المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17599 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط
30-8-2016
اهمية حليب الام
10-1-2016
تطور مفهوم التجديد الحضري
29-9-2020
Global Analytic Continuation
14-10-2018
البياض الزغبي Downy mildew
2024-10-01
ثبوت الهلال
5-12-2016


التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) : تفسير اجتهادي  
  
3155   03:18 مساءاً   التاريخ: 15-10-2014
المؤلف : محمد هادي معرفة
الكتاب أو المصدر : التفسير والمفسرون في ثوبه القشيب
الجزء والصفحة : ج2 ، ص872-891.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / التفسير والمفسرون / مناهج التفسير / منهج التفسير الإجتهادي /

للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، المعروف بابن الخطيب ، من اصل طبرستاني ، نـزل والـده الـري واشتهر بها في ظاهره اشعري شافعي المذهب ، صاحب تصانيف ممتعة في فنون المعارف الاسلامية ، مضطلعاً بالأدب والكلام والفلسفة والعرفان قال ابن خلكان : ان كتبه ممتعة ، وقـد انـتشرت تصانيفه في البلاد ، ورزق فيها سعادة عظيمة ، فان الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين ، توفي سنة (606هـ.).
وتـفـسيره هذا من جلائل كتب التفسير ، وقد استوفى الكلام فيه ، بما وسعه من الاضطلاع بأنحاء الـمعارف وفنون العلوم ، ولم يدع براعته متجولة في مختلف مسائل الاصول والفلسفة والكلام ، وسائر المسائل الاجتهادية النظرية والعقلية ، وأسهب الكلام فيها ، بما ربما أخرجه عن حد الاعتدال وكثيراً ما يترك وراه لمة من تشكيكات وإبهامات بما يعرقل سبيل الباحثين في التفسير ، ولكنه مع ذلك فانه فتاح لكثير من مغالق المسائل في ابحاث اسلامية عريقة .

اما منهجه في التفسير ، فإنه يذكر الآية اولاً ، ويعقبها بموجز الكلام عنها بصورة اجمالية ، ويذكر ان فـيها مسائل ، يبحث في كل مسالة عن طرف من شؤون الآية : قراءة ، وادباً ، وفقهاً ، وكلاماً ، وما اشبه من المباحث المتعلقة بتفسير الآية ، ويستوفي الكلام في ذلك في نهاية المطاف . وهو من احسن الاسـالـيب التفسيرية ، تتجزأ المسائل وتتركز الابحاث ، مفصلة كلاً في محلها ، من غير ان يختل ط البحث او تتشابك المطالب ، ومن ثم لا يترك القارئ حائراً في امره من البحث الذي ورد فيه .

ومـن طـريف الامر انه لم يجعل لتفسيره مقدمة ليشرح فيها موضعه من التفسير ، والغاية التي أقدم لأجلها على كتابة مثل هذا التفسير الضخم ، والسفر الجلل العظيم ، وكان لابد ان يشرح ذلك . كما لـم يـذكـر مـنابعه في التفسير ، ولا الكتب التي اعتمدها في مثل هذا التصنيف ، في حين انا نعلم انه اعـتـمـد خـيـر المؤلفات لذاك العهد ، واحسن المصنفات في ذلك الزمان ، في مثل تفسير ابي مسلم الاصـفـهـانـي والـجبائي والطبري وابي الفتوح الرازي ، وامثالهم من مشايخ عظام وعلما أجلّة معروفين حينذاك .

وتـفـسيره هذا ، يغلب عليه اللون الكلامي الفلسفي ، لاضطلاعه بهذين العلمين ، ومن ثم نجده يكثر الـكـلام في ذلك كلما اتاحت له الفرصة ، فيغتنمها ، ويسهب الكلام في مسائل فلسفية بعيدة الاغوار ، بما ربما اخرجه عن حد تفسير القرآن ، الى مباحث جدلية كلامية ، وربما كانت فارغة .
وهل اكمل تفسيره ام تركه ناقصاً ليكمله غيره من تلاميذ واحفاد ، كما قيل ؟. قـال ابـن خـلـكان : له التصانيف المفيدة في فنون عديدة ، منها تفسير القرآن الكريم ، جمع فيه كل غريب وغريبة ، وهو كبير جداً ، لكنه لم يكمله  (1) .

قـال ابـن حـجر : الذي اكمل تفسير فخر الدين الرازي ، هو احمد بن محمد بن ابي حزم نجم الدين المخزومي القمولي ، المتوفى سنة (727هـ) ، وهو مصري  (2) .

وقال حاجي خليفة : صنف الشيخ نجم الدين احمد بن محمد القمولي تكملة له ، وقاضي القضاة شهاب الدين احمد بن خليل الخوئي الدمشقي كمل ما نقص منه ايضا توفي سنة (639هـ) (3)  . وقـال ابـن ابـي أُصـيبعة المتوفى سنة (668هـ) في ترجمة احمد بن خليل الخوئي : ولشمس الدين الخوئي من الكتب ، تتمة تفسير القرآن لابن الخطيب (4) . 

واما الى اي موضع بلغ الامام الرازي من تفسيره ليترك البقية لغيره ، فهذا مختلف فيه اختلافاً غريباً :
يـقول الاستاذ محمد حسين الذهبي : وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه : (الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن (شرح الشفا) للشهاب ، انه وصل فيه الى سورة الانبياء)  (5) . واحـتـمل بعضهم ان الرازي اتم تفسيره ما عدى سورة الواقعة ، حيث فيها بعض التعليق من غيره ، مـثلاً جاء ذيل تفسير قوله تعالى : {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة : 24] وفيه مسائل ، المسألة الاولى اصولية ، ذكرها الامام فخر الدين (ره) في مواضع كثيرة ، ونحن نذكر بعضها (6) .

قـال الاسـتـاذ الـذهبي تعقيبا على هذا الكلام : وهذه العبارة تدل على ان الامام الرازي لم يصل في تفسيره الى هذه السورة (7) .

ثـم أبـدى رأيه في حل الاختلاف قائلاً : (و الذي استطيع ان اقوله كحل لهذا الاضطراب هو ان الامـام الـرازي كتب تفسيره الى سورة الانبياء ، فأتى بعده شهاب الدين الخوئي فشرع في تكملة هذا التفسير ، ولكنه لم يتمه ، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه كما يجوز ان يكون الخوئي اكمله الى النهاية ، والقمولي كتب تكملة اخرى غير التي كتبها الخوئي وهذا هو الظاهر من عبارة كشف الظنون ) (8) .

قـلـت : وعـلى ذلك ، فان الامام الرازي لم يبلغ من تفسيره سوى حوالى النصف ، الامر الذي لا يمكن تـصديقه ، بل الظاهر انه فسر القرآن كله حتى آخر سورة منه ، نظراً لوحدة الاسلوب والمنهج والقلم والبيان ، فضلاً عن الشواهد الموفورة ، على ان الامام الرازي قد اكمل تفسيره حتى النهاية ، الل هم الا بعض التعليق مما اضيف اليه بعد ذلك ، فالحق بالمتن في الاستنساخات المتأخرة .

ونـذكـر شـاهـداً على ذلك انه عند تفسير الآية رقم (22) من سورة الزمر (رقمها39 ورقم سـورة الانـبـيـاء 21) فـي تـفسير قوله تعالى : {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر : 22] يقول : واعلم انا بالغنا في تفسير سورة الانعام في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } [الأنعام : 125] فـي تفسير شرح الصدر ، وفي تفسير الهداية (9)  .

وامثال هذه العبارة كثيرة في القسم المتأخر من التفسير.

عنايته بأهل البيت (عليهم السلام)

 لـه عـناية خاصة بآل بيت الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) يذكرهم بإجلال وإكبار ، ويفخم من شأنهم ، مما ينبؤك عن ولا متين بالنسبة الى العترة الطاهرة ، الذين هم عدل القرآن العظيم .
تـجـده يقول عند الكلام عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم : واما ان علي بن ابي طالب (عليه السلام)  كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومن أقتدى في دينه بعلي بن ابي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله (عليه السلام)  : (اللهم ادر الحق مع علي حيث دار). ثـم يقول عند ترجيحه للقول بوجوب الجهر : ان راوي قولنا على بن ابي طالب (عليه السلام) ، واخيرا يقول : وعمل علي بن ابي طالب (عليه السلام)  معنا ، ومن اتخذ عليا اماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (10)  .

ومـن دأبه تعقيب اسما ائمة اهل البيت بـ (السلام عليهم ) كتعقيبه لاسم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقد عرفت تعقيب اسم علي بـ (السلام عليه ) ، وهكذا في تعقيب اسماء سائر الائمة هو عندما يروي عن الامام جـعـفر بن محمد ، يصفه أولاً بلقبه الفخيم (الصادق) ثم يعقبه بـ (السلام عليه ) قال في تفسير الـنـعـيـم : قـال جـعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)  : النعيم : المعرفة والمشاهدة ، والجحيم : ظلمات الشهوات (11) .

و في كثير من عباراته : محمد (السلام عليه) ، علي (عليه السلام)  على سواء ، راجع تفسيره لسورة النصر (12).  و هـكـذا نـجـده يذكر ائمة اهل البيت بإكبار وإجلال ، هو عندما يتعرض لوفرة ذرية الرسول في تفسير سورة الكوثر ، يقول : انظر كم كان فيهم من الأكابر من  العلماء ، كالباقر والصادق والكاظم والرضا (السلام عليهم) ، والنفس الزكية وامثالهم  (13) و الذي يجلب النظر انه عقب اسماء الائمة الاربعة فقط بـ (السلام عليهم ) ، الامر الذي يدل بوضوح على مبلغ تشيعه لآل البيت (عليهم السلام). 

هو عند ما يتعرض لأية المتعة من سورة النساء (24) يقول : انها نسخت في حياة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويـقـول : انـا لا ننكر ان المتعة كانت مباحة ، انما الذي نقوله : انها صارت منسوخة ويقول بصدد نهي عـمـر عـنـها : انه لو كان مراده ان المتعة كانت مباحة في شرع محمد(صلى الله عليه واله وسلم) وانا انهى عنها ، لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ، ويفضي ذلك الى تكفير امير المؤمنين ، حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه (14) .

الـمـقـصود من (امير المؤمنين) هو الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)  يصفه بهذا اللقب الفخم ايام عهد عـمـر ، ويعتقد في شخصيته الكريمة حراسة لدين اللّه وحفظاً لحدوده ، الأمر الذي جرى عليه اهل الولاء لهذا البيت الرفيع ، وهكذا تعتقد الشيعة الامامية في ائمتها الاطهار. وهـكـذا تـمـثـلـه بأبيات شعرية تنوه من شأن اهل البيت (عليه السلام)  في كثير من مواضع تفسيره ، منها : اسـتشهاده بشعر حسان بن ثابت ، لغرض بيان أن السجدة ليوسف انما كان من جهة انهم جعلوه قبلة في سجودهم ، واستشهد لذلك بقوله :

ما كنت اعرف ان الامر منصرف ـــــ عن هاشم ثم منها عن ابي الحسن .
اليس اول من صلى لقبلتكم ـــــ واعرف الناس بالقرآن والسنن (15) .

ولا يخفى لطف الاستشهاد بهذين البيتين في محتواهما الرفيع !

واما ما نجده احيانا من تحامله على الشيعة وربما لعنهم بعنوان (الروافض) (16) فلعله من عـمـل الـنُـسـاخ ، اذ لا يليق بقلم كاتب أديب ، وعلامة أريب أن يهدر في سفه الهذر ، من يُعْنَ بالحمد لا ينطق بما سفه ، ولم يحد عن سبيل الحلم والادب  .

ذكـر عـنـد تفسير آية المودة نقلاً عن صاحب الكشاف الحديث المعروف : (من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مـات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً ، مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة اللّه).
قـال بعد نقل ذلك : وانا اقول : آل محمد هم الذين يؤول أمرهم اليه ، فكل من كان أمرهم اليه اشد واكـمـل كانوا هم الآل ، ولاشك ان فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه اشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب ان يكونوا هم الآل .  
وايضاً اختلف الناس في (الآل ) فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أمته فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وان حملناه على الامة الذين قبلوا دعوته فهم ايضا آل ، فثبت ان على جميع التقديرات هم الآل واما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الال ؟ فمختلف فيه !
وروى صـاحـب الكشاف : انه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم ) من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال : (على وفاطمة وابناهما) ، فثبت ان هؤلاء الاربعة اقارب النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) واذا ثبت هذا وجب ان يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم .
ويدل عليه وجوه   :

الاول : قوله تعالى : {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى : 23] ووجه الاستدلال به ما سبق .
الـثـانـي : لاشـك ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) كان يحب فاطمة (عليها السلام) قال (صلى الله عليه واله وسلم ) : (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يـؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) انه كان يحب علياً والحسن والحسين ، واذا ثـبـت ذلـك وجـب على كل الأمة مثله ، لقوله : {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف : 158] و لقوله تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور : 63] . و لقوله : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 31] و لقوله سبحانه : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] .

الـثـالث : ان الدعاء (للآل) منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قـولـه : (الـلـهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمداً وآل محمد) ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل فكل ذلك يدل على ان حب آل محمد واجب .

وقال الشافعي   :

يا راكباً قف بالمحصب من منى ـــــ واهتف بساكن خيفها والناهضِ .
سحراً اذا فاض الحجيج الى منى ـــــ فيضاً كما نظم الفرات الفائض .
[ أعلمهم أن التشيع مذهبي ـــــ إني أقول به ولستُ بناقضِ ] 

ان كان رفضاً حب آل محمد ـــــ فليشهد الثقلان اني رافضي  (17)  .

ونـقـل ابن حجر العسقلاني عن ابن خليل السكوني في كتابه (الرد على الكشاف ) انه اسند عن ابن الطباخ : ان الفخر كان شيعياً ، يقدم محبة اهل البيت ، كمحبة الشيعة ، حتى قال في بعض تصانيفه : (و كان علي (عليه السلام)  شجاعاً بخلاف غيره )  (18)   .

وقـال الـطـوفي : انه يورد شبه المخالفين في المذهب ، على غاية ما يكون من القوة والتحقيق ، ثم يـورد مذهب اهل السنة والحق على غاية من الوهاء (او الدهاء) قال : وبعض الناس يتهمه في هذا ، وينسب ذلك الى انه كان ينصر بهذا الطريق ، ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به (19) .

وقـال الشيخ محمد بهاء الدين العاملي في حوادث شهر شوال ، يوم عيد الفطر : (و فيه سنة ست وست مائة ، توفي فخر الدين الرازي ، الملقب بالإمام ، وأصله من مازندران ، وولد بالري ، وكان يميل الى التشيع ، كما لا يخفى على من تصفح تفسيره الكبير وقبره بمدينة هرات ) (20) .

إمام المشكّكين

ومما اختص به الامام الرازي خوضه في انحاء المسائل ، من ادب وكلام وفلسفة واصول ، ولكنه لا يخرج منها في الأكثر إلا ويترك وراه لمة من تشكيكات وابهامات في وجه المسألة ، انه ربما اثار اشـكالا او اشكالات ، لكنه لا يجيب عليها الا اجابات ضعيفة وموهونه ، يترك القارئ في حيرة ، هل ان مـثـل الإمـام الرازي عاجز عن الاجابة لمثل تلكم المسائل ، ام هناك تعمد لغرض تقرير الاشكال حسب نظره ؟!

الـمـعـروف عن الرازي انه اشعري المذهب في اصول العقيدة ، جبري ظاهري ، لكنه عند عرضه لـمـسـائل الـكلام ، يقرر من مذاهب الخلاف بما يضعف به المذهب الاشعري احياناً ، وربما الى حد الوهن والافتضاح .

قال نجم الدين الطوفي البغدادي ـ من أعلام القرن السابع ـ : وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي ، وكتاب (مفاتيح الغيب) للإمام الرازي ، ولعمري كم فيه من زلة وعيب وحـكى لي الشيخ شرف الدين النصيبي المالكي : ان شيخه الامام الفاضل سراج الدين المغربي صنف كتاب (المآخذ على مفاتيح الغيب ) وبين فيه من البهرج والزيف في نحو مجلدين ، وكان ينقم عليه كـثـيـراً ، خصوصاً ايراده شُبَه المخالفين في المذهب والدين ، على غاية ما يكون من القوة ، وايراد جواب اهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء . قال الطوفي : ولعمري ان هذا لدابه في غالب كتبه الكلامية والحكمية ، كالأربعين ، والمحصل ، والنهاية ، والمعالم ، والمباحث المشرقية ، ونحوها وبـعض الناس يتهمه في هذا وينسبه الى انه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به .

و قال في سبب ذلك : انه كان شديد الاشتياق الى الوقوف على الحق ـ كما صرح به في وصيته التي أمـلاها عند موته ـ فلهذا كان يستفرغ وسعه ، ويكد قريحته في تقرير شبه الخصوم ، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال ، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه ، لاستفراغه قوتها في تقرير الشبه . ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية ، ان أحدنا اذا استفرغ قوة بدنه في شغل ما من الاشغال ، ضعف عن شغل آخر ، وقُـوَى الـنفس على وزان قوى البدن غالباً . وقد ذكر في مقدمة كتاب (نهاية العقول) ما يدل على صـحـة مـا اقـول ، لانه التزم فيه ان يقرر مذهب كل خصم ، لو اراد ذلك الخصم تقريره ، لما أمكنه الزيادة عليه او أوفى بذلك ولهذا السبب قرر في كتاب (الاربعين) أدلة القائلين بالجهة ، ثم اراد الـجـواب عـنـهـا ، فما تمكن منه على الوجه ، فغالط فيه في موضعين قبيحين ، ذكرهما في مواضع كثيرة (21) .

ومما بحث على اصول مذهبه الاشعري في ظاهر الامر ما ذكر عند تفسير الآية {كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6] .

قـال : احـتج اهل السنة ـ يعني بهم الأشاعرة ـ بهذه الآية وكل ما اشبهها من قوله : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [يس : 7] وقوله : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ـ الى قوله ـ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر : 11 - 17]  ، وقوله : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد : 1] احتجوا بأمثال هذه الآيات على جواز تكليف ما لا يطاق  .

ثم اخذ في تقرير هذا الاحتجاج من وجوه خمسة :

أولاً : انـه تـعالى اخبر عن اشخاص معينين انهم لا يؤمنون قط ، فلو صدر منهم الايمان ، لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً.

وثانياً : انه تعالى لما علم منهم الكفر ، فكان صدور الايمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً. وثالثاً : ان وجود الايمان يستحيل ان يوجد مع العلم بعدم الايمان ، لأنه انما يكون علماً لو كان مطابقاً لـلمعلوم ، والعلم بعدم الايمان انما يكون مطابقاً لو حصل عدم الايمان ، فلو وجد الايمان مع العلم بعدم الايـمـان ، لـزم ان يـجتمع في الايمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً ، وهو محال ، فالأمر بالإيمان مع وجـود عـلم اللّه تعالى بعدم الايمان ، أمر بالجمع بين الضدين ، بل بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال .

ورابـعـاً : انه تعالى كلف هؤلاء ـ الذين اخبر عنهم بانهم لا يؤمنون ـ بالإيمان البتة ، والايمان يعتبر فـيه تصديق اللّه تعالى في كل ما اخبر عنه ، ومما اخبر عنه انهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بانهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات .
وخـامـساً : انه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شي على خلاف ما أخبر اللّه عنه في قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح : 15] . فـثـبت ان القصد الى تكوين ما أخبر اللّه تعالى عن عدم تكوينه ، قصد لتبديل كلام اللّه ، وذلك منهي عنه . وهاهنا أخبر اللّه تعالى عنهم بانهم لا يؤمنون البتة ، فمحاولة الايمان منهم تكون قصداً الى تبديل كـلام اللّه ، وذلـك منهي عنه . وترك محاولة الايمان يكون ايضا مخالفة لأمر اللّه تعالى ، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل .

قـال : فـهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع . وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال . ولقد كان السلف والخلف من المحققين معوّلين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم . ولقد قاموا ـ اي المعتزلة ـ وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع .

هـذه هـي الوجوه الخمسة التي زعم منها دلائل ثابتة تدعم نظرية أصحابه في جواز التكليف بغير المستطاع ، وحسب أن خصومهم أصحاب الاعتزال عجزوا عن ردها مهما أوتوا من حول وقوة .

في حين ان آثار الوهن بادية عليها ، لأن أساسها العلم الأزلي الالهي المتعلق بعدم إيمان الكافر الجاحد . والحال ان العلم مهما يكن فانه ليس سبباً لوقوع المعلوم ، بل ان وقوع المعلوم في وقته سبب لحصول هـذا الـعـلم ، فالعلم تبع للمعلوم . فلو فرض انهم كانوا يؤمنون ، لكان العلم حاصلاً بإيمانهم فليس العلم القديم أصلاً ، بل هو فرع تحقق المعلوم في حينه المتأخر ، كما قال ابو الحسين البصري : ان العلم تبع المعلوم ، فإذا فرض الواقع من العبد الايمان ، عرف ان الحاصل في الأزل للّه تعالى هو العلم بالإيمان ، والـعـمـدة أن العبد مختار في الكفر والايمان ، فأي منهما تحقق منه ، علمه اللّه في الازل ، وليس علمه تعالى سبباً قهرياً يسلب عن العبد اختياره في العمل .

وهـذا واضـح لـمـن تـدبر ، ولا اظن خفاءه على مثل الامام الرازي صاحب الذهنية الوقادة ، ولكن تـظـاهـراً بـالـدفاع عن مذهبه الرسمي المفروض عليه من قبل السلطات ، دعاه الى ذكر مثل هذه الوجوه البادي عليها الضعف والوهن . وتماشياً مع الجو الحاكم أجبر على الانسجام مع الوضع الراهن .

ومـن ثـم نـراه ـ عـنـد ما يذكر دلائل اصحاب الاعتزال ـ نراه يذكرها بقوة ودقة واحاطة وتفصيل ، بما لا يدع مجالاً في امكان قبول تلكم الوجوه الاشعرية .

ذكر دلائل اهل الاعتزال في ثلاث مقامات ، أولاً : عدم المانع من الايمان والكفر ، وثانياً : ان العلم لا يوجب منعاً في العمل ، الثالث : نقض تلكم الوجوه الخمسة . ذكرهن بإسهاب وتفصيل ، نقتطف منها ما يلي   :

قال : وانا اذكر أقصى ما ذكره اصحاب الاعتزال بعونه تعالى وتوفيقه . وذكر وجوهاً خمسة ، في الـمـقـام الأول ، وخلاصتها : ان القرآن مملوء من الآيات الدالة على انه لا مانع لأحد من الايمان ، قال تعالى : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى } [الإسراء : 94] ، وَ{مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء : 39] {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق : 20] .

قـال الـصـاحـب ابن عباد : كيف يأمر العبد بالإيمان وقد منعه عنه ؟! وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ؟!

وايـضـاً فـان اللّه تـعـالـى قـال : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء : 165]  ، وقال : {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه : 134] .

فلما بين تعالى أنه ما أبقى لهم عذراً الا وقد ازاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مـانعاً لهم عن الايمان ، لكان ذلك من اعظم الأعذار ، كما ان الذم على الكفر والجحود ، هو خير دليل على اختياريته ، وعدم وجود مانع قاهر عن الايمان .
وذكـر في المقام الثاني وجوهاً عشرة على ان المعلوم لا ينقلب عما هو عليه بسبب العلم ، لأن العلم انـمـا يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، فإن كان ممكناً عَلِمَهُ ممكناً ، وان كان واجباً علمه واجباً ، ولا شـك ان الايـمان والكفر كل واحد بالنظر الى ذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجباً بسبب العلم ، كان العلم مؤثراً في المعلوم ، وهو باطل بالضرورة .
وايـضـاً فإن اللّه تعالى قال : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 286] و قال : {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78] و قال : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف : 157] فكيف يكلف اللّه العبيد ما لا يطيقون ؟!

 وفـي الـمـقام الثالث ، نقل عن القاضي عبد الجبار جواب المعتزلة عن الأشاعرة ، وتخطئة انقلاب العلم جهلاً والصدق كذباً قال الكعبي وابو الحسين البصري : ان العلم تبع المعلوم ، فاذا فرضت الواقع مـن العبد الايمان عرفت ان الحاصل في الازل للّه تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الايمان عرفت ان الحاصل في الازل هو العلم بالكفر بدلا عن الايمان فهذا فرض عـلـم بـدلاً عـن عـلـم آخر ، لا انه تغير العلم . قال الامام الرازي : فهذا الجواب هو الذي اعتمده جمهور المعتزلة .

قـلت : وقد عرفت قوة استدلالهم ، وضعف دلائل خصومهم ، غير أن الامام الرازي ترك وهن تلك الوجوه وقوة هذه الدلائل بمعرض القارئ ومسمعه ، ليحكم هو حسب ذهنيته الفطرية الحاكمة بأن الـعبد مختار في فعله واللّه تعالى لا يكلف بما لا يستطاع ، الامر الذي يجعل من دلائل اهل الاعتزال هي الكفة الراجحة ، وهذا شي فعله الامام الرازي ، عن حسن نية وعن عمد فعله ـ حسب الظاهر ـ اذ الظاهر انه ليسي الظن بمذاهب اصحابه الاشعريين .
ومما يدلك على ذلك ، انه لم يطعن في دلائل اهل الاعتزال ، وذكرها تامة وافية ، كما هي عادته في كل امر يعتقده صحيحاً.

ثـم انه بعد ايراد دلائل الطرفين ، اورد شبهاته في المسألة وذكر مقالات تشكيكية ، واسندها الى اهل التشكيك ، ممن فرضهم اهل العناد في مسائل الكلام .

قال : واعلم ان هذا البحث صار منشأ لضلالات عظيمة ، فمنها : ان منكري التكاليف والنبوات قالوا : قـد سـمـعنا كلام أهل الجبر ـ يعنى بهم الاشاعرة ـ فوجدناه قوياً قاطعاً وهذان الجوابان اللذان ذكـرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل اليهما مع الجبر يقبح التكليف ، والجواب الذي ذكره اهل الجبر ضعيف جداً ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات .

هكذا يلقي التشكيك ، عند عرض الآراء ، سواء المخالف ام المؤالف .

ثـم يذكر مطاعن اخر وجهها الطاعنون في القرآن وفي الاسلام ، على أثر هذه المناظرة بين اهل الـجبر والقدر ، ويستنتج : ان الرجوع الى العقليات يورث الكفر والضلال ، ولهذا قيل : من تعمق في الكلام تزندق .

ثـم يذهب في تشكيكاته حيث يشاء ، ويذكر في اثنائها حكاية طريفة يرويها عن ابن عمر ، ان رجلاً قـام الـيه فقال : يا ابا عبد الرحمان ان اقواماً يعملون الكبائر ويقولون : كان ذلك في علم اللّه فلم نجد بُـداً مـنه فغضب وقال : سبحان اللّه ، قد كان في علمه انهم يفعلونها ، فلم يحملهم علم اللّه على فعلها . حدثني ابي انه سمع رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم ) يقول : مثل علم اللّه فيكم كمثل السماء التي اظلتكم ، والارض الـتي اقلتكم فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والارض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج عن علم اللّه تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والارض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم اللّه تعالى عليها.

والـمقصود : ان علمه تعالى الازلي محيط بأفعال العباد ، ولكن من غير ان يكون علمه تعالى سبباً وعلةً في ايجادها ، لان علمه تعالى السابق ، تبع لعمل العبد اللاحق ، فكيفما يعمل يعلمه تعالى من غير ان يكون هذا العلم مؤثراً في ارادة العبد.

وهـذا الـمعنى الواضح ، لم يدركه مثل الامام الرازي ؟ ولعله تظاهر بعدم الفهم الحكاية : ان في الاخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان انـه لا يـليق بالرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) ان يقول مثل ذلك ، لانه متناقض وفاسد ، اما المتناقض فلأن الصدر يدل عـلـى الـجـبـر ، والـذيل صريح في القدر. واما أنه فاسد فلأن العلم بعدم الايمان ووجود الايمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدمه تكليف بالجمع بين النفي والاثبات (22) .

قلت : ولعل إمامنا الرازي طاعن في ضلاله القديم او متظاهر بذلك .

ومن ذلك ايضاً ، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى : {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف : 14 - 16] . قـال : احـتـج اصحابنا بهذه الآية في بيان انه لا يجب على اللّه رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنـياه ، وتقريره : ان ابليس استمهل الزمان الطويل فأمهله اللّه تعالى ، ثم بين انه انما استمهله لإغواء الخلق واضلالهم والقاء الوساوس في قلوبهم ، وكان تعالى عالماً بأن اكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسـوسته ، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ : 20] فـثـبـت بـهذا ان إنظار ابليس وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الـكـبـيـر ، فلوكان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع ان يمهله وان يمكنه من هذه المفاسد ، فحيث أنظره وأمهله ، علمنا انه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح اصلاً.

ومما يقوي ذلك انه تعالى بعث الأنبياء دعاة الى الخلق ، وعلم من حال ابليس انه لا يدعو الا الى الكفر والضلال ، ثم انه تعالى امات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق ، وأبقى ابليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق الى الكفر والباطل ، ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه ان يفعل ذلك .

قـالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة ، فقال الجبائي : انه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعـدمـه ، ولا يضل بقوله احد الا من لو فرضنا عدم ابليس لكان يضل ايضاً . والدليل عليه قوله تعالى : { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 162، 163]  ، ولانه لو ضل به احد لكان بقاؤه مفسدة وقال ابو هاشم : يجوز ان يضل به قوم ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة ، فان هذه الزيادة مـن الـشـهـوة لا تـوجب فعل القبيح الا ان الامتناع منها يصير اشق ، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تـحصل الزيادة في الثواب ، فكذا هنا بسبب ابقاء ابليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ، ولكنه لا ينتهي الى حد الإلجاء والاكراه .

وأجاب الرازي : ان الشيطان لابد ان يزين القبائح ، ومعلوم ان حال الانسان مع هذا التزيين لا يكون مـسـاويـاً مع عدمه فحصول هذا التزيين يوجب الأقدام على القبائح ، وهو القاء في المفسدة . ومسألة الـزيـادة فـي الـشهوة حجة أخرى لنا في ان اللّه لا يراعي مصلحة العباد بسبب خلق تلك الزيادة في شـهـوة الانـسـان ، وحـصول الزيادة في الثواب لا حاجة اليه ، حيث دفع العقاب المؤبد من أعظم الـحاجات ، فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال ان يهمل الاكمل الاعظم ، لطلب الزيادة التي لا حاجة اليها ولا ضرورة (23) .
انظر كيف فضح اصحابه بهذا النمط من البحث ، والخوض في مسألة تمس جانب حكمته تعالى ، فينفي كونه تعالى حكيماً لا يفعل الا عن مصلحة ، والمصلحة التي يُراعيها الخالق تعالى انما تعود الى العباد أنـفـسـهم ، حيث في ذاته تعالى الغناء المطلق . كما انه يتنافى وقاعدة اللطف الناشئة عن مقام حكمته تعالى ، بفعل ما يقرب العباد الى الطاعة ، ويبعدهم عن المعصية وهو اساس التشريع وبعث الأنبياء وانزال الكتب ، الامر الذي يعترف به الامام الرازي .
نعم لاشك انه تعالى حكيم لا يفعل الا عن مصلحة تعود الى العباد انفسهم ، حيث انه تعالى غني بالذات .
قـال تـعـالى : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ ـ الى قوله ـ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء : 163 - 165].
فقد كان اللّه تعالى عزيزاً لا يُغالب على أمره ، لكنه لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ، مراعياً فيها مصلحة الـعـباد . فقد كان في مصلحتهم بعث الرسل والأنبياء وانزال الشرائع ، وكان في طبيعتهم اقتضاء ذلك . فقد أجاب طلبهم اتماماً للحجة عليهم ، فلا تكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل .
وقد جاء في القرآن حوالي ثمانين موضعاً ، جاء التصريح فيها بأنه تعالى حكيم عليم ، وحكيم خبير ، وعزيز حكيم ، مما ينبؤك عن علم وحكمة لا يفعل شيئاً الا عن احاطة وقدرة وحكمة شاملة .
واما مسألة خلق ابليس وامهاله وتسليطه على اغواء الناس ، فهذا أمر يعود الى مصلحة النظام القائم فـي الخلق ، لا شيء الا وهو واقع بين قطبين : سلب وايجاب ، جذب ودفع ، وبذلك استوى الوجود . فـلـولا دوافع الشرور ، لم يكن في الاندفاع نحو المطلوب الخير كثير فضل ، بل لم يكن هنا اندفاع نحو الخير ، حيث لا دافع الى الشر. فالانسان واقع بين دوافع الخير ودوافع الشر على سواء ، وهو مختار في الانجذاب الى ايهما شاء ، ويملك قدرته في الاختيار وعقله وارادته التامة في اختيار الخير او الشر فاذا اختار الخير فعن ارادتـه وتحكيم عقله فكانت فضيلة ، واذا اختار الشر فعن ارادته والاستسلام لهوى نفسه فكانت رذيلة ولا فضيلة ولا رذيلة . الا اذا كانت هنا دوافع للخير وللشر معاً ، وكان الانسان يملك ارادته في الاختيار.

امـا الشيطان فلا سلطة له على الانسان سوى دعوته وبعثه الى فعل الشرور {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم : 22] ، نعم كان كيد الشيطان ضعيفاً (24) . وان اللّه لـهو القوي العزيز(25) {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة : 21]  ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر : 51] .
وعند تفسير قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] .
نراه يبحث عن مسائل الامامة على مذهب الشيعة الامامية ، واشتراطهم العصمة في امام المسلمين ، ويذكر حججهم القاطعة في المسألة ، ثم يجيب عليها لا بتلك القوة والمتانة . قال عند الكلام عن قوله تعالى : (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : احتج الروافض بهذه الآية على القدح في امامة الشيخين ، حيث كانا كافرين وكانا حال كفرهما ظالمين ، لأن الشرك ظلم عظيم فوجب ان يـصـدق عـليهما في تلك الحالة : انهما لا ينالان عهد الامامة البتة ، وايضا فانهما لعدم عصمتهما حال الامامة ، كانا غير صالحين لها.

ثـم حاول الاجابة على ذلك من وجهين : احدهما : ان الاستدلال مُبتنٍ على كون المشتق حقيقة فيمن انـقـضـى عنه المبدأ ، كما هو حقيقة فيمن تلبس وليس الأمر كذلك ، لأن المشتق حقيقة فيمن تلبس بـاتفاق الاصوليين ، ولا يصدق على من انقضى عنه المبدأ والثاني : ان المراد بالإمامة هنا هي النبوة ، فمن كفر باللّه طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة  (26) .

لـكن استدلال الامامية لا يتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم ممن تلبس او انقضى عنه المبدأ ، بـل كما صرح هو ايضاً : انه في حال التلبس يتوجه الخطاب بعدم اللياقة . والنفي تأبيد شمل الظالم ووصمه بوصمة العار : انه غير صالح للإمامة أبداً . ومن ثم فإن الكافر لا يصلح للنبوة حتى ولو تاب وآمن ، ولا دليل عليه سوى شمول هذه الآية ، حسبما صرح به الرازي نفسه . إذن فالآية صالحة لسلب الصلاحية أبداً عمن كفر واشرك باللّه طرفة عين . فمن كفر باللّه واشرك فقد ظلم ربه وظلم نفسه ، والظالم مسلوب الصلاحية أبداً ، حتى بعد توبته وايـمـانه ايضاً ، اذ يتوجه اليه حينذاك ـ اي حين ظلمه ـ : لا ينالك عهدي ايها الظالم الخائن لربه . وهو نفي تأبيد مترتب على ظلم ، صادر من المكلف . وهذا من خاصية الظلم ، حيث يترتب عليه حكم عام ، نظير السرقة يترتب عليها حكم القطع ، فيجب اجراؤه سواء حال سرقته ام بعدها . نعم اذا تاب السارق قـبـل امـكـان الـقـبـض عـليه ، فانه يسقط حكم القطع ، ولكنه بدليل خاص ، والا كان الحكم ثابتاً على عمومه .

ومـسـألـتـنا الحاضرة من هذا القبيل ، اي من قبيل السرقة والزنى وشرب الخمر ، يثبت أحكامها بمجرد الصدور وصدق الموضوع خارجاً ، ويدوم حتى الاجراء.
فقوله تعالى : الظالم لا يناله عهدي ، نظير قوله : السارق تُقطع يده ، والزاني يجلد ، والشارب يحد ، يجري الحكم بعد انقضاء المبدأ ، ولا يختص بحال التلبس . والإمـامة ـ هنا ـ شيء وراء النبوة ، وهو القدوة للناس ، التي ليست سوى إمامة الأمة مطلقة ، لان هذه الامـامـة انـما جاءت ابراهيم ، حال كونه نبياً ، فهي رتبة الامامة جاءته بعد النبوة ، ومن ثم فإنها تشمل الخلافة التي هي إمامة عامة .

واذا كانت الإمامة بهذا المعنى لا تنال من كفر باللّه طرفة عين ، فلا يصلح للإمامة الا من كان معصوماً من الخطأ والزلل .
ودلـيـل آخـر تمسك به الإمامية ، اغفله الرازي ، وهو : ان هذه الآية نفت صلاحية من كان يظلم نـفـسـه ، ولـو بارتكاب الكبائر ، غير الكفر والشرك . فمن يحتمل في شأنه ارتكاب المعصية ـ اي لم يكن معصوماً ـ لم يطمئن خروجه عن شمول الآية بنفي لياقة الامامة .
ومن ثم فانه يشترط في الامام سواء النبي ام خليفته ان يكون معصوماً.

مباحث تافهة

وهناك تجد في هذا التفسير الضخم الفخم بعض ابحاث تافهة ، لا تمس مسائل الانسان في الحياة ، ولا تفيده علماً ولا عملاً ، تعرض لها الامام الرازي ، واظنه قد تفكه بها ، ولم يردها عن جد عقلاني ، هذا فضلاً عن تلكم المجادلات العنيفة التي أضاع بها كثيراً من صفحات تفسيره ، ولقد كان الكف عنها أجدر.

مـن ذلـك تـفـصيله الكلام حول مسألة تافهة للغاية ، وهي : المسألة السادسة ، في ان السماء افضل ام الارض ؟  (27) .

وهكذا عند تفسير قوله : {السَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة : 22] يأتي في المسألة الثانية بفضائل السماء من وجوه خمسة ثم يأتي في المسألة الثالثة بفضائل السماء ، وبيان فضائل ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، ويذكر لكل منها وجوهاً من فضائل  (28)  .

وبهكذا امور لا طائل تحتها يسود كثيراً من صفحات تفسيره ، الأمر الذي يدل على فراغ وجدةٍ كان يتمتع بهما مفسرنا الخبير.

وربما يرد المسائل ، هي بالهزل أشبه منه الى الجد مما لا يتناسب ومقام علميته الرفيعة .
مـثـلاً : عـند تفسير قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] يحاول توجيه نزول القرآن في شهر رمضان ـ ليلة القدر ـ نزوله الدفعي جملة الى سماء الدنيا ، ثم نزوله التدريجي الى الارض نجوماً يقول : إنما جرت الحال على ذلك لما علمه اللّه من المصلحة ، فإنه لا يبعد أن يكون لـلـملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة ، أو كان فيه مصلحة للرسول (عليه السلام)  في توقع الوحي من اقرب الجهات ، او كان فيه مصلحة لجبرئيل ، حيث كان هو المأمور بإنزاله وتأديته  (29) .
__________________________

1- وفيات الاعيان ،ج4 ، ص249 ، رقم 600 .
2- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ، ج1 ، ص304 .
3- كشف الظنون ،ج2 ، ص1756 .
4- عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ،ج2 ، ص171 (الرازي مفسراً لمحسن عبد الحميد ، ص52).
5- التفسير والمفسرون ، ج1 ، ص292 .
6- راجع : التفسير الكبير ، ج29 ، ص156 .
7- التفسير والمفسرون ، ج1 ، ص292 .
8- المصدر نفسه ، ص293 .
9- راجع : التفسير الكبير ، ج26 ، ص265-266 .
10.  راجع : التفسير الكبير ، ج1 ، ص 204 -207 (تفسير سورة الفاتحة ) .
11.  المصدر نفسه ، ج31 ، ص85 .
12.  المصدر نفسه ، ج32 ، ص153 .
13.  المصدر نفسه ، ص 124 .
14.  المصدر نفسه ، ج10 ، ص53-54 .
15.  المصدر نفسه ، ج18 ، ص212 .
16.  راجع : المصدر نفسه ، ج12 ، ص21و29 .
17.  التفسير الكبير ، ج27 ، ص165-166 . صححنا الأبيات وأكملناها على المأثور من شعره .
18.  لسان الميزان ، ج4 ، ص429 .
19.  الإكسير في علم التفسير للطوفي ، ص26 ؛ لسان الميزان ، ج4 ، ص428 .
20.  راجع : رسالته الوجيزة " الوضيح المقاصد " ، ص25 ، المطبوعة ضمن رسائل باسم " المجموعة النفيسة " ، ص 583 ، من مطبوعات مكتبة المرعشي بقم .
21.  الإكسير في علم التفسير ، ص 26-27 ، تحقيق عبد القادر حسين .
22.  راجع : التفسير والمفسرون ، ج2 ، ص42-47 .
23.  التفسير الكبير ، ج14 ، ص39-40 .
24.  قال تعالى : {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76] .
25.  قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود : 66] .
26.  التفسير الكبير ، ج4 ، ص45-50 .
27.  المصدر نفسه ، ج2 ، ص105-106 ، حول الآية رقم (20) من سورة البقرة .
28.  المصدر نفسه ، ج2 ، ص106-109 .
29.  التفسير الكبير ، ج5 ، ص93 .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .