن موازنة العلماء -في أصل الاشتقاق- ينبغي أن تكون بين المصادر التي هي أسماء معانٍ، وبين الجواهر التي هي أسماء أعيان, وعلى قلة ما حفل النحاة بالجواهر في هذا الباب، وعلى ضآلة ما وفروا من
ص181
شواهد، لا نجد هذه الجواهر إلّا أصولًا للاشتقاق, معروفة موضوعة قبل أن تعرف أسماء المعاني أو توضع.
فمن ذا الذي يصدق أن مصدر التَّأبُّل "أي: اتخاذ الإبل" قد وضع قبل أن يوضع لفظ أبل نفسه؟ أو أن مصدر التأرض "اللصوق بالأرض" وضع قبل لفظ الأرض؟ أو أن مصدر الاحتضان وضع قبل قبل لفظ الحضن؟ أو التضلع قبل الضلع؟ أو التبحر قبل البحر؟ أو السمو قبل السماء؟
إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس قبل أسماء المعاني التي تطورت وانتقلت من مضايق الحس إلى آفاق النفس، وما عُلِمَ أنه أقدم فهو أجدر أن يكون الأصل؛ إذ يكون قياسه مطردًا، وميزانه واضحًا، لذلك كانت أسماء الأعيان هي أصل الاشتقاق دون المصادر؛ لأن هذه المصادر كالأفعال لا تتقيد بموازين دقيقة، ولا تقاس أقيسة سليمة مطردة(27).
وكيف لا تكون أسماء الأعيان أصول المشتقات كلها وقد أكثر العرب من اشتقاق الأفعال والمصادر من هذه الأسماء؟ كيف قد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يحصى من الجوهر التي تفرعت عتها الصفات والأحوال، والمصادر والأفعال؟
ابدأ بالإنسان من رأسه إلى أخمس قدميه، فمن الرأس ذاته اشتقو رَأْستْه رأسًا إذ ما أصبت رأسه، ومن اليافوخ أفخْته أفخًا إذا ضربت يافوخه، فإن ضربت دماغه قلت دمغته، وإن حاذيت صدغه بصدغك في المشي فقد صدغته، وإن أصبت أذنه فقد أذنته، وإن أصبت منخره فقد نخرته، أو أنفه أنفته، أو ذقنه ذقنته، أو ظهره ظهرته،
ص182
أو فقاره فقرته، أو بطنه بطنته، أو كبده كبدته، أو يده يديته، أو ساقه سقته، أو رجله رجلته، أو كعبه كعبته(28).
ومن الأسماء الأقارب اشتقوا المصادر والأفعال، فالتبني من الابن, والتأبي من الأب، والتأمم اتخاذ الأم، والبعال والمباعلة: اتخاذ البعل(29).
وولّدوا كثيرًا من الألفاظ من أسماء الأمكنة فقالوا: أحرم القوم: دخلوا في الحرم، ساحلوا: أتوا الساحل، أسافوا: أتو السيف وهو ساحل البحر أيضًا, أعمن الرجل: أتى عمان، كوف: صار إلى الكوفة، قدّس: أتى بيت القدس, أيمن: أت اليمن، أهضب: نزل الهضاب(30).
ومن الأسماء الأزمنة اشتقوا اشتقاقًا صريحًا، فقالوا: أخرفوا، وشتوا, وأربعوا, وأصافوا، وأفجروا، وأظهروا وآصلوا, واستحروا, وابتكروا(31).
ولا حاجة لذكر اسم الزمان الذي اشتق منه كل لفظ من هذه المشتقات، فإنه أوضح من أن يخفى على أحد.
أما الاشتقاق من أسماء الأصوات فقد عرضنا الكثير من شواهده خلال مبحث الثنائية التي فسر بعض العلماء في ضوئها نشأة اللغات الإنسانية، ومنها لغة العرب(32), بيد أننا وجدنا من العلماء من ينكر أن تكون حكايات الأصوات مما يقاس عليه(33), وان كان إنكاره لم يحل دون مخالفة السماع
ص183
للقياس، أو قل: إن إنكاره لم يكن ليمنع ورود السماع القديم بما نهى عنه القياس الحديث, وهل تجد تعليلًا لهذا أوضح من أن يقول ابن فارس مثلًا في "الهمزة والهاء": "ليس بأصل واحد؛ لأن حكايات الأصوات ليست أصولًا يقاس عليها, ثم يستدرك معقبًا: "لكنهم يقولون: أهَّ أهَّةً وآهةً"(34)؟
فإذا نقلوا عن الخليل بعد ذلك أن يقال لحكاية الأصوات في العساكر ونحوها: آه، واستشهدوا على هذا بقول الشاعر:
في جحفلٍ لَجِبْ جَمٍّ صواهلُهُ ... بالليل تُسْمَعُ في حافاته آءُ
ثم استنتجوا من مثل هذا الشاعر أن "الحكايات ليست أصولًا يقاس عليها"(35)، فلذلك لا يعني الحَجْر على ألسنة المطبوعين أن تولّد من "الآء" فعلًا أو مصدرًا أو صفة، فما يملك هذا الحَجْرَ نحويّ ولا لغوي إذا استخفَّ مطبوع ما استثقلاه، أو أطلق الاشتقاق من الأغلال بها قيداه! لكنّ الصحيح في هذا الأمر أن لسماع لم يثبت في مثله، وإن كان هذا السمع لا يعلل دائمًا في حالتي السلب والإيجاب تعليلًا منطقيًّا، فلو ثبت سماع هذا الضرب من الاشتقاق لما كان سرّ ثبوته خفة اللفظ ورشاقته، كما أنه لو انتفى سماعه ما كان استثقال اللفظ واستقباحه علة تركه وإهماله.
وبمثل هذا النمط من البحث يعالج تشدد اللغويين في أمر الاشتقاق من الأسماء الأعجمية، فتحريمهم هذا النوع من الاشتقاق لا ندري على أيِّ مستند يقوم، وإنه لمستند واهٍ لا يطيق الوقوف على ساقيه أمام هذه الكثرة من الشواهد التي أكدت تعريب الفصحاء لطائفة من الأسماء
ص184
الأعجمية، ثم استعمالهم إياها بطلاقة وحرية خُيِّلَتَا إلى الباحثين أحيانًا أنها عربية خالصة(36).
وفي هذا كله برنهان قوي لا يمكن مدافعته على أن الاشتقاق من أسماء الأعيان مُقَدَّمٌ على الاشتقاق من أسماء المعاني.
ولكن الروح الذي وجّه علماءنا إلى القول بأن المصدر لا الجواهر هي أصل الاشتقاق، هو الروح نفسه الذي وجههم أيضًا إلى ترجيح أصل على أصل إذا ترددت الكلمة بين رابطين أو أكثر من روابط الاشتقاق.
وهذا هو الروح التقليلدي الذي يأبى أن يقيس الحقائق اللغوية إلّا بمقاييس الشرف واللياقة والسهولة والتقييد والتخصيص، وأكثرها نسبي, وبعضها من اصطلاح أهل المنطق.
ولقد يكون من المستساغ إذا ترددنا في لفظ العُقَار مثلًا، هل نرده إلى عقر الفهم, أم إلى ما في العقار من الإسكار ثم عقر صاحبها، أن نرجح ما رجحوه من أن ردَّه إلى عقر الفهم أقرب, وكذلك نستسيغ رد "مهدد" علمًا إلى "المهد" لا إلى "الهد"؛ لأن باب "كَرُمَ" أمكن وأوسع وأفصح وأخف من باب "كَرَّ", فيرجح بالأمكنية.
ولكننا لا نستطيع أن نفهم حين تدور كلمة "الله" فيمن اشتقها بين الاشتقاق من أله أو لوه أو وله، لماذا تكون من "أله" أشرف وأقرب؟!
ولا نستطيع أن ندرك لِمَ يكون اشتقاق المعارضة من العرض بمعنى الظهور أولى من اشتقاقها من العرض وهو الناحية! ولا لِمَ يكون اشتقاق "هدى يهدي" من الهداية بمعنى الدلالة, لا من "الهوادي" المتقدمات(37)!
ص185
وأعجب من هذا كله أن يقال الشيء وضده، ومن كلٍّ منهما كان المشتق والمشتق منه، وكان الأصل والفرع، وذلك في شاهدهم "التقليدي" المشهور: أن أحد الأصلين إن كان أخص رُجِّحَ على الأعم؛ كالفضل والفضيلة, وقيل عكسه(38)!!
وإنما يعود هذا الاضطراب، وتلك الحيرة، وذلك الخبط أحيانًا إلى ما أراد اللغويون من التنازل عن الاشتقاق للصرفيين, تنازل كان من اللغويين عن طواعية، ففرضت معه مقاييس الصرف وقواعد الصرفيين وتجرد من التعليل السليم والاستقراء الدقيق لحقائق اللغة وظواهرها وأطوارها في التكامل والنماء المطرد.
ص186
__________
(1) أصول النحو 126.
(2) الاشتقاق "لعبد الله أمين" ص 389.
(3) المزهر 1/ 346.
(4) المزهر 1/ 351.
(5) المزهر 1/ 348, وقارن بمحنة الأديب 1/ 154.
(6) علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة ص197.
(7) المقاييس 4/ 281. مادة "ع ر ف".
(8) وقد فهم بعض المفسرين من قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أن التعريف هنا من العَرْف بفتح العين, وهو الريح الطيبة. انظر روح المعاني للآلوسي "25/ 43", وقارن بالمقاييس 14/ 281.
(9) ويمكننا أن نلحق بذلك ما نقله ابن فارس من قولهم: النفس العروف: إذا حملت على أمر فاطمأنت به، والرجل العروف: إذا تحمَّل وصبر، فإن اطمئنان النفس وصبر الصبور ننتبجة لازمة لانكشاف الحقائق وظهورها والوقوف عليها. وقارن بالمقاييس 4/ 281.
(10) فقه اللغة "للمبارك" ص54.
(11) انظر مخطوطة "المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب" للسيوطي 11/ ب, وقارن بالمعرب للجواليقي 200, ومفردات الراغب أيضًا. وأما ما ذكره ابن دريد "في الجمهرة 3/ 333" من قولهم: "سردق البيت: جعل له سرادقًا، فمن الواضح أنه ضَرْبٌ من التوسع في اشتقاق لفظ عربي من لفظ أعجمي. وبمثل هذا أيضًا نفسر استشهاد بان دريد على عربية الكلمة بشعر للأعشى.
(12) المهذب 1/ 9 , والمعرب 15.
(13) قارن بما ذكره العلامة أحمد محمد شاكر في الحاشية 10 من "المعرب للجواليقي ص15" والعلامة شاكر ينتصر لرأي الجوهري، والأزهري؛ لأنه ينكر المعرب في القرآن، عدا الأعلام.
(14) المعرب للجواليقي 177 "أول باب السين".
(15) فقه اللغة للثعالبي ص453, "فصل في سياقة أسماء تفردت بها الفرس دون العرب, فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي".
(16) المذهب للسيوطي 1/ 12.
(17) الجمهرة لابن دريد 3/ 333.
(18) المزهر 1/ 351, وقارن بالعلم الخفاق من علم الاشتقاق "لمحمد صديق حسن خان" 19.
(19) لذلك قال الأب أنستاس ماري الكرملي بحق: "والفردوس البستان, فإن جمعه فراديس، وفراديس ترعيب لليونانية, واليوناينية من الزندية "بيردايزا". نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها ص84.
(20) فقه اللغة "للمبارك" ص63.
(21) انظر تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد ص56، طبع بمكة.
(22) الخصائص 2/ 432.
(23) العلم الحقائق 19.
(24) نفسه 18.
(25) راجع المسألة الثامنة والعشرين من "الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري 1/ 144-152 لمعرفة مذهبي الكوفيين والبصريين وحججهم, وردود بعضهم على بعض في مسألة أصل المشتقات.
(26) أصول النحو 134.
(27) قارن بالاشتقاق "عبد الله أمين" 147.
(28) المخصص 6/ 104-106 "أفعال الضرب المشتقة من أسماء الأعضاء" وننصح القارئ بمراجعة هذ الفصل كله في المخصص، فإنما اجتزانا ببعض أمثلته، والشواهد فيه تتنتاول جميع المشتقات من أعضاء الإنسان، فلا صغيرة ولا كبيرة منها إلا حدث فيها شيء من الاشتقاق.
(29) الاشتقاق "عبد الله أمين" 31.
(30) نفسه 23-30.
(31) أصول النحو 135.
(32) راجع ص 48 إلى 152.
(33) راجع ص 161.
(34) المقاييس 1/ 22.
(35) نفسه 1/ 33.
(36) قارن بأصول النحو 29 والاشتقاق "لعبد الله أمين" ص148-152, وسنزيد هذه الفكرة وضوحًا في فصل "التعريب".
(37) العلم الخفاق ص18.
(38) المزهر 1/ 349.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|