أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-10-2014
1885
التاريخ: 15-10-2014
1824
التاريخ: 9-3-2016
15832
التاريخ: 15-10-2014
3488
|
للإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ، المعروف بابن الخطيب ، من اصل طبرستاني ، نـزل والـده الـري واشتهر بها في ظاهره اشعري شافعي المذهب ، صاحب تصانيف ممتعة في فنون المعارف الاسلامية ، مضطلعاً بالأدب والكلام والفلسفة والعرفان قال ابن خلكان : ان كتبه ممتعة ، وقـد انـتشرت تصانيفه في البلاد ، ورزق فيها سعادة عظيمة ، فان الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين ، توفي سنة (606هـ.).
وتـفـسيره هذا من جلائل كتب التفسير ، وقد استوفى الكلام فيه ، بما وسعه من الاضطلاع بأنحاء الـمعارف وفنون العلوم ، ولم يدع براعته متجولة في مختلف مسائل الاصول والفلسفة والكلام ، وسائر المسائل الاجتهادية النظرية والعقلية ، وأسهب الكلام فيها ، بما ربما أخرجه عن حد الاعتدال وكثيراً ما يترك وراه لمة من تشكيكات وإبهامات بما يعرقل سبيل الباحثين في التفسير ، ولكنه مع ذلك فانه فتاح لكثير من مغالق المسائل في ابحاث اسلامية عريقة .
اما منهجه في التفسير ، فإنه يذكر الآية اولاً ، ويعقبها بموجز الكلام عنها بصورة اجمالية ، ويذكر ان فـيها مسائل ، يبحث في كل مسالة عن طرف من شؤون الآية : قراءة ، وادباً ، وفقهاً ، وكلاماً ، وما اشبه من المباحث المتعلقة بتفسير الآية ، ويستوفي الكلام في ذلك في نهاية المطاف . وهو من احسن الاسـالـيب التفسيرية ، تتجزأ المسائل وتتركز الابحاث ، مفصلة كلاً في محلها ، من غير ان يختل ط البحث او تتشابك المطالب ، ومن ثم لا يترك القارئ حائراً في امره من البحث الذي ورد فيه .
ومـن طـريف الامر انه لم يجعل لتفسيره مقدمة ليشرح فيها موضعه من التفسير ، والغاية التي أقدم لأجلها على كتابة مثل هذا التفسير الضخم ، والسفر الجلل العظيم ، وكان لابد ان يشرح ذلك . كما لـم يـذكـر مـنابعه في التفسير ، ولا الكتب التي اعتمدها في مثل هذا التصنيف ، في حين انا نعلم انه اعـتـمـد خـيـر المؤلفات لذاك العهد ، واحسن المصنفات في ذلك الزمان ، في مثل تفسير ابي مسلم الاصـفـهـانـي والـجبائي والطبري وابي الفتوح الرازي ، وامثالهم من مشايخ عظام وعلما أجلّة معروفين حينذاك .
وتـفـسيره هذا ، يغلب عليه اللون الكلامي الفلسفي ، لاضطلاعه بهذين العلمين ، ومن ثم نجده يكثر الـكـلام في ذلك كلما اتاحت له الفرصة ، فيغتنمها ، ويسهب الكلام في مسائل فلسفية بعيدة الاغوار ، بما ربما اخرجه عن حد تفسير القرآن ، الى مباحث جدلية كلامية ، وربما كانت فارغة .
وهل اكمل تفسيره ام تركه ناقصاً ليكمله غيره من تلاميذ واحفاد ، كما قيل ؟. قـال ابـن خـلـكان : له التصانيف المفيدة في فنون عديدة ، منها تفسير القرآن الكريم ، جمع فيه كل غريب وغريبة ، وهو كبير جداً ، لكنه لم يكمله (1) .
قـال ابـن حـجر : الذي اكمل تفسير فخر الدين الرازي ، هو احمد بن محمد بن ابي حزم نجم الدين المخزومي القمولي ، المتوفى سنة (727هـ) ، وهو مصري (2) .
وقال حاجي خليفة : صنف الشيخ نجم الدين احمد بن محمد القمولي تكملة له ، وقاضي القضاة شهاب الدين احمد بن خليل الخوئي الدمشقي كمل ما نقص منه ايضا توفي سنة (639هـ) (3) . وقـال ابـن ابـي أُصـيبعة المتوفى سنة (668هـ) في ترجمة احمد بن خليل الخوئي : ولشمس الدين الخوئي من الكتب ، تتمة تفسير القرآن لابن الخطيب (4) .
واما الى اي موضع بلغ الامام الرازي من تفسيره ليترك البقية لغيره ، فهذا مختلف فيه اختلافاً غريباً :
يـقول الاستاذ محمد حسين الذهبي : وجدنا على هامش كشف الظنون ما نصه : (الذي رأيته بخط السيد مرتضى نقلاً عن (شرح الشفا) للشهاب ، انه وصل فيه الى سورة الانبياء) (5) . واحـتـمل بعضهم ان الرازي اتم تفسيره ما عدى سورة الواقعة ، حيث فيها بعض التعليق من غيره ، مـثلاً جاء ذيل تفسير قوله تعالى : {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة : 24] وفيه مسائل ، المسألة الاولى اصولية ، ذكرها الامام فخر الدين (ره) في مواضع كثيرة ، ونحن نذكر بعضها (6) .
قـال الاسـتـاذ الـذهبي تعقيبا على هذا الكلام : وهذه العبارة تدل على ان الامام الرازي لم يصل في تفسيره الى هذه السورة (7) .
ثـم أبـدى رأيه في حل الاختلاف قائلاً : (و الذي استطيع ان اقوله كحل لهذا الاضطراب هو ان الامـام الـرازي كتب تفسيره الى سورة الانبياء ، فأتى بعده شهاب الدين الخوئي فشرع في تكملة هذا التفسير ، ولكنه لم يتمه ، فأتى بعده نجم الدين القمولي فأكمل ما بقي منه كما يجوز ان يكون الخوئي اكمله الى النهاية ، والقمولي كتب تكملة اخرى غير التي كتبها الخوئي وهذا هو الظاهر من عبارة كشف الظنون ) (8) .
قـلـت : وعـلى ذلك ، فان الامام الرازي لم يبلغ من تفسيره سوى حوالى النصف ، الامر الذي لا يمكن تـصديقه ، بل الظاهر انه فسر القرآن كله حتى آخر سورة منه ، نظراً لوحدة الاسلوب والمنهج والقلم والبيان ، فضلاً عن الشواهد الموفورة ، على ان الامام الرازي قد اكمل تفسيره حتى النهاية ، الل هم الا بعض التعليق مما اضيف اليه بعد ذلك ، فالحق بالمتن في الاستنساخات المتأخرة .
ونـذكـر شـاهـداً على ذلك انه عند تفسير الآية رقم (22) من سورة الزمر (رقمها39 ورقم سـورة الانـبـيـاء 21) فـي تـفسير قوله تعالى : {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر : 22] يقول : واعلم انا بالغنا في تفسير سورة الانعام في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } [الأنعام : 125] فـي تفسير شرح الصدر ، وفي تفسير الهداية (9) .
وامثال هذه العبارة كثيرة في القسم المتأخر من التفسير.
عنايته بأهل البيت (عليهم السلام)
لـه عـناية خاصة بآل بيت الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) يذكرهم بإجلال وإكبار ، ويفخم من شأنهم ، مما ينبؤك عن ولا متين بالنسبة الى العترة الطاهرة ، الذين هم عدل القرآن العظيم .
تـجـده يقول عند الكلام عن الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم : واما ان علي بن ابي طالب (عليه السلام) كان يجهر بالتسمية ، فقد ثبت بالتواتر ، ومن أقتدى في دينه بعلي بن ابي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله (عليه السلام) : (اللهم ادر الحق مع علي حيث دار). ثـم يقول عند ترجيحه للقول بوجوب الجهر : ان راوي قولنا على بن ابي طالب (عليه السلام) ، واخيرا يقول : وعمل علي بن ابي طالب (عليه السلام) معنا ، ومن اتخذ عليا اماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه (10) .
ومـن دأبه تعقيب اسما ائمة اهل البيت بـ (السلام عليهم ) كتعقيبه لاسم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وقد عرفت تعقيب اسم علي بـ (السلام عليه ) ، وهكذا في تعقيب اسماء سائر الائمة هو عندما يروي عن الامام جـعـفر بن محمد ، يصفه أولاً بلقبه الفخيم (الصادق) ثم يعقبه بـ (السلام عليه ) قال في تفسير الـنـعـيـم : قـال جـعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : النعيم : المعرفة والمشاهدة ، والجحيم : ظلمات الشهوات (11) .
و في كثير من عباراته : محمد (السلام عليه) ، علي (عليه السلام) على سواء ، راجع تفسيره لسورة النصر (12). و هـكـذا نـجـده يذكر ائمة اهل البيت بإكبار وإجلال ، هو عندما يتعرض لوفرة ذرية الرسول في تفسير سورة الكوثر ، يقول : انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء ، كالباقر والصادق والكاظم والرضا (السلام عليهم) ، والنفس الزكية وامثالهم (13) و الذي يجلب النظر انه عقب اسماء الائمة الاربعة فقط بـ (السلام عليهم ) ، الامر الذي يدل بوضوح على مبلغ تشيعه لآل البيت (عليهم السلام).
هو عند ما يتعرض لأية المتعة من سورة النساء (24) يقول : انها نسخت في حياة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) ، ويـقـول : انـا لا ننكر ان المتعة كانت مباحة ، انما الذي نقوله : انها صارت منسوخة ويقول بصدد نهي عـمـر عـنـها : انه لو كان مراده ان المتعة كانت مباحة في شرع محمد(صلى الله عليه واله وسلم) وانا انهى عنها ، لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ، ويفضي ذلك الى تكفير امير المؤمنين ، حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه (14) .
الـمـقـصود من (امير المؤمنين) هو الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يصفه بهذا اللقب الفخم ايام عهد عـمـر ، ويعتقد في شخصيته الكريمة حراسة لدين اللّه وحفظاً لحدوده ، الأمر الذي جرى عليه اهل الولاء لهذا البيت الرفيع ، وهكذا تعتقد الشيعة الامامية في ائمتها الاطهار. وهـكـذا تـمـثـلـه بأبيات شعرية تنوه من شأن اهل البيت (عليه السلام) في كثير من مواضع تفسيره ، منها : اسـتشهاده بشعر حسان بن ثابت ، لغرض بيان أن السجدة ليوسف انما كان من جهة انهم جعلوه قبلة في سجودهم ، واستشهد لذلك بقوله :
ما كنت اعرف ان الامر منصرف ـــــ عن هاشم ثم منها عن ابي الحسن .
اليس اول من صلى لقبلتكم ـــــ واعرف الناس بالقرآن والسنن (15) .
ولا يخفى لطف الاستشهاد بهذين البيتين في محتواهما الرفيع !
واما ما نجده احيانا من تحامله على الشيعة وربما لعنهم بعنوان (الروافض) (16) فلعله من عـمـل الـنُـسـاخ ، اذ لا يليق بقلم كاتب أديب ، وعلامة أريب أن يهدر في سفه الهذر ، من يُعْنَ بالحمد لا ينطق بما سفه ، ولم يحد عن سبيل الحلم والادب .
ذكـر عـنـد تفسير آية المودة نقلاً عن صاحب الكشاف الحديث المعروف : (من مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مـات تائباً ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً ، مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة اللّه).
قـال بعد نقل ذلك : وانا اقول : آل محمد هم الذين يؤول أمرهم اليه ، فكل من كان أمرهم اليه اشد واكـمـل كانوا هم الآل ، ولاشك ان فاطمة وعلياً والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول اللّه اشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر ، فوجب ان يكونوا هم الآل .
وايضاً اختلف الناس في (الآل ) فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أمته فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وان حملناه على الامة الذين قبلوا دعوته فهم ايضا آل ، فثبت ان على جميع التقديرات هم الآل واما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الال ؟ فمختلف فيه !
وروى صـاحـب الكشاف : انه لما نزلت هذه الآية قيل : يا رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم ) من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم ؟ فقال : (على وفاطمة وابناهما) ، فثبت ان هؤلاء الاربعة اقارب النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) واذا ثبت هذا وجب ان يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم .
ويدل عليه وجوه :
الاول : قوله تعالى : {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى : 23] ووجه الاستدلال به ما سبق .
الـثـانـي : لاشـك ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) كان يحب فاطمة (عليها السلام) قال (صلى الله عليه واله وسلم ) : (فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يـؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) انه كان يحب علياً والحسن والحسين ، واذا ثـبـت ذلـك وجـب على كل الأمة مثله ، لقوله : {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف : 158] و لقوله تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور : 63] . و لقوله : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 31] و لقوله سبحانه : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] .
الـثـالث : ان الدعاء (للآل) منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة ، وهو قـولـه : (الـلـهم صل على محمد وعلى آل محمد ، وارحم محمداً وآل محمد) ، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل فكل ذلك يدل على ان حب آل محمد واجب .
وقال الشافعي :
يا راكباً قف بالمحصب من منى ـــــ واهتف بساكن خيفها والناهضِ .
سحراً اذا فاض الحجيج الى منى ـــــ فيضاً كما نظم الفرات الفائض .
[ أعلمهم أن التشيع مذهبي ـــــ إني أقول به ولستُ بناقضِ ]
ان كان رفضاً حب آل محمد ـــــ فليشهد الثقلان اني رافضي (17) .
ونـقـل ابن حجر العسقلاني عن ابن خليل السكوني في كتابه (الرد على الكشاف ) انه اسند عن ابن الطباخ : ان الفخر كان شيعياً ، يقدم محبة اهل البيت ، كمحبة الشيعة ، حتى قال في بعض تصانيفه : (و كان علي (عليه السلام) شجاعاً بخلاف غيره ) (18) .
وقـال الـطـوفي : انه يورد شبه المخالفين في المذهب ، على غاية ما يكون من القوة والتحقيق ، ثم يـورد مذهب اهل السنة والحق على غاية من الوهاء (او الدهاء) قال : وبعض الناس يتهمه في هذا ، وينسب ذلك الى انه كان ينصر بهذا الطريق ، ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به (19) .
وقـال الشيخ محمد بهاء الدين العاملي في حوادث شهر شوال ، يوم عيد الفطر : (و فيه سنة ست وست مائة ، توفي فخر الدين الرازي ، الملقب بالإمام ، وأصله من مازندران ، وولد بالري ، وكان يميل الى التشيع ، كما لا يخفى على من تصفح تفسيره الكبير وقبره بمدينة هرات ) (20) .
إمام المشكّكين
ومما اختص به الامام الرازي خوضه في انحاء المسائل ، من ادب وكلام وفلسفة واصول ، ولكنه لا يخرج منها في الأكثر إلا ويترك وراه لمة من تشكيكات وابهامات في وجه المسألة ، انه ربما اثار اشـكالا او اشكالات ، لكنه لا يجيب عليها الا اجابات ضعيفة وموهونه ، يترك القارئ في حيرة ، هل ان مـثـل الإمـام الرازي عاجز عن الاجابة لمثل تلكم المسائل ، ام هناك تعمد لغرض تقرير الاشكال حسب نظره ؟!
الـمـعـروف عن الرازي انه اشعري المذهب في اصول العقيدة ، جبري ظاهري ، لكنه عند عرضه لـمـسـائل الـكلام ، يقرر من مذاهب الخلاف بما يضعف به المذهب الاشعري احياناً ، وربما الى حد الوهن والافتضاح .
قال نجم الدين الطوفي البغدادي ـ من أعلام القرن السابع ـ : وأجمع ما رأيته من التفاسير لغالب علم التفسير كتاب القرطبي ، وكتاب (مفاتيح الغيب) للإمام الرازي ، ولعمري كم فيه من زلة وعيب وحـكى لي الشيخ شرف الدين النصيبي المالكي : ان شيخه الامام الفاضل سراج الدين المغربي صنف كتاب (المآخذ على مفاتيح الغيب ) وبين فيه من البهرج والزيف في نحو مجلدين ، وكان ينقم عليه كـثـيـراً ، خصوصاً ايراده شُبَه المخالفين في المذهب والدين ، على غاية ما يكون من القوة ، وايراد جواب اهل الحق منها على غاية ما يكون من الدهاء . قال الطوفي : ولعمري ان هذا لدابه في غالب كتبه الكلامية والحكمية ، كالأربعين ، والمحصل ، والنهاية ، والمعالم ، والمباحث المشرقية ، ونحوها وبـعض الناس يتهمه في هذا وينسبه الى انه ينصر بهذا الطريق ما يعتقده ، ولا يجسر على التصريح به .
و قال في سبب ذلك : انه كان شديد الاشتياق الى الوقوف على الحق ـ كما صرح به في وصيته التي أمـلاها عند موته ـ فلهذا كان يستفرغ وسعه ، ويكد قريحته في تقرير شبه الخصوم ، حتى لا يبقى لهم بعد ذلك مقال ، فتضعف قريحته عن جوابها على الوجه ، لاستفراغه قوتها في تقرير الشبه . ونحن نعلم بالنفسية الوجدانية ، ان أحدنا اذا استفرغ قوة بدنه في شغل ما من الاشغال ، ضعف عن شغل آخر ، وقُـوَى الـنفس على وزان قوى البدن غالباً . وقد ذكر في مقدمة كتاب (نهاية العقول) ما يدل على صـحـة مـا اقـول ، لانه التزم فيه ان يقرر مذهب كل خصم ، لو اراد ذلك الخصم تقريره ، لما أمكنه الزيادة عليه او أوفى بذلك ولهذا السبب قرر في كتاب (الاربعين) أدلة القائلين بالجهة ، ثم اراد الـجـواب عـنـهـا ، فما تمكن منه على الوجه ، فغالط فيه في موضعين قبيحين ، ذكرهما في مواضع كثيرة (21) .
ومما بحث على اصول مذهبه الاشعري في ظاهر الامر ما ذكر عند تفسير الآية {كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6] .
قـال : احـتج اهل السنة ـ يعني بهم الأشاعرة ـ بهذه الآية وكل ما اشبهها من قوله : {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [يس : 7] وقوله : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ـ الى قوله ـ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر : 11 - 17] ، وقوله : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد : 1] احتجوا بأمثال هذه الآيات على جواز تكليف ما لا يطاق .
ثم اخذ في تقرير هذا الاحتجاج من وجوه خمسة :
أولاً : انـه تـعالى اخبر عن اشخاص معينين انهم لا يؤمنون قط ، فلو صدر منهم الايمان ، لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً.
وثانياً : انه تعالى لما علم منهم الكفر ، فكان صدور الايمان منهم مستلزماً لانقلاب علمه تعالى جهلاً. وثالثاً : ان وجود الايمان يستحيل ان يوجد مع العلم بعدم الايمان ، لأنه انما يكون علماً لو كان مطابقاً لـلمعلوم ، والعلم بعدم الايمان انما يكون مطابقاً لو حصل عدم الايمان ، فلو وجد الايمان مع العلم بعدم الايـمـان ، لـزم ان يـجتمع في الايمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً ، وهو محال ، فالأمر بالإيمان مع وجـود عـلم اللّه تعالى بعدم الايمان ، أمر بالجمع بين الضدين ، بل بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك محال .
ورابـعـاً : انه تعالى كلف هؤلاء ـ الذين اخبر عنهم بانهم لا يؤمنون ـ بالإيمان البتة ، والايمان يعتبر فـيه تصديق اللّه تعالى في كل ما اخبر عنه ، ومما اخبر عنه انهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بانهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات .
وخـامـساً : انه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شي على خلاف ما أخبر اللّه عنه في قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح : 15] . فـثـبت ان القصد الى تكوين ما أخبر اللّه تعالى عن عدم تكوينه ، قصد لتبديل كلام اللّه ، وذلك منهي عنه . وهاهنا أخبر اللّه تعالى عنهم بانهم لا يؤمنون البتة ، فمحاولة الايمان منهم تكون قصداً الى تبديل كـلام اللّه ، وذلـك منهي عنه . وترك محاولة الايمان يكون ايضا مخالفة لأمر اللّه تعالى ، فيكون الذم حاصلا على الترك والفعل .
قـال : فـهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع . وهذا هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال . ولقد كان السلف والخلف من المحققين معوّلين عليه في دفع أصول المعتزلة وهدم قواعدهم . ولقد قاموا ـ اي المعتزلة ـ وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشيء مقنع .
هـذه هـي الوجوه الخمسة التي زعم منها دلائل ثابتة تدعم نظرية أصحابه في جواز التكليف بغير المستطاع ، وحسب أن خصومهم أصحاب الاعتزال عجزوا عن ردها مهما أوتوا من حول وقوة .
في حين ان آثار الوهن بادية عليها ، لأن أساسها العلم الأزلي الالهي المتعلق بعدم إيمان الكافر الجاحد . والحال ان العلم مهما يكن فانه ليس سبباً لوقوع المعلوم ، بل ان وقوع المعلوم في وقته سبب لحصول هـذا الـعـلم ، فالعلم تبع للمعلوم . فلو فرض انهم كانوا يؤمنون ، لكان العلم حاصلاً بإيمانهم فليس العلم القديم أصلاً ، بل هو فرع تحقق المعلوم في حينه المتأخر ، كما قال ابو الحسين البصري : ان العلم تبع المعلوم ، فإذا فرض الواقع من العبد الايمان ، عرف ان الحاصل في الأزل للّه تعالى هو العلم بالإيمان ، والـعـمـدة أن العبد مختار في الكفر والايمان ، فأي منهما تحقق منه ، علمه اللّه في الازل ، وليس علمه تعالى سبباً قهرياً يسلب عن العبد اختياره في العمل .
وهـذا واضـح لـمـن تـدبر ، ولا اظن خفاءه على مثل الامام الرازي صاحب الذهنية الوقادة ، ولكن تـظـاهـراً بـالـدفاع عن مذهبه الرسمي المفروض عليه من قبل السلطات ، دعاه الى ذكر مثل هذه الوجوه البادي عليها الضعف والوهن . وتماشياً مع الجو الحاكم أجبر على الانسجام مع الوضع الراهن .
ومـن ثـم نـراه ـ عـنـد ما يذكر دلائل اصحاب الاعتزال ـ نراه يذكرها بقوة ودقة واحاطة وتفصيل ، بما لا يدع مجالاً في امكان قبول تلكم الوجوه الاشعرية .
ذكر دلائل اهل الاعتزال في ثلاث مقامات ، أولاً : عدم المانع من الايمان والكفر ، وثانياً : ان العلم لا يوجب منعاً في العمل ، الثالث : نقض تلكم الوجوه الخمسة . ذكرهن بإسهاب وتفصيل ، نقتطف منها ما يلي :
قال : وانا اذكر أقصى ما ذكره اصحاب الاعتزال بعونه تعالى وتوفيقه . وذكر وجوهاً خمسة ، في الـمـقـام الأول ، وخلاصتها : ان القرآن مملوء من الآيات الدالة على انه لا مانع لأحد من الايمان ، قال تعالى : {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى } [الإسراء : 94] ، وَ{مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النساء : 39] {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق : 20] .
قـال الـصـاحـب ابن عباد : كيف يأمر العبد بالإيمان وقد منعه عنه ؟! وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه ؟!
وايـضـاً فـان اللّه تـعـالـى قـال : {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء : 165] ، وقال : {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه : 134] .
فلما بين تعالى أنه ما أبقى لهم عذراً الا وقد ازاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مـانعاً لهم عن الايمان ، لكان ذلك من اعظم الأعذار ، كما ان الذم على الكفر والجحود ، هو خير دليل على اختياريته ، وعدم وجود مانع قاهر عن الايمان .
وذكـر في المقام الثاني وجوهاً عشرة على ان المعلوم لا ينقلب عما هو عليه بسبب العلم ، لأن العلم انـمـا يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، فإن كان ممكناً عَلِمَهُ ممكناً ، وان كان واجباً علمه واجباً ، ولا شـك ان الايـمان والكفر كل واحد بالنظر الى ذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجباً بسبب العلم ، كان العلم مؤثراً في المعلوم ، وهو باطل بالضرورة .
وايـضـاً فإن اللّه تعالى قال : {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 286] و قال : {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78] و قال : {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف : 157] فكيف يكلف اللّه العبيد ما لا يطيقون ؟!
وفـي الـمـقام الثالث ، نقل عن القاضي عبد الجبار جواب المعتزلة عن الأشاعرة ، وتخطئة انقلاب العلم جهلاً والصدق كذباً قال الكعبي وابو الحسين البصري : ان العلم تبع المعلوم ، فاذا فرضت الواقع مـن العبد الايمان عرفت ان الحاصل في الازل للّه تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الايمان عرفت ان الحاصل في الازل هو العلم بالكفر بدلا عن الايمان فهذا فرض عـلـم بـدلاً عـن عـلـم آخر ، لا انه تغير العلم . قال الامام الرازي : فهذا الجواب هو الذي اعتمده جمهور المعتزلة .
قـلت : وقد عرفت قوة استدلالهم ، وضعف دلائل خصومهم ، غير أن الامام الرازي ترك وهن تلك الوجوه وقوة هذه الدلائل بمعرض القارئ ومسمعه ، ليحكم هو حسب ذهنيته الفطرية الحاكمة بأن الـعبد مختار في فعله واللّه تعالى لا يكلف بما لا يستطاع ، الامر الذي يجعل من دلائل اهل الاعتزال هي الكفة الراجحة ، وهذا شي فعله الامام الرازي ، عن حسن نية وعن عمد فعله ـ حسب الظاهر ـ اذ الظاهر انه ليسي الظن بمذاهب اصحابه الاشعريين .
ومما يدلك على ذلك ، انه لم يطعن في دلائل اهل الاعتزال ، وذكرها تامة وافية ، كما هي عادته في كل امر يعتقده صحيحاً.
ثـم انه بعد ايراد دلائل الطرفين ، اورد شبهاته في المسألة وذكر مقالات تشكيكية ، واسندها الى اهل التشكيك ، ممن فرضهم اهل العناد في مسائل الكلام .
قال : واعلم ان هذا البحث صار منشأ لضلالات عظيمة ، فمنها : ان منكري التكاليف والنبوات قالوا : قـد سـمـعنا كلام أهل الجبر ـ يعنى بهم الاشاعرة ـ فوجدناه قوياً قاطعاً وهذان الجوابان اللذان ذكـرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل اليهما مع الجبر يقبح التكليف ، والجواب الذي ذكره اهل الجبر ضعيف جداً ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات .
هكذا يلقي التشكيك ، عند عرض الآراء ، سواء المخالف ام المؤالف .
ثـم يذكر مطاعن اخر وجهها الطاعنون في القرآن وفي الاسلام ، على أثر هذه المناظرة بين اهل الـجبر والقدر ، ويستنتج : ان الرجوع الى العقليات يورث الكفر والضلال ، ولهذا قيل : من تعمق في الكلام تزندق .
ثـم يذهب في تشكيكاته حيث يشاء ، ويذكر في اثنائها حكاية طريفة يرويها عن ابن عمر ، ان رجلاً قـام الـيه فقال : يا ابا عبد الرحمان ان اقواماً يعملون الكبائر ويقولون : كان ذلك في علم اللّه فلم نجد بُـداً مـنه فغضب وقال : سبحان اللّه ، قد كان في علمه انهم يفعلونها ، فلم يحملهم علم اللّه على فعلها . حدثني ابي انه سمع رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم ) يقول : مثل علم اللّه فيكم كمثل السماء التي اظلتكم ، والارض الـتي اقلتكم فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والارض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج عن علم اللّه تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والارض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم اللّه تعالى عليها.
والـمقصود : ان علمه تعالى الازلي محيط بأفعال العباد ، ولكن من غير ان يكون علمه تعالى سبباً وعلةً في ايجادها ، لان علمه تعالى السابق ، تبع لعمل العبد اللاحق ، فكيفما يعمل يعلمه تعالى من غير ان يكون هذا العلم مؤثراً في ارادة العبد.
وهـذا الـمعنى الواضح ، لم يدركه مثل الامام الرازي ؟ ولعله تظاهر بعدم الفهم الحكاية : ان في الاخبار التي يرويها الجبرية والقدرية كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان انـه لا يـليق بالرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) ان يقول مثل ذلك ، لانه متناقض وفاسد ، اما المتناقض فلأن الصدر يدل عـلـى الـجـبـر ، والـذيل صريح في القدر. واما أنه فاسد فلأن العلم بعدم الايمان ووجود الايمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدمه تكليف بالجمع بين النفي والاثبات (22) .
قلت : ولعل إمامنا الرازي طاعن في ضلاله القديم او متظاهر بذلك .
ومن ذلك ايضاً ، ما ذكره عند تفسير قوله تعالى : {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف : 14 - 16] . قـال : احـتـج اصحابنا بهذه الآية في بيان انه لا يجب على اللّه رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنـياه ، وتقريره : ان ابليس استمهل الزمان الطويل فأمهله اللّه تعالى ، ثم بين انه انما استمهله لإغواء الخلق واضلالهم والقاء الوساوس في قلوبهم ، وكان تعالى عالماً بأن اكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسـوسته ، كما قال تعالى : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ : 20] فـثـبـت بـهذا ان إنظار ابليس وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الـكـبـيـر ، فلوكان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع ان يمهله وان يمكنه من هذه المفاسد ، فحيث أنظره وأمهله ، علمنا انه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح اصلاً.
ومما يقوي ذلك انه تعالى بعث الأنبياء دعاة الى الخلق ، وعلم من حال ابليس انه لا يدعو الا الى الكفر والضلال ، ثم انه تعالى امات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق ، وأبقى ابليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق الى الكفر والباطل ، ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه ان يفعل ذلك .
قـالت المعتزلة : اختلف شيوخنا في هذه المسألة ، فقال الجبائي : انه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعـدمـه ، ولا يضل بقوله احد الا من لو فرضنا عدم ابليس لكان يضل ايضاً . والدليل عليه قوله تعالى : { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات : 162، 163] ، ولانه لو ضل به احد لكان بقاؤه مفسدة وقال ابو هاشم : يجوز ان يضل به قوم ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة ، فان هذه الزيادة مـن الـشـهـوة لا تـوجب فعل القبيح الا ان الامتناع منها يصير اشق ، ولأجل تلك الزيادة من المشقة تـحصل الزيادة في الثواب ، فكذا هنا بسبب ابقاء ابليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ، ولكنه لا ينتهي الى حد الإلجاء والاكراه .
وأجاب الرازي : ان الشيطان لابد ان يزين القبائح ، ومعلوم ان حال الانسان مع هذا التزيين لا يكون مـسـاويـاً مع عدمه فحصول هذا التزيين يوجب الأقدام على القبائح ، وهو القاء في المفسدة . ومسألة الـزيـادة فـي الـشهوة حجة أخرى لنا في ان اللّه لا يراعي مصلحة العباد بسبب خلق تلك الزيادة في شـهـوة الانـسـان ، وحـصول الزيادة في الثواب لا حاجة اليه ، حيث دفع العقاب المؤبد من أعظم الـحاجات ، فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال ان يهمل الاكمل الاعظم ، لطلب الزيادة التي لا حاجة اليها ولا ضرورة (23) .
انظر كيف فضح اصحابه بهذا النمط من البحث ، والخوض في مسألة تمس جانب حكمته تعالى ، فينفي كونه تعالى حكيماً لا يفعل الا عن مصلحة ، والمصلحة التي يُراعيها الخالق تعالى انما تعود الى العباد أنـفـسـهم ، حيث في ذاته تعالى الغناء المطلق . كما انه يتنافى وقاعدة اللطف الناشئة عن مقام حكمته تعالى ، بفعل ما يقرب العباد الى الطاعة ، ويبعدهم عن المعصية وهو اساس التشريع وبعث الأنبياء وانزال الكتب ، الامر الذي يعترف به الامام الرازي .
نعم لاشك انه تعالى حكيم لا يفعل الا عن مصلحة تعود الى العباد انفسهم ، حيث انه تعالى غني بالذات .
قـال تـعـالى : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ ـ الى قوله ـ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء : 163 - 165].
فقد كان اللّه تعالى عزيزاً لا يُغالب على أمره ، لكنه لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته ، مراعياً فيها مصلحة الـعـباد . فقد كان في مصلحتهم بعث الرسل والأنبياء وانزال الشرائع ، وكان في طبيعتهم اقتضاء ذلك . فقد أجاب طلبهم اتماماً للحجة عليهم ، فلا تكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل .
وقد جاء في القرآن حوالي ثمانين موضعاً ، جاء التصريح فيها بأنه تعالى حكيم عليم ، وحكيم خبير ، وعزيز حكيم ، مما ينبؤك عن علم وحكمة لا يفعل شيئاً الا عن احاطة وقدرة وحكمة شاملة .
واما مسألة خلق ابليس وامهاله وتسليطه على اغواء الناس ، فهذا أمر يعود الى مصلحة النظام القائم فـي الخلق ، لا شيء الا وهو واقع بين قطبين : سلب وايجاب ، جذب ودفع ، وبذلك استوى الوجود . فـلـولا دوافع الشرور ، لم يكن في الاندفاع نحو المطلوب الخير كثير فضل ، بل لم يكن هنا اندفاع نحو الخير ، حيث لا دافع الى الشر. فالانسان واقع بين دوافع الخير ودوافع الشر على سواء ، وهو مختار في الانجذاب الى ايهما شاء ، ويملك قدرته في الاختيار وعقله وارادته التامة في اختيار الخير او الشر فاذا اختار الخير فعن ارادتـه وتحكيم عقله فكانت فضيلة ، واذا اختار الشر فعن ارادته والاستسلام لهوى نفسه فكانت رذيلة ولا فضيلة ولا رذيلة . الا اذا كانت هنا دوافع للخير وللشر معاً ، وكان الانسان يملك ارادته في الاختيار.
امـا الشيطان فلا سلطة له على الانسان سوى دعوته وبعثه الى فعل الشرور {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم : 22] ، نعم كان كيد الشيطان ضعيفاً (24) . وان اللّه لـهو القوي العزيز(25) {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة : 21] ، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر : 51] .
وعند تفسير قوله تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] .
نراه يبحث عن مسائل الامامة على مذهب الشيعة الامامية ، واشتراطهم العصمة في امام المسلمين ، ويذكر حججهم القاطعة في المسألة ، ثم يجيب عليها لا بتلك القوة والمتانة . قال عند الكلام عن قوله تعالى : (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : احتج الروافض بهذه الآية على القدح في امامة الشيخين ، حيث كانا كافرين وكانا حال كفرهما ظالمين ، لأن الشرك ظلم عظيم فوجب ان يـصـدق عـليهما في تلك الحالة : انهما لا ينالان عهد الامامة البتة ، وايضا فانهما لعدم عصمتهما حال الامامة ، كانا غير صالحين لها.
ثـم حاول الاجابة على ذلك من وجهين : احدهما : ان الاستدلال مُبتنٍ على كون المشتق حقيقة فيمن انـقـضـى عنه المبدأ ، كما هو حقيقة فيمن تلبس وليس الأمر كذلك ، لأن المشتق حقيقة فيمن تلبس بـاتفاق الاصوليين ، ولا يصدق على من انقضى عنه المبدأ والثاني : ان المراد بالإمامة هنا هي النبوة ، فمن كفر باللّه طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة (26) .
لـكن استدلال الامامية لا يتوقف على كون المشتق حقيقة في الأعم ممن تلبس او انقضى عنه المبدأ ، بـل كما صرح هو ايضاً : انه في حال التلبس يتوجه الخطاب بعدم اللياقة . والنفي تأبيد شمل الظالم ووصمه بوصمة العار : انه غير صالح للإمامة أبداً . ومن ثم فإن الكافر لا يصلح للنبوة حتى ولو تاب وآمن ، ولا دليل عليه سوى شمول هذه الآية ، حسبما صرح به الرازي نفسه . إذن فالآية صالحة لسلب الصلاحية أبداً عمن كفر واشرك باللّه طرفة عين . فمن كفر باللّه واشرك فقد ظلم ربه وظلم نفسه ، والظالم مسلوب الصلاحية أبداً ، حتى بعد توبته وايـمـانه ايضاً ، اذ يتوجه اليه حينذاك ـ اي حين ظلمه ـ : لا ينالك عهدي ايها الظالم الخائن لربه . وهو نفي تأبيد مترتب على ظلم ، صادر من المكلف . وهذا من خاصية الظلم ، حيث يترتب عليه حكم عام ، نظير السرقة يترتب عليها حكم القطع ، فيجب اجراؤه سواء حال سرقته ام بعدها . نعم اذا تاب السارق قـبـل امـكـان الـقـبـض عـليه ، فانه يسقط حكم القطع ، ولكنه بدليل خاص ، والا كان الحكم ثابتاً على عمومه .
ومـسـألـتـنا الحاضرة من هذا القبيل ، اي من قبيل السرقة والزنى وشرب الخمر ، يثبت أحكامها بمجرد الصدور وصدق الموضوع خارجاً ، ويدوم حتى الاجراء.
فقوله تعالى : الظالم لا يناله عهدي ، نظير قوله : السارق تُقطع يده ، والزاني يجلد ، والشارب يحد ، يجري الحكم بعد انقضاء المبدأ ، ولا يختص بحال التلبس . والإمـامة ـ هنا ـ شيء وراء النبوة ، وهو القدوة للناس ، التي ليست سوى إمامة الأمة مطلقة ، لان هذه الامـامـة انـما جاءت ابراهيم ، حال كونه نبياً ، فهي رتبة الامامة جاءته بعد النبوة ، ومن ثم فإنها تشمل الخلافة التي هي إمامة عامة .
واذا كانت الإمامة بهذا المعنى لا تنال من كفر باللّه طرفة عين ، فلا يصلح للإمامة الا من كان معصوماً من الخطأ والزلل .
ودلـيـل آخـر تمسك به الإمامية ، اغفله الرازي ، وهو : ان هذه الآية نفت صلاحية من كان يظلم نـفـسـه ، ولـو بارتكاب الكبائر ، غير الكفر والشرك . فمن يحتمل في شأنه ارتكاب المعصية ـ اي لم يكن معصوماً ـ لم يطمئن خروجه عن شمول الآية بنفي لياقة الامامة .
ومن ثم فانه يشترط في الامام سواء النبي ام خليفته ان يكون معصوماً.
مباحث تافهة
وهناك تجد في هذا التفسير الضخم الفخم بعض ابحاث تافهة ، لا تمس مسائل الانسان في الحياة ، ولا تفيده علماً ولا عملاً ، تعرض لها الامام الرازي ، واظنه قد تفكه بها ، ولم يردها عن جد عقلاني ، هذا فضلاً عن تلكم المجادلات العنيفة التي أضاع بها كثيراً من صفحات تفسيره ، ولقد كان الكف عنها أجدر.
مـن ذلـك تـفـصيله الكلام حول مسألة تافهة للغاية ، وهي : المسألة السادسة ، في ان السماء افضل ام الارض ؟ (27) .
وهكذا عند تفسير قوله : {السَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة : 22] يأتي في المسألة الثانية بفضائل السماء من وجوه خمسة ثم يأتي في المسألة الثالثة بفضائل السماء ، وبيان فضائل ما فيها من الشمس والقمر والنجوم ، ويذكر لكل منها وجوهاً من فضائل (28) .
وبهكذا امور لا طائل تحتها يسود كثيراً من صفحات تفسيره ، الأمر الذي يدل على فراغ وجدةٍ كان يتمتع بهما مفسرنا الخبير.
وربما يرد المسائل ، هي بالهزل أشبه منه الى الجد مما لا يتناسب ومقام علميته الرفيعة .
مـثـلاً : عـند تفسير قوله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة : 185] يحاول توجيه نزول القرآن في شهر رمضان ـ ليلة القدر ـ نزوله الدفعي جملة الى سماء الدنيا ، ثم نزوله التدريجي الى الارض نجوماً يقول : إنما جرت الحال على ذلك لما علمه اللّه من المصلحة ، فإنه لا يبعد أن يكون لـلـملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة ، أو كان فيه مصلحة للرسول (عليه السلام) في توقع الوحي من اقرب الجهات ، او كان فيه مصلحة لجبرئيل ، حيث كان هو المأمور بإنزاله وتأديته (29) .
__________________________
1- وفيات الاعيان ،ج4 ، ص249 ، رقم 600 .
2- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ، ج1 ، ص304 .
3- كشف الظنون ،ج2 ، ص1756 .
4- عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ،ج2 ، ص171 (الرازي مفسراً لمحسن عبد الحميد ، ص52).
5- التفسير والمفسرون ، ج1 ، ص292 .
6- راجع : التفسير الكبير ، ج29 ، ص156 .
7- التفسير والمفسرون ، ج1 ، ص292 .
8- المصدر نفسه ، ص293 .
9- راجع : التفسير الكبير ، ج26 ، ص265-266 .
10. راجع : التفسير الكبير ، ج1 ، ص 204 -207 (تفسير سورة الفاتحة ) .
11. المصدر نفسه ، ج31 ، ص85 .
12. المصدر نفسه ، ج32 ، ص153 .
13. المصدر نفسه ، ص 124 .
14. المصدر نفسه ، ج10 ، ص53-54 .
15. المصدر نفسه ، ج18 ، ص212 .
16. راجع : المصدر نفسه ، ج12 ، ص21و29 .
17. التفسير الكبير ، ج27 ، ص165-166 . صححنا الأبيات وأكملناها على المأثور من شعره .
18. لسان الميزان ، ج4 ، ص429 .
19. الإكسير في علم التفسير للطوفي ، ص26 ؛ لسان الميزان ، ج4 ، ص428 .
20. راجع : رسالته الوجيزة " الوضيح المقاصد " ، ص25 ، المطبوعة ضمن رسائل باسم " المجموعة النفيسة " ، ص 583 ، من مطبوعات مكتبة المرعشي بقم .
21. الإكسير في علم التفسير ، ص 26-27 ، تحقيق عبد القادر حسين .
22. راجع : التفسير والمفسرون ، ج2 ، ص42-47 .
23. التفسير الكبير ، ج14 ، ص39-40 .
24. قال تعالى : {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء : 76] .
25. قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود : 66] .
26. التفسير الكبير ، ج4 ، ص45-50 .
27. المصدر نفسه ، ج2 ، ص105-106 ، حول الآية رقم (20) من سورة البقرة .
28. المصدر نفسه ، ج2 ، ص106-109 .
29. التفسير الكبير ، ج5 ، ص93 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|