أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-04-2015
3510
التاريخ: 22-5-2019
1948
التاريخ: 19-10-2015
4614
التاريخ: 2-04-2015
4416
|
أهمّيّة مواجهة فساد المجتمع
حادثة عاشوراء هي عبارة عن حركة جهاديّة عظيمة على كلتا الجبهتين:
• جبهة المواجهة مع العدوّ الخارجيّ والذي هو جهاز الخلافة الفاسد نفسه والملتصقون به من طلّاب الدّنيا, الذين أرادوا استخدام السلطة - التي استخدمها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ النّاس - في الاتجاه المعاكس لمسير الإسلام ونبيّ الإسلام المكرّم.
• وكذلك على الجبهة الداخليّة والعدوّ الداخليّ, حيث كان المجتمع في ذلك اليوم يتحرّك عموماً باتجاه ذلك الفساد الداخليّ نفسه. وهذه الجبهة الثانية برأيي هي الأهمّ.
القيام والتغيير: تكليف إسلاميّ
تولّى الحكمَ في عصر الإمام الحسين عليه السلام نظامٌ فاسدٌ بكلّ معنى الكلمة, فألحق الظلم بالضعفاء, ودمّر القيم الإنسانيّة, وتجاهل دين الله كلّيّاً, الدّين الذي يمثّل الإطار الأفضل والأمثل لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وداس على إنجازات النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتضحياته، وأدخل المجتمع بتمامه في الضياع. في ظلّ هكذا ظروف, برزت وظيفة كبيرة وثقيلة في طريق كلّ إنسان حرّ وشريف ومسلم حقيقيّ, وهي استنهاض النّاس وتوعيتهم, من خلال الوقوف والصمود في وجه ذلك النظام المتسلّط الجبّار المتعطّش للظلم والبعيد عن المعنويّات والقيم الأخلاقيّة ومواجهته، كانت هذه هي القضيّة الأساس في عصر الإمام الحسين عليه السلام.
كانت وظيفة الإمام الحسين عليه السلام وظيفة إسلاميّة, من يظنّ أنّ هذا العمل الذي قام به الإمام عليه السلام لم يكن واجباً على أيّ شخص آخر سواه, فهو مخطئ, فقد كان على الجميع التصدّي والقيام بهذه المهمّة, وأن ينصروا ويؤازروا الحسين بن عليّ عليهما السلام. "أيّها النّاس, إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"[1]. وهذا يعني أنّه وظيفة الجميع, وهو التكليف الإسلاميّ. كما ذكر هو نفسه في أحد منازل الطريق:
التصدّي لنظام الظلم, المواجهة الحقيقيّة لأبي عبد الله عليه السلام
قبل مجيء يزيد إلى الحكم وقبل أن يبلغ الظلم والطغيان والانحراف ذروته كان الحسين بن عليّ عليهما السلام ساكتاً, ولم يقم في زمن معاوية وخلال السنوات العشر بأيّة حركة كفاحيّة اعتراضيّة كالتي قام بها في كربلاء, إلّا أنّي أرى - وهذا رأيي الشخصيّ, وهو نتيجة أُنسي بالمسائل المرتبطة بحياة الأئمّة العظام عليهم السلام - أنّه لو بقي معاوية لسنوات أخرى على قيد الحياة ولم يأت ابنه يزيد إلى الحكم, لكان الإمام الحسين عليه السلام قام بهذه الثورة, ولم يكن نهوض الإمام عليه السلام مرتبطاً فقط بمجيء يزيد إلى الحكم, لا, المسألة كانت أعلى من ذلك, لم تكن المشكلة مع يزيد, إنّما مع نظام الظلم.
مواجهة الظلم, الركن الإسلاميّ المهمّ
للظلم ثلاثة أبعاد: الظالم, وهو ذلك الشخص الذي يمارس الظلم. والمظلوم, وهو ذلك الشخص الذي يقع عليه الظلم لكنّه يتحمّل الظلم ويقبل به. والثالث: الشاهد غير المبالي. فهؤلاء الثلاثة هم شركاء في الظلم, فالظالم مُدان وملعون عند الله تعالى, وكذلك المظلوم الذي يأتي عليه الظلم فيقبل به ولا يحرّك ساكناً في مواجهته, وكذلك المتفرّج اللامبالي, الذي يرى ممارسة الظلم لكنّه لا يتحرّك ولا ينطق بكلمة. هذه ثلاثة أبعاد لتشكّل الظلم وحصوله, فعندما لا يتحقّق أيّ منها لن يكون هناك ظلم في الدنيا. فلو لم يكن هناك ظالم, ولو لم يكن هناك من يرضخ للظلم, لن يكون هناك ظلم. ولو أنّ الشعوب والأمم والنّاس التي تُحكم وتُقاد بالظلم لم تقبل الظلم، بل رفضته وتصدّت للدفاع عن نفسها لما بقي هناك ظلم, ولما كان للظلم أن يستمرّ. فـالظلم عبارة عن حركة ومسار على خلاف الطبيعة وعلى خلاف سُنن العالم البسيطة, ولذا ليس من شأنها الاستمرار والبقاء. كما أنّ الطرف الثالث (المتفرِّجين) أيضاً كذلك, أي أنّه لولا وجود الـ "المتفرّجين" اللّامبالين لن يبقى هناك ظلم في هذا العالم. فلو افترضنا أنّ شعباً ما وقع عليه الظلم, لكنّ الشعوب الأخرى، أو زعماء البلدان الأخرى, وأصحاب الشأن والمؤسّسات الإعلاميّة لم يسمحوا بذلك ولم يبقوا مكتوفي الأيدي, فإنّهم أيضاً يكونون قادرين على الحؤول دون وقوع الظلم. وعليه, فهذه الأصناف الثلاثة جميعاً شريكة في ارتكاب هذا الجرم أمام الله تعالى, الظالم, والراضخ للظلم, والشاهد اللامبالي.
هذا هو الدرس الذي علّمنا إيّاه الإمام الحسين عليه السلام. ينبغي أن نبحث عن هذا الدرس في كلمات الحسين بن عليّ عليهما السلام. لا نطلق كلمات من عندنا. فمنذ بداية حركة الإمام من المدينة وحتّى آخر لحظة حيث عرجت روحه المقدّسة المطهّرة إلى أعلى علّيّين, صدرت عنه وصايا وتوجيهات كثيرة, كلّها ناظرة إلى هذا الموضوع.
عندما أراد الوليد بن عتبة - حاكم المدينة - أن يأخذ البيعة من الإمام. كان سلام الله عليه جالساً في المسجد يتحدّث مع عبد الله بن الزبير. عندما وصل الخبر, أنّ الوليد قد أرسل في طلبه, قال له عبد الله: ليس الآن وقت لقاء الوليد, ماذا ترون؟ لماذا استدعانا الوليد؟ أجابه الإمام: أظنّ أنّ معاوية قد مات, وأنَّهم يدعوننا لأخذ البيعة. نهض الإمام مع مجموعة من شباب بني هاشم وبعض العساكر الشجعان, وأخذهم معه, حتّى لا يغدر به الوليد ويحاصره وحسب. قال الإمام لأصحابه إن حدث شيء ما داخل القصر وعلا صوتي ادخلوا وواجهوا[2], وهذا يعني أنّ الإمام الحسين منذ اليوم الأوّل لم يرزح تحت الضغط, وقد قرّر منذ البداية أن يواجه ويعارض وأن يصرّ على الحدّ من هذا الظلم الذي كان يعمّ العالم يوماً بعد يوم, وبقي كذلك حتّى اللحظات الأخيرة من حياته. هذا هو الدرس العظيم الذي قدّمه لنا الإمام الحسين عليه السلام الكبير هو هذا.
عاقبة السكوت واللّامبالاة في وجه السلطان الجائر
في منزل من المنازل التي مرّ بها، ألقى الإمام الحسين عليه السلام, خطاباً مزلزلاً ومدوّياً, قال فيه: "أيّها النّاس, إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله"[3].
فالإمام عليه السلام يخطب في النّاس, الذين هم من جهة, أنصاره وأتباعه الذين سمعوا جيّداً منطق الحسين بن عليّ عليهما السلام ووعوا رأيه ليصبح أكثر رسوخاً في أذهانهم. ويخاطب, من جهة أخرى, أتباع الحرّ بن يزيد, الذين قلّما طرقت هذه الأمور أذهانهم (قلّما سمعوا بها), ولم يدركوا بشكل صحيح لماذا جاء الإمام الحسينعليه السلام. كما إنّ الحرب الإعلاميّة والدعائية ضدّ الإمام الحسين عليه السلام كانت شديدة وقويّة. يقول: "أيّها النّاس, إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول: "كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله", أي أنّه كان حقّاً على الله وفرضاً أن يدخله في المكان نفسه الذي أدخل فيه ذلك الجائر, ويبتليه بعذاب الجائر نفسه, لأنّ الذي لا يكترث للظلم والفساد والانحراف, هو في الحقيقة قد أبعد نفسه عن الاتصال بخالق هذا الكون وبالقدرة الإلهيّة, وعن ذلك التيّار الذي أنيطت به مهمّة إحقاق الحقّ وتطبيق الأحكام الإلهيّة.
معاتبة سيّد الشهداء عليه السلام للنّخَب الساكتة عن مواجهة الظلم
اخترت كلاماً للإمام الحسين عليه السلام قلّما يُقرأ أو يُبيَّن في المجالس, ولكن بما أنّه كلام طويل فقد اخترت فقرات منه.. هذا الحديث الطويل، الذي صدر عن الإمام الحسين عليه السلام في مكّة, وبحسب المصادر التي قُمت بمراجعتها لم أجد تحديداً صريحاً وواضحاً للأشخاص الذين كانوا هم المعنيّين بهذا الخطاب, وأين حصل هذا الأمر, إلّا أنّه يفهم من الحديث نفسه ومن القرائن المحيطة به أنّ الخطاب كان موجّهاً لمجموعة من نخبة المجتمع وصفوته, من العلماء والمحدّثين وأبناء الصحابة، وأصحاب النفوذ والشأن بين النّاس.
وقد خاطبهم الحسين بن عليّ عليهما السلام بنحو صريح وحاسم, وخلاصة خطابه عليه السلام: أنّ أساس شقاء النّاس وتعاستهم هو أنتم, فأنتم من لديكم الوعي المعرفة، وأنتم كان يمكنكم بثّ الوعي فيهم, أنتم من كان لديكم السلطة والنفوذ، وكان بإمكانكم إيجاد الحركة بين النّاس, أنتم من كنتم أصحاب الجاه وكان باستطاعتكم منع النظام المتجبّر والظالم من استغلال سلطتكم ووجاهتكم, أنتم من كانت لديكم القدرة على القيام والدفاع عن حقوق الضعفاء والمستضعفين والمحرومين, ولكنّكم لم تفعلوا ذلك كلّه.
واليوم، فإنّ هذا هو الخطاب الذي يُوجَّه إلى كلّ أصحاب النفوذ في العالم الإسلاميّ, هذا هذا هو الخطاب الذي توجّهه أمّتنا اليوم, وشعبنا, وثورتنا, إلى كلّ أصحاب الفكر النيّر في العالم, إلى السياسيّين, إلى رؤساء البلدان الإسلاميّة, إلى المفكّرين والمصلحين في البلدان الإسلاميّة, إلى علماء البلدان الإسلاميّة, إلى الشعراء, إلى الخطباء المسلمين, وهذه هي الرسالة التي نوجّهها, فهؤلاء الذين كان عليهم القيام والنهوض, لم يكن لديهم - مع بداية النهضة والثورة- الجرأة والاندفاع, ولم يكن جمهور النّاس وعامّتهم يدركون في بداية الأمر أنّه يمكن القيام والثورة. فـفي البلدان الإسلاميّة وفي العالم الإسلاميّ, القادة والمسؤولون والنخب والطليعة هم من يتحمّلون مسؤوليّة الحديث إلى النّاس ومخاطبتهم, وتشجيعهم, وأصحاب النفوذ وأهل القلم والبيان هم مَنْ يجب عليهم تعريف النّاس بوظائفهم.
وهذا ما تمّت تجربته فعلاً في بلادنا, حيث تصدّى الخطباء والعلماء وأهل القدوة والريادة, والقادة والمسؤولون, والمفكّرون الملتزمون والعلماء المجاهدون لإرشاد النّاس وتوعيتهم, حتّى إذا ما أصبح الشعب على دراية ومعرفة بالقضيّة, انتفض هذا السيل الهادر والمهيب, ولم يعد الوقوف بوجه الشعب مجدياً, إذ يمكن القضاء على ألف عالم ومفكّر, ولكن لا يمكن القضاء على ملايين النّاس, هنا انكسر الظلم, وهنا تحطّمت أركانه وتلاشت.
إذاً, إنّ تكليف استنهاض النّاس والسير بهذا السّيل المتدفّق واستثارة هذا البحر العظيم من القوى الإنسانيّة تقع على عاتق النخبة, وإنّ كلام الإمام الحسين عليه السلام في هذا الخطاب كان موجّهاً لتلك النخبة التي كانت في عصره, وهذه هي الكلمات التي قالها لهم.
من جملة كلماته التي وردت في هذا الخطاب العظيم, والذي نُقل في تحف العقول، هذا الكتاب الشريف: "فأما حقّ الضعفاء فضيّعتم وأمّا حقَّكم بزعمكم فطلبتم"[4].
أنتم تسعون وراء مقامكم, وراء حقوقكم, وامتيازاتكم ومصالحكم, فقد قصّرتم وتهاونتم لكي تنالوا ذلك الشيء الذي تظنّون أنّه حقّكم, لكنّكم غفلتم عن النّاس, ضيّعتم حقوق النّاس وتركتم النّاس المستضعفين والفقراء والمحرومين والمظلومين لشأنهم ولحالهم.
ويشير في مكان آخر من كلامه العجيب والمؤثّر جدّاً إلى ضعف هؤلاء النخب, أنّكم لستم مستعدّين للتنازل والتخلّي عن أيّ شيء, لا عن أرواحكم, ولا عن أموالكم, ولا عن وجاهتكم وماء وجهكم, لستم مستعدّين لاتخاذ أيّ موقف (ولو عبسة واحدة), لستم مستعدّين لتلقّي صفعة واحدة في سبيل إحقاق حقوق الضعفاء, "فلا مالاً بذلتموه", "ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها, ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله".
لستم مستعدّين لأن تغضبوا في وجه عشيرتكم وبطانتكم إنِ انحرفوا عن جادّة السبيل ولستم مستعدّين لأن تعادوهم في هذا السبيل.
ويشير الإمام الحسين عليه السلام إلى مدى اللامبالاة وعدم الاكتراث عند هؤلاء إزاء القيم الحقيقيّة ودين الله, أمّا فيما يتعلّق بأمورهم الشخصيّة فهم حاسمون متعصّبون.
"وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون".
ترون أنّ هؤلاء ينقضون العهود والمواثيق الإلهيّة, وأنتم ساكتون, لا تقولون شيئاً تخافون من إبداء آرائكم.
كيف يُنقض عهد الله؟: يُنقض عهد الله عندما يُجعل المتجبّرون على رأس الأعمال, ليضيّعوا حقوق النّاس, وهم أصلاً لا يعملون بوظائف الوالي والحاكم, ويرون أنفسهم أصحاب حقوق وامتيازات, ويعتبرون النّاس عبيداً وأرقَّاء لهم. هكذا يُنقض عهد الله.
"وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون".
أنتم غير مبالين بالعهد الإلهيّ إلى الحدّ الذي لو وجدتم أن تعصبّكم الجاهليّ وعهود آبائكم وأجدادكم في معرض الزوال, لرفعتم أصواتكم وصيحاتكم.
"وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة والعمي والبُكم وأصحاب العاهة في المدائن مهملة".
لقد نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتركوا النّاس المستضعفين العاجزين والفقراء لحالهم ومصيرهم, فلا أحد يدافع عن حقوقهم, أنتم تركتم كلّ ذلك, ولا تقومون بأيّ عمل لأجلهم. وأنتم لا تكترثون لهذا الظلم الكبير الذي ينتشر في هذا العالم.
"لا ترحمون ولا في منزلتكم تعملون ولا من عمل فيها تعينون وبالإدهان والمصانعة عند الظَلمة تأمنون"[5].
لا ترحمون أنفسكم, ولا تعملون بتلك المنزلة وهذا المقام الذي أُعطي لكم, ولا تقدّمون يد العون لمن أراد النهوض والثورة. وتوقّعون على صحّة أعمالكم بتملّقكم للظَّلَمة وممالأتكم لأصحاب السلطة والمال والمتغطرسين.
وهذا الوضع نفسه اليوم هو الوضع الذي عليه بعض رؤساء البلدان الإسلاميّة والبلدان غير الإسلاميّة المستضعفة في مقابل أمريكا, وفي مقابل القوى العظمى في هذا العالم, يعمل المتجبّرون على تخويفهم, من دون أن يكون هؤلاء على استعداد للإتيان بأيّ حركة في مواجهة الظلم والقهر الذي ابتُلي به هذا العالم, وكذلك الأمر بالنسبة للعلماء والمفكّرين والشعراء والخطباء في العالم الإسلاميّ الذين يرون هذا الوضع ويختمون على أفواههم بختم السكوت ولا يأتون بحركة, هذا الدرس خطاب لهم.
هدف الثورة على الظالم
بعد هذه الكلمات الحاسمة والقاسية للإمام الحسين عليه السلام التي نزلت على رؤوس مخاطبيه كالسّوط, ليبيّن لهم أنّ هذه النهضة التي قام بها ليست حركة دنيويّة, وإنّما هي حركة من أجل هذه القيم, يترك الإمام مخاطبتهم ويوجّه خطابه إلى السّماء والله:
"اللهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام", اللهمّ إنّك تعلم أنّ حركتنا وثورتنا ومواجهتنا للظلم والاستكبار ليست من أجل الوصول إلى مقام, وليست لأجل كسب شيء لأنفسنا, ولا لكي نكسب بضعة صباحات إضافيّة نتمتّع بها في حياتنا الزهيدة والسريعة الانقضاء, بل: "ولكن لنُرِيَ المعالم من دينك, ونُظهر الإصلاح في بلادك, ويأمن المظلومون من عبادك ويُعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك"[6].
هذا هو هدف الإمام الحسين عليه السلام. يريد أن يحكم الإسلام في المجتمعات كعلاج شاف للأمم, يمكنه أن يؤمّن العدالة والحياة الحقيقيّة والإنسانيّة, وأن يرتقي بالإنسان في مدارج الكمال المعنويّ, وأن يقلع أساس الظلم من تلك المجتمعات. هذا هو درس الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام, هذه رسالة الحسين عليه السلام وبلاغه. حقّاً وإنصافاً إنّ هذا الدرس هو من الدروس الحيّة، وإنّ العالم اليوم بحاجة إلى مثل هذا الدرس, ونحن أيضاً نحتاج إليه.
حرمة القبول بالذلّة
لا ينبغي للمؤمن القبول بالذلّة بأيّ نحو كان, قال الإمام الحسين عليه السلام: "هيهات منّا الذلّة, يأبى الله لنا ذلك"[7]. يأبى الله لنا الذلّ, لا يحقّ للمؤمن القبول بذلّ الاستسلام أمام الكفار, أو أن يرضخ لضغوطهم وإملاءاتهم. التنازل بالنسبة للمؤمن هو قبول بالذلّ, وهذا غير جائز.
عاشوراء, إقامة العدل والقضاء على الطواغيت
إنّ أفدح الأخطاء التي ارتكبتها البشريّة - على مرّ التاريخ - وأكثر زلّاتها وأكبر معاصيها كانت في مجال الحكم، وإنّ الزلّات والخطايا التي صدرت عن الحكام ومَنْ بيدهم زمام الأمور والمتسلّطين على مصائر الشعوب ممّا لا يمكن مقارنتها بأعظم الذنوب الصادرة عن بسطاء النّاس وعامّتهم. وفي هذا المجال, قلّما تحلّى الإنسان بالتعقّل والأخلاق والحكمة، وقلّما عمّ المنطق فيه قياساً إلى سائر ميادين الحياة البشريّة.
وإنّ الذين دفعوا ضريبة هذا التجرّد عن التعقّل والمنطق وهذا الفساد والانغماس في الخطيئة هم عموم النّاس, تارة أبناء المجتمع الواحد, وتارة أخرى شعوب مجتمعات متعدّدة. هذه الحكومات تشكّلت بادئ الأمر على هيئة استبداد فرديّ لتنتقل بعد ذلك إلى حالة الاستبداد الجماعيّ المنظّم بفعل التطوّر الحاصل في المجتمعات البشريّة, لهذا فإنّ أهمّ وظائف أنبياء الله تمثّلت في التصدّي للطواغيت ومواجهة أولئك الذين فرّطوا بالنعم الإلهيّة, ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ﴾[8], تتحدّث الآية القرآنيّة بهذا العبارات المؤثّرة التي تهزّ أعماق الإنسان عن هذه الحكومات الفاسدة التي سعت إلى أن يستشري الفساد, ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾[9], فهؤلاء بدَّلوا النعم الإلهيّة والإنسانيّة والطبيعيّة كفراً, أدخلوا النّاس - الذين كان يُفترض بهم التنعّم بهذه النعم - النّار التي هم أوجدوها بكفرهم وطغيانهم وأحرقوهم فيها. وقد وقف الأنبياء عليهم السلام بوجه هؤلاء وحاربوهم، ولو أنّ الأنبياء لم يتصدّوا لمواجهتهم لما كان هناك من داعٍ لمحاربتهم ومجادلتهم. يصرّح القرآن الكريم: ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾[10].
فـما أكثر الأنبياء الذين دخلوا مع المؤمنين من عباد الله ميادين القتال والحرب, فضدّ مَنْ كانت هذه الحروب؟ إنّ الطرف الآخر الذي استهدفه الأنبياء في مواجهتهم إنّما هو تلك الحكومات الفاسدة والقوى المخرّبة وطغاة التاريخ الذين أهلكوا البشريّة وجرّعوها الشقاء والتعاسة وأهلكوها.
فالأنبياء هم منقذو الإنسانيّة, ولذا ذكر القرآن الكريم إقامة العدل بوصفها واحدة من الأهداف الكبيرة التي تسعى إليها النبوّات والرسالات: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[11], فإنزال الكتب وإرسال الرسل إنّما كانا في الأصل ليسود العدل والقسط البشريّة، واقتلاع مظاهر الظلم والغطرسة والفساد من الوجود.
وهكذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام, فقد قال عليه السلام: "إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي"[12].
وقال أيضا: "مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثمّ لم يغيّر عليه بقول ولا فعل، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله"[13].
أي مَنْ رأى مصدراً للظلم والفساد ولم يكترث له، فعاقبته عند الله هي نفس عاقبة ذلك الظالم والمفسد فهو عند الله قد قرن مصيره بمصيرها. لقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بأنّه لم يخرج ظالماً ولا أشراً, ولقد كانت دعوة أهل العراق للإمام الحسين عليه السلام من أجل أن يقدم إليهم ويتولّى الحكم فيهم، وقد استجاب الإمام عليه السلام لدعوتهم هذه. ولم يكن الأمر بحيث إنّ الإمام الحسين لم يكن يفكّر بالحكومة، بل إنّ ما كان يصبو إليه عليه السلام هو القضاء على الحكومات الطاغوتيّة، سواء حصل ذلك عن طريق الإمساك بالحكم أم بالاستشهاد وبذل الدماء.
استمرار (خطّ) النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام من أجل إقامة الحقّ والعدل: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"[14].
ونقرأ في زيارة الأربعين التي هي من أهمّ الزيارات: "ومنح النصح وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة"[15].
وكان عليه السلام قد ذكر في الطريق حديثاً مشهوراً عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها النّاس، إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه"[16].
إنّ كلمات ذلك الإمام العظيم كلّها وكذلك الروايات التي وصلت إلينا حوله عن المعصومين عليهم السلام, تبيّن هذه القضيّة بشكل واضح, وهي أنّ الهدف هو: إقامة الحقّ والعدل ودين الله وتمكين حكومة الشريعة وتحطيم بنيان الظلم والجور والطغيان. الهدف: استمرار طريق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين, حيث إنّه عليه السلام: "يا وارث آدم صفوة الله.. يا وارث نوح نبيّ الله"[17].
ومعلوم أيضاً لأيّ أمر جاء الأنبياء: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[18].
أي إقامة القسط والحقّ وإيجاد الحكومة والنظام الإسلاميّين.
مواجهة الإمام عليه السلام لمحاولات تحويل الإمامة إلى سلطنة
من هو الذي وقف في الجهة المقابلة للحسين بن عليّ عليهما السلام؟ إنّها تلك الحكومة الظالمة الفاسدة المنحرفة (المتجسّد عملها في): "يعمل في عباد الله بالجور والعدوان"[19], العلامة الأساسيّة لهذه الحكومة أنّها كانت تتعامل مع الأمّة الرّازحة تحت سلطتها ومع عباد الله وخلقه بالظلم والعدوان والغرور والتكبّر والأنانيّة والاستعباد، وهذه كانت هي الخصوصيّة البارزة لتلك الحكومة. فهي قد تنكّرت للمعنويّات والالتزام بحقوق النّاس. وكانت قد بدّلت الحكومة الإسلاميّة إلى تلك الحكومة الطاغوتيّة نفسها التي كانت سائدة في الأرض قبل الإسلام وخلال مختلف المراحل التاريخيّة، في حين أنّ من أبرز مزايا النظام الإسلاميّ هي الحكومة، وأنَّ من أبرز مظاهر المجتمع المثاليّ الذي يريد الإسلام تشييده هو شكل الحكومة وطبيعتها وسيرة الحاكم. وكما عبّر شخصيّات بارزة في ذلك العصر أنّ سلاطين الجور كانوا قد بدّلوا الإمامة إلى سلطنة.
والإمامة إنّما تعني قيادة ركب الدّين والدّنيا, في قافلةٍ يسير فيها الجميع نحو هدف سامٍ وباتجاه واحدٍ, وهناك شخص يرشد الباقين, فإن ضلَّ أحدهم عن مسار القافلة انتشله وأعاده إليها، وإذا تعب أحدهم حثّه على مواصلة الطريق، وإن جُرحت قدم واحد منهم داواها، وهو من يرفد الجميع بالعون المعنويّ والماديّ, وهذا ما يُسمّى في الإصطلاح الإسلاميّ باسم "الإمام", أي إمام الهدى، وأمّا السلطنة فهي في الجهة المقابلة. والسلطنة التي بمعنى الملكيّة الموروثة هي أحد أشكال السلطنة، لذلك لا يطلق على بعض السلاطين في العالم اسم سلطان، لكن بواطنهم سلطويّة تختزن التسلّط على البشر, فأيّما شخص جاء وفي أيّة حقبة تاريخيّة وأيّاً كان اسمه، إذا ما قابل شعبه أو الشعوب الأخرى بمنطق القوّة فذاك هو ما يسمّى "سلطنة".
وفي عصر الإمام الحسين بدّل هؤلاء الإمامة الإسلاميّة إلى ذلك الشيء الذي: "يعمل في عباد الله بالجور والعدوان".
فكان أن انبرى الإمام الحسين لمقارعة هكذا وضع.
[1] تاريخ الطبريّ, ج4, ص304.
[2] االأخبار الطوال, ص227, مناقب آل أبي طالب, ج3, ص240, بحار الأنوار, ج44, ص324: نصّ الرواية:... لمّا مات معاوية وذلك لنصف من شهر رجب سنة ستّين من الهجرة كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان على المدينة من قبل معاوية أن يأخذ الحسين عليه السلام بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخير عن ذلك، فأنفذ الوليد إلى الحسين في الليل فاستدعاه فعرف الحسين عليه السلام الذي أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: "إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلّفني فيه أمراً لا أجيبه إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي"المترجم-.
[3] تاريخ الطبريّ, ج4, ص304.
[4] تحف العقول, ص 238.
[5] تحف العقول, ص 238.
[6] تحف العقول, ص239.
[7] الاحتجاج, ج2, ص24, بحار الأنوار, ج45, ص83, وقد جاء هذا التعبير في مصادر أهل السنّة, تاريخ مدينة دمشق, ج14, ص219.
[8] سورة البقرة, الآية: 205.
[9] سورة إبراهيم, الآية: 28-29.
[10] سورة آل عمران, الآية: 146.
[11] سورة الحديد, الآية: 25.
[12] بحار الأنوار, ج44, ص329.
[13] رجال النجاشيّ, ص144, تاريخ الطبريّ, ج4, ص304.
[14] بحار الأنوار, ج44, ص329.
[15] مصباح المتهجّد, ص788, بحار الأنوار, ج98, ص331.
[16] تاريخ الطبريّ, ج4, ص304.
[17] كامل الزيارات, ص375, بحار الأنوار, ج98, ص199.
[18] سورة الحديد, الآية: 25.
[19] تاريخ الطبريّ, ج4, ص304, بحار الأنوار, ج4, ص382.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|