أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-1-2016
1515
التاريخ: 15-1-2016
11887
التاريخ: 6-11-2014
4323
التاريخ: 6-11-2014
2095
|
....... (1) وكذلك لو كانوا منعوا بما يرفع التمكّن من الكلام ، ممّا يختصّ الآلة والبنية.
وليس هذا مذهبكم فنطنب في ردّه .
وإن كانوا سلبوا العلوم فليس يخلون من أن يكونوا سلبوها عند ظهور القرآن والتّحدّي به؛ وقد كانت من قبل حاصلة لهم ، أو يكونوا لم يزالوا فاقدين لها.
فإن أردتم الثّاني ، فهو مؤكّد لقولنا ، بل هو نصّ مذهبنا ؛ لأنّ القرآن يكون حينئذ خارقا للعادة بفصاحته ، من حيث لم يمكّن أحد من الفصحاء- في ماض ولا مستقبل- من العلوم الّتي يقع معها مثله .
وإن أردتم الأوّل ، فقد كان يجب أن يقع لنا ولغيرنا الفرق بين كلام العرب وأشعارها قبل زمان التّحدّي وبعد زمانه ، ونجد بينهما تفاوتا ، وليس نجد ذلك.
ويجب أيضا : أن يكون ما ذكرتموه من اللّبس الواقع على من ضمّ شيئا من القرآن إلى فصيح كلام العرب ، إنّما هو في كلامهم قبل زمان التحدّي ، فأمّا فيما وقع منهم بعده فالأمر ظاهر ، والفرق واضح. وهذا ممّا يعلمون ضرورة خلافه ؛ لأنّنا لا نجد من الفرق بين ما نضمّه إلى القرآن من كلام العرب وأشعارها قبل التّحدّي إلّا ما نجده بينه وبين كلامهم بعد ظهور القرآن ووقوع التّحدّي به .
وهذا متى لم تسلّموه ، وزعمتم أنّ بين كلامهم قبل التّحدّي وبعده هذا الفرق العظيم ، وأحلتم بمعرفته على غيركم أو ادّعيتموها لأنفسكم ، طرّقتم على دليلكم الّذي قدّمتموه ما يهدمه؛ لأنّه معقود بهذا المعنى ومبنيّ عليه .
وإن كانت دواعيهم التي صرفت عن المعارضة ، فذلك فاسد من وجوه :
أحدها : إنّا نعلم- نحن وكلّ أحد- توفّر دواعي القوم (2) إلى المعارضة وشدّة حرصهم وكلبهم (3) عليها. ولو كانت دواعيهم إلى المعارضة مصروفة لما علم ما ذكرناه منهم.
ومنها : أنّ الدّواعي إلى المعارضة ليست أكثر من علمهم بتمكّنهم منها ، وما يعود بها من النّفع ، ويندفع من الضّرر. وكلّ هذا يعلمه القوم ضرورة ، بل العلم به ممّا يعدّ من كمال العقل؛ فليس يصرفهم عن هذه الدّواعي (4) إلّا ما أخرجهم من كمال عقولهم وألحقه بأهل النّقص والجنون ، ولم يكن القوم كذلك.
ومنها : أنّ ما صرف عن المعارضة لا بدّ أن يكون صارفا عمّا في معناها ، وعمّا يكون الدّواعي إليه داعيا إليها. وقد علمنا أنّهم لم ينصرفوا عن السّبّ والهجاء وعن المعارضة ، ممّا لا يشتبه على عاقل جهل من عارض بمثله وسخفه ، كالقصص بأخبار رستم واسفنديار.
والصّارف عن المعارضة صارف عن هذا؛ لأنّ ما يصرف عن المعارضة (5) إنّما يرى أنّه لا غناء في فعلها ، ولا طائل في تكلّفها. وأنّ الحظّ في الإضراب عنها والعدول إلى المناجزة بالحرب. وهذا لا محالة يصرف عن جميع ما عددناه .
ومتى لم تعنوا بالصّرفة أحد هذه الأقسام الّتي فصّلناها ، فمذهبكم غير مفهوم ، وأنتم إلى أن تفهمونا غرضكم فيه أحوج منكم إلى أن تدلّونا على صحّته .
قيل له : أوّل ما نحتاج إليه في جوابك أن نعلمك كنه مذهبنا في التّحدّي بالقرآن. وعندنا (6) أنّ التّحدّي وقع بالإتيان بمثله في فصاحته وطريقته في النّظم ، ولم يكن بأحد الأمرين على ما تذهب - أنت وأصحابك - إليه ، فلو وقعت المعارضة بشعر أو برجز موزون أو بمنثور من الكلام ليس له طريقة القرآن في النّظم ، لم تكن واقعة موقعها .
والصّرفة على هذا إنّما كانت بأن يسلب اللّه تعالى كلّ من رام المعارضة وفكّر في تكلّفها في الحال العلوم التي يتأتّى معها مثل فصاحة القرآن وطريقته في النّظم .
وإذا لم يقصد المعارضة ، وجرى على شاكلته في نظم الشّعر ، ووصف (7) الخطب ، والتّصرّف في ضروب الكلام ، خلّي بينه وبين علومه ، ولم يخلّ بينه وبين معرفته. ولهذا لا نصيب في شيء من كلام العرب - منثوره ومنظومه - ما يقارب القرآن في فصاحته ، مع اختصاصه في النّظم بمثل طريقته .
وهذا الجواب لا يصحّ الأمر فيه إلّا بأن ندلّ على أنّ التّحدّي وقع بالفصاحة مع الطّريقة في النّظم ، وعلى أنّ القرآن مختصّ بطريقة في النّظم مفارقة لسائر نظوم الكلام ، وعلى أنّ القوم لو لم يصرفوا على الوجه الّذي ذكرناه لوقعت منهم المعارضة بما يساوي أو يقارب الوجه الذي ذكرناه ، [و] لم يمكن أن يدّعى أنّ شعر الطائبيّين (8) ومن جرى مجراهما من المحدثين- إذا قدّرنا ارتفاع من بينهما من ذوي الطّبقات ؛ لأنّ التقارب والتّساوي فيما ذكرنا (9) أنّهم يتساوون فيه - يريد أن يكون خارقا للعادة وإن كان بائنا متقدّماً .
على أنّ الدّعوى في فصاحة القرآن - أنّها وإن خرقت عادة العرب وبانت من فصاحتهم فليس بينها وبين فصيح كلامهم من التّباعد ما بين شعر امرئ القيس (10)
وشعر الطائبيّين- ظاهرة التّناقض ؛ لأنّا قد علمنا أنّ الطائبيّين قد يقاربان ويساويان امرأ القيس من القصيدة في البيتين والثّلاثة وإن تعذّر عليهما المساواة فيما جاوز هذا الحدّ. ونسبة ما يمكن أن تقع المساواة منهما فيه إلى جملة القصيدة نسبة محصّلة ؛ لعلّها أن تكون العشر (11) وما يقاربه ؛ لأنّ القصيدة المتوسّطة في الطّول والقصر من أشعارهم ليس تتجاوز من ثلاثين إلى أربعين بيتا. وإذا أضفنا ذلك - على هذا الاعتبار- إلى جملة شعرهما وشعره ، وجدنا أيضا ما يمكن أن يساوياه فيه من جملة شعرهما هذا المبلغ الذي ذكرناه بل أكثر منه ، لأجل كثرة شعرهما وزيادته على شعر امرئ القيس .
وقد ثبت أنّ التحدّي للعرب استقرّ آخرا على مقدار ثلاث آيات قصار من عرض ستّة آلاف آية وكذا وكذا طوالا وقصارا ، لأنّه وقع بسورة غير معيّنة ، وأقصر السّور ما كان ثلاث آيات ، فلا بدّ أن تكون العرب- على المذهب الّذي يردّ على القائلين به - غير متمكّنين من مساواته أو مقاربته في مقدار ثلاث آيات.
ولهذا عندهم (12) لم يروموا المعارضة ولم يتعاطوها.
ونحن نعلم أنّ نسبة ثلاث الآيات الّتي لم يتمكّنوا من مساواته ومقاربته فيها إلى جملة القرآن أقلّ وأنقص بأضعاف مضاعفة من نسبة ما يتمكّن الطائيّان من مساواة امرئ القيس أو مقاربته فيه ، سواء أضفت ذلك إلى كلّ قصيدة من شعر امرئ القيس أو أضفته إلى جملة شعره ، بل كان ما يتمكّن العرب من مقاربة القرآن فيه- إذا أضفناه إلى ما يتمكّن المحدّثون من مقاربة المتقدّمين فيه- لا نسبة له إلى القرآن. وليس هذا إلّا لأنّ التباعد بين القرآن وبين ممكن فصحاء العرب قد جاوز كلّ عادة ، وخرج عن كلّ حدّ. وأنّه لم يفضل كلام فصيح فيما مضى ولا فيما يأتي كلاما هو دونه في الرّتبة هذا الفضل ولا حصل بينهما هذا القدر ، وإن كان أحدهما من الفصاحة في الذّروة العليا ، والآخر في المنزلة السّفلى.
هذا إذا فرضنا بطلان الصّرفة ، ونسبنا تعذّر المعارضة على العرب إلى فرط فصاحة القرآن ، فكيف يمكن مع ما كشفناه أن يدّعى أنّ ما بين القرآن وبين كلام فصحاء العرب من البعد في الفصاحة دون ما بين شعر الطائبيّين وشعر امرئ القيس؟! وما أوردناه من الاعتبار يوجب أن يكون بينهما أكثر ممّا بين شعر المتقدّمين والمحدثين بأضعاف كثيرة. وأنّ ذلك لو لم يكن على ما قلنا ، وكان على ما توهّمه الخصم ، لوقعت المعارضة لا محالة. كما أنّ امرأ القيس لو تحدّى أحد الطائبيّين ببيت من عرض شعره لسارع إلى معارضته ولم يتخلّف عنها. وهذا ممّا لا إشكال في مثله .
* وبعد ، فإنّ من يدّعي أنّ خرق العادة بالقرآن إنّما كان من جهة فصاحته دون غيرها ، لا يقدم على أن يقول : إنّ بين شيء من الكلام الفصيح وإن تقدّم ، وبين غيره من الفصيح وإن تأخّر ، من البعد أكثر ممّا بين القرآن وفصيح كلام العرب؛ لأنّه كالمنافي لأصله ، والمنافر لقوله .
وإذا استحسن ارتكابه مستحسن ، معتصما به ممّا تقدّم من إلزامنا ، كان ما أوردناه مبطلا لقوله ومكذّبا لظنّه . وهذا واضح بحمد اللّه .
فإن قال : ما الّذي تريدون بقولكم : إنّهم صرفوا عن المعارضة ؟ أ تريدون أنّهم أعجزوا عنها ، أم سلبوا العلوم الّتي لا تتأتّى إلّا بها ، أم شغلوا عنها ، وصرفت هممهم ودواعيهم عن تعاطيها ؟
فإن أردتم العجز فهو واضح الفساد ؛ لأنّ العجز لا يختصّ بكلام دون كلام.
ولو كانوا أعجزوا عن الكلام المساوي للقرآن في الفصاحة ، لم يتأتّ منهم شيء من الكلام في الفصاحة ، ويماثل في طريقة النّظم ، ونحن نفعل ذلك.
[قيل له] : أمّا ما يدلّ على أنّ التحدّي كان بالفصاحة والنّظم معا أنّا رأينا النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله أرسل التّحدّي إرسالا ، وأطلقه إطلاقا من غير تخصيص يحصره ، أو استثناء يقصره ؛ فقال صلّى اللّه عليه وآله مخبرا عن ربّه تعالى : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88] .
وقال : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود : 13] .
فترك القوم استفهامه عن مراده بالتحدّي وغرضه فيه ، وهل أراد مثله في الفصاحة دون النّظم ، أو فيهما معا ، أو في غيرهما ؟ فعل من قد سبق الفهم إلى قلبه وزال الرّيب عنه؛ لأنّهم لو ارتابوا لسألوا ، ولو شكّوا لاستفهموا. ولم يجر ذلك على هذا إلّا والتحدّي واقع بحسب عهدهم وعادتهم. وقد علمنا أنّ عاداتهم جارية في التحدّي باعتبار طريقة النّظم مع الفصاحة ، ولهذا لا يتحدّى الشّاعر الخطيب الذي لا يتمكّن من الخطابة. وإنّما يتحدّى الشّاعر الشّاعر والخطيب الخطيب. ووجدنا أكثرهم لا يقنع بأن يعارض القصيدة من الشّعر بقصيدة منه حتّى يجعلها من جنس عروضها ، كأنّها إن كانت من الطويل جعلها من الطويل ، وإن كانت من البسيط جعلها من البسيط. ثمّ لا يرضيه ذلك حتّى يساوي بينهما في القافية ، ثمّ في حركة القافية.
وعلى هذا المذهب يجري التناقض (13) بين الشّعر ، كمناقضة جرير (14) للفرزدق (15) ، وجرير للأخطل (16) ، وغير هؤلاء ممّن لم نذكره ، وهو معروف. وإذا كانت هذه عادتهم ، فإنّما أحيلوا في التحدّي عليها (17).
فإن قال : عادة العرب وإن جرت في التحدّي بما ذكرتموه ، فإنّه ليس يمتنع صحّة التّحدّي بالفصاحة دون طريقة النّظم ، ولا سيّما والفصاحة هي التي يصحّ فيها (18) التفاضل والتباين. وهي أولى بصحّة التحدّي من النّظم الّذي لا يقع فيه التفاضل.
وإذا كان ذلك كذلك غير ممتنع فما أنكرتم أن يكون النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله تحدّاهم بالفصاحة دون النّظم ، فأفهمهم قصده فلهذا لم يستفهموه ؟! قيل له : ليس يمنع أن يقع التحدّي بالفصاحة دون النّظم ممّن بيّن غرضه وأظهر مغزاه ، وإنّما منعنا في التّحدّي بالقرآن من حيث أطلق التحدّي به ، وعري ممّا يخصّه بوجه دون وجه ، فحملناه على ما عهده القوم وألفوه في التحدّي.
ولو كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله قد أفهمهم تخصيص التحدّي- كما ادّعيت- بقول مسموع لوجب أن ينقل إلينا لفظه ، والمقام الذي قامه الرسول صلّى اللّه عليه وآله فيه ، وليس نجد في ذلك نقلا.
وكذلك لو كان اضطرّهم إلى قصده بمخارج الكلام ، أو بما يجري مجرى مخارجه من الإشارات وغيرها ، من غير لفظ مسموع ، لوجب اتّصال ذلك أيضا بنا وحصول علمه لنا؛ لأنّ ما يدعو إلى نقل الألفاظ المسموعة يدعو إلى نقل ما يتّصل بها من مقاصد ومخارج ، لا سيّما فيما تمسّ الحاجة إليه. أ لا ترى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله لمّا نفى النبوّة بعد نبوّته بقوله عليه السّلام : «لا نبيّ بعدي» (19) ، ثمّ أفهم السّامعين مراده من هذا القول ، وأنّه عنى به : لا نبيّ من البشر كلّهم ، وأراد بالبعد عموم سائر الأوقات المستقبلة ، قريبها وبعيدها ، اتّصل ذلك بنا على حدّ اتّصال اللّفظ ، حتّى شركنا سامعيه في معرفة الفرض ، وكنّا في العلم به كأحدهم. وفي ارتفاع كلّ ذلك من النّقل ، دليل على صحّة قولنا.
على أنّ التّحدّي لو كان مقصورا على الفصاحة دون النّظم لوقعت المعارضة من القوم ببعض فصيح شعرهم أو بليغ كلامهم ، لأنّا قد دللنا على أنّ خفاء الفرق علينا بين بعض قصار سور القرآن وفصيح كلام العرب ، يدلّ على التقارب المزيل للإعجاز. والعرب بهذا أعلم وله أنقد ، فكان يجب أن يعارضوا. وإذا لم يفعلوا ، فلأنّهم فهموا من التحدّي الفصاحة وطريقة النّظم ، ولم يجتمعا لهم.
فأمّا اختصاص القرآن بنظم مخالف لسائر ضروب الكلام فأوضح من أن يتكلّف الدّلالة عليه. وكلّ سامع للشّعر الموزون والكلام المنثور يعلم أنّ القرآن ليس من نمطهما ، ولا يمكن إضافته إليهما. والدّلالة إنّما تقصد بحيث يتطرّق الشّبهة ، فأمّا في مثل هذا فلا.
وأمّا الّذي يدلّ على أنّهم لو لم يصرفوا لعارضوا في الفصاحة والنّظم جميعا ، فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي (20).
وأمّا النّظم : فهو ما لا يصحّ التّفاضل فيه والتّزايد في معناه ، ولهذا ترى الشّاعرين يشتركان في النّظم الواحد ، وكلام أحدهما فصيح شريف ، والآخر ركيك سخيف ، وكذلك الخطيبين.
وإنّما كان هذا ؛ لأنّه لا يصحّ المزيّة في النّظم حتّى يكون لأحد الشّاعرين والخطيبين فضل في المعنى- الّذي به كان الشّعر شعرا ، والخطابة خطابة- على الآخر ، كما يصحّ ذلك في الفصاحة ، وجزالة الألفاظ ، وكثرة المعاني والفوائد.
وإذا صحّ هذا ، فلم يبق إلّا أن يقال : إنّ السّبق إلى النّظم هو المعتبر. وذلك غير صحيح؛ لأنّه يوجب أن يكون السّابق إلى قول الشّعر في ابتداء الظّهور قد أتى بمعجز ، بل يجب أن يكون السّبق إلى كلّ عروض من أعاريضه ، ووزن من أوزانه يقتضي ذلك. وهذا يؤدّي إلى أنّ أكثر الخلق أصحاب معجزات (21) ! فإن قال : كيف يكون السّبق إلى الشّعر من المعجزات ، وهو ممّا تقع فيه المساواة من المسبوق للسّابق ، حتّى لا يزيد أحدهما على الآخر فيه ، والمعجز ما تعذّر مثله على غير من اختصّ به؟ وما أنكرتم أن يكون نظم القرآن معجزا من حيث لم تقع فيه مساواة ؟
قيل له : هذا الذي يدلّ على أنّ السّبق إلى نوع من النّظم لا يكون معجزا على وجه؛ لأنّه ممّا لا بدّ من وقوع المساواة فيه والمماثلة ، كما وقعت في غيره من أوزان الشّعر وضروب الكلام الّتي سبق إليها ، ثمّ حصلت المساواة من بعد؛ لأنّا قد بيّنا أنّ النّظم ممّا لا يصحّ حصول المزيّة فيه ولا التّفاضل. وليس ممّا يحتاج فيه إلى كثرة العلوم كما يحتاج إليها في الفصاحة ، بل العلم ببعض أوزان الشّعر يمكن معه التّصرّف في سائر أوزانه ، وكذلك القول في منثور الكلام.
ولو لا أنّ الأمر على هذا لم ننكر أن يكون في الشّعراء من يختصّ بالقول في البسيط دون غيره من الأعاريض ، من حيث قصر علمه عليه ، ومنع سائر الشّعراء منه ، فلو اجتهد أن يقول بيتا من غير البسيط لتعذّر عليه ، ولو اجتهد جميع الشّعراء في أن يقولوا بيتا منه لعجزوا عنه. وأن يكون فيهم من يختصّ بالقول في الطّويل على هذا الوجه ، وهذا ممّا يعلم فساده. وهو دلالة على أنّ النّظوم لا اختصاص في بعضها ، وأنّها ممّا يجب الاشتراك فيه (22) .
فإن قال : ما أنكرتم أن يكون التّصرّف في الأوزان يحتاج إلى زيادة العلوم ، وأن لا يكون العلم ببعضها علما بسائرها على ما ذكرتم ، وأنّ المساواة الّتي وصفتموها بين الشّعراء في ضروب الأوزان ، إنّما وجبت من حيث أجرى اللّه العادة بأن يفعل لكلّ من علم وزنا من أوزان الشّعر ، العلم بسائر الأوزان؛ فليس يمتنع- على هذا- أن يفعل اللّه تعالى كلاما له نظم لم يخصّ أحدا من الخلق بالعلم به ، ويجعله علما لبعض أنبيائه ؛ فلا يتمكّن أحد من البشر من مساواته فيه ، من حيث فقدوا العلم بطريقة نظمه ، وإن تمكّنوا من مساواة سائر ما يقع السّبق إليه من الشّعر والخطب.
وكيف ننكر ذلك وقد رأينا كثيرا من الشّعراء المتصرّفين في ضروب الشّعر لا يهتدون لنظم الخطب ، وكثيرا من الخطباء لا يقدرون على الشّعر؛ فما الّذي يمنع من تعذّر نظم القرآن على العرب ، كما تعذّر على خطيبهم الشّعر ، وعلى شاعرهم الخطابة ، وهذا يغني عن صرفتكم ؟
قيل له : الحمد للّه الذي جعل مذاهب المختلفين في وجه الإعجاز- وإن تفرّعت وتنوّعت- فالقرآن غير خارج بينها من أن يكون معجزا للبريّة ، وعلما على النّبوّة. وجعل ما يتردّد بينهم فيه من المسائل والجوابات- وإن قدحت في صحّة بعض مذاهبهم في تفصيل الإعجاز- فإنّها غير قادحة في أصل الأعجاز وجملة الدّلالة؛ لأنّه لا فرق بين أن يكون خارقا للعادة بفصاحته دون طريقة نظمه ، أو بنظمه دون فصاحته ، أو يكون متضمّنا للإخبار عن الغيوب ، أو بأن يكون اللّه تعالى صرف عنه العرب وسلبهم العلم به؛ في أنّه على الوجوه كلّها معجز دالّ على النّبوّة وصدق الدّعوة ، وإن اختلف وجه دلالته بحسب اختلاف الطّرق.
وهذا من فضائل القرآن الشّريفة ومراتبه المنيفة ، الّتي ليست لغيره من معجزات الأنبياء عليهم السّلام ؛ لأنّه لا شيء من معجزاتهم إلّا وجهة دلالته واحدة. وما قدح في تلك الجهة أخرجه من الإعجاز. ولو ألحق هذا ملحق بوجوه إعجاز القرآن لم يكن مخطئا ، ولكان قد ذهب مذهبا.
ثمّ نعود إلى الجواب عن السؤال ، فنقول : إنّا لو أحلنا في هذا الباب كلّه- نعني في أنّ النّظم لا بدّ من وقوع المساواة فيه ، وأنّه لا يصحّ أن ينفرد بنوع منه من لا يشركه فيه غيره- على موافقة الفريق الّذي كلامنا الآن (23) معهم ، وهم الذّاهبون في خرق العادة به إلى الفصاحة ، لكنّا قد وفّينا حجاجهم حقّه ؛ لأنّهم معترفون معنا بأنّ النّظم ليس بمعجز ، ودلالتنا في دفعه واحدة ، لكنّا لا نقتصر على ذلك ، ونورد ما يكون حجاجا للكلّ ، وبرهانا على الجميع.
____________________
1. نقص في نسخة «الأصل» بمقدار وريقات ، لعلّه لا يتجاوز المقدّمة وبعض الكلام عن التنبيهات والأوّليّات من مذهب الصّرفة ، ومعنى الفصاحة ومفهومها ، حيث يشير المصنّف إلى هذه الأمور في الورقة 4 ب بقوله : « فقد تقدّم في القول في الفصاحة ما يكفي».
2. يقصد بهم كفّار قريش والمشركين في جزيرة العرب ، الذين كانوا يعارضون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، ويناوءون دعوته بشتّى الوسائل.
3. يقال : رجل كلب ، إذا اشتدّ حرصه على الشيء.
4. في الأصل : الدعاوى ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
5. بعدها في الأصل : صارف عن هذا لأنّ ما يصرف عن المعارضة ، ولعلّه تكرار من الناسخ.
6. قال الشريف المرتضى في كتابه الذخيرة في علم الكلام/ 380 : « فإن قيل : بيّنوا كيفيّة مذهبكم في الصّرفة ، قلنا : الذي نذهب إليه أنّ اللّه تعالى صرف العرب عن أن يأتوا من الكلام بما يساوي أو يضاهي القرآن في فصاحته وطريقته ونظمه ، بأن سلب كلّ من رام المعارضة العلوم التي يتأتّى ذلك بها ، فإنّ العلوم التي بها يمكن ذلك ضروريّة من فعله تعالى فينا بمجرى العادة.
وهذه الجملة إنّما ينكشف بأن يدلّ على أنّ التحدّي وقع بالفصاحة والطريقة في النظم ، وأنّهم لو عارضوه بشعر منظوم لم يكونوا فاعلين ما دعوا إليه ، وأن يدلّ على اختصاص القرآن بطريقة في النظم مخالفة لنظوم كلّ كلامهم ، وعلى أن القوم لو لم يصرفوا لعارضوا».
7. هكذا في الأصل ، ولعلّه : رصف.
8. الطائيّان هما :
1- أبو تمّام حبيب بن أوس الطائيّ ، صاحب الحماسة وأحد أشهر شعراء العرب ، قيل إنّه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب ، وكان شيعيّا مواليا لأهل البيت عليه السّلام ، توفّي بالموصل أيّام الواثق باللّه عام 231( وقيل 238 ه).
2- البحتريّ ، أبو عبادة ، الوليد بن عبيد الطائيّ ، الشاعر المشهور ، ولد بمنبج من أعمال الشام ، ومدح جماعة من الخلفاء أوّلهم المتوكّل ، وخلقا كثيرا من الرؤساء والأكابر ، توفّي عام 284 ه.
9. في الأصل : ذكرنا ، والمناسب ما أثبتناه.
10. امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكنديّ( نحو 130- 80 ق. ه) ، شاعر جاهليّ ، بل أشهر شعراء العرب على الإطلاق.
11. في الأصل : الشعر ، والمناسب ما أثبتناه.
12. كذا في الأصل ، ولعلّه : عدّهم.
13. قال الخليل بن أحمد في كتاب العين : النّقض : إفساد ما أبرمت من حبل أو بناء.
والمناقضة في الأشياء ، نحو الشعر ، كشاعر ينقض قصيدة أخرى بغيرها. ومن هذا نقائض جرير والفرزدق.
14. هو جرير بن عطيّة بن حذيفة الكلبي التميميّ( 28- 110 ه) أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة. كان هجّاء مرّا ، وله مساجلات مع شعراء عصره ، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق والأخطل.
15. هو أبو فراس ، همّام بن غالب ، من أشهر شعراء العرب. له مساجلات معروفة مع جرير.
وهو صاحب الميميّة المشهورة يمدح بها الإمام زين العابدين عليه السّلام.
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
16. الأخطل : هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبيّ( 19- 90 ه) ، شاعر بني أميّة النصرانيّ.
والمروّج لسياساتهم.
17. قال الشريف المرتضى في الذخيرة في علم الكلام/ 380- 381 : « أنّه صلّى اللّه عليه وآله أطلق التّحدّي وأرسله ، فيجب أن يكون إنّما أطلق تعويلا على عادة القوم في تحدّي بعضهم بعضا ، فإنّها جرت باعتبار الفصاحة وطريقة النّظم ، ولهذا ما كان يتحدّى الخطيب الشاعر ولا الشاعر الخطيب ، وانّهم ما كانوا يرتضون في معارضة الشعر بمثله إلّا بالمساواة في عروضه وقافيته وحركة قافيته. ولو شكّ القوم في مراده بالتحدّي لاستفهموه. وما رأيناهم فعلوا؛ لأنّهم فهموا أنّه صلّى اللّه عليه وآله جرى فيه على عاداتهم».
18. في الأصل : تصحّ فيه ، والمناسب ما أثبتناه.
19. من الأحاديث المشهورة والمتواترة ، وقد نصّ الجميع على صحّته ، ورواه الشيعة والسّنّة في مجاميعهم الحديثيّة ومسانيدهم وصحاحهم ، نقلا عن جماعة من أعيان الصحابة : كأبي سعيد الخدريّ ، وسعد بن أبي وقّاص ، وزيد بن أرقم ، وجابر بن عبد اللّه ، وأنس بن مالك ، وابن عبّاس وعبد اللّه بن مسعود ، وأسماء بنت عميس وغيرهم.
وإليك مصادر الحديث :
بحار الأنوار حيث رواه العلّامة المجلسيّ في مجلّدات عديدة ، ويكفيك أن تراجع المجلّد 37 من ص 206 لغاية ص 337. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده 1/ 170 ، 174 ، 177 ، 179 ، 182 و3/ 32 و6/ 369. وفي فضائل الصحابة 2/ 598 ، 610 ، 633 ، 642 ، 670. ورواه البخاريّ في صحيحه 6/ 3 باب غزوة تبوك ، و5/ 19 باب مناقب أمير المؤمنين عليه السّلام. ورواه مسلم في صحيحه 7/ 119 ، 120 ، 121. الترمذيّ في صحيحه 5/ 633 و641. ابن المغازليّ في مناقبه 27 ، 28 ، 30 ، 31 ، 33 ، 34 ، 35 ، 36. وراجع أيضا : أسد الغابة 4/ 26 ، تاريخ دمشق لابن عساكر 1/ 132 ، 225 ، مستدرك الصحيحين 3/ 150 ، الخصائص للنسائيّ 263 ، أنساب الأشراف 2/ 112 ، الغدير في الكتاب والسنّة 5/ 363 ، 7/ 176 ، 10/ 278 ، ومصادر أخرى كثيرة. ولفظ الحديث المتّفق عليه عند الجميع ، أنّه صلّى اللّه عليه وآله قال لعليّ عليه السّلام : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي».
20. قال الشريف المرتضى رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 381 : « وممّا يبيّن أنّ التحدّي وقع بالنّظم مضافا إلى الفصاحة : أنّا قد بيّنا مقارنة كثير من القرآن لأفصح كلام العرب في الفصاحة ، ولهذا خفي الفرق علينا من ذلك ، وإن كان غير خاف علينا الفرق فيما ليس بينهما هذا التفاوت الشديد ، فلو لا أنّ النظم معتبر لعارضوا بفصيح شعرهم وبليغ كلامهم».
21. قال الشريف المرتضى في كتاب الذخيرة/ 381 : « وإذا لم يدخل في النّظم تفاضل فلم يبق إلّا أن يكون الفضل في السبق إليه ، وهذا يقتضي أن يكون السابق ابتداء إلى نظم الشعر قد أتى بمعجز ، وأن يكون كلّ من سبق إلى عروض من أعاريضه ووزن من أوزانه كذلك ، ومعلوم خلافه».
22. قال الشريف المرتضى رحمه اللّه في الذخيرة/ 381- 382 : « وليس يجوز أن يتعذّر نظم مخصوص بمجرى العادة على من يتمكّن من نظوم غيره ، ولا يحتاج ذلك إلى زيادة علوم ، كما قلناه في الفصاحة. ولهذا كان كلّ من يقدر من الشعراء على أن يقول في الوزن الذي هو الطويل قدر على البسيط وغيره ، ولو لم يكن إلّا على الاحتذاء ، وإن خلا كلامه من فصاحة. وهذا الكلام قد فرغنا [ منه] واستوفيناه في كتابنا في جهة إعجاز القرآن».
23. في الأصل : أمان ، والمناسب ما أثبتناه.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|