المبتدأ هو الاسم العاري عن العوامل اللفظية غير الزائدة مخبراً عنه أو وصفاً رافعاً
ص91
المستغنى به، فالاسم يشمل الصريح والمؤول نحو: {وأن تصوموا خير لكم} (البقرة: 184)، وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه والعاري عن العوامل اللفظية مخرج لنحو الفاعل واسم كان، وغير الزائدة لإدخال بحسبك درهم وهل من خالق غير الله، ومخبراً عنه أو وصفاً إلى آخره مخرج لأسماء الأفعال والأسماء قبل التركيب، ورافعاً لمستغنى به يشمل الفاعل نحو أقائم الزيدان ونائبه نحو أمضروب العبدان، وخرج به نحو أقائم من قولك أقائم أبوه زيد فإن مرفوعه غير مستغنى به. وأو في التعريف للتنويع لا للترديد أي المبتدأ نوعان: مبتدأ له خبر ومبتدأ له مرفوع أغنى عن الخبر، وقد أشار إلى الأول بقوله: (مُبْتَدَأٌ زَيْدٌ وَعَاذِرٌ خَبَرْ) أي له (إنْ قُلْتَ زَيْدٌ عَاذِرٌ مَنِ اعْتَذَرْ) وإلى الثاني بقوله: (وَأَوَّلٌ) أي من الجزأين (مُبْتَدَأٌ وَالثَّانِي) منهما (فَاعِلٌ اغْنَى) عن الخبر (فِي) نحو (أسَارٍ ذان) الرجلان. ومنه قوله:
أَقَاطِنٌ قومُ سَلْمَى أَمْ نَوَوْا ظَعنَا
وقوله:
أَمُنْجِزٌ أَنْتُمُو وَعْداً وَثِقْتُ بِهِ أَمْ اقْتفيْتُمْ جَمِيعاً نَهْجَ عُرْقُوبِ
(وَقِسْ) على هذا ما أشبهه من كل وصف اعتمد على استفهام ورفع مستغنى به، ثم لا فرق في الوصف بين أن يكون اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة، ولا في الاستفهام بين أن يكون بالهمزة أو بهل أو كيف أو من أو ما. ولا في المرفوع بين أن يكون ظاهراً أو ضميراً منفصلاً (وَكَاسْتِفْهَامٍ) في ذلك (النَّفِيُ)الصالح لمباشرة الاسم حرفاً كان وهو ما ولا وإن، أو اسماً وهو غير، أو فعلاً وهو ليس إلا أن الوصف بعد ليس يرتفع على أنه اسمها، أو الفاعل يغني عن خبرها: وكذا ما الحجازية، وبعد غير يجر بالإضافة وغير هي المبتدأ وفاعل الوصف أغنى عن الخبر، ومن النفي بما قوله:
خَلِيْلَيّ مَا وَافٍ بِعَهْدِيَ أَنْتُمَا إذَا لَمْ تَكُونَا لِي عَلَى مَنْ أقَاطِعُ
ومن النفي بغير قوله:
ص92
غَيْرُ لاَهٍ عِدَاكَ فَاطَّرِحِ اللَّهَـ ـوَ وَلاَ تَغْترِرْ بِعَارضِ سِلْم
وقوله:
غَيْرُ مَأَسُوفٍ عَلَى زَمَنِ يَنقَضِي بِالْهَمّ وَالحزَنِ
(وَقَدْ يَجُوزُ) الابتداء بالوصف المذكورمن غير اعتماد على نفي أو استفهام (نَحْوَ فَائِزٌ أُوْلوُ الرَّشَدْ) وهو قليل جداً خلافاً للأخفش والكوفيين، ولا حجة في قوله:
خَبيرٌ بَنُو لهبٍ فَلاَ تَكُ مُلْغِياً مَقَالَةَ لِهْبِي إذَا الطيرُ مَرَّتِ
لجواز كون الوصف خبراً مقدماً على حد: {والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4)، وقوله:
هن صديق للذي لم يشب
(وَالثَّانِي مُبْتَدا) مؤخر (وَذَا الْوَصْفُ) المذكور (خَبَرْ) عنه مقدم (إنْ فِي سِوى الإِفْرَادِ) وهو التثنية والجمع (طِبْقَاً استقَر) أي استقر الوصف مطابقاً للمرفوع بعده، نحو قائمان الزيدان، وأقائمون الزيدون ولا يجوز أن يكون الوصف في هذه الحالة مبتدأ وما بعده فاعلاً أغنى عن الخبر إلا على لغة أكلوني البراغيث، فإن تطابقا في الإفراد جاز الأمران نحو أقائم زيد وما ذاهبة هند (وَرَفَعُوا) أي العرب (مُبْتدأ بِالاِبتِدَا) وهو الاهتمام بالاسم وجعله مقدماً ليسند إليه فهو أمر معنوي (كَذَاكَ رَفْعُ خَبرٍ بِالمُبْتَدَا) وحده. قال سيبويه: فأما الذي بنى عليه شيء هو هو فإن المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء. وقيل رافع الجزأين هو الابتدا لأنه اقتضاهما ونظير ذلك أن معنى التشبيه في كأن لما اقتضى مشبهاً ومشبهاً به كانت عاملة فيهما. وضعف بأن أقوى العوامل لا يعمل رفعين بدون اتباع، فما ليس أقوى أولى أن لا يعمل ذلك. وذهب المبرد إلى أن الابتداء رافع للمبتدأ وهما رافعان للخبر وهو قول بما لا نظير له. وذهب الكوفيون إلى أنهما مترافعان وهذا الخلاف لفظي (وَالْخَبَرُ الْجُزْءُ الْمُتِمُّ الْفَائِدَهْ) مع مبتدأ
ص93
غير الوصف المذكور بدلالة المقام والتمثيل بقوله: (كَاللَّهُ بَرٌّ والأَيَادِي شَاهِدَهْ) فلا يرد الفاعل ونحوه (وَمُفْرَداً يَأتِي) الخبر وهو الأصل. والمراد بالمفرد هنا ما ليس بجملة كبر وشاهده (وَيَأتِي جُمْلَهْ) وهي فعل مع فاعله، نحو زيد قام وزيد قام أبوه، أو مبتدأ مع خبره نحو زيد أبوه قائم. ويشترط في الجملة أن تكون (حَاوِيَةً مَعْنَى) المبتدأ (الَّذِي سِيقَتْ) خبراً (لَهْ) ليحصل الربط، وذلك بأن يكون فيها ضميره لفظاً كما مثل، أو نية السمن منوان بدرهم أي منوان منه، أو خلف عن ضميره كقوله: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، قيل أل عوض عن الضمير، والأصل مسه مس أرنب وريحه ريح زرنب، كذا قاله الكوفيون وجماعة من البصريين وجعلوا منه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (النازعات: 40)، أي مأواه والصحيح أن الضمير محذوف أي المس له أو منه، وهي المأوى له، وإلا لزم جواز نحو زيد الأب قائم وهو فاسد، أو كان فيها إشارة إليه نحو: {ولباس التقوى ذلك خير} (الأعراف: 26)، أو إعادته بلفظه نحو: {ألحاقة ما الحاقة} (الحاقة: 1، 2)، قال أبو الحسن أو بمعناه نحو زيد جاءني أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية له، أو كان فيها عموم يشمله نحو زيد نعم الرجل. وقوله:
فأما القتال لا قتال لَديكُمْ
كذا قالوه. وفيه نظر لاستلزامه جواز زيد مات الناس وخالد لا رجل في الدار، وهو غير جائز فالأولىأن يخرج المثال على ما قاله أبو الحسن بناء على صحته، وعلى أن أل في فاعل نعم للعهد لا للجنس، أو وقع بعدها جملة مشتملة على ضميره بشرط كونها إما معطوفة بالفاء نحو زيد مات عمرو فورثه، وقوله:
وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً فَيَبْدُو وَتَارَات يجُمَّ فَيَغْرَقُ
ص94
قال هشام أو الواو نحو زيد ماتت هند وورثها. وإما شرطاً مدلولاً على جوابه بالخبر نحو زيد يقوم عمرو إن قام (وَإِنْ تَكُنْ) الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ (إيَّاهُ مَعْنىً اكْتَفَى بِهَا) عن الرابط (كَنُطْقِي اللَّهُ حَسْبِيَ وَكَفَى) فنطقي مبتدأ وجملة الله حسبي خبر عنه، ولا رابط فيها لأنها نفس المبتدأ في المعنى. والمراد بالنطق المنطوق، ومنه قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} (يونس: 10)، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله» (وَ) الخبر (الْمُفْرَدُ الْجَامِدُ) منه (فَارِغٌ) من ضمير المبتدأ خلافاً للكوفيين (وَإِن يُشْتَقَّ) المفرد بمعنى يصاغ من المصدر ليدل على متصف به كما صرح به في شرح التسهيل (فَهْوَ ذُو ضَمِيرٍ مُسْتَكِنْ) فيهيرجع إلى المبتدأ والمشتق بالمعنى المذكور هو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل. وأما أسماء الآلة والزمان والمكان فليست مشتقة بالمعنى المذكور فهي من الجوامد وهو اصطلاح.
ص95
تنبيهان: الأول في معنى المشتق ما أول به نحو زيد أسد أي شجاع، وعمرو تميمي أي منتسب إلى تميم، وبكر ذو مال أي صاحب مال. ففي هذه الأخبار ضمير المبتدأ. الثاني يتعين في الضمير المرفوع بالوصف أن يكون مستتراً أو منفصلاً ولا يجوز أن يكون بارزاً متصلاً، فألف قائمان وواو قائمون من قولك الزيدان قائمان والزيدون قائمون ليستا بضميرين كما هما في يقومان ويقومون، بل حرفا تثنية وجمع وعلامتا إعراب (وَأَبْرِزَنْهُ) أي الضمير المذكور (مُطْلَقَاً) أي وإن أمن اللبس (حَيْثُ تَلاَ) الخبر (مَا) أي مبتدأ (لَيْسَ مَعْنَاهُ) أي معنى الخبر (لَهُ) أي لذلك المبتدأ (مُحَصَّلاً)مثاله عند خوف اللبس أن تقول عند إرادة الإخبار بضاربية زيد ومضروبية عمرو زيد عمرو ضاربه هو، فضاربه خبر عن عمرو ومعناه هو الضاربية لزيد، وبإبراز الضمير علم ذلك ولو استتر آذن التركيب بعكس المعنى. ومثال ما أمن فيه اللبس زيد هند ضاربها هو وهند زيد ضاربته هي فيجب الإبراز أيضاً لجريان الخبر على غير من هو له. وقال الكوفيون لا يجب الإبراز حينئذٍ ووافقهم الناظم في غير هذا الكتاب واستدلوا لذلك بقوله:
قَوْمِي ذُرَى المَجْدِ بَانُوْهَا وَقَدْ عَلِمَتْ بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ
ص96
تنبيهان: الأول من الصور التي يتلو الخبر فيها ما ليس معناه له أن يرفع ظاهراً نحو زيد قائم أبوه، فالهاء في أبوه هو الضمير الذي كان مستكناً في قائم، ولا ضمير فيه حينئذٍ لامتناع أن يرفع شيئين ظاهراً ومضمراً. الثاني قد عرفت أنه لا يجب الإبراز في زيد هند ضاربته، ولا هند زيد ضاربها، ولا زيد عمرو ضاربه تريد الإخبار بضاربية عمرو لجريان الخبر على من هو له، بل يتعين الاستتار في هذا الأخير لما يلزم على الإبراز من إيهام ضاربية زيد (وَأَخْبَرُوا بِظَرفٍ) نحو زيد عندك (أَوْ بِحَرْفِ جَرْ) مع مجروره نحو زيد في الدار (نَاوينَ) متعلقهما إذ هو الخبر حقيقة حذف وجوباً انتقل الضمير الذي كان فيه في الظرف والجار والمجرور، وزعم السيرافي أنه حذف معه ولا ضمير في واحد منهما وهو مردود بقوله:
فَإِنْ يَكُ جُثْمانِي بِأَرْضٍ سِواكُمُ فَإنَّ فُؤادِي عِنْدَكِ الدهرَ أَجْمَعُ
ص97
والمتعلق المنوي إما من قبيل المفرد وهو ما في (مَعنَى كَائِن) نحو ثابت ومستقر (أَوْ) الجملة وهو ما في معنى (اسْتَقَرْ) وثبت والمختار عند الناظم الأول. قال في شرح الكافية وكونه اسم فاعل أولى لوجهين: أحدهما أن تقدير اسم الفاعل لا يحوج إلى تقدير آخر لأنه واف بما يحتاج إليه المحل من تقدير خبر مرفوع. وتقدير الفعل يحوج إلى تقدير اسم فاعل إذ لا بد من الحكم بالرفع على محل الفعل إذا ظهر في موضع الخبر، والرفع المحكوم عليه به لا يظهر إلا في اسم الفاعل. الثاني أن كل موضع كان فيه الظرف خبراً وقدر تعلقه بفعل أمكن تعلقه باسم الفاعل. وبعد أما وإذا الفجائية يتعين التعلق باسم الفاعل نحو أما عندك فريد، وخرجت فإذا في الباب زيد لأن أما وإذا الفجائية لا يليهما فعل ظاهر ولا مقدر، وإذا تعين تقدير اسم الفاعل في بعض المواضع ولم يتعين تقدير الفعل في بعض المواضع وجب رد المحتمل إلى ما لا احتمال فيه ليجري الباب على سنن واحد. ثم قال وهذا الذي دللت على أولويته هو مذهب سيبويه، والآخر مذهب الأخفش هذا كلامه. ولك أن تقول ما ذكر من الوجهين لا دلالة فيه لأن ما ذكره في الأول معارض بأن أصل العمل للفعل، وأما الثاني فوجوب كون المتعلق اسم فاعل بعد أما وإذا إنما هو لخصوص المحل كما إن وجوب كونه فعلاً في نحو جاء الذي في الدار وكل رجل في الدار فله درهم كذلك لوجوب كون الصلة وصفة النكرة الواقعة مبتدأ في خبرها الفاء جملة، على أن ابن جني سأل أبا الفتح الزعفراني هل يجوز إذا زيداً ضربته فقال نعم فقال ابن جني يلزمك إيلاء إذا الفجائية الفعل ولا يليها إلا الأسماء، فقال لا يلزم ذلك لأن الفعل ملتزم الحذف، ويقال مثله في أما فالمحذور ظهور الفعل بعدهما لا تقديره بعدهما لأنهم يغتفرون في المقدرات ما لا يغتفرون في الملفوظات. سلمنا أنه لا يليهما الفعل ظاهراً ولا مقدراً لكن لا نسلم أنه وليهما فيما نحن فيه إذ لا يجوز تقديره بعد المبتدأ
ص98
فيكون التقدير أما في الدار فزيد استقر، وخرجت فإذا في الباب زيد حصل. لا يقال إن الفعل وإن قدر متأخراً فهو في نية التقديم إذ رتبة العامل قبل المعمول لأنا نقول هذا المعمول ليس في مركزه لكونه خبراً مقدماً وكون المتعلق فعلاً هو مذهب أكثر البصريين ونسب لسيبويه أيضاً.
تنبيه: إنما يجب حذف المتعلق المذكور حيث كان استقراراً عاماً كما تقدم، فإن كان استقراراً خاصاً نحو زيد جالس عندك أو نائم في الدار وجب ذكره لعدم دلالتهما عليه عند الحذف حينئذٍ (وَلاَ يَكُونُ اسْمُ زَمَانٍ خَبَرا عَنْ جُثَّةٍ) فلا يقال زيد اليوم لعدم الفائدة (وَإِنْ يُفِدْ) ذلك بواسطة تقدير مضاف هو معنى (فَأَخْبِرَا) كما في قولهم الهلال الليلة والرطب شهري ربيع، واليوم خمر وغداً أمر، وقوله: أكل عام نعم تحوونه، أي طلوع الهلال ووجود الرطب وشرب خمر وإحراز نعم، فالإخبار حينئذٍ باسم الزمان إنما هو عن معنى لا جثة. هذا مذهب جمهور البصريين. وذهب قوم منهم الناظم في تسهيله إلى عدم تقدير مضاف نظراً إلى أن هذه الأشياء تشبه المعنى لحدوثها وقتاً بعد وقت وهذا الذي يقتضيه إطلاقه (وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرهْ مَا لَمْ تُفِدْ) كما هو الغالب فإن أفادت جاز الابتداء بها ولم يشترط سيبويه والمتقدمون لجواز الابتداء بالنكرة إلى حصول الفائدة. ورأى المتأخرون أنه ليس كل أحد يهتدي إلى مواضع الفائدة فتتبعوها، فمن مقلّ مخلّ ومن مكثر مورد ما لا يصح، أو معدد لأمور متداخلة، والذي يظهر انحصار مقصود ما ذكروه في الذي سيذكر، وذلك خمسة عشر أمراً: الأول أن يكون الخبر مختصاً ظرفاً أو مجروراً أو جملة ويتقدم عليها (كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ) وفي الدار رجل، وقصدك غلامه إنسان، قيل ولا دخل للتقديم في التسويع وإنما هو لما في التأخير من توهم الوصف.فإن قلت الاختصاص نحو عند رجل مال، ولإنسان ثوب امتنع لعدم الفائدة. الثاني أن تكون عامة
ص99
إما بنفسها كأسماء الشرط والاستفهام نحو من يقم أكرمه وما تفعل أفعل، ونحو من عندك وما عندك، أو بغيرها وهي الواقعة في سياق استفهام أو نفي نحو: {أإله مع الله} (النمل: 60) (وَهَلْ فَتىً فِيْكُمْ فَمَا خِلٌّ لَنَا) وما أحد أغير من الله. الثالث أن تخصص بوصف إما لفظاً نحو: {ولعبد مؤمن خير من مشرك} (البقرة: 221)، (وَرَجُلٌ مِنَ الْكِرَامِ عِنْدَنَا) أو تقديراً نحو: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} (آل عمران: 154)، أي وطائفة من غيركم بدليل ما قبله، وقولهم السمن منوان بدرهم أي منه. ومنه قولهم: شر أهر ذا ناب أي شر عظيم، أو معنى نحو رجيل عندنا لأنه في معنى رجل صغير، ومنه ما أحسن زيداً لأن معناه شيء عظيم حسن زيداً، فإن كان الوصف غير مخصص لم يجز نحو رجل من الناس جاءني لعدم الفائدة. الرابع أن تكون عاملة إما رفعاً نحو قائم الزيدان إذا جوزناه أو نصباً نحو أمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة (وَرَغْبَةٌ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ) وأفضل منك عندنا، إذ المجرور فيها منصوب المحل بالمصدر والوصف، أو جراً نحو خمس صلوات كتبهن الله (وَعَمَلْ بِرَ يَزِينُ) ومثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود. الخامس العطف بشرط أن يكون أحد المتعاطفين يجوز الابتداء به نحو: {طاعة وقول معروف} (محمد: 21)، أي أمثل من غيرهما، ونحو: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (البقرة: 263)، السادس أن يراد بها الحقيقة نحو رجل خير من امرأة. ومنه تمرة خير من جرادة. السابع أن تكون في معنى الفعل وهذا شامل لما يراد بها الدعاء نحو: {سلام على آل ياسين} (الصافات: 130)، {ويل للمطففين} (المطففين: 1)، ولما يراد بها التعجب نحو عجب لزيد. وقوله:
عَجَبٌ لِتِلْكَ قَضِيَّةٍ وَإقَامَتِي فِيْكُمْ عَلَى تِلْكَ القَضِيَّة أَعْجَبُ
ص100
ونحو قائم الزيدان عند من جوزه فيكون فيه مسوغاً كما في نحو: {وعندنا كتاب حفيظ} (ق: 4) فقد بان أن منعه عند الجمهور ليس لعدم المسوغ بل لعدم شرط الاكتفاء بمرفوعه وهو الاعتماد. الثامن أن يكون وقوع ذلك للنكرة من خوارق العادة نحو بقرة تكلمت. التاسع أن تقع في أول الجملة الحالية سواء ذات الواو وذات الضمير كقوله:
صَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أَضَاءَ فَمُذْ بَدَا مُحَيَّاكِ أَخْفَى ضَوْؤُهُ كُلَّ شَارِق
وكقوله:
الذِّئْبُ يَطْرُقُهَا فِي الدَّهْرِ وَاحِدَةً وَكُلَّ يَوْمٍ تَرَانِي مُدْيَةٌ بِيَدِي
العاشر أن تقع بعد إذا المفاجأة نحو خرجت فإذا أسد بالباب. وقوله:
حَسِبْتُكَ فِي الْوَغَى بُرْدَى حُرُوبٍ
إذَا خَوَرٌ لَدَيكَ فَقُلْتُ سُحْقَا بناء على أن إذا حرف كما يقول الناظم تبعاً للأخفش، لا ظرف مكان كما يقول ابن عصفور تبعاً للمبرد، ولا زمان كما يقول الزمخشري تبعاً للزجاج. الحادي عشر أن تقع بعد لولا كقوله:
لَوْلاَ اصْطِبَارٌ لأَوْدَى كُلُّ ذِي مِقَةٍ
الثاني عشر أن تقع بعد لام الابتداء نحو لرجل قائم. الثالث عشر أن تقع جواباً نحو رجل في جواب من عندك التقدير رجل عندي. الرابع عشر أن تقع بعد كم الخبرية كقوله:
كَمْ عمَّةٌ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٌ فَدْعاءُ قَدْ حَلَبَتْ عَليَّ عِشارِي
الخامس عشر أن تكون مبهمة كقوله:
مُرَسَّعَةٌ بَيْنَ أرْسَاغِهِ بِهِ عَسَمٌ يَبْتَغِي أرْنَبَا
ص101
(وَلْيُقَسْ) على ما قيل (مَا لَمْ يُقَلْ) والضابط حصول الفائدة (وَالأَصْلُ فِي الأَخْبَارِ أنْ تُؤخَّرَا) عن المبتدآت لأن الخبر يشبه الصفة من حيث أنه موافقه في الإعراب لما هو دال عَلَى الحقيقة أو على شيء من سببية ولما لم يبلغ درجتها في وجوب التأخير توسعوا فيه (وَجَوَّزُوا الْتَّقْدِيمَ إذْ لاَ ضَرَرا) في ذلك نحو تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك، فإن حصل في التقديم ضرر فلعارض كما ستعرفه. إذا تقرر ذلك (فَامْنَعْهُ) أي تقديم الخبر (حِينَ يَسْتَوِي الجزآنِ) يعني المبتدأ والخبر (عُرْفَاً وَنُكْراً) أي في التعريف والتنكير(عَادِمَي بَيَانِ) أي قرينة تبين المراد نحو صديقي زيد، وأفضل منك أفضل مني، لأجل خوف اللبس، فإن لم يستويا نحو رجل صالح حاضر، أو استويا وأجدى بيان أي قرينة تبين المراد نحو أبو يوسف أبو حنيفة جاز التقديم، فتقول حاضر رجل صالح، وأبو حنيفة أبو يوسف، للعلم بخبرية المقدم. ومنه قوله:
بَنُوْنَا بَنُوا أَبنَائنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعدِ
ص102
أي بنوا أبنائنا مثل بنينا و (كَذا) يمتنع التقديم (إذَا مَا الفِعْلُ) من حيث الصورة المحسوسة، وهو الذي فاعله ليس محسوساً بل مستتراً (كَانَ الْخَبرا) لإيهام تقديمه والحالة هذهفاعلية المبتدأ، فلا يقال في نحو زيد قام قام زيد، على أن زيداً مبتدأ بل فاعل، فإن كان الخبر ليس فعلاً في الحس بأن يكون له فاعل محسوس من ضمير بارز أو اسم ظاهر نحو الزيدان قاما، والزيدون قاموا، وزيد قام أبوه جاز التقديم، فتقول قام الزيدان وقاموا الزيدون وقام أبوه زيد للأمن من المحذور المذكور، إلا على لغة أكلوني البراغيث، وليس ذلك مانعاً من تقديم الخبر لأن تقديم الخبر أكثر من هذه اللغة، والحمل على الأكثر راجح، قاله في شرح التسهيل. وأصل التركيب كذا إذا ما الخبر كان فعلاً، لأن الخبر هو المحدث عنه، فلا يحسن جعله حديثاً لكنه قلب العبارة لضرورة النظم وليعود الضمير على أقرب مذكور في قوله (أَوْ قُصِدَ اسْتِعْمَالُهُ مُنْحَصِراً) أي وكذا يمتنع تقديم الخبر إذا استعمل منحصراً نحو: {وما محمد إلا رسول} (آل عمران: 144)، {إنما أنت منذر} (الرعد: 7)، إذ لو قدم الخبر والحالة هذه لانعكس المعنى المقصود، ولأشعر التركيب حينئذٍ بانحصار المبتدأ. فإن قلت المحذور منتف إذا تقدم الخبر المحصور بإلا مع إلا. قلت هو كذلك إلا أنهم ألزموه التأخير حملاً على المحصور بإنما. وأما قوله:
وَهَلْ إلاَّ عَلَيْكَ الْمُعَوَّلُ
فشاذ وكذا يمتنع تقديم الخبر إذا كانت لام الابتداء داخلة على المبتدأ نحو لزيد قائم كما أشار إليه بقوله (أَوْ كَانَ) أي الخبر (مُسْنَدَاً لذي لاَم ابْتَدَا) لاستحقاق لام الابتداء الصدر. وأما قوله:
خَالِي لأَنْتَ وَمَنْ جَريرٌ خَالُهُ يَنَل الْعَلاَءَ وَيُكَرم الأَخْوَالاَ
ص103
فشاذ أو مؤول. وقيل اللام زائدة وقيل اللام داخلة على مبتدأ محذوف أي لهو أنت. وقيل أصله لخالي أنت أخرت اللام للضرورة (أَمْ) مسنداً لمبتدأ (لاَزِمِ الْصَّدِرْ) كاسم الاستفهام والشرط والتعجب وكم الخبرية (كَمَنْ لِي مُنْجِدَا) ومن يقم أحسن إليه، وما أحسن زيداً، وكم عبيد لزيد. ومنه قوله:
كَمْ عَمَّةٍ لَكَ يَا جَرِيرُ وَخَالَةٍ فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَليَّ عِشَارِي
وفي معنى اسم الاستفهام والشرط ما أضيف إليهما، نحو غلام من عندك وغلام من يقم أقم معه، فهذه خمس مسائل يمتنع فيها تقديم الخبر.
تنبيه: يجب أيضاً تأخير الخبر المقرون بالفاء نحو الذي يأتيني فله درهم قاله في شرح الكافية. وهذا مشروع في المسائل التي يجب فيها تقديم الخبر (وَنَحْو عِندِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ) وقصدك غلامه رجل (مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقَدُّمُ الْخَبَر) رفعاً لإيهام كونه نعتاً في مقام الاحتمال، إذ لو قلت درهم عندي، ووطر لي، ورجل قصدك غلامه احتمل أن يكون التابع خبراً للمبتدأ وأن يكون نعتاً له لأنه نكرةمحضة، وحاجة النكرة إلى التخصيص ليفيد الإخبار عنها فائدة يعتد بمثلها آكد من حاجتها إلى الخبر. ولهذا لو كانت النكرة مختصة جاز تقديمها نحو {وأجل مسمى عنده} (الأنعام: 2) و (كَذَا) يلتزم تقدم الخبر (إذَا عَادَ عَلَيْهِ مُضْمَرُ مِمَّا) أي من المبتدأ الذي (بِهِ) أي بالخبر (عَنْهُ) أي عن ذلك المبتدأ (مُبِيناً يُخْبَرُ) والمعنى أنه يجب تقديم الخبر إذا عاد عليه ضمير من المبتدأ نحو على التمرة مثلها زبداً. وقوله:
أَهَابُكِ إجْلاَلاً وَمَا بِكِ قُدْرَةٌ عَلَيَّ ولكِنْ مِلءُ عَيْنٍ حَبِيبُهَا
ص104
فلا يجوز مثلها زبداً على التمرة، ولا حبيبها ملء عين لما فيه من عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة، وقد عرفت أن قوله عاد عليه هو على حذف مضاف أي عاد على ملابسه و (كَذَا) يلتزم تقدم الخبر (إذَا يَسْتَوْجِبُ الْتَصْدِيرَا) بأن يكون اسم استفهام أو مضافاً إليه (كَأَيْنَ مَنْ عَلِمْتَهُ نَصِيرَا) وصبيحة أي يوم سفرك (وَخَبَرَ) المبتدأ (الْمَحْصُور) فيه بإلا أو بإنما (قَدِّمْ أبَدَا) على المبتدأ (كَمَا لَنَا إلا اتِّبَاعُ أَحْمَدَا) وإنما عندك زيد لما سلف.
تنبيه: كذلك يجب تقديم الخبر إذا كان المبتدأ أن وصلتها نحو عندي أنك فاضل، إذ لو قدم المبتدأ لالتبست أن المفتوحة بالمكسورة، وأن المؤكدة بالتي هي لغة في لعل، ولهذا يجوز ذلك بعد أما كقوله:
عِنْدِي اصْطِبَارٌ وَأَمَا أنَّنِي جَزِعٌ يَوْمَ النَّوَى فَلِوَجْدٍ كَادَ يَبْرِينِي
ص105
لأن إن المكسورة ولعل لا يدخلان هنا اهـ (وَحَذفُ مَا يُعْلَمُ) من الجزأين بالقرينة (جَائِزٌ كَمَا تَقُولُ زَيْدٌ) من غير ذكر الخبر (بَعْدَ) ما يقال لك (مَنْ عِنْدَكُمَا) والتقدير زيد عندنا. وإن شئت صرحت به. ولو كان المجاب به نكرة نحو رجل قدر الخبر أيضاً بعده. قال في شرح التسهيل: ولا يجوز أن يكون التقدير عندي رجل إلا على ضعف (وَفِي جَوَاب كَيْفَ زَيْدٌ قلْ دَنِفْ) بغير ذكر المبتدأ (فَزَيْدٌ) المبتدأ (اسْتُغْنِيَ عَنْهُ) لفظاً (إذْ) قد (عُرِفْ) بقرينة السؤال والتقدير هو دنف وإن شئت صرحت به. وقد يحذف الجزآن معاً إذا خلا محل مفردكقوله تعالى: {واللائي لم يحضن} (الطلاق: 4)، أي فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت هذه الجملة لوقوعها موقع مفرد، وهو كذلك لدلالة الجملة التي قبلها وهي فعدتهن ثلاثة أشهر عليها. واعلم أن حذف المبتدأ والخبر منه ما سبيله الجواز كما سلف، ومنه ما سبيله الوجوب وهذا شروع في بيانه (وَبَعْدَ لَوْلاَ) الامتناعية (غَالِبَاً) أي في غالب أحوالها وهو كون الامتناع معلقاً بها على وجود المبتدأ الوجود المطلق (حَذْف الخَبْر حَتْمٌ) نحو: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة: 251)، أي ولولا دفع الله الناس موجود،حذف موجود وجوباً للعلم به، وسد جوابها مسده، أما إذا كان الامتناع معلقاً على الوجود المقيد وهو غير الغالب عليها، فإن لم يدل على المقيد دليل وجوب ذكره نحو لولا زيد سالماً ما سلم وجعل منه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم» وإن دل عليه دليل جاز إثباته وحذفه نحولولا أنصار زيد حموه ما سلم، وجعل منه قول المعري:
يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ فَلَولاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ
ص106
واعلم أن ما ذكره الناظم هو مذهب الرماني وابن الشجري والشلوبين، وذهب الجمهور إلى أن الخبر بعد لولا واجب الحذف مطلقاً بناء على أنه لا يكون إلا كوناً مطلقاً، وإذا أريد الكون المقيد جعل مبتدأ فتقول لولا مسالمة زيداً إيانا ما سلم، أي موجودة، وأما الحديث فمروي بالمعنى ولحنوا المعرّي(وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا) الحكم وهو حذف الخبر وجوباً. (اسْتَقَرْ) نحو لعمرك لأفعلن، وأَيمن الله لأقومن، أي لعمرك قسمي، وأيمن الله يميني فحذف الخبر وجوباً للعلم به، وسد جواب القسم مسده فإن كان المبتدأ غير نص في اليمين جاز إثبات الخبر وحذفه نحو عهد الله لأفعلن وعهد الله عليّ لأفعلن.
تنبيه: اقتصر في شرح الكافية على المثال الأول، وزاد ولده المثال الثاني وتبعه عليه في التوضيح، وفيه نظر إذ لا يتعين كون المحذوف فيه الخبر لجواز كون المبتدأ هو المحذوف والتقدير قسمي أيمن الله بخلاف المثال الأول لمكان لام الابتداء(وَ) كذا يجب حذف الخبر الواقع (بَعْدَ) مدخول (وَاوٍ عَيَّنَتْ مَفْهُوْمَ مَعْ) وهي الواو المسماة بواو المصاحبة (كَمِثْلِ) قولك (كُلُّ صَانِع وَمَا صَنَعْ) وكل رجل وضيعته، تقديره مقرونان إلا أنه لا يذكر للعلم به، وسد العطف مسده، فإن لم تكن الواو للمصاحبة نصاً كما في نحو زيد وعمرو مجتمعان لم يجب الحذف. قال الشاعر:
تَمَنَّوْا الْمَوْتَ الَّذِي يَشْعَبُ الفَتْى وَكلُّ امْرىء والْمَوتُ يَلْتَقِيْانِ
ص107
وزعم الكوفيون والأخفش أن نحو كل رجل وضيعته مستغن عن تقدير خبر لأن معناه مع ضيعته، فكما أنك لو جئت بمع موضع الواو لم تحتج إلى مزيد عليها وعلى ما يليها في حصول الفائدة، كذلك لا تحتاج إليه مع الواو ومصحوبها (وَقَبْلَ حَالٍ لاَ يَكُونُ خَبَرا) أي ويجب حذف الخبر إذا وقع قبل حال لا تصلح خبراً (عَنِ) المبتدأ (الَّذِي خَبرُهُ قَدْ أُضْمِرا) وذلك فيما إذا كان المبتدأ مصدراً عاملاً في اسم مفسر لضمير ذي حال بعده لا تصلح لأن تكون خبراً عن ذلك المبتدأ، أو اسم تفضيل مضافاً إلى المصدر المذكور أو إلى مؤول به فالأول. (كَضَرْبِيَ الْعَبْدَ مُسِيئاً وَ) الثاني مثل (أَتم تَبيِيني الحقَّ مَنُوطاً بِالْحكَمْ) إذا جعل منوطاً جارياً على الحق لا على المبتدأ. والثالث نحو أخطب ما يكون الأمير قائماً، والتقدير إذ كان أو إذا كان مسيئاً ومنوطاً وقائماً، نصب على الحال من الضمير في كان، وحذفت جملة كان التي هي الخبر للعلم بها وسد الحال مسدها، وقد عرفت أن هذه الحال لا تصلح خبراً لمباينتها المبتدأ إذ الضرب مثلاً لا يصح أن يخبر عنه بالإساءة. فإن قلت جعل هذا المنصوب حالاً مبني على أن كان تامة، فلم لا جعلت ناقصة والمنصوب خبرها، لأن حذف الناقصة أكبر: فالجواب أنه منع من ذلك أمران: أحدهما أنا لم نر العرب استعملت في هذا الموضع إلا أسماء منكورة مشتقة من المصادر فحكمنا بأنها أحوال إذ لو كانت أخباراً لكان المضمرة لجاز أن تكون معارف ونكرات ومشتقة وغير مشتقة. الثاني وقوع الجملة الاسمية مقرونة بالواو موقعه، كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقول الشاعر:
غيْرُ اقْتِراني مِنَ الْمَوْلي حَلِيْفُ رِضا وَشَرُّ بُعْدِيَ عَنْهُ وَهْوَ غَضْبَانُ
ص108
فإن قلت فما المحوج إلى إضمار كان لتكون عاملة في الحال وما المانع أن يعمل فيها المصدر، فالجواب أنه لو كان العامل في الحال هو المصدر لكانت من صلته فلا تسد مسد خبره فيفتقر الأمر إلى تقدير خبر ليصح عمل المصدر في الحال فيكون التقدير ضربي العبد مسيئاً موجود وهو رأي كوفي. وذهب الأخفش إلى أن الخبر المحذوف مصدر مضاف إلى ضمير ذي الحال والتقدير ضربي العبد ضربه مسيئاً. واختاره في التسهيل، وقد منع الفراء وقوع هذه الحال فعلاً مضارعاً وأجازه سيبويه، ومنه قوله:
وَرَأْيُ عَيْنِيَ الْفَتَى أَبَاكَا يُعْطِي الْجَزيلَ فَعَلَيْكَ ذَاكَا
أما إذا صلح الحال لأن يكون خبراً لعدم مباينته للمبتدأ فإنه يتعين رفعه خبراً فلا يجوز ضربي زيداً شديداً، وشذ قولهم حكمك مسمطاً أي حكمك لك مثبتاً، كما شذ زيد قائماً وخرجت فإذا زيد جالساً فيما حكاه الأخفش، أي ثبت قائماً وجالساً. ولا يجوز أن يكون الخبر المحذوف إذ كان أو إذا كان لما عرفت من أنه لا يجوز الإخبار بالزمان عن الجثة.
تنبيه: لم يتعرض هنا لمواضع وجوب حذف المبتدأ وعدها في غير هذا الكتاب أربعة: الأول ما أخبر عنه بنعت مقطوع للرفع في معرض مدح أو ذم أو ترحم، الثاني ما أخبر عنه بمخصوص نعم وبئس المؤخر، نحو نعم الرجل زيد وبئس الرجل عمرو إذا قدر المخصوص خبراً، فإن كان مقدماً نحو زيد نعم الرجل فهو مبتدأ لا غير، وقد ذكر الناظم هذين في موضعهما من هذا الكتاب. الثالث ما حكاه الفارسي من قولهم في ذمتي لأفعلن التقدير في ذمتي عهد أو ميثاق، الرابع ما أخبر عنه بمصدر مرفوع جيء به بدلاً من اللفظ بفعله نحو سمع وطاعة، أي أمري سمع وطاعة. ومنه قوله:
وَقَالَتْ حَنَانٌ مَا أَتى بِكَ ههُنَا أَذُو نَسَبٍ أَمْ أنْتَ بِالْحَيِّ عَارِفُ
أي أمري حنان أي رحمة. وقول الراجز:
شَكَا إليَّ جَمَلِي طُولَ السَّرى صَبْرٌ جَميلٌ فَكِلاَنَا مُبْتَلَى
ص109
أي أمرنا صبر جميل (وَأَخْبَرُوا باثْنِينِ أَوْ بِأَكْثَرا عَنْ) مبتدأ (وَاحِدَ) لأن الخبر حكم، ويجوز أن يحكم على الشيء الواحد بحكمين فأكثر. ثم تعدد الخبر على ضربين الأول تعدد في اللفظ والمعنى (كَهُمْ سَرَاةٌ شُعَرَا) ونحو: {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج: 14)، وقوله:
مَنْ يَكُ ذَا بَتَ فَهَذَا بَتِّي مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشتِّي
وقوله:
يَنَامُ بِإحْدَى مُقْلَتَيهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الأَعَادِي فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ
وهذا الضرب يجوز فيه العطف وتركه. والثاني تعدد في اللفظ دون المعنى، وضابطه أن لا يصدق الإخبار ببعضه عن المبتدأ نحو هذا حلو حامض أي مز، وهذا أعسر أيسر: أي أضبط. وهذا الضرب لا يجوز فيه العطف خلافاً لأبي علي هكذا اقتصر الناظم على هذين النوعين في شرح الكافية، وزاد ولده في شرحه نوعاً ثالثاً يجب في العطف وهو أن يتعدد الخبر لتعدد ما هو له إما حقيقة نحو بنوك كاتب وصائغ وفقيه. وقوله:
يَدَاكَ يَدٌ خَيْرُهَا يُرْتَجَى وَأُخْرَى لأَعْدَائِهَا غائظَهْ
وإما حكماً كقوله تعالى: {اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (الحديد: 20)، واعترضه في التوضيح فمنع أن يكون النوع الثاني والثالث من باب تعدد الخبر بما حاصله أن قولهم حلو حامض في معنى الخبر الواحد بدليل امتناع العطف وأن يتوسط بينهما مبتدأ، وأن نحو قوله:
يَدَاك يَدٌ خَيْرُها يُرْتَجَى
ص110
وأخرى لأعدائها غائظه في قوة مبتدأين لكل منهما خبر، وأن نحو: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} (الحديد: 20)، الثاني تابع لا خبر. قلت وفي الاعتراض نظر أما ما قاله في الأول فليس بشيء إذ لم يصادم كلام الشارح بل هو عينه لأنه إنما جعله متعدداً في اللفظ دون المعنى وذكر له ضابطاً بأن لا يصدق الإخبار ببعضه عن المبتدأ كما قدمته فكيف يتجه الاعتراض عليه بما ذكر. وأما الثاني فهو أن كون يداك ونحوه في قوة مبتدأين لا ينافي كونه بحسب اللفظ مبتدأ واحداً إذ النظر إلى كون المبتدأ واحداً أو متعدداً إنما هو إلى لفظه لا إلى معناه وهو واضح لا خفاء فيه. وأما قوله في الثالث أن الثاني يكون تابعاً لا خبراً، فإنا نقول لا منافاة أيضاً بين كونه تابعاً وكونه خبراً، إذ هو تابع من حيث توسط الحرف بينه وبين متبوعه، خير من حيث عطفه على خبر إذ المعطوف على الخبر خبر، كما أن المعطوف على الصلة صلة، والمعطوف على المبتدأ مبتدأ، وغير ذلك وهو أيضاً ظاهر.
خاتمة: حق خبر المبتدأ أن لا تدخل عليه فاء لأن نسبته من المبتدأ نسبة الفعل من الفاعل ونسبة الصفة من الموصوف، إلا أن بعض المبتدآت يشبه أدوات الشرط فيقترن خبره بالفاء إما وجوباً وذلك بعد أما نحو {وأما ثمود فهديناهم} (فصلت: 17). وأما قوله:
أَمَّا الْقِتَالُ لاَ قِتَالَ لَدَيْكُمُ
ص111
فضرورة، وإما جوازاً وذلك إما موصولة بفعللا حرف شرط معه، أو بظرف وإما موصوف بهما أو مضاف إلى أحدهما، وإما موصوف بالموصول المذكور بشرط قصد العموم واستقبال معنى الصلة أو الصفة، نحو الذي يأتيني أو في الدار فله درهم، ورجل يسألني أو في المسجد فله برّ، وكل الذي تفعل فلك أو عليك، وكل رجل يتقي الله فسعيد، والسعي الذي تسعاه فستلقاه.فلو عدم العموم لم تدخل الفاء لانتفاء شبه الشرط وكذا لو عدم الاستقبال أو وجد مع الصلة أو الصفة حرف شرط، وإذا دخل شيء من نواسخ الابتداء على المبتدأ الذي اقترن خبره بالفاء أزال الفاء إن لم يكن إن أو أن أو لكن بإجماع المحققين، فإن كان الناسخ إن وأن ولكن جاز بقاء الفاء، نص على ذلك في إن وأن سيبويه وهو الصحيح الذي ورد نص القرآن المجيد به كقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (الأحقاف: 13)، {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} (آل عمران: 91)، {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: 21)، {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} (الأنفال: 41)، {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} (الجمعة: 8)، ومثال ذلك مع لكن قول الشاعر:
بِكُلَ دَاهِيَةٍ أَلْقَى الْعِدَاءَ وَقَدْ يُظَنُّ أَنِّي فِي مَكْرِي بِهِمْ فَزِعُ
كَلاَّ وَلَكِنَّ مَا أُبْدِيهِ مِنْ فَرَقٍ فَكَيْ يُغَرُّوَا فَيُغْرِيهمْ بِيَ الْطَّمَعُ
وقال الآخر:
فَوَاللَّهِ مَا فَارَقْتُكُمْ قَالِيَاً لَكُمْ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُوْنُ
ص112
وروي عن الأخفش أنه منع دخول الفاء بعد أن، وهذا عجيب لأن زيادة الفاء في الخبر على رأيه جائزة وإن لم يكن المبتدأ يشبه أداة الشرط نحو زيد فقائم، فإذا دخلت إن على اسم يشبه أداة الشرط فوجود الفاء في الخبر أحسن وأسهل من وجودها في خبر زيد وشبهه، وثبوت هذا عن الأخفش مستبعد. والله أعلم.