أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-5-2016
860
التاريخ: 26-5-2016
677
التاريخ: 23-3-2017
867
التاريخ: 3-8-2019
782
|
تصفية المادية
معنى التصورات الجديدة الناشئة عن خبرات فيزياء الكم وتفسيرها العقلي هو تصفية عميقة الأثر للصورة التقليدية للعالم الغربي التي أوجدها العلم الطبيعي من الفلسفة المادية الإغريقية ، وتكونت فكرة بأن التطور الجديد ليس (تتويجاً Surmounting) بل هو (تعديل refinement) لصورة العالم المادية . بيد أنه في ظل معايير محددة يكون الأمر إحساساً بين (التتويج) و (التعديل) .
كما يمكن النظر الى فلسفة كانط على أنها تتويج أو تعديل للصورة المادية للعالم تبعاً لإحساس الفرد بالإضافة الى أن التعديلات التي أدخلتها عليها نظرية النسبية ونظرية الكم يمكن أن ندعوها دحضاً واستمراراً لتصورات كانط ، تبعاً لجزء النظرية المراد اعتباره النواة الأساسية أو القشور الخارجية خاضعاً للمزيد من التطوير .
ويمكن توضيح المشكلة عند الإشارة الى أي مدى يختلف الإدراك الجديد عن القديم . وحقيقة ، تجعلنا مقارنة الفيزياء الجديدة بالصورة المادية للعالم نعتقد بأن هذه الفرضيات الحالية أو الآراء العلمية للتصور المادي للطبيعة التي كانت تعبر عن الصراع بين النظريات المادية والأفكار الأخرى صارت مهجورة فاسدة .
ومقارنة مع التمثيل الواضح الملموس (مما يعد أمراً فعالاً مثمراً للبحث الطبيعي) للنظرية الذرية المادية ، فإن الفيزياء الذرية الحديثة تعد أكثر مثالية بصورة أساسية . ولنذكر مرة أخرى سمات أساسية قليلة للمعرفة الحديثة التي تبرز من خلالها هذه الطبيعة الأكثر مثالية للذرات الحديثة . فذرات ديقريطس غير قابلة للتحطم والتغير ، أما ( الجسيمات الأولية elementary particles ) الحديثة فيمكن أن تتحول بصورة غير محددة ، فالنيوترون (في حالة (عملية بيتا) الإشعاعية) يمكن أن يتحول فينجم عن ذلك ثلاث جسيمات جديدة : بروتون proton ، إلكترون electron وجسيم (نيوترينو neutrino) لم يذكر نوعه من قبل وهو يشغل موضعاً وسطاً بين الإلكترون وكم الضوء .
وأما البروتون فيمكن أن يتخلل الى ثلاث جسيمات : نيوترون ، (الإلكترون موجب) (وهو موجود أيضاً) ، ونيوترينو . ويمكن لكل من الإلكترون الموجب والإلكترون السالب أن (يعوض compensate) كل منهما الآخر بحيث يبقى هناك واحد فقط أو اثنان أكثر من كمات الضوء وبالعكس يمكن أن يوجد إلكترون موجب وإلكترون سالب كأزواج ناجمة عن كمات ضوء وبالنسبة للبروتون فهناك بكل تأكيد عمليات مماثلة وإن كان ذلك لم يتحقق بعد التجربة .
وقد تختفي كمات الضوء كلية بامتصاص داخل الذرات أو العكس يمكن إنتاجها من جديد .
وتبعاً لما ذهب إليه ديمقريطس فإن كل ذرة على حدة لها مصير محدد ، وبفضل ثباتها وعدم تحطمها فإنها ذات شخصية دائمة مستمرة . أما الإلكترونات وغيرها من الجسيمات الأولية في عرف الفيزيائي الحديث فليس لها هوية مستقلة الى جانب خاصيتي التحطم والتحول . ولقد سبق شرح معنى هذا التحديد من قبل .
وفي النهاية ، لم يعد وجود الذرات حقيقة أساسية أولية للطبيعة وإنما هي جزء خاص فقط من ظاهرة أكثر عمومية وشمولاً – ظاهرة الانفصالات أو الانقطاعات الكمية quantum discontinuities . وبينما تعرضنا بداية بالتفصيل للتطور التاريخي للتصور الذري ثم تعرفنا على الآثار الكمية كظواهر ملازمة لهذه الذرات فإن التفسير الحديث والمنطقي هو العكس تماماً . تكمن الحقيقة الأساسية في وجود شيء ما يؤكد على تعبير فعلي وتمثيل واضح ويمكن الإشارة إليها تقريباً بعبارة (الانفصال أو الانقطاع) .
هذا الانفصال discontinuity الأولى المميز بكم الفعل لبلانك Planck quantum of action والمسئول عن الإدراك الكمي الكامل بواسطة قانون رياضي وهو ما كشف عنه النقاب من بين قوانين أخرى في إطار حقيقة الذرات الواضحة نوعاً . لقد تعودنا على ثنائية الأمواج الجسيمات وعلمنا أنه في ظل ظروف محددة تظهر الطبيعة في شكل مناظر للتمثيل البسيط للذرة ، بيد أننا نعلم أيضاً ان الطبيعة يمكن أن تظهر من زوايا أخرى عندئذ تظهر الانقطاعات (الانفصالات) الأولية في صور أخرى .
لذلك وعلى حد معرفتنا تختلف الذرة أو الإلكترون كلية عن ذرات ديموقريطس . وتكون المسألة مرة أخرى مسألة ذوق ما إذا كانت الفيزياء الذرية في حالتها الحديثة ينظر لها على أنها تأييد (معدل refined) أو دحض جذري لآراء الفيزيائيين في القرن المنصرم بشأن الذرات . لقد أعلن ديموقريطس أن جميع (صفات qualities) اللون والرائحة والذوق أو الحرارة هي خداع ، وأرجع للذرات كخواض حقيقية فقط تلك الخواص المتعلقة بشكل الأجسام وحركتها . ولكن ماخ Mach كان قد عارض من قبل الأفكار الفيزيائية السائدة وذلك من خلال نقده الوضعي فالافتراض بإرجاع الخصائص الى الذرات على حد إدراكنا لها بحاسة الإبصار واللمس هو افتراض اختياري تحكمي وزائد مثل افتراض إرجاع خصائص درجات اللون والموسيقى إليها . ولقد أضاف التطور الجديد تبريرات لنقد ماخ ورفع من درجة أهمية الخواص الهندسة بالنسبة لغيرها من الخواص .
فالذرة كما نعرفها اليوم ليس لها الخواص الواضحة بصورة ملموسة كما هو الحال بالنسبة لذرة ديموقريطس ، ولكنها من بين جميع الخصائص الحسية يمكن فقط تمييزها من خلال نظام من القوانين الرياضية .
إن الصراع المحتدم بين الفلسفة المادية materialistic philosophy والنظرية الوضعية في المعرفة يبدو واضحاً جداً في هذه النقطة بالذات ، فلقد تم حسم أبرز سمات الصورة المادية للعالم بصورة شاملة بينما تأيدت تماماً نظرية المعرفة في إطار النظرية الوضعية .
واليوم كثيراً ما تعد فكرة إرنست ماخ في اطار الذريات وقتها فكرة دحضتها التجارب فيما بعد . كما أن تقدير ماخ لأهم قضايا المعرفة الفيزيائية كثيراً ما يقدم كأساس لدحض نقد الإدراك الوضعي عامة . بيد أنه من الواضح أن اساس هذه المناقشات هو تصور قديم مهجور عن (الميكروفيزياء) ؛ والافتراض بأن تجاربنا قد أيدت حقيقة الذرات – بهذه الصورة التقريبية - يعد افتراضاً صحيحاً مؤقتاً خلال الربع الأول من هذا القرن فقط . وبالنسبة للمعلومات الموضحة في الفصل الثاني من هذا الكتاب والتي كانت تبدو مؤيدة للفكرة الأساسية لديموقريطس ، فإن هذه المعلومات تتناقض مع الظواهر الكمية التي تم تناولها في الفصل الثالث وأدت بنا في نهاية المطاف الى تقدير مختلف تماماً عن الحالة الإجمالية . أما بالنسبة لوجهة النظر الحديثة حقاً فإن الفكرة القديمة عن الذرة ينبغي اعتبارها في موضع التفنيد لا التأييد ، لأن التصور الجسيمي يتناول أحد جانبي الصورة دون الآخر المكمل له .
وإذا جردت نظرية الكم الذرة من خصائصها الملموسة تاركة فقط القوانين الرياضية لتوضيحها إذن لتأيد موقف نظرية المعرفة ثانية – البحث الفيزيائي لا يرمي الى اظهار (الوجود الحقيقي) للأشياء من (خلف) العالم الظاهري ، وإنما يهدف الى تطوير نظم الفكر للتحكم في هذا العالم الظاهري . إن الذرة بما يميزها كإطار للقوانين ، ما هي إلا إطار لتصنيف الحقائق التجريبية ، شأنها في ذلك شأن جغرافية الأرض .
وعلى قدم المساواة من الأهمية الفلسفية يكون إظهار الفيزياء الحديثة (للحبرية fatalism) التي بلغت أوج تطورها في الفيزياء الكلاسيكية . وكان من المتصور في القرن المنصرم أن حركات الذرات كانت خاضعة لقوانين مشابهة لقوانين نظم الكواكب – بحيث تشبه الطبيعة بكل دقائقها ساعة دقاقة تحدد حالاتها مسبقاً من أول عصورها لآخرها بقوانين رياضية صارمة تماماً . وصف ديبوا ريموند DuBois-Reymond طريقة التمثيل هذه بوضوح فاق حد البراعة .
تخيل روحاً مفكراً يفوقنا بدرجة لا نهائية بالنسبة للقدرة الكمية ويتساوى معنا من الناحية الفكرية عالماً (كاملاً) بضروب الرياضيات فيكمل في جزء من الثانية عمليات حسابية تستغرق ألف عام من جميع رياضي البشر ، وفضلاً على ذلك من خلال التجربة والملاحظة وفي مرحلة محددة من الزمن فإنه يعلم حال العالم بكل التفاصيل وموضع كل ذرة وسرعتها . إن (روح لا بلاس) هذه سوف يحيط علماً بكل شيء يعرفه كل حكماء البشر وعلمائه . فيمكنه مقدماً معرفة كل ما يجري في المستقبل وأيضاً كا ما حدث في الماضي تبعاً لما ترشده حساباته بشأن جريمة لا تفسير لها وكل حادثة بما ينطوي عليه من أسرار . فكل ليفة في مخ البشر سواء في الماضي أو الحاضر تكون معلومة له بدقة فيمكنه حسب كل فعل بشري .
لقد بنيت الفيزياء الحديثة بكل بساطة خطأ هذه الصورة العلمية للعالم وأصبحنا نعرف الآن أنه لا يمكن أن يكون هناك تساؤل عن السببية المحددة سابقة الحساب لكل العمليات الذرية . ورغم وجود هذه السببية والقدرة على الحساب حقيقة بالنسبة لنظام الكواكب ، فقد يحدث شيء جديد غير متوقع في أي لحظة بالنسبة لميكروفيزياء الذرات والكمات .
وهذا التحديد جدير باهتمام خاص بشأن الكائنات الحية ، فلقد بات مستحيلاً في إطار طريقة التمثيل على نحو ما شرحه ديبوا ديموند التخيل بأن التحديد السيي المسبق الصارم بالنسبة لكل الحركات الذرية يلاقي استثناء في مخ البشر ، فالإنسان منطقياً ينبغي تفسيره على أنه شيء ميكانيكي متحرك بذاته بصورة معقدة .
أما المعارضة لهذا المذهب (الآلة البشرية I'homme machine) في العالم الديني فقد نشأت خلال سعادة خاصة على يد ممثلي المادية المحاربين .
ونعلم الآن أن باستطاعتنا الإشارة فقط الى سببية حقيقية مسبقة في إطار الماكروفيزياء وعلينا أن ننظر في أمر اعتبار الكائنات الحية من حيث ضمها أيضاً الى (الماكروفيزياء) . كل كائن حي مهما كان صغيراً يعد حقاً بنية قوية ضخمة إذا ما قورن بالذرة ، ولكن ذلك لا يكفي لتبرير اعتباره بنية (ماكروفيزيائية) ، فمن خصائص الجسم الماكروفيزيائي غير العضوي احتواؤه أحياناً على عدد لا يحصى من الذرات المتماثلة المعرضة لنفس الظروف الخارجية ، وهنا فقط يمكن الافتراض بأن السببية التامة لمصير الجسم الماكروفيزيائي نتيجة لقوانين إحصائية تخضع لها الذرات المستقلة ، أما بالنسبة للكائن الحي فإن الأمر يختلف تماماً لأن جميع أجزائه لها بنيات متطورة على درجة عالية من التعقيد . لقد كان لاختراع المجهر فضل في معرفة هذه البنيات المعقدة وإن كانت هذه تفوق حدود الرؤية المجهرية بما يصل الى الأبعاد (الغروية colloidal) والجزيئية molecular . وبالمثل كميات المادة المشاركة في تفاعلات فسيولوجية معينة دقيقة جداً ولكنها هامة الى حد كبير ، كثيراً ما تشمل في ظاهرها جزيئات قليلة .
وتعلمنا معظم التجارب الفسيولوجية أن التفاعلات المتضمنة لتبادلات كبيرة للطاقة والمادة الكيميائية تحكمها عمليات أخرى أكثر دقة . فمثلاً ، في الحيوانات العليا (الفقاريات vertebrates وأشباه الإنسان anthropoda) يتم التحكم في الحركات العضلية (الماكروفيزيائية) بواسطة الجهاز العصبي nervous system من خلال عمليات أكثر دقة تجري في المخ المراكز العصبية الأخرى .
ويبدو صحة الافتراض بأن علاقات مشابهة تحدث في صور شتى من صور الحياة العضوية . وهناك أساس للحدس بأن العلاقات الحاكمة (الحاسمة final) لها دقة فيزيائية ذرية مطلقة . فمثلاً معروف أن حساسية العين للضوء تصل الى عدد قليل من كمات الضوء المستقلة . أما أبحاث الوراثة التي تبين اشتمال الكائنات العضوية المستقلة على عواملها الوراثية بصورة فسيفسائية فقد برزت الى السطح كانقطاع أولي في انتظام عام في تغيير العوامل الوراثية . ومن الواضح هنا أننا أيضاً نقترب من الانقطاعات الفيزيائية الذرية والكمية للحوادث الأولية .
إذا صح الفرض بأن التفاعلات الحاكمة للكائنات العضوية ذات دقة ذرية فمن الواضح تبعاً لمعرفتنا الحديثة اختلاف الكائن العضوي تماماً عن كونه آلة وأن تفاعلاته الحيوية لا يمكن حسابها أو تقديرها مسبقاً مما يعد أمراً جوهرياً . من الممكن معارضة أن فهمنا الأساسي لظواهر الحياة لا يتأيد الى حد بعيد إذا درسنا إحصاء لعبة النرد بدلاً من آلة كنموذج للكائن العضوي ، ولكن ما يهمنا حالياً فقط هو أن نقرر سلباً أن النظرية الآلية للكائنات العضوية (بما في ذلك ما يترتب من نتائج مثل إنكار حرية الإرادة) لا يكاد يكون لها وجود في ظل الفيزياء الحديثة : فلقد رأى بور ، وهو الذي عبر بشدة عن اقتناعه بالأهمية النسبية للفيزياء في المشاكل البيولوجية أن هناك فرقاً بين الفيزياء الكمية وعلم الحياة ، ففي ظل فيزياء الكم ندرس السلوك الإحصائي للذرات المستقلة في إطار ظروف محددة جداً ، بينما في حالة الكائنات العضوية الحية لا تتحدد الظروف الداخلية على المستوى الذري – حيث توجد قيود على الرصد بخلاف ما يحدث في الفيزياء الذرية . إن التصور الجديد للتتام complementarity الناشئ في إطار فيزياء الكم كشكل جديد للتفكير العلمي لابد أن يكون أمراً هاماً جداً عند دراسة عمليات الحياة بصورة مستقلة عن أي معرفة بالفيزياء الذرية تبعاً لنظرية بور . إنها حقيقة مألوفة لدى الجميع أن جميع المحاولات لدراسة أكثر دقة للظروف الداخلية لكائن عضوي حي هي محاولات جد محدودة إذا ما أردنا تجنب التخلي عنها (تماماً أو جزئياً) . وسوف تتسع هذه الحدود بصورة ملموسة من خلال اكتشاف وسائل رصد أفضل بيد أنه بات واضحاً الافتراض بوجود حدود لعلاقة تتام أساسية تبدو مميزة للكائن الحي . تعلمنا من الفيزياء الذرية نفسر عملية الرصد كتداخل قوي نشط مع الجسم المرصود ، أما في حالة الكائن العضوي الحي فإن هذه التركيبة القوية لتحديد الرصد الى جانب التداخل المسبب للاضطراب تبدو واضحة جداً .
وتكفي هذه المؤشرات لبيان مدى أهمية الفيزياء الحديثة لفتح المجال أمام الأبحاث البيولوجية . إن فكرة التتام التي نشأت في ظل الفيزياء الذرية كفكرة شامل للبنية جعلت من الممكن التوفيق بين ثقتنا وأملنا في إدراك علمي طبيعي عميق الجذور لعمليات الحياة مع الاقتناع بما تنطوي عليه خصائص الكائن الحي من قدرة على التخلص من الموضوعية المحددة للظروف الداخلية .
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|