أمَّا وَلَوْلاَ وَلَوْ مَا
(أمَّا كَمهْمَا يَكُ مِن شيء) أي أما ــ بالفتح والتشديد ــ حرف بسيط فيه معنى الشرط والتفصيل والتوكيد: أما الشرط فبدليل لزوم الفاء بعدها نحو: {فأمَّا الذين آمنوا فيعلمون أنه الحقُّ من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون} (البقرة: 26) الآية، وإلى ذلك الإشارة بقوله (وَفا لِتِلوِ تلوها وُجوباً أُلِفَا) فاء مبتدأ خبره ألف، ولتلو متعلق بألف. ومعنى تلو تال. ووجوباً حال من الضمير في ألف. وأشار بقوله: (وحَذفُ ذي الْفَا قَلَّ في نَثْر لَمْ يَكُ قَوْلٌ معها قد نُبِذَا) ــ أي طرح ــ إلى أنه لا تحذف هذه الفاء إلا إذا دخلت على قول قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها معه نحو: {فأمَّا الذين اسْودَّت وُجوهُهم أكَفرتم} (آل عمران: 106)، أي فيقال لهم أكفرتم. ولا تحذف في غير ذلك إلا في ضرورة، كقوله:
فَأَمَّا الْقِتَالُ لاَ قِتَالَ لَدَيْكُمُ وَلَكِنَّ سَيْراً في عِرِاضِ الْمَوَاكِبِ
ص381
أو ندور نحو ما خرّج البخاري من قوله : «أما بعد ما بال رجال»، وقول عائشة: «أما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافاً واحداً». وأما التفصيل فهو غالب أحوالها كما تقدم في آية البقرة، ومنه: {أمَّا السفينةُ فكانت لمساكينَ يعملونَ في البحر} (الكهف: 79)، {وأما الغلامُ} (الكهف: 80)، {وأما الجدار} (الكهف: 82) الآيات. وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر أو بكلام يذكر بعدها في موضع ذلك القسم: فالأول نحو: {يأيّهَا الناسُ قد جاءكم برهانٌ مِن ربكم وأنزلنا إليكُم نوراً مبيناً} (النساء: 174)، {فأما الذين آمنوا با واعتصموا به فَسَيُدْخِلهم في رحمة منه وفضل} (النساء: 175)، أي وأما الذين كفروا با فلهم كذا وكذا. والثاني نحو: {هُو الذي أنزل عليك الكتابَ منه آياتٌ محكماتٌ هُنَّ أمُّ الكتاب وأُخرُ مُتشابهاتٌ} (آل عمران: 7)، {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنةِ وابتغاء تأويله} (آل عمران: 7)، أي وأما غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: {والراسخون في العلمِ يقولون آمنا به كلٌّ من عند ربنا} (آل عمران: 7)، أي كل من المتشابه والمحكم من عند ا تعالى، والإيمان بهما واجب، فكأنه قيل وأما الراسخونَ في العلمِفيقولون وعلى هذا فالوقف على إلا ا، وهذا المعنى هو المشار إليه في آية البقرة السابقة فتأملها. وقد تأتي لغير تفصيل نحو أما زيد فمنطلق، وأما التوكيد فقلّ من ذكره. وقد أحكم الزمخشري شرحه، فإنه قال: فائدة أما في الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، وأنه لا محالة ذاهب، وأنه بصدد الذهاب، وأنه منه عزيمة، قلت: أما زيد فذاهب. ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وهذا التفسير مدل بفائدتين: بيان كونه توكيداً، وأنه في معنى الشرط انتهى.
ص382
تنبيهات: الأول ما ذكره من قوله: أما كمهما يك لا يريد به أن معنى أما كمعنى مهما وشرطها، لأن أما حرف فكيف يصح أن تكون بمعنى اسم وفعل، وإنما المراد أن موضعها صالح لهما وهي قائمة مقامهما لتضمنها معنى الشرط. الثاني يؤخذ من قوله لتلو تلوها أنه لا يجوز أن يتقدم الفاء أكثر من اسم واحد، فلو قلت أما زيد طعامه فلا تأكل لم يجز كما نص عليه غيره. الثالث لا يفصل بين أما والفاء بجملة تامة إلا إن كانت دعاء بشرط أن يتقدم الجملة فاصل، نحو أما اليوم رحمك ا فالأمر كذلك. الرابع يفصل بين أما وبين الفاء بواحد من أمور ستة: أحدها المبتدأ كالآيات السابقة. ثانيها الخبر نحو أما في الدار فزيد. ثالثها جملة الشرط نحو: {فأما إن كان من المقربين فرَوْح وريحان} (الواقعة: 89) الآيات رابعها اسم منصوب لفظاً أو محلاً بالجواب نحو: {فأما اليتيمَ فلا تقهر} الآيات. خامسها اسم كذلك معمول لمحذوف يفسره ما بعد الفاء، نحو أما زيداً فاضربه، وقراءة بعضهم: {وأما ثمود فهديناهم} (فصلت: 17) بالنصب. ويجب تقدير العامل بعد الفاء وقبل ما دخلت عليه، لأن أما نائبة عن الفعل فكأنها فعل والفعل لا يلي الفعل. سادسها ظرف معمول لأما لما فيها من معنى الفعل الذي نابت عنه، أو للفعل المحذوف، نحو أما اليوم فإني ذاهب، وأما في الدار فإن زيداً جالس، ولا يكون العامل ما بعد أن لأن خبر أن لا يتقدم عليها فكذلك معموله. هذا قول سيبويه والمازني والجمهور، وخالفهم المبرد وابن درستويه والفراء والمصنف. الخامس سمع أما العبيدَ فذو عبيد بالنصب، وأما قريشاً فأنا أفضلها، وفيه دليل على أنه لا يلزم أن يقدر مهما يكن من شيء، بل يجوز أن يقدر غيره مما يليق بالمحل، إذ التقدير هنا مهما ذكرت، وعلى ذلك فيخرج أما العلم فعالم، وأما علماً فعالم، فهو أحسن مما قيل إنه مفعول مطلق معمول لما بعد الفاء، أو مفعول لأجله إن كان معرفاً، وحال إن كان منكراً. وفيه دليل أيضاً على أن أما
ص383
ليست العاملة إذ لا يعمل الحرف في المفعول به. السادس ليس من أقسام أما التي في قوله تعالى: {أماذا كُنتم تعملون} (النمل: 84)، ولا التي في قول الشاعر:
أبَا خُرَاشَةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفَرٍ
بل هي فيهما كلمتان، والتي في الآية أم المنقطعة وما الاستفهامية أدغمت الميم في الميم. والتي في البيت هي أن المصدرية وما المزيدة. وقد سبق الكلام عليها في باب كان. السابع قد تبدل ميم أما الأولى ياء استثقالاً للتضعيف كقوله:
رأَتْ رَجُلاً أيْمَا إذَا الْشَّمْسُ عَارَضَتْ فَيُضْحَى وَأيْمَا بِالْعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
(لَوْلاَ وَلَوْمَا يَلْزَمَانِ الابْتِدَا إذَا امْتِنَاعَاً بِوُجُوْدٍ عَقَدَا) أي للولا ولوما استعمالان: أحدهما أن يدلا على امتناع شيء لوجود غيره، وهذا ما أراده بقوله:
إذَا امْتناعاً بوُجُودٍ عَقَدَا
أي إذا ربطا امتناع شيء بوجود غيره ولازماً بينهما ويقتضيان حينئذٍ مبتدأ ملتزماً فيه حذف خبره غالباً، وقد مر بيان ذلك في باب المبتدإ، وجواباً كجواب لو مصدّراً بماض أو مضارع مجزوم بلم، فإن كان الماضي مثبتاً قرن باللام غالباً نحو: {لَوْلاَ أنتم لَكُنَّا مؤمنين} (سبأ: 31)، ونحو قوله:
لَوْلاَ الإصَاخَةُ لِلْوُشَاةِ لَكَانَ لِي مِنْ بَعْدِ سُخْطِكَ فِي الرِّضَاءِ رَجَاءُ
وإن كان منفياً تجرد منها غالباً نحو: {ولوْلا فضلُ ا عليكم ورحمتهُ ما زكى منكم من أحَدٍ أبداً} (النور: 21) وقوله:
واللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا
وقوله:
لَوْلاَ ابنُ أَوْسٍ نَأَى مَا ضيمَ صاحبُهُ
وقد يقترن بها المنفي كقوله:
لَوْلاَ رَجَاءُ لِقَاءِ الظَّاعِنينَ لَمَا أَبْقَتْ نَوَاهُمْ لَنَا رُوحاً وَلاَ جَسَدا
وقد يخلو منها المثبت كقوله كقوله:
لَوْلاَ زُهيرٌ جَفاني كنتُ مُنْتَصِرا
وقوله:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طِحْتَ كَمَا هَوَى بِأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيْقِ مُنْهوى
ص384
وإذا دل على الجواب دليل جاز حذفه نحو: {ولولاَ فضلُ ا عليكم ورَحمتهُ وأنَّ ا توابٌ حكيم} (النور: 10)، والاستعمال الثاني أن يدلا على التخضيض فيختصان بالجمل الفعلية، ويشاركهما في ذلك هلا وألا الموازنة لها، وألا بالتحفيف. وقد أشار إلى ذلك بقوله: (وَبِهما التَّحضيضَ مِزْ وَهَلاَّ ألاَّ ألاَ وأَوْلِيَنْهَا الْفِعْلاَ) أي المضارع أو ما في تأويله، نحو: {لَوْلاَ تستغفرون ا} (النمل: 46)، ونحو: {لولاَ أُنزل علينا الملائكة} (الفرقان: 21)، ونحو: {لو ما تأتينا بالملائكة} (الحجر: 7)، ونحو قوله: هلا تسلم، أو ألاَّ تسلم فتدخل الجنة. ونحو: {ألاَ تقاتلون قوماً نَكثوا أيمانَهم} (التوبة: 13)، والعرض كالتحضيض، إلا أن العرض طلب بلين ورفق، والتحضيض طلب بحث (وقد يَلِيها) أي قد يلي هذه الأدوات (اسمٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ عُلِّقَ أو بِظَاهِرٍ مُؤخَّرِ) فالأول نحو قولك: هلا زيداً تضربه، فزيداً علق بفعل مضمر بمعنى أنه مفعول للفعل المضمر. والثاني نحو قولك: هلا زيداً تضرب، فزيداً علق بالفعل الظاهر الذي بعده لأنه مفرغ له.
تنبيهات: الأول ترد هذه الأدوات للتوبيخ والتنديم، فتختص بالماضي أو ما في تأويله، ظاهراً أو مضمراً، نحو: {لَوْلا جاؤوا عليهِ بأربعة شُهداء} (النور: 13)، {فلولا نَصَرَهم الذين اتَّخذوا من دُوْنِ ا قربَانَاً آلهةً} (الأحقاف: 28)، ونحو قوله:
تَعُدُّوْنَ عَقَرَ الْنِّيْبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الْكَميَّ الْمُقَنَّعَا
أي لولا تعدون الكمي، بمعنى لولا عددتم، لأن المراد توبيخهم على ترك عده في الماضي، وإنما قال تعدون على حكاية الحال ونحو قوله:
أَتَيْتَ بِعَبْدِ اللَّهِ فِي الْقِدِّ مُوْثِقَا فَهَلاَ سَعِيْدَاً ذَا الْخِيَانَةِ وَالغَدْرِ
ص385
أي فهلا أسرت سعيداً. الثاني قد يقع بعد حرف التحضيض مبتدأ وخبر فيقدر المضمر كان الشانية كقوله:
وَنُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيْعُهَا
أي فهلا كان الشأن نفس ليلى شفيعها. الثالث المشهور أن حروف التحضيض أربعة وهي: لولا ولوما وهلا وألاَّ بالتشديد، ولهذا لم يذكر في التسهيل والكافية سواهن. وأما ألا بالتخفيف فهي حرف عرض، فذكره لها مع حروف التحضيض يحتمل أن يريد أنها قد تأتي للتحضيض، ويحتمل أن يكون ذكرها معهن لمشاركتها لهن في الاختصاص بالفعل وقرب معناها من معناهنّ؛ ويؤيده قوله في شرح الكافية: وألحق بحروف التحضيض في الاختصاص بالفعل ألا المقصود بها العرض نحو ألا تزورنا.
خاتمة: أصل لولا ولو ما: لو ركبت مع لا وما، وهلا مركبة من: هل ولا، وألا يجوز أن تكون هلا؛ فأبدل من الهاء همزة. وقد يلي الفعل لولا غير مفهمة تحضيضاً كقوله:
أنتَ الْمُبَاركُ وَالْميْمُوْنُ سِيْرَتُهُ لَوْلاَ تقوِّمُ دَرْءَ الْقَوْمِ لاَخْتَلَفُوا
فتؤول بلو لم: أي لو لم تقوم، أو تجعل المختصة بالأسماء والفعل صلة لأن مقدرة على حد
ص386