أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-7-2019
1656
التاريخ: 27-11-2021
1883
التاريخ: 20-1-2016
4723
التاريخ: 27-11-2021
2111
|
أن التصنيف النوعي يقسم الحدود إلى حدود الاتصال وحدود الانفصال، فإننا نرى أن هذا التقسيم ينطبق على كافة أشكال الحدود في أزمنة مختلفة، ففي عهود السلام يمكن أن تصبح أشد أنواع الحدود وعورة وتباعدا حدود اتصال، وتنقلب الآية فتصبح أكثر الحدود وصلا وتقريبا حدود انفصال مانعة خلال فترات العداء والحروب، فالفصل أو الوصل إذن عمل إرادي متعلق بإرادة الدول، ولكن علينا ألا نتناسى أن هناك فعلا مناطق وتخوما تساعد بطبيعتها على الفصل، وهي إذا تركت على حالها دون إنشاء الطرق التي تسير عليها الحركة فإنها تصبح طبيعيا وبشريا نطاقات فاصلة، وهذه مرحلة من مراحل وظائف الحدود، وترتبط بتوجيه الدولة، ويتضح هذا جليا في حدود الانفصال القائمة بين البرازيل وجيرانها مثل كولمبيا وبيرو حيث تعمل الغابات الشاسعة في أمازونيا على إقامة تخوم عازلة، ويساعدها في ذلك سلاسل الأند الوعرة المرتفعة التي تقيم نطاقا آخر من العزلة بين الجيران، ومن ثم فإن البرازيل تتجه صوب مناطق الحركة والموارد السهلة على الشاطئ الشرقي، بينما تدير بيرو وكولمبيا ظهرها للبرازيل متجهة بثقلها إلى سواحلها على المحيط الهادئ ووديانها العليا المنتجة لموارد صادراتها الأولية النباتية والمعدنية، لكن التنمية الاقتصادية والضغط السكاني يؤديان ببطء إلى اتجاه مركز ثقل الدولة إلى نطاقات العزلة الداخلية، ولعل نقل عاصمة البرازيل من الساحل إلى الداخل تعبير عن هذا التحول في توجيه الدولة، وفي المستقبل تتوقع أن تتحول سهول أمازونيا البرازيلية وامتداداتها في بيرو وكولمبيا إلى مناطق اتصال وحركة بدلا من وظيفتها الحاجزة الآن، وإذا كانت هناك الآن بعض مشكلات على الحدود في أمريكا الجنوبية عامة، فإن المستقبل سوف يشهد مشكلات أكبر حينما يصبح الاحتكاك أكثر على مناطق غنية بمواردها غير المعروفة الآن.
وهذا المثال هو الذي تكرر المرات تلو المرات في تاريخ العالم منذ العصور الحجرية وتصارع المجتمعات على مناطق الصيد الوفير أو تصارع القبائل على المراعي الغنية، أو تصارع الدول المبكرة على موارد الخامات اللازمة لاقتصاديات الزراعة واحتياجات حياة المدينة، والسيطرة على طرق التجارة الرئيسية، أو صراع القوميات الحديثة على السيادة الإقليمية والمجالات الحيوية ومصادر الخامات وأسواق الاستهلاك وطرق التجارة، وفي كل هذه الحالات قديمة ومعاصرة تتحرك الصراعات نتيجة النمو والضغط السكاني، والنمو والضغط الاقتصادي، وكلاهما يؤدي إلى تحريك الحدود عبر نطاقات الحجز والتخوم الفاصلة نتيجة لظروفها الطبيعية أو لأن الناس هجروها لأسباب مختلفة سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية.
وبما أن نطاقات الفصل والعزل محدودة المساحة، فإن الوقت الذي تقف فيه القوى المتوسطة وجها لوجه عبر خط حاد يفصلها عن بعضها سيأتي دون شك، صحيح أن القوى المتوسعة من مركزين أو أكثر ليس محتوما أن تلتقي لتتصارع في كل نقاط التماس، لكن أكثر نقط التماس حساسية لأسباب استراتيجية أو اقتصادية هي مثار المشكلات الرئيسية بين الدول، ومن الأمثلة على ذلك وادي الراين الأوسط كمنطقة تماس بين القوى الجرمانية المتوسعة غربا والقوى الفرنسية المتوسعة شرقا؛ إذ سببت حروبا طويلة بين الدولتين، بينما استقرت منطقة التماس الجرمانية الفرنسية في النطاق الجبلي في سويسرا دون أن تسبب أزمات خطيرة.
في الماضي البعيد كان هناك متسع من الأرض تنتقل فيه الجماعات من مكان لآخر في صورة هجرات واسعة حينما كان التماس بين مجتمعين يهدد بمواجهات مميتة، وفي الماضي غير البعيد كان الصراع بين دولتين أو أكثر يؤدي إلى تسلط الغالب على المغلوب باحتلال عسكري أو حضاري وسلب للحريات.
وفي الوقت الحاضر لم يعد في الإمكان الالتجاء إلى ممارسات الماضي البعيد والقريب، فلم تعد هناك أراض تتحرك فيها الجماعات بعيدا عن مكامن الحظر، ولم تعد حدود الدول مفتوحة لحرية الحركة القديمة، فقد تم اقتسام أراضي اليابس إلى آخر شبر، وتم تحديد الحدود وأحكم إغلاقها إلا لمن تسمح له القوانين الدولية بالدخول والخروج، فقد نضجت المشاعر القومية خلال القرن الماضي والحالي نضوجا لا مزيد عليه، فكل حفنة من التراب القومي استحالت إلى كم معنوي مشحون بعواطف وطنية متأججة ملتهبة، حتى لو كانت هذه المعاني خالية من المحتوى النفعي، وبذلك استحالت في عالمنا الدولي
المعاصر فكرة الاحتلال بالقوة، برغم استخدام القوة الغاشمة من جانب القوى المتوسعة، وبرغم هزيمة مادية ملموسة حاقت بشعب ما، ولهذا لا يكتسب الاحتلال أية صبغة شرعية طالما قاوم المهزوم مشيئة الغالب بكل أشكال المقاومة.
ويبدو أن القومية بمعناها الراهن قد نشأت في أوروبا خلال تبلور العصر الصناعي ومقدماته، وارتبطت ارتباطا وثيقا بالنمو الاستعماري وظهور أفكار وكتابات عن (المجد) القومي، والتوسع والسيادة لتحقيق (مهمة حضارية) في العالم، وقد أدى التطور الصناعي والقومي بأوروبا إلى اشتباكات دامية، ويكاد تاريخ أحداث أوروبا الحديثة أن يكون سلسلة من الحروب والدمار والتوسع وتعديلات الحدود، بحيث إن كل دولة تحاربت في وقت ما مع كل دولة أخرى، وتحالفت في وقت آخر مع كل دولة أخرى، تحاربت النمسا وبروسيا، وتحاربت فرنسا وإنجلترا أكثر من مرة، وتحاربت النمسا وبروسيا وروسيا على بولندا، وتحاربت الدانمرك والسويد، وتحارب السويسريون مع النمساويين، وحارب نابوليون كل أوروبا، وحاربت ألمانيا كل أوروبا مرتين، وفي المرتين يكاد أن يكون كل العالم قد جر إلى الحرب، وفي كل مرة تنتهي الحرب بغالب ومغلوب ومعاهدات واتفاقيات وحدود جديدة أو عود إلى حدود قديمة وتغير جذري لحياة السكان في مناطق الحدود، وتغيير للأوطان والجنسيات والتوجيه الاقتصادي والثقافي واللغوي والحضاري، ويكفي التدليل على ذلك ببعض التواريخ المهمة منذ منتصف القرن السابع عشر:
هذه الحروب التي شنتها القومية الأوروبية في أوروبا يبدو أنها كانت تمثل مرحلة من مراحل تكوين الدولة التي وصلت إلى طريق مسدود نتيجة تكرار النزاع والصراع، وعلى مسرح القومية الضيقة بدأت تظهر أفكار أخرى تنادي بالتكوينات الإقليمية الكبرى، كطريق للخروج من مأزق القومية الأوروبية.
وأفكار الأقاليم الكبرى قديمة، طبقها الإسكندر الأكبر والدولة الفارسية والرومانية وكان أوسع تطبيق لها الدولة الإسلامية، ومن بين التراكيب السياسية التي قامت على مبدأ الأقاليم الكبرى الدولة العثمانية وإمبراطورية الصين والإمبراطورية النمساوية والإمبراطوريات الاستعمارية الاستيطانية الإسبانية والبرتغالية، أما الإمبراطوريتان الاستعماريتان الفرنسية والإنجليزية فكانتا تركيبات أخرى غير الفكرة الإقليمية، وبصورة من الصور كانت الإمبراطورية الروسية شكلا من أشكال الأقاليم السياسية الكبرى، ويعيب هذه الأفكار الإقليمية الكبرى أن التوازن السياسي لم يكن موجودا بين الحكام الذين يستندون إلى شعب واحد الرومانيين والإغريق والأتراك العثمانيين والنمساويين الألمان والإسبان والبرتغاليين والروس وبين بقية شعوب الإمبراطورية، وهذا الذي نعده اليوم عيبا ونقيصة لم يكن إلا جزءا من طبيعة الأمور في الماضي.
أما الأفكار الإقليمية في البناء السياسي الحديث فإنها نظريا تقوم على مشاركة متساوية للقوى السياسية داخل التكتل السياسي، ولكن مثل هذا التطبيق المثالي لم يحدث بعد، فلا تزال هناك فروق بين القوميات والشعوب التي يمكن أن تشكل بناء سياسيا إقليميا؛ إذ إنه في الغالب يحدث تميز لقومية لسبب أو لمجموعة من الأسباب: القوة العددية، درجة التعليم، الانتماء إلى المجموعة المحركة للبناء السياسي الإقليمي، من بين أسباب أخرى عديدة، ولا شك أنه لا تزال هناك بعض الفوارق بين قوميات الاتحاد السوفيتي الحالية، وإذا كان ذلك في بناء سياسي متعدد القوميات، فإن الموقف يصبح أكثر دعوة إلى اليأس حينما نرى قومية واحدة أنجلو أمريكية في الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن المشاركة السياسية المتكافئة غير متوافرة لأقلية من الرعية الأمريكية بسبب لون البشرة، فالزنوج الأمريكيون ليسوا قومية مثل القوميات التي نجدها في الاتحاد السوفيتي، ليست لهم أرض خاصة، ولم يكن لهم وطن محدد داخل أمريكا أدمج فيما بعد داخل الدولة الأمريكية، وليست لهم لغة خاصة بهم، ولا تقليد حضاري يحتفظون به منذ تواجدهم في الأرض الأمريكية، وليست لهم ديانة خاصة يلتفون حولها، وباختصار فإن الزنوج الأمريكيين ليسوا كالأوزبك أو القرجيز أو الياكوت من قوميات الاتحاد السوفيتي، بل هم جزء لا يتجزأ من التجمع الحضاري الأنجلو أمريكي.
قد يبدو إذن أن التفريق والتمييز من طبائع البشر، أو من طبيعة الحياة، ولكن كثيرا ما تغيرت بعض الطبائع الفردية تحت ضغوط الحياة الجمعية التشاركية الإنسانية، وبذلك أصبح لكل مجتمع قوالب وأنماط سلوكية تحدد بصورة عامة طريقته في الحياة، فإذا اعتبرنا الدول والقوميات أفرادا في تجمع عالمي فالأرجح أن عددا من القوالب والأنماط سوف تتبلور لتحدد السلوك العام لهذه القوميات الأفراد في داخل المجتمع العالمي، وكما أن الأفراد لا يفقدون شخصياتهم وتفردهم في المجتمع البشري فإننا نتوقع ألا تفقد القوميات شخصياتها داخل المجتمع العالمي، وإذا كان المجتمع العالمي مطلبا بعيد المنال فإن المجتمع الإقليمي أقرب إلى التحقيق، وأكثر تمشيا مع ظروف الجغرافيا الطبيعية والبشرية عامة.
ليست الدعوة إلى تراكيب سياسية إقليمية نابعة من مجرد الخروج من مأزق القومية الضيقة الأفق، بل إن مثل هذه الدعوة ما هي إلا انعكاس للدافع الاقتصادي المعاصر، وقد ذكرنا أن ظهور القومية ارتبط بنشأة ونمو الاقتصاد الصناعي في القرن الماضي، وفي خلال القرن الحالي تغير الاقتصاد الصناعي تغيرا كميا بتغير التكنولوجيا في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي ونمو قطاع الخدمات بصورة مذهلة، وقد ترتب على ذلك تغير جوهري في تركيب وتوظيف القوى العاملة في الدول المتقدمة، قلت العمالة الزراعية بصورة مذهلة مع تزايد القدرة الإنتاجية نتيجة الآلية والأتوماتيكية في العمل
الزراعي، وفي ذات الوقت نجد اتجاها مستمرا في زيادة حجم الحيازات الزراعية سواء كانت ملكيات فردية أو شركات زراعية أو مشروعات تجميع زراعي أو مزارع تعاونية أو تابعة للقطاع الحكومي وانكماشا مقابلا في عدد الحيازات الزراعية الصغيرة وعدد المزارعين ملاكا وأجراء، ومن الأمثلة الدالة على ذلك أن الريف الأمريكي يفقد سكانه باستمرار وتتضاءل أشكال السكن القروي، ويتجه الناس إلى السكن المدني والعمالة المدنية متعددة الأنواع.
هذا جانب واحد من جوانب التغير في المجال الاقتصادي، وقس على ذلك ما يحدث في مجالات النشاط الاقتصادي الأخرى، وكلها قد تضافرت على إحداث التغيرات الجذرية العديدة من البناء الاجتماعي، ومن ثم السياسي، داخل الدولة.
وخلاصة التغيرات الاقتصادية المعاصرة هو اتجاه إلى معامل ارتباط كبير ومتزايد بين إطارات مكانية أرضية واسعة وبين تكثيف الإنتاج وتنوعه وثقل متزايد على خطوط الحركة في شتى أشكالها واعتماد متضاعف على التبادل التجاري واتساع هائل في سوق الاستهلاك، وأخيرا ارتباطات وثيقة بين أسواق المال والاستثمار.
هذا الترابط بين الاقتصاد الحديث والمكان الجغرافي الواسع يتعدى بطبيعة الحال الحدود السياسية الراهنة للدول، ويسعى إلى تفكيك هذه الحدود والقوالب للوحدات الدولية لتسهل حركته وتشتد مرونته، وهو في هذا المنحى يشابه سعي الصناعيين الأول لتغير قوالب الاقتصاد والمجتمع الإقطاعي الزراعي الحرفي الذي كانت ترتكز عليه الدولة قبل الثورة الصناعية، فالثورة الصناعية الأولى قد نمت، أو نمت مع الدولة القومية كبناء اجتماعي سياسي يحمي الصناعة، والثورة الأوتوماتية التي نعيش مقدماتها تجد في الدولة القومية المعاصرة ما يقيد حرياتها وانطلاقها، ومن ثم فإن التكتل الاقتصادي في أوروبا الغربية أو أوروبا الشرقية ما هو إلا تعبير من نوع ما عن الرغبة في إيجاد صيغة جديدة لتعايش البناءين الاقتصادي والسياسي معا.
ومما يعجل بالسعي إلى إيجاد أشكال متناسقة بين الأوضاع السياسية والاقتصادية أن التيارات الثقافية والفكرية وانتشار نمط التعليم الحديث من بين عدد آخر من العوامل الحضارية قد أخذت تغزو أجزاء العالم، مما يزيد من التقارب بين الشعوب والقوميات، ويعطي العوامل الاقتصادية دوافع أخرى ترتكز عليها وتدعمها في سبيل التراكيب السياسية الإقليمية.
وأخيرا لا ينبغي أن نغفل مؤشرا من مؤشرات التقارب الدولي في صورة كتل، ذلك هو أن الحدود السياسية للدول المندمجة في تنظيمات دفاعية قلت أهميتها كثيرا؛ لأن استراتيجية مثل هذه التنظيمات والدول المتحالفة تأخذ حدود التحالف الأرضي والجوي والبحري في إطار متكامل بغض النظر عن الحدود الفردية، فحدود ألمانيا الغربية والشرقية المشتركة أكثر أهمية وحساسية لدول حلف الأطلنطي أو حلف وارسو من حدود فرنسا أو حدود بولندا، وإلى جانب ذلك فإن تكنيك الحرب الحديثة قد جعل من المستحيل أو يكاد على دولة واحدة أن تحمي نفسها بنفسها دون أن يكون هناك اتفاق عالمي على حيادها وعدم المساس بها، وفي الحقيقة أصبح من الواجب إعادة النظر في قيمة الحدود الدفاعية على ضوء متغيرات عدة على رأسها تكنولوجية الحرب والائتلافات والتكتلات الدولية التي توجد الآن على مستوى أعلى من مستوى الدولة القومية التقليدية.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|