أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-1-2016
1769
التاريخ: 17-09-2014
2057
التاريخ: 2023-12-13
1253
التاريخ: 6-11-2014
1517
|
قال الشريفُ المرتضى رضوان الله عليه :
قال صاحب هذا الكتاب (1) ، في فصل وسمه بـ «بيان ما يجب أن يعلم من حال القرآن في الاختصاص ليصحّ الاستدلال به على صحّة النّبوّة» (2) .
اعلم أنّ الّذي يجب أن يعلم في ذلك : ظهوره عند ادّعاه النبوّة من قبله ، وجعله إيّاه دلالة (3) على نبوّته . وكلا الوجهين منقول بالتّواتر معلوم باضطرار ، وما عدا ذلك ممّا يشتبه الحال فيه ، قد يصحّ الاستدلال بالقرآن ، وإن [لم] (4) يعلم فلا وجه لذكره الآن ، وإنّما يجب فيما حلّ هذا المحلّ أن نتشاغل بحلّ الشبه فيه عند ورود المطاعن ، وإن كان الاستدلال (5) صحيحا ، وإن لم يخطر بالبال- على ما ذكرناه في كثير من أصول الأدلّة- فليس لأحد أن يقول : يجب أن يعلم (6) أوّلا أنّ هذا القرآن لم يظهر في السّماء على ملك ، أو في الأرض على نبيّ أو غيره (7) ، وخفي أمره ثمّ جعله صلّى اللّه عليه وآله دلالة على نبوّته (8) ؛ لأنّ هذا الجنس من الشّبه- ما لم يخطر (بالبال) (9) - لم يجب التّشاغل به .
ولا يمتنع (10) على كلّ حال من العلم بأنّه صلّى اللّه عليه وآله قد اختصّ بالقرآن (اختصاصه بالرّسالة وبالدّعوى ، إلّا ما قد عرفناه؛ لأنّه إن أحدث) (11) في السّماء على ملك ، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه . ولا يجوز أن يطلب في الاختصاص ما لا يمكن أكثر منه ، وهذا كما نقوله في تعلّق الفعل بالفاعل؛ لأنّه لا يمكن فيه أكثر من وجوب وقوعه بحسب أحواله ، فمتى طالب المطالب فيه بأزيد من هذا التعلّق (12) فقد طلب المحال (13) ، لأنّا إن قلنا (فيه : إنّه) (14) : يجب كوجوب المعلول فيه عن العلّة إلى ما شاكله ، كان ذلك ناقضا للفعل والفاعل بطريق (15) إثباتهما.
فكذلك القول في القرآن ، لأنّا نعلم أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة ، ما كان يكون له من الحكم إلّا ما قد عرفناه ، فإذا كان لو كان حادثا لدلّ على النّبوّة ، فكذلك [متى] (16) جوّز (17) خلافه ، فيجب أن لا يقدح في كونه دالّا ، بل يجب إبطال التّجويز بحصول طريقة الدلالة ، كما أوجبنا على من قال : جوّزوا أنّ الفعل من اللّه تعالى (18) يقع بحسب مقاصد العبد ، وأن لا يدلّ على ما ذكرتموه من وجوب وقوعه بحسب مقاصده ، على أنّه لو (19) فعله ينبغي أن يبطل التجويز (20) بطريق الدّلالة؛ لأنّ التّجويز شكّ وإمكان ، فكلاهما لا يقدح في الدّليل. وكذلك القول فيما ذكرناه من حال القرآن».
الكلام عليه فنقول وباللّه التوفيق :
إنّ الواجب ، قبل مناقضته ، بيان مقدّمة موجزة فيما يحتاج المعجز إليه من الشرائط ، ليتكامل دلالته على صدق المدّعي :
وأحد شروط المعجز : أن يكون من فعل اللّه تعالى.
والثاني : أن يكون ناقضا للعادة الّتي تختصّ من ظهر فيهم.
والثالث : أن يخصّ اللّه تعالى به المدّعي النبوّة على وجه التّصديق لدعواه .
وإن شئت أن تختصر هذه الجملة ، فتقول :
المعجز هو : «ما فعله اللّه تعالى تصديقا لمدّعي النبوّة» فيشتمل كلامك على جميع ما تقدّم.
وإنّما لم يدخل في جملة الشّروط أن يكون ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله ، إمّا في جنسه ، أو في صفته المخصوصة؛ لأنّ الشّرط الأوّل الّذي قدّمناه لا يمكن العلم بثبوته إلّا بعد العلم بأنّه ممّا يتعذّر على الخلق فعل مثله؛ وإلّا فلا سبيل إلى القطع على أنّه فعل اللّه تعالى وتقديم (21) الشّرط الأوّل يغني عنه .
فأمّا ما يلحقه قوم بشروط المعجز من كونه واقعا في حال التكليف ، احترازا من الطّعن بما يوجد في ابتداء وضع العادات ، وبما يفعل مع زوال التّكليف عند أشراط السّاعة ، فهو كالمستغنى عنه ، وإن كان لذكره على سبيل الإيضاح وإزالة الإيهام وجه؛ لأنّ ما يقع في ابتداء العادات ليس ينقض لعادة متقدّمة ، فخروجه عمّا شرطناه واضح.
وما يقع بعد زوال التكليف إنّما يحصل بعد ارتفاع حكم جميع العادات مستقرّا ، وفي الموضع الّذي انتقضت فيه عادة ثبتت أخرى واستقرّ حكمها ، وهذا كلّه زائل بعد التكليف.
على أنّ نقض العادة لا يدلّ على النّبوّة إلّا مع تقدّم الدّعوى ، حسب ما تضمّنه الشرط الثالث. وما يقع في ابتداء الخلق وبعد زوال التكليف ، لم يقع مطابقا لدعوى تقدّمت ، فلا يجب أن يكون دالّا ، ولم يثبت فيه الشّرط الّذي مع ثبوته يكون انتقاض العادة دالّا.
والّذي له قلنا : «إنّ المعجز يجب أن يكون من فعله تعالى» أنّه متى لم يثبت ذلك لم نأمن أن يكون من فعل بعض من يجوز أن يفعل القبيح ويصدّق الكذّاب ، فيخرج من أن يكون دالّا.
ولأنّ دعوى متحمّل الرّسالة متعلّقة باللّه تعالى ، ومن جهته يلتمس التّصديق والدّلالة ، فيجب أن يقع التّصديق والإبانة ممّن تعلّقت الدّعوى به والتمس التّصديق من جهته . أ لا ترى أنّ أحدنا لو ادّعى على غيره أنّه رسوله ومخبر عنه بما حمله ، والتمس منه أن يصدّقه ، لم يجز أن يدلّ على صدقه إلّا ما وقع ممّن تعلّقت الدّعوى به دون غيره من النّاس؛ فكذلك القول في المعجز.
فأمّا الوجه في كونه ناقضا للعادة ، فهو : أنّه من لم يكن كذلك لم يعلم أنّه مفعول لتصديق المدّعي ، بل جوّز أن يكون واقعا بمجرى العادة ، ولا تعلّق له بالتّصديق.
ولأنّ الفعل لو دلّ- مع كونه معتادا- على التّصديق لم يكن بعض الأفعال المعتادة بذلك أولى من بعض ، فكان يجب لو جعل مدّعي النّبوّة العلم على صدقه طلوع الشّمس من مطلعها ، أو ورود بعض الثّمار في إبّانها ، على الوجه الّذي جرت به العادة أن يعلم بذلك صدقه . وهذا ممّا لا شبهة في بطلانه .
فأمّا الوجه في إيجابنا اختصاصه بالمدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق لدعواه فهو أنّه متى لم يعلم هذا ، فلا بدّ من التجويز لوقوعه لغير وجه التّصديق ، ومع التّجويز لذلك لا يعلم صدق المدّعي. فإذا لا بدّ من العلم بأنّه لم يفعل إلّا للتّصديق ، وأنّه لو فعل لغيره لكان قبيحا خارجا عن الحكمة.
وإنّما زدنا في هذا الشّرط أن يخصّ اللّه تعالى به المدّعي للنّبوّة على وجه التّصديق ، ولم نشرط الاختصاص المطلق الّذي يشرطه غيرنا في هذا الموضع؛ لأنّ المعجزات على ضربين :
منها : ما لا يمكن فيه النقل والحكاية.
ومنها : ما يمكن ذلك فيه .
فالضّرب الأوّل : إذا علم حدوثه مطابقا لدعوى المدّعي ، على وجه لم تجر به العادة وأنّه من فعل القديم تعالى تكاملت دلالته؛ لأنّ حال حدوثه غير منفصلة من حال اختصاصه بالمدّعي ، ولأنّه ممّا لا يمكن أن يقال فيه : إنّه حدث غير مطابق لدعواه ولا مختصّ به ، وجعله هو بالنّقل والحكاية مختصّا به .
وأمّا الضّرب الثّاني : فلا يمكن أن يعلم (22) بوروده مطابقا للدّعوى أنّه مفعول لتصديقها؛ وإن علم في الجملة أنّه من فعل اللّه تعالى وأنّه خارق للعادة ؛ لأنّ حكايته إذا أمكنت جاز أن يكون اللّه تعالى فعله تصديقا لغير من ظهر عليه .
وإن ورد مطابقا لدعواه بنقله وحكايته ، أو بنقل (23) من يجري مجراه في ارتفاع الأمان من أن يفعل القبيح ، فلا بدّ في هذا الضّرب من اشتراط وقوع الاختصاص ، من جهة القديم تعالى؛ لنأمن وقوعه ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح.
ولأنّه لو جاز أن يدلّ الاختصاص- الّذي لا نأمن أن يكون اللّه تعالى ما أراده ولا فعل المعجز من أجله- لجاز في الأصل أن يدلّ على النبوّة ما لا نثق بأنّه من فعله تعالى.
فإذا كان ما ليس من فعله لا يدلّ- من حيث جاز وقوعه ممّن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب- فكذلك ما لا يعلم وقوع الاختصاص به من جهته تعالى لا يدلّ لهذه العلّة.
ولا فرق في حصول الاختصاص الدّالّ على النّبوّة بين أن يحدث اللّه تعالى ما يمكن فيه الحكاية والنّقل على يد الرّسول وبحضرته ، وبين (24) أن يحدثه ويأمر بعض ملائكته بإنزاله إليه واختصاصه به؛ لأنّ على الوجهين جميعا ، يرجع الاختصاص إلى القديم تعالى ، غير أنّه إذا أحدثه على يده كان المعجز نفس ذلك الفعل الحادث ، وإذا أمر بنقله إليه كان العلم الواقع موقع التّصديق هو أمره بنقله إليه .
ونحن نؤخّر استقصاء ما يحتمله هذا الكلام من الزّيادات والتّفريعات ، لنتكلّم عليه عند إيراد صاحب الكتاب له في مواضعه ، لئلّا يقع منّا تكرار.
وإذا صحّت هذه الجملة الّتي أوردناها بطل قول صاحب الكتاب : إنّ الّذي يجب أن يعلم من الاختصاص ظهور القرآن من جهته وجعله إيّاه دلالة على نبوّته ، وأنّ ما عدا ذلك- مثل أن لا يكون ظهر على يد غيره في السماء أو في الأرض- تصحّ الدّلالة من دونه ، وإن كان يجب حلّ الشّبهة فيه ، إذا أورد على سبيل الطّعن ، من غير أن يكون تقديمه واجبا في الدّلالة ؛ لأنّ القدر الّذي ذكره ليس بكاف في الدّلالة من وجهين :
أحدهما : أنّ ظهوره- وإن علم من جهته ، ثمّ علم أيضا كونه ناقضا للعادة ومتعذّرا على البشر- فغير ممتنع عند المستدلّ أن يكون من فعل من ليس ببشر من ملك أو جنّيّ ، ويكون ذلك الفاعل هو الّذي خصّ من ظهر على يديه؛ لأنّ العقول لا دلالة فيها على مبلغ ما تنتهي إليه منزلة من عدا البشر في الفصاحة والبلاغة.
وهي غير موجبة كون أحوالهم مساوية لأحوالنا فيهما حتّى يقطع على أنّ ما يتعذّر علينا متعذّر عليهم. وهذا يبيّن أنّ الّذي اقتصر على ذكره من الاختصاص ليس بمقنع.
والوجه الثّاني : أنّه لو سلّم- مع الاختصاص الّذي ذكره ، ومع نقضه للعادة وتعذّره على البشر- كونه من فعل القديم تعالى ، وخروجه من مقدور جميع المحدثين؛ لم تستقم أيضا الدّلالة دون أن يعلم أنّ القديم تعالى هو الّذي خصّه به ، وفعله على يده تصديقا له .
ومتى لم يعلم ذلك فلا بدّ من التّجويز؛ لوقوع الاختصاص من جهة غيره ممّن (25) يجوز أن يفعل القبيح ؛ لأنّه ممّا يمكن فيه النّقل والحكاية ، ومع التّجويز لذلك لا تصحّ الدّلالة.
وهذا الوجه أخصّ بالطّعن على ما أورده هاهنا ، لأنّه ذكر ما يحتاج إلى علمه من اختصاص المعجز بالرّسول ، دون حال المعجز في نفسه ومن فعل أيّ فاعل هو ، وإن كان قد صرّح فيما يأتي بأنّ مع تجويز كونه من فعل غير اللّه تعالى ، قد يدلّ على النّبوّة.
فقد وضح بما ذكرناه أنّ ما ادّعي أنّه ليس بشرط في الدّلالة وأنّه إنّما يجب بيان الوجه فيه- عند إيراده على سبيل الطّعن والشّبهة- لا بدّ أن يكون شرطا ، بدلالة أنّه متى ادّعي [و] لم يتقدّم العلم به للمستدلّ ، كان مجوّزا لما لا تصحّ الدّلالة مع تجويزه .
وليس له أن يقول : فكيف السّبيل إلى العلم بالاختصاص الّذي ذكرتموه ، وأنّ المعجز لم يظهر على غير مدّعي النّبوّة ، وذلك ممّا لا سبيل إليه إذا كان المعجز ممّا يمكن فيه النّقل والحكاية ؟ لأنّا سنبيّن فيما نستقبله من الكلام الطريق إليه ، ونوضّح القول فيه ، ونكشفه بمشيئة اللّه تعالى وعونه .
فأمّا قوله : إنّ ظهور القرآن على يد الرّسول صلّى اللّه عليه وآله ، هو الاختصاص الّذي لا يمكن غيره؛ لأنّه إن لم يكن حدث إلّا في تلك الحال لم يصحّ في الاختصاص غيره ، وإن كان قد حدث في السّماء على ملك ، فالاختصاص لا يصحّ إلّا على هذا الوجه . وحمله ذلك على تعلّق الفعل بالفاعل ، واقتصارنا عليه في الدّلالة ، من غير طلب لما هو لديه منه من التعلّق ... إلى آخر كلامه؛ فباطل بما أوردناه؛ لأنّا قد بيّنا أنّ الاختصاص الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة ، وأنّه متى علم أنّ المظهر للمعجز على يد المدّعي هو القديم تعالى ، أو من أمره القديم تعالى بإظهاره استقامت دلالته .
وإن فرّق بين الاختصاصين يكون أظهر من كون أحدهما دالّا على الأمر المطلوب ، والآخر غير دالّ ، ولا ممّا يستحقّ أن يكون دالّا ، فكيف يصحّ ادّعاؤه مع ما ذكرناه أنّه لو لم يحدث إلّا عند ادّعاء النبوّة لم يكن له من الحكم إلّا ما له ، وإن كان حادثا من قبل؟
وقوله : «إنّ هذا الاختصاص هو الّذي لا يمكن غيره».
إن أراد نفي صحّة حصول اختصاص يزيد على ما ذكره فبما أوردناه يفسده؛ لأنّا قد بيّنا اختصاصا أزيد ممّا اقتصر عليه ، ودللنا أيضا على أنّ دلالة المعجز لا تستمرّ إلّا مع ثبوته ، وأنّ الّذي اقتصر عليه غير كاف في الدّلالة.
وإن أراد أنّه لا طريق يوصل إلى العلم ، إنّما هو أكثر من الاختصاص الّذي ذكره ، وإن كان حصوله جائزا ، فسنبيّن فيما بعد أنّ إلى ذلك طريقا يمكن أن يعلم منه .
ولو لم يكن طريق يوصل إليه أيضا- على ما اقترح- لم يجب أن يكون ما اقتصر عليه في الاختصاص دالّا؛ لأنّه إن وجب ذلك كان بمنزلة من يقول : إذا لم يكن لي سبيل إلى العلم بالاختصاص- الّذي إذا ثبت وعلم حصوله كان دالّا على التّصديق لا محالة- جعلت ما أجد السّبيل إلى الوقوف عليه من الاختصاص دالّا ، وإن كان ممّا إذا اعتبر لم تكن فيه دلالة.
فأمّا تعلّق الفعل بالفاعل : فإنّما لم يطالب فيه بتعلّق أزيد من المعلوم لنا؛ لأنّ القدر الحاصل من التّعلّق كاف في الدّلالة على ما نريده من كونه فعلا له . ولو لم يكن ذلك كافيا لطالبنا بزيادة عليه . وإنّما أبطلنا قول من يقول : جوّزوا أن تقع أفعالكم من اللّه تعالى ، بحسب قصودكم؛ لأنّها لا يمكن أن تضاف إلى اللّه تعالى إلّا بهذا الضرب من التّعلّق المعلوم حصوله معنا ، وإذا كان تعلّقها بنا متيقّنا (26) - ولم يمكن أن يتعلّق بغيرنا ، لو كانت متعلّقة به ، إلّا على هذا الوجه ، واستحال أن تكون متعلّقة بنا وبغيرنا معا. لاستحالة فعل من فاعلين- وجب القطع على أنّها أفعال لنا ، ونفي حصول علقة بينها وبين غيرها.
فقد كان يجب على صاحب الكتاب ، إذا أراد التّسوية بين الأمرين أن يدلّ على أنّ الاختصاص الّذي ذكره مقنع في الدّلالة ، وأنّ إثبات ما يزيد عليه غير ممكن ، ليلحق بتعلّق الفعل بالفاعل. ولو فعل لم تكن عليه حجّة ، لكنّه اقتصر على الدّعوى في أنّ الاختصاصين لا فرق بينهما ، وقد بيّنا أنّ بينهما فرقا واضحا.
قال صاحب الكتاب (27) :
« [فإن قال] (28) : فإنّي أقدح بذلك في كونه معجزا أصلا.
فأقول (29) : إذا كان لا ينفصل حاله- وقد حدث من حاله ، وقد كان من قبل حادثا- فيجب أن لا يكون دليلا على النّبوّة ، وأن يكون الّذي يدل (30) عليها ما يعلم في الحال أنّه حادث ، كإحياء الموتى وقلب العصا حيّة ، دون الأمور الّتي يجوز فيها ما ذكرناه .
وهذا كما قلتم : إنّ تعلّق الفعل بفاعله إنّما يدلّ على حاجته إليه ، وحدوثه من قبله ، متى علم أنّه حادث. فأمّا إذا (31) لم يعلم ذلك لم يصحّ كونه دالّا.
وكذلك القول في المعجز ، إنّه لا بدّ من إثبات حادث عند دعواه من قبله تعالى يحلّ محلّ التّصديق؛ فإذا كان الأمر الّذي يظهر يجوز أن لا يكون في حكم الحادث ، فيجب أن لا يصحّ الاستدلال به ؛ أو لستم قد فصلتم بين دلالة القيام والقعود على حاجتهما إلى محدث ، وبين حمرة موضع الضّرب وخضرته بأن قلتم : إنّ ذلك حادث ، فصحّ أن يدلّ ؟
وهذا ليس بواضح (32) ، وإنّما يظهر بعد كون (33) ، فلا يصحّ أن يدلّ ، فيجب مثل ذلك في المعجز.
فإن قلتم : إنّ القرآن حادث في الحقيقة ، في حال ظهوره على النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، فهو خارج من الباب الّذي ظننتم.
قيل لكم : إنّه- وإن كان حادثا- فهو في حكم الباقي ، كما أنّه الآن (وإن كان حادثا إذا تلاه التّالي فهو في حكم الباقي ، فإذا جاز) (34) فيه أن يكون في حكم الباقي وفي حكم الحادث ، فيجب أن تدلّوا على أنّه في حكم الحادث ، ليتمّ الاستدلال لكم به على النّبوّة.
وبعد ، فإنّكم تقولون في القرآن ما يمنع أن يكون حادثا في حال ظهوره على الرّسول صلّى اللّه عليه وآله عندكم ، لأنّكم تزعمون أنّه تعالى أحدثه جملة واحدة في السّماء ، وأنّ جبريل عليه السّلام كان ينزله على النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله بحسب الحاجة إليه ، فكيف يصحّ أن تقدّروه تقدير الحادث ، وأنتم تصرّحون القول بأنّه ممّا تقدّم حدوثه ، فإذا كان ذلك حاله عندكم فكيف يدلّ على نبوّته عليه السّلام ؟
ثمّ قال : قيل له : إنّ المعتبر في هذا الباب أن (35) يظهر عند ادّعائه النّبوّة ما لو لا صحّة نبوّته لم يكن ليظهر ، فمتى كان الأمر الّذي يظهر عليه بهذا الصّفة صحّ كونه دالّا على النّبوّة.
يبيّن ذلك أنّ ما يظهر عند ادّعائه فقد كان يجوز أن يظهر لو لا صحّة نبوّته لا يجوز أن يكون دالّا؛ فإذا كان هذا طريق دلالة المعجزات ، وهو قائم في القرآن كقيامه في إحياء الموتى وما شاكله ، فيجب أن تكون دلالة الجميع لا تختلف ، من حيث لم يختلف طريق دلالته .
ومتى لم نقل بهذه الطريقة لم يصحّ الاستدلال بالمعجزات. وهذا كما نقوله في دلالة المحدث على الفاعل أنّه يعتبر فيه وقوعه بحسب أحواله ، على وجه لو لاه لم يقع؛ فمتى علمنا ذلك من حاله دلّ ، وإن اختلف أحواله وأجناسه ؛ فكذلك إذا علمنا من حال الأمر الظاهر على مدّعي النبوّة أنّه حادث عند دعواه ، على وجه لو لاه ولو لا صحّة نبوّته لما ظهر ، فيجب أن يكون دالّا. واختلاف أحواله لا يؤثّر في هذا الباب.
يبيّن ذلك : أنّه لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر لوجب مثله في الشّاهد؛ فكان يجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر والخطب ممّن يختصّ بهما على تقدّم في العلم ، بأن يجوّز أنّ ذلك قد كان حادثا ، وأنّ المختصّ به لم (يبتدئ به) (36) ، بل أخذه عن غيره ، وهذا يطرّق باب الجهالات في دلالة الفعل على أحوال الفاعلين.
يبيّن ذلك : أنّه قد ثبت أنّ إحياء الموتى حادث لا محالة من قبله تعالى ، وأنّ نقل الجبال وقلب المدن ، إلى ما شاكلهما (37) قد يجوز ، بل نقطع على حدوثهما من قبل من ادّعى النّبوّة. ولم يمنع ذلك من كونه دالّا ، للوجه الّذي ذكرناه ، وهو أنّه ممّا قد علم أنّه لو لا صدقه في ادّعاء النّبوّة لما ظهر ، وإن خالف حالهما حال إحياء الموتى.
وكذلك فلو جعل دليل نبوّته أنّه يمتنع على النّاس القيام والقعود ، أو يتّفق من العالم تصديقه ، والخضوع له عند أدنى (38) وهلة ، لكان ذلك يدلّ (39) كدلالة إحياء الموتى من الوجه الّذي بيّناه .
وإن كانت الحال مختلفة ، فبعض ذلك حادث من قبله تعالى (40) وبعضه يكشف عن تغيير أحوال العقلاء في الدّواعي (41) ، إلى غير ذلك.
فكذلك القول في ظهور القرآن : أنّه يجب أن يكون دالّا ، وإن لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه ، أو ابتدأ في الحال ؛ لأنّ حاله- وهو كذلك- كحاله وإن كان مبتدأ في الوقت ، كما أنّ حال نقله الجبال عن قدرته كحاله لو كان القديم تعالى فعله».
الكلام عليه
يقال له : قد أطلت السّؤال والجواب معا بما لا محصول . واعتمدت على دعوى لم تتشاغل بالدّلالة على صحّتها. وقدّمت أمام جوابك مقدّمة صحيحة ، لكنّك لم تتبيّن وجه موافقتها لما ادّعيته وعوّلت عليه ، وظننت أنّ المقدّمة إذا كانت صحيحة مسلّمة فقد صحّ ما رتّبته عليها ممّا لا تقتضي صحّتها صحّته! وهذا لا يخرج عن أن يكون غلطا أو مغالطة؛ لأنّه لا شبهة فيما ذكرته من أن المعتبر في هذا الباب- بما يظهر عند ادّعاء النّبوّة ممّا يعلم- أنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يظهر ، لكن من أين لك فيما اقتصرت عليه وادّعيته أنّه كاف في الدّلالة أنّه بهذه الصّفة ؟
أو ليس قد بيّنا أنّ ظهور الأمر الّذي يمكن فيه النّقل والحكاية- وإن كان خارجا من العادة- غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر على يديه واختصّ به ، من حيث كان جائزا أن يكون هو الّذي خصّ نفسه بظهوره ونقله عمّن خصّه اللّه تعالى به وجعله علما على صدقه ، أو نقله إليه غيره ممّن يجري مجراه في جواز فعل القبيح منه؟! وإنّا متى لم نأمن هذه الحال فلا سبيل إلى التّصديق والقطع على صحّة الدّعوى (42).
وقد كان يجب أن يكون توفّرك كلّه مصروفا إلى أنّ الكفاية واقعة بالقدر الّذي اقتصرت عليه ، وأنّه لو لا صحّة نبوّة المدّعي لم يكن ، وإلّا فلا منفعة فيما قدّمته؛ لأنّا نقول لك على سبيل الجملة :
كلّ أمر ظهر على مدّعي النّبوّة- على وجه لو لا صحّة نبوّته لما ظهر على ذلك الوجه- فهو دالّ على صحّة النّبوّة ، ويبقى على من ادّعى في فعل معيّن- على سبيل التفصيل- أنّه دالّ ، أن يبيّن موافقته لتلك الجملة.
وقد بيّنا أيضا الفرق بين دلالة إحياء الموتى وما جرى مجراه ممّا لا يمكن فيه النّقل ، وبين القرآن وأمثاله ؛ لأنّ النّقل بحيث لم يكن فيه حصل لنا الأمان من الوجه الّذي لأجل تجويز ما يأتي فيه النقل ، لم يكن دالّا ، فسقط بذلك قول من سوّى بين الأمرين ، وادّعى أنّ طريق دلالة الجميع لا يختلف.
فأمّا دلالة الفعل على الفاعل فغير مفتقرة إلى اعتبار جنس الفعل ونوعه والنّظر في أحواله؛ لأنّ تعلّقه به واحتياجه في وقوعه إلى أحواله لا يختلفان ، وإن اختلفت أجناس الأفعال وأحوالها. فالواجب على من ظنّ في الموضع الّذي تقدّم- أنّه دالّ من غير حاجة إلى النّظر فيما أوجبنا النّظر فيه ، وحمل ذلك على دلالة الفعل على الفاعل- أن يبيّن فيما ادّعاه أنّه بهذه الصّفة؛ فإنّا لم نقل في الفعل والفاعل ما ذكرناه إلّا بدلالة أوجبت علينا القول به ، ونحن نطلب بمثلها من ادّعى ، في بعض الأشياء ، مساواته لدلالة الفعل على فاعله ؟ مع أنّا قد دللنا- فيما تقدّم وتأخّر- على أنّ الاقتصار على ما اقتصر عليه صاحب الكتاب غير كاف ، وأنّه مخلّ بما لا بدّ في دلالة التّصديق منه ، ولا غنى بها عنه .
فأمّا قوله : «لو كان المعتبر بأن يتقدّم العلم بحال ذلك الأمر الظّاهر ، لوجب أن لا يدلّ ظهور الشّعر والخطب على علم من اختصّ بهما؛ لتجويزه أن يكون ذلك حادثا من قبل ، وأنّ المختصّ به أخذه عن غيره».
فقد بيّنا فيما تقدّم من هذا الكتاب كيفيّة القول في دلالة الشّعر وما جرى مجراه من الكلام على علم فاعله ، وما يقطع به على إضافته إلى من ظهر منه وما لا يقطع به ، وفصلنا بينه وبين ظهور القرآن ، واستوفيناه غاية الاستيفاء.
على أنّا نقول له : كلّ شعر أو كلام ليس بشعر ظهر من بعضنا ، وجوّزنا أن يكون نقله وحكاه ، لفقد ما يقتضي أن يكون المبتدئ به والسابق إليه ، من الدّلائل والأمارات الّتي قد تقدّم ذكرنا لها فيما سلف من الكتاب؛ فإنّه لا يدلّ على أنّ من ظهر عليه عالم بكيفيّة صيغته وترتيبه . وأكثر ما يدلّ عليه من حاله أنّه عالم بحكايته ؛ لأنّ الحكاية هي المعلوم حدوثها من جهته ، وقد ضربنا لذلك مثالا لا شبهة فيه ، وهو :
أن يحضر أحدنا ثوبا حسن الصّنعة لم يشاهد قبله مثله ، ويدّعي أنّه صانعه ، ولا يرجع إلى إضافته له إليه إلّا إلى دعواه .
فإذا كان من الواجب عند كلّ أحد الامتناع من تصديق هذا المدّعي وإضافة الثّوب إلى صنعته والاستدلال به على علمه ، دون أن يعلم أنّه هو المبتدئ بصنعته ، وأنّه لم ينقله عن صنعته . ولا يجري ذلك في باب الدّلالة مجرى أن يصنع بحضرتنا ثوبا ، فكذلك القول في الكلام؛ لأنّ النّقل فيه يمكن كما يمكن في الثّوب وأشباهه .
ثمّ يقال له : خبّرنا عنك لو أحضرك محضر قصيدة من الشّعر ، وادّعى أنّه مؤلّفها ومبتدعها- وهو ممّن يجوز أن يكذب في خبره ، ولم ترجع في علمه بالشّعر إلّا إلى ظهور القصيدة من جهته ، دون أن يقع منه التّصرّف في أمثالها والقول في أوزان ومعان تقترح عليه- ما كنت تقطع على علمه بالشّعر وصحّة إضافة القصيدة إليه؟
فإن قال : «نعم ، كنت أقطع بذلك» ، قال قولا مرغوبا عنه ، ولزمه أن يقطع فيمن أحضره الثّوب وسائر ما يمكن فيه النقل بمثل ذلك! وقيل له : ومن أيّ وجه علمت صحّة قول هذا المدّعي ، وأنت لا تأمن أن يكون كاذبا جاهلا بقول الشّعر وتأليفه ، وإنّما نقل تلك القصيدة عن غيره؟ وفساد ارتكاب ذلك أظهر من أن يخفى ، فيحوج إلى الإطالة.
فإن قال : إذا لم يظهر منه إلّا القدر الّذي ذكرتموه ، ولم يجز أن أقطع على علمه بتأليف الشّعر ، ولا على أنّه صاحب القصيدة.
قيل له : أ فليس إذا علمت ببعض ما قدّمناه من الدّلائل والأمارات ، أنّ تلك القصيدة لم يسبق إليها تقطع على علمه؛ فلا بدّ من : بلى ؟! فيقال له : فقد صرت في باب إضافة الشّعر إلى من ظهر عليه بغير حاله (43) ، وهل هو ممّا سبق إليه أو ابتدأ من جهة من ظهر معه؟ وبطل تقديرك أنّ ذلك غير محتاج إليه في باب الشّعر. كما أنّه- على ما ادّعيته- غير محتاج إليه في دلالة القرآن؛ لأنّك قد صرّحت بأنّ القرآن دالّ مع تجويز النّاظر أنّه منقول غير مبتدأ ، وليس يمكنك أن تقول مثل هذا في دلالة الشّعر وما أشبهه من الكلام.
على أنّا قد بيّنا أنّ تجويز النّاظر في القرآن أن يكون مفعولا- قبل ادّعاء من أظهر (44) الرّسالة ، وأنّه انتقل إليه بغير اللّه تعالى ، أو غير من أمره اللّه تعالى بنقله إليه- يمنع من صحّة الاستدلال به ، فبطل ما ذكره على كلّ حال.
فأمّا تسويته بين نقل الجبال وإحياء الموتى ، واتّفاق التّصديق من جميع الخلق على وجه غير معتاد في باب الدّلالة وإن كان وجهها مختلفا ، وقوله :
«فكذلك ظهور القرآن يدلّ ، وإن لم يعلم المفكّر أنّه ابتدأه (45) في حال ، لأنّ حاله وهو مبتدأ كحاله لو كان غير مبتدأ في باب الدّلالة ؛ فلا شكّ في أنّ دلالة ما ذكره من نقل الجبال وإحياء الموتى والاتّفاق على التّصديق غير مختلفة ، وإن كانت هذه الأمور في أنفسها مختلفة. وإنّما لم تختلف لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى فعل اللّه تعالى ، يقطع على أنّه لم يفعله إلّا للتّصديق والإبانة؛ لأنّ إحياء الموتى وإن كان فعله تعالى ، وواقعا موقع التّصديق بغير واسطة؛ فكذلك نقل الجبال واجتماع العالم على التّصديق؛ لأنّ نقل الجبال يدلّ- إذا لم يكن من فعله تعالى على يد من ظهر عليه- على اختصاص الفاعل بقدر لم تجر العادة بمثلها ، واقعة من فعله تعالى على سبيل التّصديق.
واجتماع الخلق على التّصديق يدلّ أيضا على أمور فعلها- جلّ وعزّ- على خلاف العادة ، اقتضت بإجماع الدّواعي واتّفاقها.
وجميع هذه الوجوه نأمن فيها أن يكون الاختصاص بالتّصديق واقعا ممّن يجوز أن يصدّق كذّابا.
وليس كذلك الحال فيما يجري مجرى الكلام ، إذا اعتبرنا وجه دلالته على النّبوّة؛ لأنّا إذا لم نعلمه مبتدأ في الحال ، ولم نعلم- إن كان غير مبتدأ- أنّ نقله إلى من ظهر عليه- إنّما كان باللّه تعالى ، وبمن أمره اللّه تعالى بنقله- يجوز أن يكون انتقاله وظهوره إنّما كانا ممّن يجوز أن يصدّق الكذّاب ، فلم يكن إلّا من هذا الوجه ، وفارق ما تقدّم.
ولا فرق متى علم مبتدأ في الحال- بين أن يكون من فعل اللّه تعالى ، أو من فعل من ظهر عليه- بعد أن يكون غير معتاد ؛ لأنّه إن كان من فعله تعالى جرى مجرى إحياء الموتى في الدّلالة بغير واسطة. وإن كان من فعل من ظهر عليه جرى مجرى نقل الجبال وقلب المدن- إذا علمنا أنّ اللّه تعالى لم يتولّ فعلهما- في الدّلالة على أمور وقعت من فعله تعالى موقع التّصديق ، وهي العلوم التي يتمكّن معها من فعل مثل ذلك الكلام.
وليس المعوّل- في الطّعن على ما اعتمده في هذا الموضع- على أنّ القرآن إذا لم يعلم مبتدأ في الحال وجوّز أن يكون حادثا قبلها لم يدلّ على النّبوّة حسب ما سأل عنه نفسه . بل المعوّل على ما بيّناه من أنّه إذا لم يعلم حادثا ، ويجوز انتقاله ممّن يجوز منه فعل القبيح لم يكن [دالّا]. وإلّا فلو علمناه متقدّم الحدوث ، وأمنّا أن يكون انتقاله واختصاصه ممّن ظهر عليه من جهة من يجوز منه القبيح ، لكان دالّا.
ولعلّنا أن نفصّل فيما يأتي من الكتاب- بعون اللّه- الكلام في المعجز الواقع موقع التّصديق ، وهل يجوز أن يتقدّم ما هذه صفته الدّعوى (46) أم لا يجوز؟
وهل القدر الكثيرة الّتي يتمكّن بها من الأفعال الخارجة عن العادة- إذا كانت.
هي المعجز والعلم الدالّ على الصّدق فيمن يختصّ بها- ويجوز أن يتقدّم الدّعوى ، أم لا يجوز أن يتقدّمها ، ولا بدّ من حدوثها في حال الدّعوى؟ فإنّ كلام صاحب الكتاب إلى هذه الغاية ليس يقتضي أكثر ممّا ذكرناه .
قال صاحب الكتاب (47)
«وعلى هذا الوجه قلنا : إنّ المبتدئ بالاستدلال على تعلّق الفعل بالفاعل ، ودلالته (48) على أنّه قادر قد يصحّ استدلاله متى علم تعلّقه بأحواله ، وإن لم يفكّر في أنّ الأعراض يجوز عليها الانتقال ، وإن كان متى عرضت له شبهة في ذلك يلزمه أن ينظر في حلّها ، لا لأنّ أصل استدلاله لم يصحّ ، وإنّما كان كذلك لأنّه مع تجويز الانتقال ، حال ما يظهر منه في أنّه يقع بحسب أحواله عنده ، كحاله متى لم يجز الانتقال عليه؛ فوجه الدّلالة لا يتغيّر بهذا التّجويز ، فلم يتغيّر حاله في صحّة الاستدلال. فكذلك القول فيما ذكرناه من دلالة القرآن على النّبوّة.
يبيّن صحّة ذلك : أنّ الناظر في إحياء الموتى- وإن لم يستدلّ فيعلم أنّ الحياة لا يجوز فيها الانتقال والظهور والكمون- يمكنه أن يستدلّ به على صحّة النّبوّة ، من حيث علم أنّه لو لا صحّة النّبوّة لم يحدث ذلك بالعادة ، (فيقارن حاله عنده حال الأمور المستمرّة على العادة) (49) ، فبهذه التّفرقة يمكنه الاستدلال؛ فإذا كانت صحيحة ، وإن لم يقع النظر في أنّ حدوثه متجدّد في الحقيقة ، أو حدوثه في هذه العين متجدّد ، بل كان ذلك كالمجوّز عنده .
فكذلك القول في القرآن ، أنّه لا فرق بين أن يعلم أنّ ظهوره ابتداء لم يتقدّم من قبل ، أو جوّز تقدّمه ، ثم ظهوره الآن على وجه لم تجر العادة بمثله ، في أنّ على الوجهين جميعا قد علم التّفرقة بينه وبين ما يحدث على طريقة العادة.
وهذا يكشف لك عن (50) صحّة ما قلناه من أنّ المعتبر في هذا الباب أن يعلم المستدلّ أنّه ظاهر عند الدّعوى ، على وجه يفارق حاله حال الأمور المعتادة.
فمن (51) عرف هذه التّفرقة فقد صحّ استدلاله ، وإن جوّز فيه ما ذكرناه».
الكلام عليه
يقال له : أمّا الناظر في تعلّق الفعل بالفاعل أنّه قادر متى (52) كان مجوّزا على الأعراض الانتقال- فإنّه لا سبيل له إلى العلم بأنّ اختراع ذلك الفعل الّذي علم ظهوره من الفاعل ، إنّما كان به .
والاستدلال- مع هذا التّجويز- على أنّه قادر على اختراعه وإحداث عينه ، إنّما (53) يعلم تعلّق ظهوره به على الوجه الّذي ظهر عليه .
ومتى علم في الأعراض أنّها لا يصحّ عليها الانتقال صحّ أن يعلم ما ذكرناه من تعلّق الحدوث به . ولم نجد صاحب الكتاب فصّل هذا التفصيل ، بل أطلق القول بأنّ دلالة الفعل لا تختلف في الحالين.
فإن كان أراد أنّ الدّلالة على الإحداث والاختراع لا تختلف- مع تجويز الانتقال وامتناعه- فقد بيّنا اختلافها. وإن أراد أنّها لا تختلف من الوجه الآخر ، فقد ذكرناه .
وقد تقدّم الكلام في أنّ النّاظر في القرآن إذا جوّز انتقاله إلى من ظهر على يده ممّن يجوز منه القبيح ، لم يمكنه الاستدلال به . فبان الفرق بينه وبين دلالة الفعل على الفاعل.
فأمّا النّاظر في إحياء الموتى- مع تجويزه على الحياة الانتقال والكمون والظّهور- فليس تخلو حاله من وجهين :
إمّا أن يكون- مع تجويزه على الحياة الانتقال- يجوّز أن تنتقل بغير اللّه تعالى.
أو يكون غير مجوّز لذلك ، بل معتقدا أنّ انتقالها لا يكون إلّا به تعالى.
فإن كان على الوجه الأوّل : لم يصحّ استدلاله على النّبوّة ؛ لما ذكرناه من التّجويز الّذي لا نأمن معه أن يكون الانتقال وقع ممّن يجوز أن يفعل القبيح.
وإن كان النّاظر على الوجه الثّاني : صحّ استدلاله مع تجويز الانتقال؛ لأنّ الانتقال في هذا الوجه يجري مجرى الحدوث والاختراع في أنّه خارق للعادة ، ومن فعل من نأمن منه فعل القبيح ، فكيف يتوهّم أنّ النّاظر في إحياء الموتى- دلالته على صدق من ظهر عليه- يمكنه الاستدلال به ، مع تجويزه في الحياة أن تكون منتقلة بغير اللّه تعالى؟ وأن يكون ناقلها بعض من يجوز عليه تصديق الكذّاب؟
وهل هذا إلّا كقول من يقول : إنّ النّاظر في إحياء الموتى يمكنه الاستدلال به على النّبوّة ، مع تجويزه أن تكون الحياة داخلة تحت مقدور البشر ، ومن جملة ما يمكنهم أن يفعلوه ؟
فإذا كان ظهور الحياة- مع هذا التّجويز- لا يدلّ ، من حيث كنّا لا نأمن إذا كانت الحياة مقدورة لهم من أن يقع من مصدّق للكذّاب! وكذلك حالها عند من جوّز عليها الانتقال بغير من نثق بحكمته . وهذا أوضح من أن يخفى على متأمّل.
فأمّا قوله : «إنّ المعتبر هو أن يعلم المستدلّ في القرآن وأمثاله أنّه ظاهر عند الدّعوى ، على وجه يفارق الأمور المعتادة. ومتى عرف هذه المعرفة صحّ استدلاله ، وإن جوّز فيه ما ذكرناه».
فقد مضى الكلام في أنّ القدر الّذي ذكره غير كاف في الدّلالة ، وأنّه لا بدّ أن يأمن النّاظر من أن يكون ذلك الأمن الّذي ليس بمعتاد ظهر بفاعل يجوز عليه الاستفساد وفعل القبيح؛ لأنّ حكم الأمر المفارق للعادة- في هذا الوجه- حكم الدّاخل تحتها ، من حيث جاز فيهما جميعا أن يقعا من غير حكيم ، وعلى وجه لا يوجب التّصديق.
ثمّ يقال له : من أيّ وجه لم يدلّ سائر الأفعال المعتادة منّا إذا ظهرت على بعض من يدّعي النّبوّة ؟
فلا بدّ من أن يفزع إلى ما ذكرناه من أنّها إذا كانت بهذه الصّفة لم نأمن من أن تقع من مصدّق أو كذّاب.
فحينئذ يقال له : فإذا كانت هذه العلّة موجودة من بعض ما يقع على خلاف العادة من الأفعال ، فلا بدّ من القول بأنّه غير دالّ ، وإلّا فالمناقضة ظاهرة.
ثمّ يقال له : أ ليس قد يصحّ أن يستدلّ المستدلّ ، فيعلم أنّ القديم تعالى قادر على أجناس وأفعال كثيرة لا يقدر البشر عليها ، وإن كان شاكّا في حكمته ويجوّز أن يفعل القبيح؟ فلا بدّ من الاعتراف بذلك؛ لأنّ أحد العلمين غير متعلّق بالآخر.
فيقال له : خبّرنا عمّن نظر في بعض ما يظهر على مدّعي النّبوّة ، فعرف أنّه من فعل اللّه تعالى ، وممّا لا يتمكّن البشر منه ، وأنّه خارق للعادة : أ يصحّ استدلاله به على النّبوّة ، مع تجويزه على اللّه تعالى فعل القبيح ، وتصديق الكذّاب؟
فإذا قال : لا.
قيل له : فقد بطل قولك : إنّ المعتبر في صحّة الاستدلال هو بأن يظهر عند الدّعوة أمر مفارق للعادة ، وأنّ ما عدا ذلك من أحواله لا حاجة إلى العلم به .
وبعد ، فإنّ الّذي منع في هذا الموضع من صحّة الاستدلال على النّبوّة ، قائم في الموضع الّذي اختلفنا فيه ، إذا جوّز أن يكون ظهور ذلك الأمر وانتقاله ممّن يجوز أن يفعل القبيح.
فإن قال : إذا سوّيتم في الكلام الذي ذكرتموه بين المعتاد وغير المعتاد في أنّه غير دالّ ، فلم شرطتم في دلالة المعجز أن يكون خارقا للعادة؟ وأيّ تأثير لكونه خارقا لها؟
قيل له : إنّا لم نجعل المعتاد مساويا بغير المعتاد في كلّ موضع ، وإلّا أبطلنا الحاجة في دلالة المعجز إلى كونه خارقا للعادة كما ظننت ، وإنّما سوّينا بينهما في امتناع الاستدلال على النّبوّة بهما في الموضع الّذي يجوز في كلّ واحد منهما أن يكون واقعا ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب.
فأمّا تأثير كون الفعل خارقا للعادة في غير هذا الموضع ، فواضح معلوم؛ لأنّ ما وقع من أفعال اللّه تعالى على مجرى العادة إنّما لم يدلّ على النّبوّة من حيث جوّز النّاظر أن يكون واقعا لغير التّصديق ، وعلى مجرى العادة. وإذا كان غير معتاد زال هذا التّجويز.
فإن قال : إنّما قلت : المعتبر بأن يعلم النّاظر في الأمر الظّاهر أنّه خارق للعادة ، ويكتفي به في الاستدلال؛ لأنّه يأمن أن يكون ظهوره و. انتقاله ممّن يجوز أن يستفسد ويفعل القبيح ، من حيث يعلم أنّ القديم تعالى لا يمكّن من ذلك ، ويمنع منه من يرومه؛ فيصحّ استدلاله .
قيل له : فقد صرت إذا إلى قولنا ، وتركت ما أنكرناه عليك ، لأنّا لم نخالفك في الوجه الّذي منه أمن أن يقع من فاعل للقبيح ، فيذكر فيه طريقا دون طريق! وإنّما أنكرنا إطلاقك أنّ العلم بما أوجبناه غير محتاج إليه ولا مفتقر في صحّة الاستدلال إلى تقدّمه ، وأنّه ليس يحتاج إلى أكثر من العلم بأنّ الفعل على خلاف العادة. وإذا اعترفت بأنّه لا بدّ من أن يأمن وقوعه من فاعل للقبيح ، فقد تمّ ما أردناه .
وسنتكلّم على فساد ما اعتمده- من إيجاب المنع من ذلك على اللّه تعالى- ونبيّن أنّه لا وجه لوجوبه فيما بعد ، بمشيئة اللّه تعالى.
قال صاحب الكتاب (54) ، بعد كلام قد تقدّم منّا إبطال ما فيه من شبهة :
«فإن قال : إنّ المفكّر إذا جوّز ذلك ، (و أن تكون نقلت ذلك) (55) إلى الرّسول صلّى اللّه عليه وآله ، على وجه لا يدلّ [على النّبوّة] (56) بل إرادة للمفسدة ، لأنّه يجوز أن يكون من فعل الملائكة ، وأنّ عادتهم جارية بهذا الحدّ من الفصاحة ، وإن كانوا يعصون ويجوز منهم الاستفساد. فكيف يصحّ مع هذا التجويز أن يقولوا إنّ الاستدلال به يصحّ ؟
ثمّ قال : قيل له : قد بيّنا أنّ ما هو عادة للملائكة قد يكون نقضا للعادة فينا. وقد صحّ أيضا أنّ نقل الملائكة الشيء إلى واحد دون آخر ، من باب نقض العادة (57) من الوجهين ، فلا يقدح (58) ذلك في دلالته على النّبوّة ، ولو كان ذلك يقدح في دلالة النّبوّة لوجب لو ادّعى النّبوّة وجعل الدّلالة على نبوّته طلوع الشّمس من مغربها ، بل حركة الأفلاك على خلاف عادتها وحصل ذلك ، ألّا يمكن الاستدلال به على النّبوّة؛ لتجويز المفكّر أنّ ذلك من فعل بعض الملائكة؛ لأنّ العقل (59) كما دلّ على أنّ مثل القرآن قد (يجوز أن) (60) يقدر عليه الملك ، فكذلك قد دلّ على أنّ (61) ما ذكرناه في الشّمس والفلك ، قد يجوز أن يقدر عليه الملك ؛ فإذا كان ذلك لا يقدح (62) في دلالتها (63) على النّبوّة من الوجه الّذي ذكرناه ، فكذلك (64) في القرآن ، فقد بطل ما سأل عنه».
الكلام عليه
يقال له : لا فرق بين ما ذكرته من حركة الشّمس في خلاف جهتها ، وحركة الأفلاك على غير عادتها إذا جوّزنا ، فرجع ذلك [بين] أن يكون من مقدور الملائكة وبين ما يظهر على مدّعي النّبوّة من الكلام الّذي يجوز أن يكون من مقدورهم ، في أنّ جميعه لا يدلّ على النّبوّة إلّا بعد العلم بأنّ الملائكة لم تعص في فعل ذلك ، على سبيل الاستفساد؛ لأنّ العلّة في كلّ واحدة.
وكيف ظننت أنّا نقول في حركة الأفلاك بخلاف ما قلناه في القرآن ، حتّى اعتمدت وجعلت أصلا فعل من لا خلاف عليه ، ولا نزاع فيما قرّره ؟
ولست تخلو فيما ادّعيته من دلالة حركة الأفلاك على النّبوّة- مع التجويز الّذي ذكرناه- من أن يسند إلى ضرورة أو إلى استدلال ، وما نظنّك تدّعي في ذلك الاضطرار؛ لأنّك تعلم أنّ الفرق بين ما يدلّ على النّبوّة وما لا يدلّ إلّا لا يعلم إلّا بدقيق النّظر وشديد التعب ، فلم يبق إلّا الاستدلال الّذي كان يجب أن نذكر وجهه ، لينتظم الوصفين معا.
ثمّ يقال له : أ يمكن النّاظر أن يستدلّ بما ذكرته من حركة الأفلاك وطلوع الشّمس ، مع تجويزه وقوع ذلك من فعل البشر ، وكونه من جملة مقدوراتهم ؟
فإذا قال : لا.
قيل له : وأيّ فرق بين البشر في هذا والملائكة إذا كان مجوّزا- قبل صحّة النّبوّة- على الملائكة المعاصي وفعل القبيح كما يجوّزهما على البشر؟! فإنّه لا يتمكّن من إيراد وجه يفسد به الاستدلال ، إذا كان مجوّزا لما ذكرناه في البشر إلّا وهو بعينه قائم ثابت في باب الملائكة.
فأمّا قوله في أوّل الفصل : «إنّ ما يجري به عادة الملائكة قد يكون ناقضا لعادتنا ، وأنّ نقل الملائكة الشيء إلى واحد دون آخر من باب نقض العادة» ، فصحيح ، غير أنّه لا ينتفع به ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ العلم بانتقاض العادة في هذا الموضع غير كاف مع التجويز ، لما تقدّم في صحّة الاستدلال.
وإنّما يكون ما ذكره- من أنّ عادة الملائكة لا تمنع أن تكون فينا نقضا للعادة- جوابا لمن قال : إنّ عادتنا لا تنتقض إلّا بما نعلم (65) خروجه عن عادة كلّ أحد من الخلق ، وهذا غير ما نحن فيه .
قال صاحب الكتاب (66) بعد سؤال وجواب لا طائل فيهما :
«فإن قال : إنّا نقول- فيما ذكرتموه في الشّمس والفلك- إنّه يدلّ على النّبوّة؛ لأنّ الملك لو أراد أن يفعله على طريق الاستفساد لكان تعالى يمنع منه».
وأجاب بأن قال : فكذلك القول في القرآن. وذكر أنّ هذا فصل بعد نقض العلّة ، لأنّ الاعتلال إنّما كان بأنّ تجويز وقوعه ممّن ليس بحكيم يمنع من الاستدلال به (67) .
الكلام عليه
يقال : ما نسألك عن السّؤال الّذي أوردته على نفسك ، ولا نعتلّ بما حكيته ، ونحن نعلم شدّة حرصك على أن يعتلّ مخالفك بما ذكرته؛ لتنتهز الفرصة في مقابلته بمثله (68) في الموضع الّذي وقع الخلاف فيه! ولا شيء أضعف وأظهر بطلانا من التّعلّق بمنع اللّه تعالى في الموضعين جميعا؛ لأنّه إيجاب عليه تعالى ما لا وجه لوجوبه .
قال صاحب الكتاب (69) :
«فإن قال : إنّ الباب في جميع ذلك واحد عندي (70) ، في أنّه يجب ألّا يدلّ على النّبوّات ، وإنّما يدلّ عليها ما لا يجوز حدوثه إلّا منه تعالى.
قيل له : قد بيّنا في باب مفرد أنّ ما يدخل (71) جنسه في مقدور العباد ، إذا وقع على وجه لم تجر العادة بمثله ، فحلّ (72) محلّ ما لا يدخل جنسه تحت مقدورهم ، إنّما يدلّ (73) على النّبوّة لخروجه في الحدوث عن طريق (74) العادة ؛ ولهذا الوجه لا يدلّ حدوث الثّمار وخلق الولد في الأرحام على النّبوّات ، ويدلّ على ذلك إحياء الموتى.
فإذا صحّ ذلك ، ووجدت هذه الطّريقة فيما يقدرون عليه في الجنس- إذا حدث على وجه مخصوص ، نحو تغيّر الأفلاك في حركاتها ، والشّمس والقمر في مطالعها ، إلى غير ذلك- فيجب أن يكون دالّا على النبوّات.
على أنّ هذا القول يوجب أن لا تعتبر (75) العادات إلّا فيما يختصّ تعالى بالقدرة عليه ، لأنّ على ما سأل (76) عنه ، إذا صحّ في هذه الأمور أن يحدث من الملائكة ، وجوّز قبل السّمع أن يفعلوا ذلك ويريدوا الفساد ؛ فيجب أن يكون ذلك قدحا في العادة ، وكونها جارية على حدّ واحد من الحكيم (77) .
ولو صحّ ذلك لما علمنا العادات ، فيما يختصّ تعالى بالقدرة عليه أيضا؛ لأنّا لا نرجع (78) في كلّ ذلك إلّا إلى طريقة واحدة».
الكلام عليه
يقال له : إنّك بدأت (79) بالسّؤال الّذي أوردته على نفسك ابتداء صحيحا ، ثمّ ختمته بما أفسدت به السّؤال جملة ، وطرّقت لنفسك كلاما تشاغلت به عن الفرض المهمّ الّذي يدار الخلاف عليه .
وقد قلنا فيما تقدّم : إنّ حركة الفلك وطلوع الشّمس- مع التّجويز الّذي ذكرناه- لا يدلّان (80) على النّبوّة كما لا يدلّ غيرهما ، وأنّ العلّة في الجميع واحدة.
إلّا أنّا لم نقل ذلك من حيث لم يدلّ على النّبوّة عندنا إلّا ما لا يجوز وقوع جنسه إلّا منه تعالى ، حتّى يكون جوابك لنا عنه : أنّك ثبت في فصل مفرد أنّ ما يدخل جنسه تحت مقدور العباد يجري مجرى ما لا يقدرون على جنسه ، في باب الدّلالة إذا كان خارقا.
وإنّما أبطلنا دلالة ما ذكرته على النّبوّة من الوجه الّذي تقدّم وتكرّر ، وهو أنّا لا نأمن أن يكون من فعل من يجوز أن يصدّق الكذّاب ، ولو أمنّا من ذلك لدلّ عندنا ، وإن كان جنسه مقدور العباد ، فقد صحّ أنّ التشاغل وقع بما لم ترده ، ولا يجدي نفعا.
وأمّا اعتبار العادة فيما يختصّ القديم تعالى بالقدر عليه فلا بدّ منه؛ لأنّ الاستدلال على النّبوّة يفتقر إليه ، حسب ما ذكرناه في ما تقدّم. فأمّا ما يجوز دخوله تحت مقدور من لا نأمن أن يفعل القبيح ، فإنّ اعتبار العادة والاستدلال بخرقها ، إنّما يصحّان متى (81) أمنّا أن يكون وقع من مستفسد فاعل للقبيح؛ لأنّا متى أمنّا ذلك عاد الأمر- في صحّة الاستدلال- إلى الوجه الّذي دلّ أنّ أحد الأمرين تعلّق بالآخر ، حتّى يقال : من فساد هذا فسد ذلك.
فإن قال : فكيف السّبيل إلى العلم- فيما يجوز دخوله تحت مقدور غير القديم جلّ وعزّ ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح من ملك أو جنّيّ- أنّه لم يقع إلّا منه تعالى ، حتّى يستدلّ به على النّبوّة؟
وإذا كان لا سبيل إلى ذلك عاد الأمر إلى أنّ الّذي يدلّ على النّبوّات ، هو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه؛ وبطل قولكم إنّ ما يشاركه في القدرة على جنسه قد يدلّ أيضا.
قيل له : قد يمكن ذلك بأن يعلم من الأمر الظّاهر كالقرآن مثال أنّه متعذّر على البشر ، إذا تحدّى به فصحاءهم فقعدوا عن معارضته ، مع توفّر الدّواعي وقوّة البواعث. ويعلم أنّ حكم من ليس بفصيح منهم حكم الفصحاء في التّعذّر لا محالة.
ويعلم أنّه ليس من فعل ملك ولا جنّيّ ، بأن يكون اللّه تعالى قد أعلمنا على يد بعض رسله؛ فمن أيّده بمعجز خارج عن أجناس مقدورات جميع المحدثين ، كفعل الحياة واللّون واختراع الجسم ، يبلغ ما ينتهي إليه الملائكة والجنّ في الفصاحة ، وأنّ عادتهم فينا كعادتنا ، والغايات التي ينتهون إليها لا تجاوز غاياتنا؛ فحينئذ يصحّ الاستدلال به على النّبوّة ، وإن كان جنسه مقدورا لغير اللّه تعالى.
قال صاحب الكتاب (82) ، بعد أن أعاد السّؤال الّذي يتضمّن الاعتلال بأنّ اللّه تعالى يمنع من جميع ذلك ، لما فيه من الاستفساد :
«و أجاب عنه بأنّ هذا الوجه قائم في القرآن ، فيجب لو كان من فعل (83) غيره- على طريق الاستفساد- أن يمنع منه .
وذكر أيضا : أنّ من لم يخطر ذلك بباله ، قد (84) يمكنه الاستدلال (85) .
فإن قال : فهل يجوز أن يدلّ ذلك على النّبوّة ، إذا كان من فعل الملك على وجه ؟
ثمّ قال : قيل له : لا يمتنع أن يدلّ على ذلك ، حتّى لا يفترق الحال بين أن يكون من قبله [تعالى] (86) وبين أن يكون من فعل الملك؛ وإنّما منعنا فيما تقدّم أن يكون من فعله على جهة الاستفساد ، وأوجبنا أن يمنع القديم تعالى من ذلك.
فأمّا على غير هذا الوجه فلا يمتنع (87) ؛ لأنّه لا فرق بين أن يقلب تعالى عادة الملائكة في أن يحدثوا خلافها ، أو يحدث فيهم خلاف ذلك ، إذا ثبت أنّهم يطيعون ويستمرّون على ذلك ؛ لأنّ عادتهم على هذا الوجه كالعادة الثانية (88) ، من جهة الحكم (89) ؛ فإذا جرت عادة الملك في أن يحرّك الفلك على طريقته (90) ؛ ثمّ انتقض ذلك علم أحد أمرين :
إمّا أنّه تعالى ألجأه وأحدث خلاف ما جرت به العادة في عليّته (91) ، أو غيّر دواعيه الّتي تتبعها العادات.
وكذلك القول في القرآن إنّه (92) إذا أنزله الملك ، وأوصله- عند ادّعاء الرّسول النّبوّة- إليه ، حتّى ظهر؛ فلا بدّ من أن يكون فيه (93) نقض عادة (على أحد الوجهين اللّذين ذكرناهما.
وعلى هذا الوجه قال شيوخنا : إنّ نزول الملك على الرّسول معجز لذلك الملك الّذي هو رسول إليه عن اللّه تعالى؛ وإن كان النزول من فعله لما كان عندهم يتضمّن من نقض العادة.
وما ذكرناه ، فإن اتّفق مع ذلك أن ينزل على خلاف صورته فقد انضاف إليه معجز آخر؛ لأنّ العادة لم تجر بمثله (94)
وعلى هذا الوجه تعدّ مشاهدته صلّى اللّه عليه وآله لجبرئيل عليه السّلام نقض عادة (95) ؛ لأنّها لم تجر بذلك ، وكلّ ذلك يصحّح (ما ذكرناه من قبل) (96) .
وإنّما يجب في المعجز (97) أن يكون في حكم الواقع من قبله تعالى ، حتّى يصحّ أن يكون بمنزلة التّصديق ؛ وقد يكون كذلك بأن يحدث وبأن يعلّق (98) بأمر حادث من قبله ، على بعض الوجوه .
ولو أنّ الواحد منّا قال لزيد : أنا رسول عمرو إليك ، فطالبه بالدّلالة ، لكان إذا أقبل على (99) عمرو فقال : إن كنت رسولك فصدّقني (أو حرّك يدك) (100) على رأسك ، أو قل لعبيدك وأولادك- الّذين تعلم من حالهم أنّهم يصدرون فيما يفعلون عن رأيك ، ولا يخالفونك- أن يصدّقوني فيما ادّعيت ، فوقوع ذلك منهم ، والحال (101) ما ذكرناه ، كوقوع التّصديق من قبله ، فكذلك القول فيه تعالى».
الكلام عليه
يقال له : قد عرّفناك أنّا نرتضي السّؤال الّذي كرّرت إيراده على نفسك ، ولا تعقل ما تضمّنه بوجه من الوجوه .
وقولك : «إنّ من لم يخطر ذلك بباله قد يمكنه الاستدلال» ، ليس يخلو من أن تريد به : أنّ من لم يخطر بباله ، هل القرآن متقدّم الحدوث؟ أو حادث في الحال ؟ أو المنزل له على الرّسول بعض الملائكة ، واللّه تعالى المتولّي لذلك ، بعد أن يكون آمنا من أن يكون المنزل له- من الملائكة ، أو المحدث له منهم إذا كان مجوّزا بحدوثه من جهتهم- من عصى اللّه في إنزاله وإحداثه على سبيل الاستفساد ؟
وتصديق من ليس بصادق ، يمكنه الاستدلال به على النّبوّة ، ولا يضرّه إلّا أن يكون عالما بحصول بعض الأحوال الّتي ذكرناها.
أو تريد أنّ من لم يخطر بباله هذه الأمور ، يكون متمكّنا من الاستدلال به على النّبوّة ، مع أنّه لا يأمن أن يكون المحدث له- من الملائكة أو المنزل له- قد عصى في إحداثه أو إنزاله ، وصدّق به من لا يجب تصديقه .
أو مع تجويزه ، أن يكون من ظهر على يده هو النّاقل له إلى نفسه عمّن جعله اللّه تعالى علما على صدقه .
فإن أردت الأوّل فهو صحيح لا شبهة فيه ، والّذي أنكرناه غيره .
وإن أردت الثّاني فقد بيّنا بطلانه ، ودللنا على أنّ الاستدلال لا يصحّ مع قيام هذا التّجويز ، وقلنا : إنّه لا فرق بين من قال ذلك وبين من قال : إنّ من لم يخطر بباله في الفعل الّذي يظهر على مدّعي النّبوّة ؛ هل هو من جملة مقدور البشر- فيما يتمكّنون من فعله- أم ليس كذلك ؟ يمكنه الاستدلال به على موته (102) ، وأنّ فقد هذا العلم لا يضرّ باستدلاله ؟
وكذلك من لم يخطر بباله : هل القديم تعالى غير محتاج ، وهل يجوز أن يفعل القبيح أم لا يمكنه الاستدلال على النّبوّة ، بما يعلم ظهوره من جهته على مدّعي النّبوّة ، إذا علمه خارقا للعادة ؟
وليس يمكن أحدا أن يفسد دلالة ما ذكرناه على النّبوّة بشيء إلّا وهو بعينه يفسد الدّلالة بما خولفنا فيه .
فأمّا قوله : «إنّه لا فرق بين أن يتغيّر العادة في حركة الفلك بفعل القديم تعالى ، أو بفعل الملك في باب الدّلالة على النّبوّة ، بعد أن نعلم أنّ الملائكة لا يعصون ولا يستفسدون» ، فصحيح غير منكر ، ولا فرق بين أن يعلم من حالهم أنّهم لا يعصون ولا يستفسدون بما أوجبه- من المنع الّذي لا يجب عندنا- أو بغيره؛ لأنّ الفرض وقوع الأمان من ذلك.
وهذا القول في إنزال الملك بالقرآن إلى الرّسول ، متى ثبت الأمان من الحال الّتي ذكرناها ، يكون دالّا على النبوّة ؛ وتكون عادة الملائكة- إذا علمنا أنّهم لا يعصون- كالعادة الثّانية من جهة القديم تعالى ، في أنّ خرقها يكون دالّا.
والمثل الّذي ضربه- فيمن ادّعى منّا على غيره أنّه رسوله ، وأنّه لا فرق بين أن يصدّقه هو نفسه ، أو يأمر بعض عبيده بتصديقه- صحيح أيضا ، وإنّما يكون هذا المثل مشبها لما أنكرناه لو صدّقه من عبيده وأولاده من لم يعلم أنّه أمره بتصديقه ، ولا أمنّا منه أن يعصيه ويفعل خلاف مراده .
وكلام صاحب الكتاب الآن يخالف ما تقدّم؛ لأنّه لم يشترط فيما أطلقه أوّلا- من أنّه لا معتبر إلّا بوقوع الفعل على خلاف العادة- أن يأمن أن يكون واقعا أو منقولا ، بمستفسد عاص للّه تعالى ، ولو شرط ذلك لأراح نفسه وأراحنا من التّعب.
قال صاحب الكتاب (103) :
«فإن قال : كيف يصحّ في القرآن- وقد تقدّم من اللّه تعالى حدوثه (104) قبل بعثة الرّسول بزمان- أن يدلّ على النبوّة؟ أ تقولون : إنّه الدالّ على النبوّة ، أو إنزال الملك به ، أو تمكّن (105) الرّسول عليه السّلام من إظهاره ؟
فإن قلتم : إنّ الّذي يدلّ عليه هو نفس القرآن ، فتقدّم حدوثه منه تعالى يمنع من ذلك.
وإن قلتم : إنّه يدلّ من الوجهين الآخرين (106) ، أدّى إلى أن يكون الدالّ على نبوّته فعل الملك ، أو فعل الرّسول ، على وجه لا يتعلّق بفعله تعالى! ثمّ قال : قيل له : إنّ ظهور القرآن- عند ادّعاء (107) النّبوّة- من قبله هو الدالّ ، وهذا كما نقول (108) : إن الفعل هو الدالّ على حال الفاعل ، لكنّه إنّما يدلّ لتعلّقه به .
فكذلك القرآن (لا بدّ من أن يكون) (109) له تعلّق به وبدعواه ، ولا يكون كذلك إلّا بظهوره (110) من قبله ، أو من قبل الملك ، أو كأن (111) يحدث على حدّ الابتداء؛ وإن كان ذلك لا يعلم من حاله إلّا بعد الاستدلال به على نبوّته ، فيعلم من بعد أنّه تعالى (112) أحدثه ، ولم يكن من قبل حادثا ، أو أنّه عليه وآله السّلام أحدثه بأن مكّن من علوم خارجة عن (العادة الّتي كانت للعرب) (113) .
وعلى كلّ حال ، فتقدّم وجوده لا يمنع من صحّة كونه دالّا ، كما أنّ تقدّم الإقدار على نقل الجبال وقلب المدن لا يمنع عند ظهور ذلك من قبل المدّعي للنّبوّة ، من كونه دالّا ، وإن كان قد تقدّم وجوده .
وهذا بيّن؛ لأنّه تعالى إذا فعل زيادة القدر لهذا الوجه ، ثمّ ظهر بالفعل عند ادّعاء النبوّة ، فكأنّه فعله في الحال. فكذلك لا فرق بين أن يقدّم إحداث القرآن ، أو يحدثه في حال ادّعائه النبوّة في الوجه الذي ذكرناه ، فكأنّ (114) دلالته لا تتكامل إلّا (بظهوره عند ادّعاء النبوّة ، كما أنّ دلالة زيادة القدر لا تتكامل إلّا) (115) بظهور الفعل.
ولا (116) فرق بين أن يفعل تعالى عند الدّعوة نفس الدّلالة ، وبين أن يقدّمها لهذا الغرض وتتكامل (117) في (118) هذه الحال في أنّ دلالته لا تتغيّر.
فإن أراد مريد بعد ذلك أن يقول : إنّ الّذي يدلّ على النبوّة القرآن من حيث ظهر على الرّسول صلّى اللّه عليه وآله . أو قال : يدلّ من حيث اختصّ بالعلم العظيم به . أو قال : يدلّ من حيث أنزله الملك.
فلا (119) يخرج ذلك القرآن من أن يكون دليلا ، وإن جوّز في (وجه ، لأنّه) (120) واحد من هذه الوجوه».
الكلام عليه
يقال له : قد مضى الكلام على من ظنّ أنّ القرآن يكون دالّا على النّبوّة ، مع تجويز النّاظر في وجه دلالته أن يكون انتقاله أو حدوثه ، ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، ويصدّق الكذّاب ، وبقي أن نبيّن كيفيّة دلالة القرآن ، إذا علم تقدّم حدوثه قبل بعثة الرّسول ، مع الأمان من أن يكون حدوثه أو انتقاله واختصاص المختصّ به من فاعل يجوز عليه الاستفساد.
وهذه المسألة في القرآن- على الحقيقة- ساقطة عنّا وغير متوجّهة على مذهبنا ؛ لأنّ المعجز عندنا- القائم مقام التّصديق- هو : الصّرف عن معارضة القرآن ، وذلك حادث ومتجدّد عقيب الدّعوى.
ولا فرق في صحّة دلالة ما ذكرناه بين تقدّم حدوث القرآن وبين تأخّره ، إلّا أنّ الأمر في القرآن وإن كان على ما قلناه ، فقد كان يجوز عندنا أن يكون خارقا لعادتنا بفصاحته ، ويكون تعذّر معارضته على الفصحاء من حيث لم تجر عادتهم بمثله إلّا للصّرف في الحال ، ويصحّ ذلك على وجهين :
إمّا بأن يكون أزيد ممّا هو عليه من الفصاحة ، حتّى يظهر التّفاوت بينه وبين كلّ كلام فصيح ، أو بأن تكون منازل الفصحاء فيما يفعلونه من الفصاحة دون ما هي عليه الآن.
وإذا كان هذا التقدير عندنا صحيحا لزمنا أن نبيّن كيفيّة القول في دلالته ، إذا كانت حاله هذه ، وتقدّم حدوثه ، وصار ما يمرّ من خصومنا على مذهبهم الثّابت في القرآن من الجواب ، يلزمنا على سبيل التقدير (121) .
لقائل أن يقول في هذا الوجه : قد علمتم أنّ المعجز الدالّ على صدق النّبيّ المدّعي للرّسالة لا بدّ أن يكون من فعل اللّه تعالى- لأنّه هو الّذي يجب أن يصدّقه في دعواه عليه ، ويفعل ما يجري مجرى قوله له : صدقت في ادّعائك رسالتي- فليس يجوز أن يكون إنزال الملك بالقرآن- إذا كان قد تقدّم حدوثه- هو العلم المعجز الواقع موقع التّصديق. ولهذا الوجه لا يجوز أن يكون إظهار الرسول صلّى اللّه عليه وآله له إلينا هو المعجز.
ولا فرق بين أن يكون ناقلا له وحاكيا إذا فرضنا تقدّم حدوثه ، وبين أن يكون هو المبتدئ بإحداثه في أنّ الأمرين إذا عادا (122) فيه إلى فعله ، لم يصحّ أن يكون هو المعجز على الحقيقة.
ولا يجوز أن يكون القرآن نفسه هو العلم الدالّ على النّبوّة إذا كان متقدّم الحدوث؛ لأنّه إنّما يدلّ عليها إذا وقع موقع التّصديق ، والتّصديق لا يصحّ إلّا بعد تقدّم الدّعوى الّتي يتعلّق بها؛ ولهذا يجعلون وقوع الدّعوى وطلب التّصديق وحصول الإجابة على الوجه المطلوب يجري مجرى المواضعة في الحال. ويقوم مجموع هذه الأمور- في باب الدّلالة- مقام تقدّم المواضعة ، فكيف يصحّ مع ذلك أن يكون الأمر الواقع موضع التّصديق متقدّما للدعوى ؟! وهو إنّما يكون تصديقا ، إذا وقع عقيب الدّعوى ، وإجابة للطّلب.
أو لستم أيضا تفصلون بين ما يقع من انتقاض العادات بعد زوال التكليف ، وبين ما يقع في حال التكليف ، في باب الدّلالة على النبوّة ، بأن تقولوا : إنّ الواقع في دار التكليف إنّما دلّ؛ لوقوعه مطابقا لدعوى مدّع للرّسالة ، وليس ذلك فيما يقع عند قيام السّاعة ، وانقطاع التكليف؛ فليس يصحّ على حال من الأحوال أن يتقدّم حدوث القرآن ، ويكون هو بعينه القائم مقام التّصديق.
وهكذا القول في تقدّم الإقدار على نقل الجبال وسائر الأفعال الخارقة للعادات؛ لأنّه لا يجوز أن يتقدّم ذلك دعوى النّبوّة ، ويكون متعلّقا بها تعلّق التّصديق ، ولا الفعل الواقع بتلك القدر يصحّ أن يكون بهذه الصّفة ، لجميع ما تقدّم.
والجواب عن ذلك : أنّ القرآن إذا علمنا حدوثه في السّماء قبل نبوّة الرّسول صلّى اللّه عليه وآله ، وأنّ الملك كان ينزله عليه ، فالمعجز في الحقيقة- الواقع موقع التّصديق- هو أمر اللّه تعالى للملك بإنزاله إليه؛ لأنّ العادة لم تجر به ، وهو من فعله تعالى.
وليس يجوز [أن يكون] المعجز في هذا الوجه القرآن نفسه ، ولا إنزال الملك به ، لما ذكرناه في السّؤال.
ولو كان القرآن ممّا تقدّم حدوثه ، وكان اللّه تعالى هو المخاطب به الرّسول عليه وآله السّلام والمتولّي لإنزاله عليه ، كان إنزاله على هذا الوجه هو المعجز ، وفارقت حاله حال إنزال الملك به .
وكذلك لو كان القرآن من فعل الرّسول صلّى اللّه عليه وآله بأن مكّنه اللّه تعالى من علوم لم تجر بها العادة ، كان المعجز اختصاصه بتلك العلوم الّتي لم تجر بها العادة.
فليس يصحّ على ما ذكرناه ، أن يكون حدوث القرآن هو المعجز والدّالّ على التّصديق ، إلّا بأن نعلمه حادثا من اللّه تعالى في حال ادّعاء النبوّة؛ فكان المعجز- على ما يحصل من كلامنا- هو ما يفعله اللّه عقيب الدّعوى ، على وجه لم تجر به العادة ، ليصحّ أن يتعلّق بها التّصديق.
وليس لأحد أن يقول : من أين تعلمون إذا كان الملك لا ينزل القرآن إلّا بأمر اللّه تعالى أنّ أمره بإنزاله إنّما كان حادثا عند ادّعاء الرّسالة ؟ ولعلّه أمره متقدّما بذلك ، وإن فعله الملك بعد الدّعوى.
فإن تقدّم الأمر فيما هذه سبيله لا يمتنع ، وذلك أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله القرآن ، إذا كان القصد به تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه وآله ، دون غيره من الوجوه الّتي يجوز أن يفعل من أجلها- لأنّه لا يجوز أن يخصّه بأمر لم تجر به العادة إلّا على سبيل التّصديق له ، وعلمنا أنّ تصديقه لا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم منه الدّعوى ليقع التّصديق مطابقا لها ، وليكون متعلّقا بها- فقد وجب القطع على أنّ أمره تعالى للملك بإنزاله لا بدّ أن يكون متجدّدا عند تجدّد الدّعوى ، وواقعا عقيبها ، ليتمّ الغرض المقصود.
وهذا بعينه جوابنا لمن قال : ألا أجزتم أن يتقدّم تمكين اللّه للرّسول صلّى اللّه عليه وآله من فعل القرآن بفعل العلوم فيه زمان النّبوّة ؟! وما المانع أيضا من أن يتقدّم الإقدار على نقل الجبال ، وقلب المدن وما أشبههما ؛ وإن وقع الفعل من المدّعي النّبوّة في الحال ، ويكون القصد بذلك- وإن تقدّم- إلى التّصديق ؟! لأنّا إذا كنّا قد بيّنا أنّ ما هو مقصود به من التّصديق لا يتمّ ولا يصحّ إلّا بعد أن تتقدّم الدّعوى ، وأنّ تقدّمها (123) بغير التّصديق لا (124) يجوز ، فقد صحّ ما قلناه وبطل جميع ما ذكره صاحب الكتاب في الفصل.
قال صاحب الكتاب (125) :
فإن قال : إذا جوّز في القرآن أن يكون منقولا إليه على هذا الوجه عند استدلاله ، فيجب أن يجوّز (126) أن يكون (127) ظهر على بعض النّاس ، أو بعض من يعصي ويستفسد ، ثمّ نقله هو إلى نفسه ، أو نقله غيره إليه (128) ، فلا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة ، لأنّكم قد ذكرتم أنّه (129) إنّما يدلّ على النّبوّة إذا كان حادثا من قبله تعالى ، أو من قبل الرّسول صلّى اللّه عليه وآله ، بأن (130) يصدر عن علوم خارقة للعادة يحدثها [اللّه تعالى] (131) فيه عليه السّلام ، أو بأن يكون واقعا من ملائكة ، قد علم من عادتهم أنّهم لا يفعلون ما هو استفساد.
فإذا كان كلّ ذلك منتفيا (132) فيما ذكرناه ، فيجب إذا جوّزه ألّا يصحّ أن يستدلّ به على النّبوّة.
ثمّ قال (133) : قيل له : لا يخلو من يسأل عن هذه المسألة من أن يكون مسلّما لنا أنّه معجز ناقض للعادة ، فإن (134) سلّم ذلك فلا وجه لهذا الطعن (135) للطّعن.
ثمّ قال : فإن قال : إنّي أسلّم أنّه معجز لنبيّ ما ، ولست أسلّم أنّه ممّا يصحّ أن يستدلّ به على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، فلا فرق بين أن لا يثبت لكم ذلك- مع ثبوت كونه معجزا ، أو مع بطلان كونه معجزا- في أنّ غرضكم لا يتمّ.
قيل له : إذا صحّ أنّه معجز فلا بدّ أن يكون ظاهرا على رسول ، فلا بدّ من أن يكون تعالى كما لا يجوز أن يظهره على كذّاب ، فكذلك لا يجوز أن يمكّن منه من يكذب في ادّعاء النبوّة ، لأنّ الاستفساد في الوجهين قائم ، لأنّ ما لأجله لا يظهره على كذّاب هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق في ظهور ذلك عليه ، ولا بدّ من أن (يكون تعالى يميّز) (136) بينهما.
فكذلك إذا أمكن منه المتنبّي (137) ، فقد حصل مثل هذه الصفة ، فيجب أن يقع من جهته تعالى المنع منه (138) ؛ لأنّ الدّلالة قد دلّت على أنّه تعالى كما (139) لا يفعل الاستفساد ، فكذلك يمنع منه في التّكليف ، وأحد الأمرين كالآخر في هذا الباب».
ثمّ سأل نفسه عن الشّبه الّتي يدخلها المكلّف على نفسه وعلى غيره في الأدلّة ، وأنّه إذا لم يجب على اللّه تعالى المنع منها ، وإن لم يجز أن يفعلها فألّا جاز مثله في باب المعجز؟ (140)
وأجاب عن ذلك : بأنّه تعالى قد مكّن من إزالة الشّبه (141) ، بما نصب من الأدلّة ، ولو مكّن في المعجز ممّا سئل عنه ، لم يكن للمكلّف طريق إلى غير تمييز المعجز ممّا ليس بمعجز ، والحجّة من الشّبهة.
الكلام عليه
يقال له : نحن نسلّم لك أنّ القرآن نفسه يصحّ كونه معجزا ودالّا على صدق من ظهر عليه ، لكن إنّما نعلم ذلك فيه متى علمنا أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّ به مدّعي النّبوّة. وسنبيّن فيما يأتي ما يصحّ أن يكون الطريق إلى العلم بما ذكرناه .
فأمّا التّسوية بين إظهار المعجز على الكذّاب ، من حيث كان دلالة التّصديق وقائما مقامه؛ فإذا لم يجز أن يصدّق الكذّاب قولا- لأنّ تصديقه قبيح- لم يجز أن يفعل ما يجري مجراه ويقوم مقامه ، وليس في تمكين الكذّاب منه دلالة على تصديقه .
على أنّ هذا القول يقتضي أن يكون التمكين من الشّيء يجري مجرى فعله ، ويجب على من اعتمده أن يمنع من تمكين اللّه تعالى من فعل القبيح وسائر ضروب الشّبهات ، كما يمنع من أن يفعل ذلك. وإلّا فإن جاز أن يمكّن من القبيح والشّبهات ولم يجز أن يفعلهما ، جاز أيضا أن يمكّن الكذّاب من تناول المعجز وادّعاء النّبوّة به .
وإن لم يجز أن يظهره على كذّاب ، هو أنّه لا يتميّز من الرّسول الصّادق خطاء ، لأنّ العلّة لو كانت ما ذكرناه لكان لمن خالف في أصل النّبوّات أن يقول : وأيّ شيء في ارتفاع تمييز الصّادق من الكذّاب من طريق الدّلالة ، إذا لم يكن لذلك وجه في العقول ، ولا عليه دلالة؟! فدلّوا أوّلا على أنّ المعجز دالّ على الصّدق في بعض المواضع ، ليصحّ أن يمنعوا من ظهوره غير دالّ عليه ، ويقولوا : إنّه يقتضي التباس الصّادق بالكاذب.
والرّجوع إلى ما ذكرناه في المنع من ظهور المعجز على الكذّاب هو الصّحيح.
على أنّ ما ذكرناه لو كان صحيحا نصّا وواقعا في المنع من إظهار المعجز على من ليس بصادق موقعه ، لم يكن ما بناه عليه صحيحا؛ لأنّه ظنّ أنّ المعجز إذا مكّن اللّه تعالى منه المتنبّي ، فقد ارتفع طريق التمييز بين الصّادق والكاذب- كما يكون مرتفعا لو أظهره على يده- ليس لأمر كما ظنّه؛ لأنّ الطّريق إلى تمييز الصّادق من الكاذب باق مع تجويز ما ذكرناه ، وهو بأن يظهر على يد المدّعي ما يعلم أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به ، وأيّده بإظهار عليه .
وليس هذا استفسادا كما قال؛ لأنّه تعالى قد مكّننا من ألّا ننفسد بما يجري هذا المجرى ، ودلّنا على أنّه لا يحسن منّا تصديق من لم يعلم أنّه تعالى هو المصدّق له .
وأيّ استفساد يرجع إلى اللّه تعالى؟ وإنّما المستفسد لنا من أظهر ما لم يخصّه اللّه تعالى به ، وادّعى من الاختصاص ما ليس بصادق فيه .
فأمّا المنع من الاستفساد فلا يجب بأكثر من الأمر والنهي اللّذين لا ينافيان التّكليف ، فمن ادّعى فيها زائدا على ما ذكرناه وأوجبه على اللّه تعالى فقد أوجب على اللّه تعالى ما لا وجه لوجوبه .
والفرق بين أن يمكّن من الاستفساد ولا يمنع منه المنع الّذي يرتفع معه ، وبين أن يفعله هو الفرق بين أن يمكّن من القبيح ولا يمنع (142) منه ، وبين أن يتولّى فعله (143) .
ثمّ يقال له (144) : خبّرنا أ ليس قد ضلّ بما ظهر من ماني (145) ، وزرادشت (146) ، والحلّاج (147) ، ومن أشبههم من ذوي المخاريق والنّواميس (148) خلق كثير ، واعتقدوا نبوّتهم وصدقهم ، وكذلك القول في إبليس ومن هلك بغوايته ، وضلّ بوساوسه ؟! فلا بدّ من : نعم.
فيقال له : أو ليس القديم تعالى قادرا على منع جميع هؤلاء من تلك الأفعال المضلّة والحيلولة بينهم وبينها ؟! فلا بدّ من الاعتراف بذلك ، لأنّه تعالى قادر لا يعجزه شيء.
فيقال له : فألّا منعهم ؟! وهل يلزم إذا لم يمنعهم جواز أن يفعل مثل تلك الأفعال القبيحة؟ ثمّ هل يكون مستفسدا للمكلّفين بتمكينهم منها ؟
فإن قال : إنّما لم يجب عليه تعالى أن يمنعهم ، ولا كان مستفسدا لهم من حيث كان قد مكّنهم من أن لا يفسدوا بشيء من ذلك ، ولا يغترّوا به بما نصبه من الأدلّة وأظهر من الحجج؛ فالضّالّ منهم إنّما دهي من قبل نفسه ؛ لأنّه لو أنعم النظر في تلك الأفعال لعلم أنّها مخاريق وأباطيل ، فإنّ اللّه تعالى لم يتولّها ولا أراد فعلها ، وإنّه إنّما يريد من المكلّف أن يصدّق من علم ظهور ما له صفة المعجز في التّخصيص عليه .
قيل له : فهذا جوابك بعينه عمّا ألزمته ، فتأمّله؛ لأنّ اللّه تعالى قد مكّن المكلّف بالأدلّة الواضحة من أن يفرّق بين من ظهر على يده ما لا يعلم أنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به ، وبين من يعلم ذلك من حاله ، وأوجب عليه تكذيب الأوّل وتصديق الثاني ، فمتى لم ينصح نفسه ، وقصّر في النّظر ، واشتبه عليه الأمر كان اللّوم عليه ، واللّه تعالى بريء من عهدته .
فإن قال : أرى كلامك هذا مخالفا للأصول الّتي قرّرها الشّيوخ في باب الاستفساد ، لأنّهم (149) أوجبوا منع القديم تعالى من الاستفساد ، كما أوجبوا أن لا يفعله ، ولم يفرّقوا بين الأمرين ، ولم يجر عندهم مجرى غيره من ضروب القبائح ، بل أجازوا فيما لم يكن استفسادا من القبيح ألّا يمنع تعالى منه ، وإن لم يجز أن يفعله فكيف ألحقتم أحد الأمرين بالآخر ؟
قيل له : ليس الاستفساد- أوّلا- هو : ما وقع عنده القبيح والفساد ، لكنّه ما وقع عنده الفساد من المكلّف ، ولو لاه لاختار الصّلاح من غير أن يكون تمكينا من الأمرين ، بل يكون المكلّف متمكّنا من الصّلاح والفساد مع عدمه ، كما هو متمكّن منهما مع وجوده . وهذا ما لا خلاف بيننا فيه .
وقد علمت أنّ أبا هاشم (150) يجيز أن يقوّي اللّه تعالى شهوة المكلّف ، فيصير فعل الواجب والامتناع من القبيح عليه شاقّا ، ويستحقّ من الثّواب عليهما أكثر ممّا كان يستحقّه لو لم يكن بهذه الصّفة ، وإن كان في معلومه تعالى أنّ المكلّف (151) عند زيادة الشّهوة وقوّتها يفعل [المعصية] (152) ولا يختار الطّاعة ، وأنّه لو ضعّف شهوته ولم يزد فيها ، لا يقع منه (153) المعصية ، ويجعل هذا من باب التمكين ، لا باب الاستفساد.
ويقول في غواية إبليس مثل ذلك ، ويجيز أن ينفسد عندها من لو لاها لم يفسد ، بعد أن يكون الحال على ما قدّرناه في زيادة الشّهوة وكثرة ما يستحقّه على الامتناع من الثّواب؛ وإن كان أبو عليّ (154) يخالف في هذه الجملة ، ويلحق هذين الأمرين بباب الاستفساد. وعلى مذهبهما جميعا يصحّ ما قدّمناه من كلامنا.
أمّا على مذهب أبي هاشم الذي حكيناه فلا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في تمكين المكلّف المتنبّئ (155) من تناول القرآن وادّعاء النّبوّة زيادة مشقّة على المكلّفين في النظر وتمييز الصّادق من الكاذب ، يستحقّون لأجلها من الثّواب أكثر ممّا كانوا يستحقّونه مع فقدها ، فلا يجب أن يمنع تعالى منه؛ لأنّه خارج من باب الاستفساد عنده ، داخل في باب التّمكين والتّعريض لزيادة الثّواب.
ويلحق هذا الوجه- على مذهبه بتقوية الشّهوة- بتمكين (156) إبليس من الغواية والإضلال ، وتمكين من ذكرناه أيضا من ماني وزرادشت وغيرهما من مخاريقهم المضلّة ونواميسهم المفسدة.
وأمّا على مذهب أبي عليّ فهو أيضا صحيح مستمرّ؛ لأنّ أبا عليّ يقول : إنّما مكّن اللّه تعالى إبليس من الغواية والدّعاء إلى الفساد ، ولم يمنعه من ذلك من حيث علم تعالى أنّ كلّ من انفسد بدعائه وإضلاله قد كان ينفسد لولاهما. ويقول : لو لا هذا لمنعه من أفعاله ، ولم يمكّنه منها.
وعلى هذا ، غير ممتنع أن يعلم تعالى أنّ جميع من يضلّ ويفسد عند تمكين المتنبي بما ذكرناه ، قد كان لو لا هذا التمكين يضلّ أيضا ويفسد ، وأنّه ليس يحصل مع تمكينه من الفساد والضّلال إلّا ما كان سيحصل لولاه .
فيصير جواب أبي عليّ- عن غواية إبليس ، وعن تمكين من ذكرناه من الكذبة الممخرقين من أفعالهم- هو جوابها بعينه لمن أوجب أن يمنع القديم تعالى ما (157) أجزناه .
وهذه الطّريقة الّتي سلكناها- في إبطال قول من أوجب على القديم تعالى المنع ممّا ذكرناه ، لما ظنّه من الاستفساد- تبطل أيضا قول من أوجب عليه تعالى منع الملائكة أو الجنّ من فعل ما تنخرق به عادتنا ، على سبيل التّصديق للكذّاب ، على ما مضى من كلام صاحب الكتاب المتقدّم.
وتبطل قول من أوجب منعه تعالى من أن ينقل هذا الكتاب ناقل إلى بعض البلدان البعيدة الّتي لم يتّصل بأهلها دعوة نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ، ولم يسمعوا بأخباره ، فيدّعي به هناك النّبوّة ، على ما اعتمده صاحب الكتاب فيما يأتي من كلامه؛ لأنّ مرجع كلّ ذلك إلى التّعلّق بالاستفساد الّذي قد كشفنا ما فيه وأوضحناه .
قال صاحب الكتاب (158) : (159)
فإن قال : ومن أين أنّ ذلك لو وقع كان لا يتميّز من الحجّة ؟ بل ما أنكرتم أنّه إنّما يكون حجّة ، إذا علم أنّه لم يحدث إلّا عند دعواه ، فمتى (160) حصل له هذا العلم زال التّجويز الّذي ذكرناه ، ويصحّ أن يستدلّ به .
وليس كذلك إذا كانت الحال ما ذكرتم ، لأنّه مع تجويزه أن يكون قد أخذ من غيره ، لا يحصل (161) له العلم ، فيعلم أنّه لم يتكامل (له شروط دلالته) (162) ، فينفصل عنده من الحجّة ، كانفصال سائر الأدلّة من الشّبه .
ثمّ قال : قيل له : قد بيّنا أنّ علم المكلّف بأنّه حدث عند ادّعاء النبوّة ، (على خلاف العادة) (163) ، يكفي في صحّة الاستدلال.
وبيّنا أنّ العلم الّذي سأل عنه ، لو كان شرطا لكان لا يتمّ الاستدلال بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، إلّا بعد أن يعلم أنّ حدوث ذلك لا يجوز أن يكون بالانتقال (164).
فإذا لم يجب ذلك ، وصحّ الاستدلال بها لمن لم يخطر (ذلك له) (165) بالبال ، فقد بطل كون هذا العلم شرطا.
على أنّ هذا العلم لو كان شرطا ، لم يخل من أن يكون طريقه الاضطرار أو الاستدلال :
فإن كان طريقه (166) الاضطرار فيجب أن يكون له طريقة يعلم عندها ، ولا طريق يشار إليه يعلم عنده أنّ القرآن لم يظهر إلّا على الرّسول صلّى اللّه عليه وآله عند ادّعائه النبوّة ، وأنّه لم يظهر على أحد من قبل.
وكذلك فلا يصحّ فيه الاستدلال؛ لأنّه لا دليل يدلّ على أنّه لم يظهر إلّا عليه ، كما يدلّ الفعل (167) على أنّه من قبل فاعله؛ لأنّ ذلك إنّما يصحّ فيه لما كان فعله حادثا من قبله ، فعلم أنّه لم يحدث إلّا منه بالدّليل الّذي نذكره في هذا الباب.
والقرآن ؛ فليس من فعله على الحدّ الّذي يكون معجزا ، فكيف يمكن أن يستدلّ به على أنّه لم يظهر على غيره ، مع أنّه لا بدّ من القول بأنّه حدث من قبل غيره ؟
وإذا لم يصحّ حصول العلم من الوجهين ، فكيف يصحّ أن يجعل شرطا ، مع أنّ كونه شرطا يبطل كونه معجزا ، وقد سلّم السّائل أنّه معجز في الأصل ؟ » .
الكلام عليه
يقال له : قد بيّنا بطلان ما ظننته من التباس الحجّة بالشّبهة ، وأوضحنا كيفيّة التمييز بينهما ، مع تجويز ما ألزمناك أن تجوّزه .
وقد مضى الكلام أيضا سالفا في أنّ الذي اخترته واقتصرت عليه من وقوع الفعل على خلاف العادة غير كاف في الدّلالة على النبوّة ، واستقصيناه .
وكذلك الكلام في دلالة (168) إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، وميّزنا الوجه الذي تكون هذه الأفعال عليه دالّة على النّبوّة ، مع تجويز الانتقال على الحياة ، من الوجه الذي لا يدلّ معه لأجل هذا التّجويز. ولم يبق إلّا أن نبيّن الطّريق إلى العلم بأنّ القرآن لم يظهر على غير من علمنا (169) ظهوره من جهته؛ لأنّا قد سلّمنا لك أنّه يمكن أن يكون معجزا على الوجه الذي يدّعيه ، فلا بدّ من أن نبيّن ما يمكن أن يعلم به اختصاصه بمن ظهر عليه ، وإلّا بطل تقدير كونه معجزا على كلّ وجه .
وإن كنّا لا نحتاج في نصرة مذهبنا إلى شيء من هذا ؛ لرجوعنا في الدّلالة على النّبوّة إلى ما يعلم حدوثه في الحال ، ولا يمكن فيه التّقديم.
ويمكن أن يعلم القرآن وأمثاله من الكلام [على] ما ذكرناه من وجهين :
أحدهما : أن يكون متضمّنا من الأخبار لما يعلم مطابقته لأحوال من ظهر عليه ، وقصصه والحوادث في أيّامه ، فيعلم أنّه المختصّ به دون غيره .
وقد شرحنا هذا الوجه فيما تقدّم من كتابنا (170) ، وأوضحناه ، وذكرنا من جملة ما في القرآن من الأخبار الدّالّة على اختصاص الرّسول صلّى اللّه عليه وآله به قطعة وافرة ، وهذا طريق واضح لا يمكن دفعه .
والوجه الآخر : أن يعلم من جهة بعض الأنبياء من قد علمنا نبوّته بمعجز لا يمكن فيه النقل والحكاية ؛ لأنّ الكتاب الّذي ظهر لم يتقدّم حدوثه ، فنأمن أن يكون المختصّ به غير من ظهر عليه .
وليس لأحد أن يقول : إنّكم إذا علمتم من جهة النبيّ الذي ذكرتموه أنّ ذلك لم يتقدّم حدوثه فقد علمتم نبوّة من ظهر عليه ، وصدقه بقوله ، جرى (171) أن يقول : هذا نبيّ صادق فاتّبعوه ؛ وذلك أنّ القدر الّذي علمناه بقول النّبيّ هو أنّ الكتاب لم يتقدّم حدوثه ، وهذا غير كاف في الدّلالة على صدق من ظهر عليه . بل لا بدّ من النّظر في أحوال الكتاب؛ فإذا علمنا استيفاءه لشرائط المعجز ، علمنا صدقه .
وليس له أن يقول : أيّ فائدة في النّظر في الكتاب الّذي يظهره ، وأنتم إذا علمتم من جهة النّبيّ الآخر أنّه لم يتقدّم ، أمكن أن تعلموا نبوّة هذا المدّعي وصدقه من جهته ، ويصير النّظر في الكتاب لا معنى له ! لأنّه يمكن أن تكون الفائدة فيه من حيث علم اللّه تعالى أنّ المكلّفين بتصديق (172) من ظهر عليه الكتاب من نظروا فيه وعلموا به صدقه ، كانوا أقرب إلى اتّباعه وقبول ما دعاهم إليه منهم لو علموا نبوّته من جهة نبيّ آخر ، أو بمعجز غير الكتاب على الحدّ الذي يقوله في إظهار معجز دون معجز ، وعلى وجه دون وجه ، في وقت دون وقت ، وكما نقول (في العبادة ينقض) (173) الأفعال دون بعض.
قال صاحب الكتاب بعد كلام لم نحتج إلى ذكره (174) :
«فإن قال (175) : أ فلستم قد جعلتم هذا العلم شرطا ، من حيث قلتم : إنّه تعالى إذا لم يجز أن يمكّن من الاستفساد فلا بدّ من أن يعلم أنّ ذلك لم يظهر على غيره ، فقد عدتم إلى أنّ هذا العلم شرط في الاستدلال ؟
ثمّ قال : قيل له : إنّا لا نجعل ذلك شرطا ، لكنّا نجعله دافعا للشّبهة ومزيلا لها إذا وردت على المكلّف ، كما قلنا إنّ إحياء الموتى يصحّ الاستدلال به [على النّبوّة ، ولم نجعل شرط الاستدلال به] (176) العلم باستحالة الانتقال على الأعراض ، وإن كان من (177) خطر بباله ، وصارت شبهة يمكنه إزالة ذلك بأن يعلم بالدليل الظّاهر أنّ الانتقال لا يجوز عليها ، فكذلك القول فيما قدّمناه .
وبعد ، فلو جعلنا ذلك شرطا لكنّا قد جعلنا الشّرط ما يصحّ وجوده للمكلّف عند النظر في النبوّات؛ لأنّه قد علم أنّ القديم تعالى حكيم ، وأنّه يرسل الرّسول للمصالح ، وأنّه لا بدّ من أن يفرّق بين النبيّ والمتنبّي ، ويمنع ممّا يؤدّي إلى أن لا فرق بينهما ، فيعلم عند ذلك أنّ القرآن لا يظهر على من أخذه من غيره ، وجعله دلالة نبوّته ، مع كونه كذّابا.
وليس كذلك ما جعلته شرطا؛ لأنّك أحلت على علم لا طريق لك إلى ثبوته من الوجه الّذي ادّعيته [فسلم ما قلناه ، وبطل ما ادّعيته] (178).
على أنّه لا بدّ من القول بما ذكرناه على كلّ حال ، وإن لم نقل : إنّ ظهور القرآن على من هذا حاله يوجب التباس النّبيّ بالمتنبّي ، وذلك لأنّه [كما] (179) يجب أن يمنع من إظهاره تعالى المعجزات على الصّالحين ، لما فيه من المفسدة- على ما بيّناه من قبل- فيجب أن نمنع من أن يمكّن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه ، على وجه يلتبس (180) حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه؛ لأنّ هذا أدخل في المفسدة والتنفير».
الكلام عليه
يقال له : قد دللنا على أنّ النّاظر في دلالة ما يجري مجرى الكلام- الذي يتأتّى فيه النقل والحكاية- على النّبوّة ، لا بدّ من أن يكون آمنا من ظهور ذلك على غير من أتى به ، وأنّ هذا العلم لا بدّ من كونه شرطا في صحّة الاستدلال؛ لأنّه متى لم يحصل الثّقة بأنّ اللّه تعالى هو الّذي خصّه به جوّز (181) النّاظر أن يكون اختصاصه على جهة الاستفساد من فاعل يجوز أن يفعل القبيح ، وأجرينا ذلك مجرى العلم بأنّ الفعل الظّاهر على مدّعي النّبوّة خارج عن مقدور البشر ومجرى العلم بأنّ القديم تعالى غنيّ لا يجوز أن يختار فعل القبيح ، في أنّهما يشرطان في صحّة الاستدلال بما يظهر على النبوّة ، لا دافعان للشّبهة عند خطورهما بالبال.
ولا فرق بين من دفع في العلم الأوّل- الّذي ذكرنا (182) كونه شرطا- وأنزله منزلة ما يدفع الشّبهة عند ورودها- وإن كان فقده غير مخلّ بصحّة الاستدلال- وبين من قال بمثل ذلك في العلمين (183) الآخرين.
وقد (184) مضى الكلام أيضا في أنّ من جوّز على الحياة الانتقال بفاعل غير اللّه تعالى لم يصحّ استدلاله بها على النبوّة ، كما لا يصحّ استدلاله لو كان مجوّزا حدوثها بغيره عزّ وجلّ ؛ فلا معنى لتكراره- بتكرار صاحب الكتاب- التعلّق به مرّة بعد أخرى ، فقد ذكرنا ما يمكن أن يكون طريقا إلى العلم بما ذكرنا أنّه شرط ، وأنّه ممّا يمكن المكلّف إدراكه وإصابته ، فسقط قوله : «إنّ الّذي ذكره لو كان شرطا لأمكن العلم به وأنّ الّذي ذكرناه لا طريق إليه».
فأمّا منعه ممّا ألزمناه لما فيه من التّنفير والمفسدة- قياسا على المنع من ظهور المعجزات على الصّالحين ومن ليس بنبيّ- فقد بيّنا فيما أمليناه من كتابنا «الشافي في الإمامة» (185) جواز ظهور المعجزات على أيدي الأئمّة والصّالحين ، ودللنا على أنّه لا تنفير في ذلك ولا فساد.
على أنّا لا نمنع ممّا اقتضاه ظاهر كلام الكتاب ، لأنّه قال : «فيجب أن يمنع من أن يمكن أحدا من ادّعاء معجزة لنفسه ، على وجه يلتبس بها حاله بحال من يظهر نفس المعجز عليه».
ونحن نمنع ممّا ذكره من كان بهذه الصّفة من الالتباس (186) ؛ لأنّ المفهوم من الالتباس ما لا يمكن معه إصابة الحقّ ، ولا القطع على الصّواب.
وقد بيّنا أنّ الّذي جوّزناه لا يقتضي التباس المعجز بما ليس بمعجز ، ولا يرفع طريق التّمييز بيننا. اللّهمّ إلّا أن يريد بلفظة «الالتباس» قوّة الشّبهة وشدّة المشقّة على المكلّف مع تمكّنه من (187) إصابة الحقّ ، وهذا إن أراده ، يسقط بجميع ما تقدّم؛ لأنّ القديم تعالى لا يجب عليه المنع من الشّبهات.
ثمّ قال صاحب الكتاب (188) في جملة فصل يتضمّن : «بيان صحّة التّحدّي بالكلام الفصيح» ، بعد أن بيّن أنّ امتناع المعارضة لا يجوز أن يكون؛ لأنّ اللّه تعالى فعل فيهم منعا عن الكلام :
«فإن قال (189) : امتنع عليهم ذلك بأن أعدمهم اللّه تعالى العلوم الّتي معها يمكن الكلام الفصيح ، فصار ذلك ممتنعا عليهم؛ لفقد العلم لا للوجوه التي ذكرتموها.
ثمّ قال : قيل له : ليس يخلو فيما ادّعيته (190) من وجهين :
إمّا أن تقول : قد كان ذلك القدر من العلم حاصلا من قبل معتادا ، فمنعوا منه [عند] (191) ظهور القرآن.
أو تقول (192) : إنّ المنع من ذلك مستمرّ غير متجدّد ، وإنّهم لم يخصّوا (193) ، ولا من تقدّمهم بهذا القدر من العلم.
فإن أردت [الوجه] (194) الأوّل فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدر ما جرت به العادة من قبل ، وإنّما منعوا من مثله في المستقبل.
ولو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن؛ لكونه مساويا لكلامهم ، ولتمكّنهم من قبل من فعل مثله في قدر الفصاحة. وإنّما يكون (195) المعجز ما حدث فيهم (196) من المنع ، فكان التحدّي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن ، حتّى لو لم ينزّل اللّه تعالى عليه (197) القرآن ولم يظهره (198) أصلا ، وجعل دليل نبوّته امتناع الكلام عليهم على الوجه الّذي اعتادوه لكان وجه الإعجاز لا يختلف ، وهذا ممّا يعلم (199) بطلانه باضطرار؛ لأنّه عليه السّلام تحدّى بالقرآن ، وجعله العمدة في هذا الباب.
على أنّ ذلك لو صحّ لم يقدح في صحّة نبوّته ؛ لأنّه كان يكون بمنزلة أن يقول صلّى اللّه عليه وآله : دلالة نبوّتي أنّي أريد المشي في جهة ، فيتأتّى لي العادة ، وتريدون المشي فيتعذّر عليكم. فإذا وجدوا (200) الأمر كذلك دلّ على نبوّته ، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضا للعادة».
الكلام عليه
يقال له : أمّا صورة مذهبنا في الصّرفة فقد ذكرناها في صدر هذا الكتاب وشرحناها ، وبيّنا أنّ اللّه تعالى إنّما يصرف عن المعارضة بأن يفقد من رام تعاطيها في الحال العلم بالفصاحة ، ولا يمكن معه المعارضة ، وإن كان متى لم يقصدها لم يفقد هذه العلوم.
ودللنا على أنّ العلوم الّتي يمكن معها معارضة القرآن- بما يقاربه في الفصاحة ويخرجه عن أن يكون خارقا لعادة العرب بالفصاحة (201)- قد كانت موجودة في القوم ، ومعتادة لهم.
فأمّا إطلاق القول على القرآن بأنّه معجز وليس بمعجز ، فقد مضى أيضا ما فيه مشروحا ، وأوضحنا ما يتعلّق في هذا الباب بالمعنى وما يرجع إلى العبارة ، وأنّ الشّناعة المقصودة لا تلزم ، وتتوجّه على من قال : «إنّ القرآن ليس بمعجز» ، يعني أنّ البشر يتمكّنون من مساواته أو مقاربته ، وأنّه لا حائل بينهم وبين ذلك. أو بمعنى أنّه لا حظّ له في الدّلالة على نبوّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله .
فأمّا من نفى عنه ما ذكرناه ، وقال : إنّه ليس بمعجز بنفسه ولا خارق للعادة بفصاحته ، لكنّه يدلّ على ما هو المعجز في الحقيقة ، ويسند إلى الأمر الخارق للعادة ، فلا شناعة عليه .
وليس يجب إذا كان المنع عن المعارضة هو العلم على الحقيقة ، ألّا يقع التحدّي بالقرآن ، كما ظنّ صاحب الكتاب؛ لأنّه لو لا التّحدّي بالقرآن وقصور العرب عن معارضته لما علمنا ذلك المنع ، ولا كان لنا إليه طريق. فكأنّه صلّى اللّه عليه وآله قال للعرب : هاتوا مثل هذا القرآن ، فإذا تعذّر عليكم- مع أنّ فصاحته ممكنة لكم ومعتادة منكم- فاعلموا أنّ اللّه تعالى قد صرفكم عن معارضتي ، ومنعكم منها ، تصديقا لي ودلالة على نبوّتي.
فكان الأمر في المنع الّذي ذكره لا ينكشف إلّا بالتحدّي بالقرآن ، فكيف تظنّ أنّ التحدّي به مستغنى عنه ، إذا كان الأمر على ما ذهبنا إليه؟ أو لا ترى أنّ اللّه تعالى لو كان يمكّن الرّسول صلّى اللّه عليه وآله من فعل القرآن بأن فعل له علوما خارقة للعادة على مذهبه لكان المعجز في الحقيقة هو تلك العلوم لا نفس القرآن ، ومع ذلك فالتحدّي بالقرآن لا بدّ منه؛ لأنّ به ينكشف حال تلك العلوم ، ومن جهته يتطرّق إلى إثباتها.
ولم يكن لأحد أن يقول : إذا كانت تلك العلوم هي العلم المعجز الدّالّ على التّصديق فلا معنى للتّحدّي بالقرآن ، بل كان يجب أن يقع التحدّي بالعلوم المخصوصة! وهكذا القول : لو كان تعالى قد مكّن رسوله صلّى اللّه عليه وآله من قدر لم تجر بمثلها العادة ، يتأتّى بها من ضروب الجمل ما لا يتّسع له البشر؛ لأنّ المعجز في هذه الحال هو القدر والتحدّي بالفعل الواقع عنها ، وإظهاره ، والمطالبة بمثله ، ممّا لا بدّ منه .
ولا شكّ في أنّ اللّه تعالى لو لم ينزّل القرآن أصلا ، وجعل دليل نبوّته امتناع الكلام على القوم ، لكان دالّا ومعجزا على ما ذكر. إلّا أنّه ليس يجب- إذا لم يفعل ذلك ، وجعل دليل نبوّته امتناع معارضة القرآن عليهم- ألّا يقع التحدّي بالقرآن ، والمطالبة بالإتيان بمثله! وكأنّه يقول : إذا صحّ أن يقوم مقام القرآن غيره ، وصحّ (202) وقوع المنع منه على وجه الإعجاز ، وجب أن لا يكون في ظهوره فائدة ، ولا في التحدّي بالمنع من معارضته .
وهذا ممّا لا يخفى بطلانه على أحد؛ لأنّه لا شيء من الأفعال يقع المنع منه على وجه الإعجاز إلّا ولو قام مقامه غيره لم يختلف وجه الدّلالة ، ولا يقتضي ذلك ألّا يكون فيما وقع المنع منه من الأفعال فائدة.
على أنّ من ذهب في إعجاز القرآن إلى الفصاحة ، يلزمه إذا كان اللّه تعالى قادرا على أن ينزل مكان هذا القرآن غيره ممّا يماثله في الفصاحة أو يزيد عليه فيها زيادة كثيرة ، ونحن نعلم أنّه لو أنزل ما هو أفصح منه ، لكان الأمر في إعجازه أظهر- إلّا أن يكون في إنزال القرآن والتحدّي به فائدة.
فإن قال : من ذهب إلى ما ذكرناه- أنّه وإن جاز أن ينزّل غيره ويقوم في الدّلالة مقامه ، أو يكون أوضح أمرا منه- فيجب إذا لم يفعل ذلك وأنزل هذا القرآن ، أن يقع التحدّي به ، لينكشف الأمر في إعجازه . ولو أنزل غيره لكان التحدّي يقع بذلك.
قيل له : وهكذا يجب- إذا كان اللّه تعالى قد جعل دليل نبوّة رسوله عليه وآله السّلام المنع من معارضة هذا القرآن دون غيره- أن يقع التحدّي بالقرآن أو المطالبة بالإتيان بمثله ، لينكشف الأمر في المنع الّذي هو العلم على صدقه .
ولو جعل دليل النبوّة امتناع الكلام ، أو الحركات ، أو غيرهما من الأفعال ، لكانت المطالبة تقع بتلك الأفعال.
فأمّا قوله : «و هذا ممّا يعلم بطلانه باضطرار؛ لأنّه عليه وآله السّلام تحدّى بالقرآن وجعله العمدة». فإن أراد أنّ المعلوم بطلانه باضطرار أنّه صلوات اللّه عليه وآله لم يتحدّ بالقرآن ولا طالب القوم بمثله بل عدل إلى سواه فيما طالبهم بفعله ، فلا شكّ في بطلان ذلك. وهو إذا صحّ كان شاهدا لقولنا وغير مناف لمذهبنا ، على ما بيّناه .
وإن أراد- فيما ادّعى العلم ببطلانه اضطرار- شيئا آخر غير ما ذكرناه ، فقد كان يجب أن يفصح به ، وما نظنّه أراد غيره . وقوله : «بأنّه عليه وآله السّلام تحدّى بالقرآن وجعله العمدة» عقيب ذكر الاضطرار ، يدلّ على أنّه أراد ذلك.
وكيف لا يجعله عليه السّلام العمدة في ذلك والمفزع في الحجّة ، والأمر في نبوّته لا يكشف إلّا بالنّظر فيه ، والعلم بأنّ القوم طولبوا بالإتيان بمثله وببعضه فلم يفعلوا. وأنّ امتناعهم من معارضته إنّما كان للتعذّر والقصور اللّذين سببهما ما فعله اللّه تعالى فيهم من المنع وسلب العلوم.
فإن قال : المعلوم من حال النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، خلاف ما يذكرونه (203) ويذهبون إليه؛ لأنّه عليه وآله السّلام كان يجعل القرآن دليل نبوّته ، والعلم على صدقه ، ويذكر أنّ اللّه تعالى أبانه به ، ومذهبكم يخالف جميع ما ذكرناه .
قيل له : أمّا المعلوم الّذي لا إشكال فيه فهو أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان يحتجّ بالقرآن ، ويدعو في الاستدلال على نبوّته إليه ، ويطالب العرب بفعل مثله ، ويشهد قاطعا متيقّنا بأنّهم لا يفعلون ، ويجعل قصورهم دليل نبوّته .
فأمّا وجه الاحتجاج به ، وهل هو لأنّ القرآن بنفسه المعجز ، أم مستند إلى ما هو المعجز على الحقيقة ومتعلّق به ، وكون قصور القوم عن المعارضة دليلا على نبوّته؟ وهل ذلك لأنّ القرآن في نفسه خارق للعادة بفصاحته ، أم لأنّهم منعوا من المعارضة وصرفوا عنها؟ ممّا ليس بمعلوم من جهته عليه وآله السّلام ولا من ظاهر حاله ، وإنّما يعلمه النّاظر بالدّليل الّذي ربّما خفي إدراكه على كثير من المتكلّمين.
ولو كان ما ذكرناه ثابتا معلوما على حدّ العلم بما ذكرناه أوّلا ، لوجب أن يكون جهة كون القرآن معجزا ودالّا على النّبوّة معلومة باضطرار ، كما أنّ التحدّي بالقرآن معلوم ذلك ، فكان لا يصحّ أن يخالف من جهة دلالته مقرّ بصدق النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وصحّة نبوّته ، كما لا يصحّ أن يخالف فيما جرى مجراه .
على أنّا ما نأبى القول بأنّ القرآن دليل نبوّته عليه وآله السّلام ، والعلم على صدقه ، ولا يمتنع من هذه الجملة.
وإن أردنا بذلك أنّ النّاظر في أحواله والمتأمّل لها يفضي به نظره إلى العلم بما هو الدّليل والعلم على الحقيقة ، فمن حيث كان وصلة إلى الدّليل وطريقا إليه ومتعلّقا به ، جاز أن يصفه بصفته .
كما لا يمتنع الكلّ من وصف القرآن بأنّه دليل وعلم ، وإن كان من فعله عليه وآله السّلام ، من حيث كان مستندا ومتعلّقا بما هو الدّليل والعلم على الحقيقة من العلوم (204).
وكذلك الوصف لما يظهره الرّسول عليه السّلام من حمل الجبال وقلب المدن ، إذا كان واقعا عن قدرة. ولا ينكر وصفه بأنّه دليل ، على التفسير الذي ذكرناه .
وكما يصف أيضا إخباره صلّى اللّه عليه وآله عن الغيوب ، وإنذاره الحوادث الكائنة في المستقبل بأنّها أدلّة له وأعلام ، من حيث استندت إلى العلوم الّتي هي في الحقيقة واقعة موقع الإعلام.
وليس لأحد أن يقول : إنّه عليه وآله السّلام كان يجعل القرآن دليلا وحجّة دون وجه كذا على خلاف ما ذكرتم؛ لأنّا قد بيّنا أنّ كيفيّة كونه دليلا وحجّة ، فهل هو الدالّ بنفسه أم بغيره ، بما لم يعلمه من دونه (205) صلّى اللّه عليه وآله اضطرارا ؟ ولا يدّعي العلم به من هذه الجهة إلّا غبيّ أو معاند ، وإنّما يعلم ذلك بالأدلّة التي تستخرج بها أمثاله .
فأمّا ما ذكره صلّى اللّه عليه وآله أنّ اللّه تعالى أبانه بالقرآن ، فغير مخالف لمذهبنا؛ لأنّا نقول :
إنّ اللّه تعالى أبانه عليه وآله السّلام به ، كما أبانه بنزول جبرئيل عليه السّلام ، إلى غير هذا من ضروب الاختصاصات وفنون الكرامات.
غير أنّ هذه الإبانة لا يمكن أن نعلم بها في الأصل صحّة نبوّته ، بل لا بدّ من أن يعلم صحّة النبوّة قبلها بما ذكرناه من ثبوت المنع عن المعارضة؛ فإذا علمنا ذلك رجعنا إلى خبره عليه السّلام في حصول الإبانة والاختصاص ونزول جبرئيل عليه السّلام وما أشبههما. وهذه جملة كافية تأتي على ما ذكره في الفصل.
ثمّ قال صاحب الكتاب في جملة فصل مترجم بذكر : «وجوه إعجاز القرآن وما يصحّ من ذلك وما لا يصحّ» (206).
«فإن قالوا (207) : إنّا نجعله معجزا ، لصرفه تعالى (208) إيّاهم عن المعارضة.
فقد (209) بيّنا من قبل : أنّه لا يجوز أن يكونوا ممنوعين من الكلام بكذا ... وأشار إلى ما ذكره (210).
ثمّ قال : وبيّنا أنّ هذا الوجه لو صحّ لم يوجب كون القرآن معجزا ، وكان يجب أن يكون المعجز منعهم من فعل مثله ، كما أنّه تعالى لو جعل دلالة نبوّته صلّى اللّه عليه وآله (111) أن يتمكّن من مشي ، أو كلام ، أو تحريك يد ، في حال يتعذّر على جمعهم (113) مثله ، لقد كان ذلك معجزا ، لكن المعجز كان منعهم (214) من ذلك ؛ لأنّ الخارج عن العادة ، دون تمكّنه صلّى اللّه عليه وآله ممّا فعله ، لأنّ ذلك معتاد. ومن سلك هذا المسلك في القرآن ، يلزمه ألّا يجعل (215) له مزيّة البتّة.
على أنّ ذلك يبطل بنصّ (216) القرآن ؛ لأنّه تعالى قال : {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [سورة الإسراء : 88].
ولو كان الوجه الّذي له تعذّر عليهم المنع ، لم يصحّ ذلك ؛ لأنّه لا يقال في الجماعة (217) إذا امتنع عليها الشيء : إنّ بعضها يكون ظهيرا لبعض ؛ لأنّ المعاونة والمظاهرة (218) إنّما تمكن مع القدرة ، ولا تصحّ مع المنع والعجز» (219).
الكلام عليه
يقال له : لسنا نذهب في الصّرف إلى أنّه المنع من الكلام ، والّذي نذهب إليه فيه قد ذكرناه وأوضحناه . ولو لا أنّ كلامك هذا على من ذهب إلى (220) أنّ القوم منعوا من الكلام يمكن أن يطعن به طاعن فيما نذهب إليه لتجاوزنا عنه ، ولم نتشاغل بالكلام عليه . وبطلانه واضح على كلّ وجه؛ لأنّا قد بيّنا فيما مضى الكلام على من ألزم إطلاق القول بأنّ القرآن ليس بمعجز ، وشرحناه .
فأمّا إلزامنا أن لا يكون له مزيّة ، إذا كان العلم المعجز في الحقيقة غيره فليس يخلو من ألزمنا نفي مزيّته من أن يريد نفيها في باب الدّلالة ، أو التّحدّي ، أو الفصاحة.
وكلّ هذه الوجوه قد تقدّم الكلام على أنّ القرآن- وإن لم يكن هو العلم في الحقيقة- فغير واجب نفي المزيّة عنه في شيء منها.
فأمّا الآية الّتي تلاها صاحب الكتاب فهي أبعد ما يسأل عنه ويقدح (221) به ؛ لأنّه تعالى أراد أن يخبرنا عن تعذّر معارضة القرآن على الخلق أجمعين ، فنفى ذلك على آكد الوجوه .
ونحن نعلم أنّ مع التظاهر والتعاون ربّما تأتّى ما يتعذّر ، وأنّ الشيء إذا كان متعذّرا وغير متأتّ مع التوازر والتظاهر كان أبعد من التأتّي مع الانفراد ، وكان نفي تأتّيه آكد وأبلغ؛ فلهذا قال تعالى : {ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
وليس في الإخبار عن أنّ المعارضة لا تقع ، وتأكيد نفي وقوعها- بما جرت عادة أهل العربيّة بأن يؤكّدوا به بخطابهم- دلالة على وجه التعذّر ما هو.
وأكثر ما نستفيد بالآية أنّ المعارضة لا تقع ، وأنّها متعذّرة على كلّ حال؛ فأمّا من أيّ وجه لم تقع ، وهل تعذّرت لمنع عن الكلام ، أم لفقد علوم ، أو قدر؟ فممّا لا تدلّ عليه الآية.
وقوله : «إنّ المعاونة إنّما تمكن مع القدرة ، ولا تصحّ مع المنع».
صحيح ، لكن لخصمه أن يقول : إنّ اللّه تعالى لم يرد أنّ المعارضة لا تقع منهم وإن تظاهروا وتعاونوا على فعلها ، وإنّما نفى وقوعها- وإن تظاهروا وتعاونوا- بما يقدرون عليه من الأفعال في طلبها ، والاحتيال لتمامها ؛ فالتّظاهر لم يعن به إلّا ما هو مقدور ممكن.
ونحن نعلم أنّ القائل إذا قال : «لو تظاهر الخلق بأجمعهم أو تعاونوا على فعل جوهر أو سواد لما وقع منهم» يكون كلامه صحيحا مفيدا لتعذّر وقوع ذلك على أبلغ الوجوه ، ويجرى مجرى أن يقول في عشرة : إنّهم لو تظاهروا وتعاونوا على حمل جبل لما أمكنهم ، وإن كان حمل الجبل مقدورا لهم ، وممكنا على جهة التّفريق (222).
والأوّل غير ممكن ولا مقدور على وجه من الوجوه ، وإنّما حسن القول الأوّل- مع استعمال لفظ التعاون فيه- للوجه الّذي ذكرناه .
على أنّا قد بيّنا أنّ اللّه تعالى إنّما منعهم عن المعارضة بأن أعدمهم في الحال العلوم بالفصاحة ، فلن تخرج المعارضة من أن تكون مقدورة- وإن كانت متعذّرة- لفقد العلوم ، فيجب أن يصحّ استعمال لفظ «التّظاهر» غير مطابق لمذهبنا في تعذّر المعارضة ، للزم صاحب الكتاب وجميع أهل مذهبه مثل ذلك؛ لأنّه يقول فيما من أجله لم تقع المعارضة مثل قولنا بعينه ، وينسب تعذّرها إلى فقد العلوم بالفصاحة ، كما ننسبه (223) ، وإن كان الفرق بيننا وبينه أنّا نقول : إنّ القوم أفقدوا العلوم في الحال ، وهو يقول : إنّهم كانوا فاقدين لها في جميع الأحوال ، مستقبلها ومستدبرها؛ لأنّ العادة لم تجر بحصول كلّ تلك العلوم لهم.
فإن قال : إنّي لم أوجّه كلامي في الفصل نحو مذهبكم ، وإنّما خصصت به من قال : إنّ القوم منعوا عن الكلام جملة.
قيل له : قد علمنا ما قصدته ، وكلامنا الأوّل متناول لغرضك بعينه ، وكلامنا الثّاني إنّما أوردناه استظهارا وبيانا.
ثمّ قال صاحب الكتاب ، بعد أن ذكر أنّ دواعي العرب إنّما انصرفت عن المعارضة ، لعلمهم بأنّها غير ممكنة ، من حيث باينت فصاحة القرآن جميع فصاحاتهم ، لا للصّرف الّذي يدّعيه من يقول : إنّ المعارضة كانت ممكنة ، وإنّها لم تقع لأنّ دواعيهم صرفت (224) :
فإن قال (225) : ومن أين أنّ الحال على ما ذكرتم ؟
قيل له (226) : لأمور :
منها : ما نقل عنهم من اعترافهم بمزية القرآن عند المذاكرات ، على ما قدّمنا ذكره .
ومنها : أنّ آية التّحدّي تدلّ على تعذّر مثله (227) : {ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.
ومنها : أنّ هذا القول يوجب أنّ القرآن ليس بمعجز (في الحقيقة ، وأنّ صرف هممهم عمّا جرت عادتهم بمثله هو المعجز) (228) ، ويوجب أن يدلّ القرآن ، لو كان كلاما متوسّطا في الفصاحة ، حتّى يكون حاله في الإعجاز ، وهو كذلك (مثل حاله) (229) الآن ، لأنّ المعتبر صرف هممهم ودواعيهم ، فالرّكيك (230) في ذلك والفصيح بمنزلة.
ومنها : أنّ الذي ذكروه يقتضي خروجهم عن العقل ...
ثمّ بيّن أنّ دواعيهم لا يجوز أن تنصرف مع كمال عقولهم.
الكلام عليه
يقال له : وهذا الفصل أيضا- وإن كانت وجهته إلى غير مذهبنا- فنحن نتكلّم عليه؛ لإمكان التعلّق به علينا.
فنقول : وما في الاعتراف بمزيّة القرآن في الفصاحة ممّا يدلّ على أنّ جهة إعجازه هي الفصاحة ، وأنّه خارق بها عادات العرب ؟! وما المنكر أن يكون عالي الطّبقة في الفصاحة ، فيشهد له بالمزيّة فيها ، وإن كان امتناع معارضته إنّما هو الصّرف؟! وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا أنّ الاعتراف بمزيّته (231) في الفصاحة إنّما يكون رادّا على من نفى فصاحته . فأمّا من اعترف بأنّه أفصح الكلام وأبلغه ولم يجعله خارقا للعادة من حيث الفصاحة ، فإنّه لا يلزمه شيء من ذلك.
على أنّا قد تكلّمنا على الألفاظ الّتي يستدلّ بها على اعتراف القوم بفضل فصاحته ، وذكرنا ما يمكن أن يقال فيها.
وأمّا التعلّق بلفظ «التّظاهر» ، فقد مضى الكلام عليه وعلى التّعلّق بإخراج القرآن من أن يكون معجزا ، وبيّنا أنّ دلالته من الوجه الّذي ذكرناه ، وإن لم يختلف بأن يكون كلاما متوسّطا في الفصاحة أو ركيكا ، بل ربّما تأكّدت ، فغير منكر أن تكون المصلحة للمكلّفين تابعة لإنزاله على هذا الوجه من الفصاحة.
وذكرنا من لزوم مثل ذلك لمن خالفنا ، وأنّه لا بدّ من أن يفتقر فيه إلى مثل جوابنا ، ما لا حاجة بنا إلى إعادته (232). فأمّا ردّه على من ذهب إلى صرف الدّواعي بما ذكره فصحيح (233) لازم ، وقد بيّنا في صدر هذا الكتاب على الكلام (234) بيانا شافيا.
ثمّ قال صاحب الكتاب (235) :
«فإن قالوا (236) : لو لا أنّ الّذي لأجله عدلوا عن المعارضة الصّرف الّذي ذكرناه ، كان لا يجب أن يجري أمرهم على حدّ واحد ، مع أنّ فيهم المتقدّم الّذي يعلم باضطرار تعذّر المعارضة عليه ، وفيهم من لا يعلمها كذلك.
قيل لهم (237) : قد بيّنا أنّ فيهم من جاء بمعارضة ركيكة ، ومن لم يأت بها فلأنّه علم من حالها ما وصفناه ، أو كان في حكم العارف ، أو تابعا للعارف؛ فلذلك اتّفقوا على العدول عن المعارضة.
وهذا بيّن من حال الجمع العظيم؛ لأنّهم ينظرون إلى المتقدّم منهم في الرّتبة ، ويقع من جهتهم التأسّي ؛ فلمّا رأى أتباعهم الأكابر قد ضاق ذرعهم بالقرآن ، وعدلوا عن المعارضة إلى الأمور الشاقّة ، تبعوهم في هذه الطّريقة ؛ لعلمهم بأنّهم عن ذلك أشدّ عجزا؛ فلذلك استمرّت أحوالهم على هذا الوجه ، لا الصّرفة (238) الّتي ظنّها (239) السائل.
ولو لا أنّهم علموا أنّ القرآن في أعلى رتبة من الفصاحة الجامعة لشرف اللّفظ وحسن المعنى حتّى بهرهم ذلك ، لقد كان يجوز أن يختلفوا في سائر (240) المعارضة ، فيكون فيهم من يكفّ ، وفيهم من يحاول ، وفيهم من يأتي بما يزداد علمهم بعظم شأن القرآن عنده (241) تأكيدا.
لكن الأمر في القرآن لمّا كان على ما ذكرناه ، عدلوا عن المعارضة؛ لظهور حاله .
ولو لا صحّة ذلك من هذا الوجه ، لقد كان القول بالصّرفة يقوى من حيث لم تجر العادة مع التّنافس (242) الشّديد ، وتباين الهمم ، وامتداد الأوقات ، بأن (243) يقع الكفّ عن الأمر المطلوب الّذي قويت الدّواعي إلى فعله؛ فكان يصحّ أن يتعلّق بالصّرفة ، ويراد بها انصرافهم عن المعارضة ، وإن كانت غير مؤثّرة ، دون المعارضة المؤثّرة ، ولأنّ هذه المعارضة يعلم أنّها لا تحصل بما قدّمناه من الأدلّة. لكن ذلك يبعد؛ لأنّه متى جوّز (244) في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصّرفة ، لم نأمن (245) أن تكون المعارضة الصّحيحة أيضا (246) ممكنة ، وإنّما عدلوا عنها للصّرفة التي ذكرناها السّائل. وهذا بيّن فيما أوردناه».
الكلام عليه
يقال له : قد بيّنا في الدليل الثّاني- الّذي اعتمدناه في صحّة القول بالصّرفة- ما إذا تؤمّل كان مبطلا لما تعلّقت به في هذا الفصل ؛ لأنّا ذكرنا أنّ العرب لو لم يصرفوا عن المعارضة على كلّ وجه يقع معه ضرب من الاشتباه والالتباس- سواء كانت المعارضة مماثلة على الحقيقة أو مقاربة- لوجب أن يعارضوا بما يدّعون أنّه مماثل ، وإن لم يكن على التّحقيق كذلك ، وأنّهم كانوا بفعلهم هذا قد أوقعوا الشّبهة لكلّ من لم يكن في غاية الفصاحة ، ثمّ لا يفرّق بين ما أتوا به وبين القرآن.
ونحن نعلم أنّ الخلق أجمعين- إلّا النفر اليسير منهم- لا يفرّقون بين ذلك ، وإنّما يرجعون فيه إلى غيرهم. وإذا كان ذلك الغير الّذي يرجع إليه يدّعي المساواة والمماثلة استحكمت الشّبهة وانسدّ الطّريق إلى العلم بالإعجاز! وبيّنا أنّهم قد استعملوا من ضروب المكائد وصنوف الحيل ما كان هذا الّذي ذكرناه أوقع منه وأنفع فيما قصدوه؛ لأنّهم لجأوا إلى أفعال كثيرة لا يدخل على عاقل شبهة في خروجها عن باب الحجّة. وأنّ الضّرورة حملت عليها ، والقصور دعا إلى فعلها؛ فكيف ذهبوا عن هذا الأمر الغريب الّذي يدخل الشّبهة على أكثر الخلق ، ويشعرهم براءة عهدتهم ، وعلوّ كلمتهم؟! وليس تتوجّه هذه الطّريقة من حيث ظنّ صاحب الكتاب؛ لأنّه بنى السّؤال على أنّ المعارضة كان يجب وقوعها ، فمن لم يعلم من جملة القوم تعذّر المعارضة ، وأنّه لا يمتنع أن يختلف حالهم فيكون فيهم من يعلم تعذّرها فلا يعارض ، وفيهم من لا يعلم ذلك فيشتبه عليه الأمر فيعارض.
بل الطّريق الّذي سلكناه في لزوم الكلام أولى؛ لأنّا بيّنا أنّ القوم مع العلم بتعذّر المعارضة المطلوبة عليهم كان يجب أن يعارضوا بما يقدرون عليه ، ويدعوا المساواة؛ وإن كان غير بعيد لزوم الكلام من الوجه الّذي سأل نفسه عنه .
وليس قوله في جواز ذلك : «إنّ من لم يكن عارفا بتعذّر المعارضة كان تابعا للعارف» بشيء يعتمد؛ لأنّا لم نجد من أتى بالمعارضة الرّكيكة اتّبع في الإمساك عنها من عدل عن المعارضة من العارفين المتقدّمين ، بل تعاطاها وإن كان (247) هؤلاء لم يتعاطوها! فألّا وقع من بعض من يشتبه عليه الأمر في إمكان المعارضة وتعذّرها ما يظنّ أنّه بصفة المعارضة المطلوبة؟! وكيف لم يخالف من عارض الطّبقة الّتي لم تعارض من المبرّزين المتقدّمين إلّا بإيراد معارضة ، لا شبهة على عاقل فضلا عن فصيح ، في أنّها غير واقعة موقعها ، وأنّها من أبعد الكلام عن الفصاحة والجزالة؟! ونحن نعلم أنّ بعض القوم لو أتى بكلام له حظّ من الفصاحة ورتبة من البلاغة وادّعى به المعارضة لكانت الشّبهة قويّة والارتياب مستحكما ، فكيف خالفوا أكابرهم ومتقدّميهم فيما لا يقع لهم [حيلة] (248) فيه ، ولا شبهة تدخل على عاقل بمثله ، ولم يخالفوهم فيما ذكرناه ؟! وفيه من ارتفاع الشّبهة ونفوذ الكيد ما أشرنا إليه؟! وقد بيّنا فيما مضى من الكتاب- عند الاعتماد على هذه الطريقة- أنّه غير ممكن أن يكون ترك القوم لهذا الضّرب من المعارضة إنّما هو للخوف من تكذيب الفصحاء لهم ، وتهجينهم لفعلهم ، وشهادتهم عليهم بالمكابرة.
فإن قلنا : إن كان الخوف من تكذيب من في جملة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله من الفصحاء ، فهو غير مانع ممّا ذكرناه من وقوع الشّبهة وتمام الحيلة؛ لأنّ أكثر ما في هذا الأمر أن يشهد من في جملة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله بأنّ تلك المعارضة غير صحيحة ولا مؤثّرة ، ويشهد من بإزائهم من الفصحاء- وهم أكثر منهم- بضدّ ذلك؛ فتتقابل الأقوال وتتكافأ ، لا سيّما عند من لم تكن الفصاحة صنعته ، ولا بلغ فيها الرّتبة التي يفرّق معها بين ضروب الكلام الفصيح وبين كلّ ضرب منه [دون] (249) منزلته . وهذا نهاية سؤل العرب ، وغاية أملهم.
وإن كان الخوف ممّن لم يكن في صحبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ولا على دينه فلا خوف من هؤلاء؛ لأنّهم أحذق (250) وأمكن (من أن يردّوا) (251) ما يوافق إرادتهم ، ويضعف أمر عدوّهم! وذكرنا أيضا : أنّ ما اقتضى إمساكهم عمّن عارض بأخبار الفرس ، مع علمهم بعد ما أتى به عن المعارضة ، وعدولهم عن تكذيب من قال : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، مع قطعهم على كذبه وبهته ، يقتضي الإمساك عمّن يعارض بكلام له حظّ من الفصاحة ، ويدّعي المماثلة. بل الإمساك عن هذا أولى؛ لما تقدّم ذكره .
فأمّا قوله : «ولو لا صحّة هذا الوجه لكان التعلّق بالصّرفة يقوى من وجه كذا ، ويراد بها انصرافهم عن المعارضة الّتي ليست مؤثّرة ، دون المؤثّرة؛ لأنّ هذه المعارضة يعلم بما تقدّم من الأدلّة أنّها لا تحصل». ثمّ قوله بعد : «لكن ذلك يبعد؛ لأنّه متى جوّز في أحد المعارضتين الصّرفة ، لم نأمن في الأخرى مثله» (252) ؛ فمن الكلام الطّريف الظّاهر التّناقض؛ لأنّه فرّق أوّلا بين المعارضتين- المؤثّرة وغير المؤثّرة- في صحّة التعلّق بالّتي ليست بمؤثّرة ، لو لا ما خرّجه من الوجه الّذي ذكره ، ثمّ سوّى بينهما من غير وجه يقتضي التّسوية ، وجعل تجويز الصّرفة عن إحداهما تجويزا في الأخرى.
فكيف يصحّ ما ذكره من الطّرق وضروب الاستدلالات الّتي تتناول- إذا صحّت- المعارضة الّتي ليست بمؤثّرة ، ولا يمكن أن يعلم بها امتناع وقوعها ، فكان المتعلّق بالصّرفة من هذا الوجه يقول له : الّذي يؤمن وقوع الصّرفة عن المعارضة المطلوبة قدّمته ، وادّعيت أنّه أدلّة على امتناعها ، وليس ذلك بمؤمن حصول الصّرفة عن المعارضة الأخرى. فعلى أيّ وجه سوّيت بينهما ، سيّما مع اعتقادك أنّ المؤثّرة على الحقيقة غير ممكنة ولا متأتّية ، وعلى ذلك بنيت ما استدللت به على تعذّرها ، والّتي ليست بمؤثّرة ! ولا يمكنك أن تقول : إنّها غير متأتّية ولا ممكنة ، وأكثر ما تدّعيه أنّها لا تقع لشيء تذكره ، لا يقتضي خروجها من الإمكان ، فقد صحّ بما ذكرناه اضطراب كلامه في الفصل ، وهذا آخر ما احتجنا إلى تتبّعه من كلامه .
مسألة تتعلّق بالصّرفة
إن سأل سائل فقال : كيف يصحّ مذهبكم في الصّرفة ، ومعلوم أنّ القوم الّذين تدّعون أنّهم كانوا متى همّوا بالمعارضة وراموا فعلها ، صرفوا عنها وأفقدوا العلوم الّتي تتأتّى معها ، لا بدّ من أن يكونوا عارفين بذلك من أحوال أنفسهم ، ومميّزين بين أوقات المنع والتّخلية.
وإذا كانت معرفتهم به واجبة ، وكان أمرا خارقا لعادتهم مباينا لسنّتهم ومذاهبهم ، فلا بدّ من أن يتذاكروه ويتفاوضوه ، ويخوضوا فيه ، ويعجبوا منه؛ لأنّ النفوس مولعة بذكر العجائب ، ملهية بنشر الغرائب ، بهذا قضت العادات ، وعليه دلّت التّجارب ، وهو أصل في باب الأخبار ومعرفة الحوادث كثير ، متى نقضه ناقض لزمه من الجهالات ما لا قبل له به .
وإذا كان الخوض فيما ذكرناه لا بدّ أن يقع بمجرى العادة فلا بدّ أن يكون ظاهرا فاشيا؛ لأنّ ظهور الشّيء وبروزه ، إنّما يكونان بحسب موقعه من النّفوس ، وبقدر الاهتمام به؛ والاهتمام به يكون بقدر استغرابه واستطرافه . فإذا انضاف إلى الاستغراب والاستطراف ما يرجع إلى المنافع ودفع المضارّ ، قويت دواعي الإعلان وتأكّدت.
وإذا كان الظّهور واجبا فواجب حصول العلم به وزوال الرّيب فيه ، كما حصل العلم بجميع ما جرى مجراه من أحوال القوم وأفعالهم الظّاهرة.
وكيف لا يكون ذلك معلوما لنا ، إذا فرضنا ظهوره من القوم ووقوع الخوض منهم فيه ، وعناية سلفنا بنقل ما جرى مجراه من آيات النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وبراهينه ومعجزاته ، أتمّ عناية وأوفرها.
ولا شيء أظهر وأكبر في باب الدّلالة والآيات من اعتراف العرب بما يجدون أنفسهم عليه من المنع عن المعارضة. وفي ارتفاع العلم دلالة على أنّه لم يقع هناك خوض فيه وتحدّث به ، وإذا لم يجر شيء من ذلك فلا صرفة.
الجواب :
يقال له : أمّا ما قدّمته من وجوب معرفة العرب- بما هم عليه- من تعذّر المعارضة عليهم ، على سبيل الجملة ، فصحيح ، وكذلك ما أتبعته به من علمهم بخروج ذلك عن عهدهم وعادتهم.
فأمّا ما أوجبته من بعد من التحدث بذلك والتذاكر به ثمّ إظهاره وإعلانه ، فغير واجب ، بل الواجب خلافه؛ لأنّا نعلم أنّ القوم قد بلغوا الغاية في عداوة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وحسده ، وتطلّب ما شكّك فيه ونفّر عنه ، والعدول عن كلّ ما آنس به وقرّب منه . وهم يعلمون أنّ التذاكر بما يجدون أنفسهم عليه من تعذّر معارضته أقوى الأسباب في تصديقه ووجوب اتّباعه؛ لأنّه صلّى اللّه عليه وآله إنّما ادّعى الإبانة منهم والمزيّة عليهم بهذا القدر الّذي يوجب أن يعترفوا به ويتذاكروه ، فكيف يصحّ أن يقع منهم ما ظننته ، وحالهم هذه؟! فكأنّك أيّها الملوم تقول : يجب أن تقع نهاية التّصديق ممّن دواعيه متوافرة ، وحيلته كلّها مصروفة إلى نهاية التّكذيب! على أنّه لو وقع من بعضهم ممّن لا يعرف عاقبة قوله ، ولا يتثبّت في أفعاله ، أو ممّن يطلب (253) السّلامة لقوي في نفسه انكتام خبره [و متى صدر] ذكر لهذا المعنى ، وحرص فيه لم يجب أن يكون ظاهرا شائعا ، بل لا عاقل من القوم يذكر مثل هذا عن نفسه ، إلّا لمن هو عنده أوّلا على نهاية الثّقة والأمانة ، ثمّ لا يذكره إلّا على آكد وجوه الاستسرار والخفاء ، فمن أين يجب ظهوره والعلم به وهو إذا وقع كانت هذه حاله؟! وإنّما يجب العلم بالأمور الّتي تقع في الأصل ظاهرة وشائعة ، ثمّ تتوفّر
الدّواعي إلى نقلها ، ويحكم فيما جرى هذا المجرى بأنّه لم يكن ، متى لم ينقل ويعلم فإمّا ما لا يجب ظهوره واستفاضته ويجوز وقوعه إن وقع مستسرّا به ، فليس يجب متى فقدنا نقله أو العلم به أن نحكم بنفيه . ولهذه العلّة ما علمنا أحوال الملوك الظّاهرة والحوادث في أيّامهم المستفيضة ، ولم نعلم جميع أسرارهم ، وما كتموه من أخبارهم ، وألقوه إلى الواحد والاثنين من ثقاتهم. والقول فيما ذكرناه أوضح من أن يحتاج إلى شرط.
وليس لأحد أن يقول : هبكم لا توجبون التّذاكر بذلك من جهة الاستطراف والاستغراب ، أ لا وجب أن يذكره بعضهم لبعض؛ ليعرف كلّ واحد منهم هل حال غيره في الامتناع والتعذّر كحاله أم لا ؟
وذلك أنّ التحدّث به لو وجب من هذه الجهة ، لم يكن إلّا على الوجه الذي بيّناه من الخفاء والكتمان؛ لأنّ ما دعا من المسألة عنه لا يدعو إلى إظهارها ، بل دواعي سترها قائمة من حيث ذكرنا ، فلا منفعة للسّائل فيما ذكره إذا التزمناه ، وكان ممّا لو وقع لم يظهر ، ولم يجب أن يعلم. على أنّ ما أوجبه من هذه الجهة لا يجب أيضا؛ لأنّ سؤال بعضهم بعضا إنّما يحسن متى استفيد به ما ليس بمعلوم. فأمّا إذا كان لا يفيد إلّا ما يعلمه السّائل فلا طائل في تكلّفه .
فكلّ واحد من العرب يعلم- من حال غيره من المنحرفين عن دعوة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، المظاهرين له بالعداوة- ما يقتضي (254) أنّ المعارضة متى أمكنته فعلها وبادر إليها ، وأنّه لم يمسك عنها ودواعيه متوفّرة إليها إلّا وحاله في التّعذّر مساوية لحاله ، فأيّ فائدة في سؤاله وتعرّف ما عنده؟!
مسألة أخرى
إن قال قائل- معترضا على ما اعتمدناه في دليلنا على صحّة الصّرفة ، حيث قلنا : إنّ القرآن لو كان خارقا للعادة بفصاحته لوجب أن يقع الفرق بين كلّ سورة منه وبين أفصح كلام العرب ، لكلّ من وقع له الفرق بين أعلى كلامهم في الفصاحة وأدونه ، ويكون الفرق بين القرآن وبين سائر الكلام ، إذا كان خارقا للعادة ، من المزيّة والفرق أكثر ممّا بين كلّ كلامين جرت بهما العادة- لم أنكرتم أن يكون ما أوجبتموه غير واجب؟ لأنّ الفرق بين أفصح كلام العرب وأدونه وبين شعر امرئ القيس- من هو في أعلى الطّبقات- وشعر المقصّر من المحدثين ، إنّما ظهر على الحدّ الّذي ذكرتموه من حيث جمع بين ما لا فصاحة له- وإن كانت فيسيرة ضعيفة- إلى ما كثرت فصاحته وتناهت بلاغته ، فوقع الفرق على أقوى وجه الظّهور.
وليس هذا سبيل للقرآن وما يضمّ إليه من أفصح كلام العرب؛ لأنّ القرآن وإن بان من جميع ذلك وتقدّم في الفصاحة عليه بما يجاوز (255) العادة ويخرقها ، فإنّ الفرق لا يجب ظهوره في الأوّل ؛ لأنّ ما يصحّ [نسبته] إلى القرآن قد استبدّ برتبة في الفصاحة قويّة ومنزلة فيها رفيعة ، تقتضيان هذا اللّبس والاشتباه . أ لا ترون أنّ أكثر النّاس يفرّقون بين ثوب القصب الّذي يساوي دينارا ، وبين ما يساوي عشرة دنانير ، ولا يفرّق بين الفصّ الزّجاج الّذي قيمته درهم وبين الفصّ الياقوت الّذي قيمته دينار إذا زالت عنهما وجوه التمويهات والتدليسات.
وليس يفرّق هؤلاء بين كلّ ثوبين وكلّ فصّين كانت بينهما هذه القيمة ، بل ولا أضعافها؛ لأنّه قد يلتبس عليهم الفرق بين فصّ بعشرة دنانير والآخر بألف دينار ، وكذلك في الثّياب ، حتّى يفتقر في العلم بما هذه حاله إلى ذوي الحذق والبصيرة.
وهذا يبيّن أنّ اللّبس لم يقع مع التفاوت والتباعد إلّا من الوجه الّذي ذكرنا ، وأنّه لا يجب أن يظهر الفرق بين سائر الأشياء على نسبة واحدة ، وفيه بطلان ما اعتمدتموه .
الجواب :
يقال له : هذا الّذي ظننته عكس العقول ، وقلب موجباتها؛ لأنّ من المعلوم أنّ ظهور الفرق بين الشّيئين تابع لمزيّة أحدهما على صاحبه ، وكلّما كانت المزيّة أكثر كان الفرق أظهر ، لو لا هذا لجاز أن يفرّق بين الكبير والصّغير من الأجسام من لا يفرّق بينهما ، إذا كان الكبير أكبر ممّا هو عليه ، والصّغير أصغر ممّا هو عليه ، على ما كنّا ذكرناه فيما تقدّم من بعض الكتاب.
والّذي ذكرته في الثّياب والفصوص غير مماثل- إذا صحّ- لما نحن فيه؛ لأنّه غير منكر أن يفرّق بين الفصّين من لا يفرّق بين غيرهما ، وإن كانت القيمة في اللّذين لم يفرق بينهما أكثر تفاوتا منها في اللّذين فرّق بينهما ، وإنّما جاز ذلك من حيث لم تكن زيادة القيمة في الجواهر تابعة لوجه واحد دون غيره ، حتّى تزيد بزيادته ، وتنقص بنقصانه ، بل هي تابعة لوجوه كثيرة.
ولو كان الوجه الّذي فرّق بين الفصّين بعينه هو الّذي زاد وتضاعف في غيرهما لاستحال ألّا يظهر لمن ظهر له ما نقص عنه .
يبيّن ما ذكرناه أنّ من فرّق بين الفصّ الياقوت وغيره ، للونه أو لمائه مثلا ، لم يجز أن يتضاعف ما من أجله فرّق ، والفرق غير حاصل ، وإن جاز أن تتزايد
وتتضاعف وجوه أخر تكثر لها القيمة وإن لم يظهر الفرق.
وليس يمكن أن يقال : فقولوا مثل هذا في القرآن ، وأجيزوا أن يكون خفاء القرآن بينه وبين ما ذكرتموه إنّما هو لاستبداده بوجوه من الفصاحة ليست فيما ظهر لنا الفرق بينه وبين غيره؛ وذلك أنّ الكلام إنّما يكون أفصح من غيره على أحد وجهين :
إمّا بأن يزيد عدد ما فيه من الألفاظ الفصيحة؛ أو بأن يكون نفس ألفاظه أفصح وأجزل من ألفاظ غيره .
فمتى وقع الفرق بين كلامين ، أحدهما أفصح من الآخر فلا بدّ متى ضممنا إلى الأنقص فصاحة ما هو أفصح من الأوّل ، يظهر لنا فصاحته . وكذلك متى ضممنا ما هو أفصح من الجميع ، وعلى هذه النسبة أبدا.
ومتى اعتبرت هذه الطّريقة في النثر والنّظم وكلّ فصيح من الكلام ، فوجدتها مستمرّة غير منتقضة ، فليس يمكن الإشارة في الفصاحة إلى وجوه مختلفة يجوز أن يظهر بعضها لمن يميّز بين الفصاحة ويخفى عنه البعض ، مع زيادته وتفاوته ، كما جاز مثله في القيمة؛ لأنّ ذلك لو كان صحيحا لوجب أن لا يقع الفرق بين أظهر سور القرآن فصاحة ، وبين أنقص كلام العرب فصاحة ، كما لم يقع الفرق بين مواضع منه ، وبين أفصح كلام العرب؛ لأنّ العلّة في ارتفاع الفرق واحدة ، وهي ما ادّعى من مخالفة الطّريقة. أ لا ترى أنّ من لم يظهر له الفرق بين الكتابة السّريانيّة العربيّة (256)- من حيث لم يكن عارفا بطريقة السّريانيّة- لم تختلف حاله في ارتفاع الفرق بين أن يجمع بين السّريانيّة إلى أردا خطوط العربيّة ، وبين أن يجمع إلى أحسنها! ونحن عالمون في القرآن ضرورة خلاف ذلك.
وبعد ، فلو كان ما تضمّنه السّؤال صحيحا لكنّا لا نأمن أن يكون بين شعر امرئ القيس ، وشعر من قاربه وكان في طبقته ، مثل النّابغة والأعشى ومن جرى مجراهما ، من التعاقب في الفصاحة أكثر ممّا بين شعره وشعر أحد المحدثين ، وتكون العلّة في خفاء الفرق علينا- مع ظهور الفرق بين شعره وأشعار المحدثين- ما ذكره السّائل وجعله علّة في ارتفاع العلم بالقرآن وغيره .
وليس يؤمن ما ذكرناه إلّا الطّريقة التي سلكناها من أنّ الأمر لو كان على هذا لوجب أن يظهر الفرق بين شعر امرئ القيس والنّابغة ، إذا فرضنا التّفاوت بينهما في الفصاحة ، لكلّ من ظهر له [ما] بينه وبين شعر المحدث.
وليس لأحد أن يقول : قد كان الشكّ في ذلك جائزا ، لو علمنا بخلافه من مذاهب أهل البصيرة بالشّعر ونقده ، الّذين لا يجوز عليهم أن يخفى ما يخفى علينا في هذا الباب؛ لأنّهم مطبقون على تقارب هذين الرّجلين في الشّعر ، وأنّه لا تفاوت بين فصاحتهما.
وذلك أنّه يلزمه على هذا أن نكون- لو لا ما علمناه من حال هؤلاء ومذاهبهم في هذين الشّاعرين- مجوّزين بخلافه ، وشاكّين في أنّ بين شعر امرئ القيس والنّابغة من الفصاحة أكثر ممّا بين شعره وشعر المتنبّي ، مع ظهور الفرق بين شعره وشعر المتنبّي لنا ، واشتباه الأمر في شعره وشعر النّابغة علينا ، وهذا حدّ لا يبلغه متأمّل لأمره .
على أنّ هاهنا وجها يزيل كلّ شبهة في هذا الباب ، وهو : أنّ خفاء الفرق بين القرآن وأفصح كلام العرب علينا ، لو كان سببه ما ادّعي من وفور حظّ ما يضمّه إليه من الفصاحة والبلاغة ، وأنّ ذلك هو النّقيض للاشتباه (257)- وإن كان التفاوت في الفصاحة حاصلا- لوجب أن لا تظهر لنا فصاحة بعض القرآن على بعض؛ لأنّ بعضه أقرب إلى بعض في الفصاحة من كلّ كلام يضمّ إليه .
وما لا تظهر فصاحته من جملة ظهورها في غيره أوفر حظّا في الفصاحة على كلّ حال من جميع الكلام ، حتّى أنّه ينتهي عند خصومنا فرط فصاحته إلى خرق العادة. فصارت العلّة الّتي ذكروها في تعذّر الفرق بين مواضع من القرآن وفصيح كلام العرب ، تقتضي على آكد الوجوه ارتفاع الفرق بين بعضه وبعض.
وإذا علمنا ضرورة ظهور بعض فصاحته على بعض بطل ما ظنّه خصومنا ، وصحّ مذهبنا.
وهذا الوجه يسقط أيضا قول من جعل العلّة في خفاء الفرق استبداد القرآن بطريقة في الفصاحة مخالفة لسائر الطّرق.
*** وإذا انتهينا إلى هذا الموضع من الكتاب فقد كان الواجب قطعه عليه ، لاستيفائنا الكلام في جميع ما شرطناه وأجرينا بكتابنا إليه ، لكنّا آثرنا الآن أن نضمّ إليه فصولا في الدّلالة على وقوع التحدّي بالقرآن ، وأنّه لم يعارض ، وأنّ معارضته لم تقع لتعذّرها ، وأنّ تعذّرها كان على وجه يخالف العادة ، ليكون ما أسّسناه في صدر الكتاب من هذه الأمور- تعويلا على ارتفاع الخلاف بيننا وبين من خالف في الصّرفة- مدلولا عليه ومبرهنا على صحّته ، وليكون كتابنا هذا حجّة على مخالفي الملّة ، كما أنّه حجّة على الموافق فيها ، وحتّى لا يفتقر النّاظر فيه والمعوّل عليه في
دلالة القرآن على النّبوّة إلى غيره ، ولا يحتاج أن يرجع إلى سواه .
وهذه الفصول ، وإن وردت في الكتاب متأخّرة- لأنّ الغرض في ابتدائه لم يقتض إيرادها- فموقعها على الحقيقة متقدّم ، وليس للتقديم والتأخير تأثير في هذا الباب ، إذا كان ما يحتاج إليه من المعاني بالحجج موجودا مستوفى ، ومذكورا ومستقصى.
ونحن نستأنف القول فيها ، مستعينين باللّه تعالى ، ومعتمدين على توفيقه وتسديده .
_______________________
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
جمعية العميد تدعو الباحثين لحضور فعّاليات مؤتمر العميد العلمي السابع
|
|
|