أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-11-11
221
التاريخ: 2024-09-10
330
التاريخ: 2024-04-22
816
التاريخ: 2024-06-27
705
|
يُعَدُّ «باحري» من أعظم رجال عهد «تحتمس الأول» وقد كان أول ظهوره في مدينة «الكاب» مسقط رأسه، وألقابه كالآتي: «حاكم نخب»، وحاكم «دندرة»، والمشرف على الأراضي الزراعية في الجنوب من أول «إسنا» حتى «نخب» (الكاب)، والكاتب الماهر، وحاسب الحبوب، والمشرف على كهنة «نخب»، والمقرَّب لدى سيده، والمشرف على الكهنة، والحارس الوحيد على ممتلكات سيده، والمعروف لنفسه بقلمه، وكذلك كان يُلقَّب «مربي» ابن الملك «وازمس «. ومن ذلك نعلم أن هذا العظيم كان من أكبر رجال الدولة، إن لم يكن أعظم أمير فيها في هذه الفترة، ولا غرابة في ذلك؛ فإن أمراء «الكاب» كانوا منذ الأزمان القديمة موالين للبيت المالك؛ ولذلك بقوا يحملون ألقابهم الوراثية. وقبر «باحري» يُعَدُّ من أكبر المصادر التي يمكن للباحث الحصول منها على معلومات طريفة، تكشف لنا النقاب عن نواحٍ عدة من الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية في هذه الفترة التي بدأ يسطع فيها نجم ملوك الأسرة الثامنة عشرة في داخل البلاد وخارجها؛ ولذلك آثرنا أن نفصِّل القولَ عن محتوياته بعضَ الشيء لما يشمله من مناظر طريفة ووثائق هامة تكشف النقاب عن كثير من حياة القوم، ونبتدئ هنا بلوحته الجنازية التي ترك لنا عليها نقشًا دينيًّا يُعَدُّ من أهم المصادر عن ديانة القوم في هذا العهد؛ وبخاصة لأنه يقدِّم لنا نوعًا جديدًا من الوثائق التي كان يدوِّنها عظماء القوم من هذه الأسرة في مقابرهم، وتبتدئ اللوحة هكذا:
الصيغة الدينية: قربان يقرِّبه الملك لآمون رب عروش الأرضين، وملك الأبدية والملك سيد الريشتين العظيمتين المنفرد بين مَن سبقه والعظيم، وأسن الأزليين … والذي خلق الناس والآلهة واللهيب الحي الذي يخرج من المحيط الأزلي (نون)، ويمنح الناس النور (مثل) «نخبت» البيضاء صاحبة «نخن» (الكوم الأحمر) ربة السماء، وربة الأرضين، وللإله «أوزير» «خنتي أمنتي» سيد «الأرض العظيمة» (اسم مقاطعة طينة)، وللإلهة «حتحور» ربة الصحراء صاحبة القلب القوي بين الآلهة، وللإله «بتاح سكر» رب «شتيت» (1)،وللإله «آنوبيس» رب «روستاو» (جبانة الجيزة)، وللتاسوع الأكبر، وللتاسوع الأصغر … ألف من الخبز والجعة والثيران والإوز، وألف من القربان والمأكولات، وألف من المشروبات والخضر، وكل ما ينبت على ظهر الأرض، وألف من كل شيء جميل طاهر، تُقدَّم أمام رب الأبدية، وكذلك يُقدَّم خبز «سنو» ممَّا يخرج أمام الإله، ولبنًا ممَّا يقرب على مائدة القربان، وماء للشرب ممَّا يخرج من «إلفنتين»(2) ومما فاض … في عيد الشهر، وفي عيد اليوم السادس، وفي عيد «نصف الشهر»، وفي عيد «الخروج العظيم»، وفي عيد «ظهور نجم الشعرى»، وفي عيد «واج»، وفي عيد «تحوت»، وفي عيد «الولادة الأولى» الذي ولدت فيه «إزيس»، وفي عيد «ظهور مين»، وفي عيد «ظهور الكاهن سم»، وفي عيد «وجبة العشاء»، وفي عيد «بداية النهر»، في السماء في أيامها (الحقيقية) من الشهر، وفي عيد «كل يوم». وتُوضَع لك الملابس الطاهرة المصنوعة من نسيج «بقت» (نوع فاخر من نسيج الكتان)، وهي الثياب المخلوعة من أعضاء الإله (3)، وتُصَبُّ لك الزيوت النقية، وتشرب المياه من حافة المائدة، وتشاركهم (أي الآلهة) في القربان التي عليها؛ لأنك شريف بين أول الممدوحين لأجل أمير «الكاب» الكاتب «باحري» المرحوم الذي يملأ قلب سيده جدًّا.
خطاب عن مصير المتوفى في عالم الآخرة: إنك تدخل وتخرج (من القبر)، وقلبك فَرِح بحظوة رب الآلهة (آمون)، وتدفن دفنًا جميلًا بعد عمر طويل عندما تحلُّ الشيخوخة، وإنك تتخذ مكانك في تابوتك، ويضمك القبر الصحراوي في الغرب، وتصير روحًا حية تحصل (أي: الروح) على الخبز والماء والهواء، وتتحول(4)، إلى بجعة (فنكس) أو حمامة أو باشق، أو طائر كما تحب، وتعبر في القارب، ولن تطرد، وتسبح في مجرى النهر؛ وسيحدث أنك تعيش مرة ثانية، ولا تبعد روحك عن جسمك، وتؤله روحك مع المنعمين، وتتحدَّث إليك الأرواح السامية، وتجتمع بها، وستأخذ ما يُقدَّم لك على الأرض، وستستولي على الماء، وتتنسم الهواء، وتخوض فيما يحبه قلبك، وستُرَدُّ إليك عيناك (ثانيةً) لترى بهما، وأذناك لتسمع بهما ما يقال، وفمك لتتكلم (به)، وساقاك لتمشي بهما، وتتحرك بذراعَيْك وكتفَيْك، ويكون لحمك قويًّا، وعروقك سليمة، وليس فيك شيء خبيث، ولبك معك صحيح، وقلبك معك كما كان من قبلُ، وإنك تصعد إلى السماء وأنت تخترق عالم الآخرة في كل صورة (تحبها)، وينادى بك يوميًّا إلى مائدة الإله الكاهن الطيب (أوزير)، وتتسلم الخبز «سنو» الذي يؤتى به أمامك، وقربان رب الأرض الفاخرة (أوزير أو أنوبيس) لأجل روح عمدة «نخب» وعمدة «دندرة» الذي يحسب الغلال من «دندرة» حتى «الكاب»، والمرشد اليَقِظ والخالي من التعب الكاتب «باحري» المرحوم. إنك تأكل خبز «شنس» بجانب الإله عند «السلم (5) العظيم» لملك رب التاسوع، وإنك تعود إلى بيتك إلى مكان إقامتك بين رجال محكمة «أوزير» العليا وتذهب للتنزُّه بينهم، وتتصادق مع أتباع «حور» وتطلع وتنزل، ولن تنكص على عقبَيْك، ولن تصد عن باب الآخرة (دوات)، ويُفتَح لك بابَا الأفق، ويُفتَح لك مزلاجَا الباب بنفسيهما، وتصل إلى قاعة العدالتين (6)،ويُرحِّب بك الإله الذي فيها، وتنزل في أعماق العالَم السفلي، وتسير في مدينة النيل (حرًّا)، ويفرح قلبك بزراعتك حقولك في أرضك التي في حقول الغاب (7)،وطعامك يتألَّف ممَّا عملته أنت، ويرد إليك الحصاد بكثرة، وتُرمَى لك حبال المرسى من سفينة العبور، وتسبح على حسب ما يحبه قلبك، وتخرج في كل صباح، وتسكن (في قبرك) ثانيةً كل مساء، وتضاء لك الشعلة ليلًا إلى أن تشرق الشمس على جسمك ثانية، ويقال لك: مرحبًا، مرحبًا بك في بيتك هذا للأحياء، وإنك ترى «رع» في أفق السماء وتشاهد «آمون» عندما يشرق، وتكون حسن اليقظة في كل يوم، وتمنع عنك كل الشرور في الأرض، وتمضي حياتك إلى الأبد سعيدًا في حظوة الإله الذي فيك (8)،وقلبك معك وهو لا يغشك، وطعامك يبقى في مكانه (الصحيح)؛ لأجل الكاتب «باحري» المرحوم.
باحري يتحدَّث عن سلوكه في الحياة: يقول: كنتُ شريفًا نافعًا لسيده، وحازمًا لا ينسى، وكنت أنهج على طريق واحدة (فقط) بعد امتحانها، وأعرف مخارج الحياة، وكنت أفحص الحدود في الوثائق، وكذلك الشاطئ(9) فيما يخص كل الأشياء الحسنة للفرعون، وكذلك كل أمور بيت الملك (له الحياة والسعادة والصحة)، فإنها مثل النيل عندما يصبُّ في البحر الأبيض المتوسط (أي: تسير في مجراها الطبيعي)، وكان فمي ثابتًا؛ لأنه كان يعمل الخير للفرعون، وكنت أخاف عجز الحساب، ولا أتصامَّ عن الحساب، ولم آخذ رشوةً من المحاصيل، وكان قلبي هو الذي يقودني إلى الطريق التي يحبها الفرعون، وقد جعل قلمي معروفًا، وجعلني مبرَّأً في قاعة العدل (…)، ودلَّ على أخلاقي حتى إني أخضعت العظماء، وجعل (…) خطوتي إلى الأمام، وجعلتني أخلاقي الحسنة أرتفع، وقد نوديت (…) بوصفي إنسانًا خاليًا من الإثم، وقد وضعت في كفة الميزان فخرجت منها وافي الحساب خاليًا من الدين، ورحت وغدوت وقلبي يحمل نفس الأخلاق (لم يتغيَّر)، ولم أنطق كذبًا على أي إنسان آخَر؛ لأني أعرف الإله الذي في جوف الناس، وإني أعرفه، وأفرق بين هذا وذاك (الخير والشر)، وأنجز الأمورَ على حسب الأوامر، ولم أغيِّر رسالة مرسلها، ولم أنطق بألفاظ العامة، ولم أبلغ عن أناس لا يجب التبليغ عنهم، وكنت مثالًا للطيبة، وإني إنسان ممدوح خرج من بطن أمه ممدوحًا حاكم «نخب» «باحري» المرحوم الذي أنجَبَه مربي ابن الملك الكاتب «آتف تري» المرحوم، الذي وضعته ربة البيت «كامي» المرحومة.
باحري يطلب إلى قارئي نقوش قبره أن يدعوا له بقربان: يقول: استمعوا أنتم يا مَن في الوجود، إني أتحدث إليكم بدون كذب، يا أيها الأحياء والموجودون، وأنتم يا أيها الرجال العظماء الذين على الأرض، وأنتم يا أيها الكهنة المطهرون وزملاؤهم، وكل كاتب في يده لوحة كتابة، وكل مدرب على كلام الإله (أي: على اللغة المصرية)، وكل فرد ممتاز بالنسبة لمرؤوسيه، وصاحب فم عالٍ في عمله؛ إنكم ستكونون ممدوحين من «رع» رب الأبدية، ومن «نخبت» البيضاء صاحبة «نخن»، ومن كل الآلهة الذين يجعلون الفرد سعيدًا في وظيفته (كان لكل وظيفة إلهها الحامي لها؛ ولذلك يطلب المتوفى أن يدعو له إلهه على حسب وظيفته)، ويرغب في أن يرثه أولاده في وظيفته، إذا قربتم قربانًا يقدِّمه الفرعون على حسب ما جاء في الكتب، وكذلك تعويذة خروج الصوت كما كان يقول الأولون، وكما كان يجب أن يخرج من فم الإله، وإنَّ كل إنسان يثني يده (أي: مقدِّمًا قربانًا) سيحصل على العدل بذلك، ويفعل كما يجب على حسب القانون … في هذا الأمر الكتابي: ألف لك من الخبز، وألف لك من الجعة، ومائة ألف من كل شيء جميل مما يقرب وما يصب «يا أوزير» حاكم «نخب» وحاكم «إسنا»؛ ليشرح قلب المشرف على الخاتم في سياحته إلى الجنوب (للتفتيش)، الكاتب الماهر في الحساب «باحري» المرحوم.
ما يطلبه «باحري» من القرَّاء لا يكلفهم شيئًا، وما يبتغي هو أن يكافئوا عليه في عالم الآخرة: إني أتحدَّث إليكم، وإني أجعلكم تعرفون أنها قراءة بدون قصد، فليس فيها ذم ولا هجاء، وأنها ليست شجارًا مع آخَر، ولا استغلالَ فردٍ وقع في حرج مؤقتًا، بل إنه حديث لذيذ للتسلية لا يشبع القلب من سماعه، فهو نسيم الفم، ولا يؤكل، ليس فيه إجهاد ولا نصب، وإنه لحلو لكم عندما تسمعونه، وستجدونني عندما آتي إليكم، وطالما وجدت في أرض الأحياء هذه ولم يشك مني إله، ولقد أصبحت روحًا تام العدة، وحقًّا لقد أعددت مكاني في الجبانة ومعي حاجاتي من كل شيء، ولم أتركها لتعمل لي (أي: القربان)، حقًّا حقًّا إن والد ذلك المتوفى المبجل هو الذي قرب له القربان، وإنه لا ينسى مَن يقدِّم له الماء، وإنه لحسن أن يستمع إليه. ولسنا في حاجة إلى الإشارة إلى ما جاء في نقوش تاريخ حياة هذا الرجل العظيم من معلوماتٍ على جانب عظيم من الأهمية من الوجهة الدينية والخلقية في هذا العهد، على الرغم مما تنطوي عليه عباراته من مبالغات يمكن معرفتها بدون كبير عناء، ومع ذلك فإننا نستخلص من هذه المبالغات نفسها أمورًا عدة عن حياة القوم.
المناظر الاجتماعية والخاصة في مقبرة «باحري»
تحتوي مقبرة «باحري» على مناظر عدة عن حياته الخاصة وحياته الحكومية، وكذلك على مناظر جنازية عامة، وهذه المناظر قد شُفعت لحسن الحظ بنقوش مفسِّرة لها، ممَّا جعلها ذات مزايا عظيمة؛ وبخاصة لأنها تُلقِي بعضَ الضوء على حياة القوم اليومية وأعمالها بما فيها من فكاهات ومداعبات حلوة قلَّ أن نحصل عليها في وثائق تلك الأزمان السحيقة، ففي منظرٍ نشاهد «باحري» يتبعه خَدَمُه حاملين ملابسه ونعاله وكرسيه والمعدات التي تلزمه، وتقول لنا النقوش عن هذا المنظر: إنه فحص أعمال فصل الصيف وأعمال فصل الشتاء، وكل الأعمال التي أنجزها في الحقول عمدة «نخب» وعمدة «دندرة»، وهو الذي يشرف على الحقول في أراضي الجنوب، الكاتب وحاسب الغلال «باحري» المرحوم. ويلحظ في المنظر أن عربة «باحري» تنتظره، غير أن أحد جوادَيْها نفد صبره، وأراد أن يرخي لساقيه العنان، فوبَّخه السائس قائلًا: قف ولا تتحرك، ولا تكن عاصيًا أيها الجواد الممتاز، يا أيها (الأمير) الذي يحبه سيده، ومَن يفخر به الحاكم «باحري» أمامَ كل إنسان. ويشاهد أمام «باحري» منظر الزرع والحرث، فيُرى محراثان تجرهما ثيران على حسب المعتاد، غير أننا نشاهد محراثًا ثالثًا يجره أربعة رجال بالحبال والعمال الذين يحرثون بالمحاريث التي تجرها الثيران، يقولون: إنه يوم جميل يشعر فيه الإنسان بالنسيم، والثيران تحرث، والسماء تعمل على حسب ما ترغبه قلوبنا؛ دَعْنا نعمل لهذا الشريف. (Taylor, “The Tomb of Pahari at El-Kab,” Pl. III–VII) وكذلك نرى حرَّاثًا ينادي رفيقًا له يسير أمامه قائلًا: «أسرع أيها القائد إلى الأمام بالثيران تأمل! إن الأمير واقف ينظر إلينا.» مما يُشعِر — كما هي الحال الآن — أنهم لا يعملون إلا إذا كان صاحب العمل منتبهًا إليهم مراقبًا إياهم. وفي نفس المنظر نجد رجلًا يحطم قطعًا من الطين بفأسه، وينادي رفيقه الذي يعمل معه قائلًا: «يا صديقي أسرع في العمل حتى ننتهي في وقت مبكر.» غير أن ذلك يحفظ زميله فيجيبه قائلًا: «إني سأعمل أكثر من العمل الذي يجب أن أعمله للشريف، فالزم الصمت.» أما العمال الذين كانوا يجرون المحراث فإنهم كانوا مَرِحين؛ إذ إن «باحري» عندما كان متجهًا نحو النهر مارًّا بهم، حضَّهم على الإسراع في عملهم فأجابوه: إننا نفعل ذلك، انظر إلينا لا تَخَفْ على حقول الغلال، إنها حسنة جدًّا. وقد أجاب على ذلك الحرَّاث المسن قائلًا: حقًّا إن مقالك مدهش جدًّا يا بني، فإن السنة طيبة خالية من الأمراض، وكل أعشابها جيدة، والعجول فيها ممتازة أكثر من أي شيء. أما القمح الذي قد نضج فكان يحصده عمال بمحشاتهم وخلفهم امرأة وطفل يلتقطان ما تُرِك خلف الحصادين، في حين نشاهد امرأة ثالثة تحمل سلة وبعض الخبز، ويلحظ أن أحدهم ينادي الحصادين قائلًا: «أعطني حزمة؟ انظر سنأتي في المساء، فلا تعد لشح البارحة، تخلَّ عنه اليوم.» (أي: اترك لنا بعض السنبل نلتقطه اليوم). وفي نهاية حقل الحصاد توجد مظلة صف فيها أوانٍ للشرب على قواعد من الخشب، ويشاهد اثنان منها خارج المظلة يروح عليهما خادم بمروحة من عسف النخل لتحفظ برودتها، وبعد ذلك يُحمَل القمح المحصود في سلال كبيرة معلقة في قضبان ومحمولة على الأكتاف للدرس، وهنا يُرَى «باحري» يقبض بيده على غصن، ويأمر حاملي السلال بالإسراع خوفًا من الفيضان الذي كان يهدِّد الحقول قبل حصد الغلال منها، ثم يسمع عامل وهو عائد ليأخذ حملًا جديدًا يقول بصوت عالٍ: «أَلَمْ أحمل القضبان طول اليوم كرجل؟ وهذا ما أحبه.» ومما تجدر ملاحظته هنا أن النغمة التي كانت سائدة في هذه المحادثات نغمة مرح تدل على الجد والإخلاص، وهذا المرح بعينه نجده في الدولة القديمة، وقد عُبِّر عنه في أغنية حاملي المحفة (راجع كتاب الأدب جزء 2 ص223). وبعد ذلك يفرغ العمال السنبل في مكان الدرس حيث تدوسه الثيران، وهناك يُرَى صبي يعمل بمكنسته باستمرارٍ ليحفظ السنبل (10) في مكانه. أما العامل الذي يسوق الثيران في دوراتها التي لا تنقطع، فكان يغني وهو ماشٍ: «ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك يا أيتها الثيران، ادرسي لنفسك، ادرسي لنفسك فإن التبن لعلفك، والغلة لأسيادك، ولا تجعلي قلوبك تجمد، فإن الجو بارد.» ثم يُذرَى بعد ذلك القمح ويكال ويُوضَع في المخازن، ويُشاهَد كاتب جالس على كومة عالية من الغلال مسجِّلًا ما يكال ويخزن وهو «تحوتي نفر»؛ ويُشاهَد كذلك هنا حصد الكتان، وذلك أن شجيرات الكتان كانت تُنتزَع بجذورها ويُزال عنها ما علق بها من طينٍ، ثم تُحزَم السيقان وتُحمَل إلى رجلٍ مُسِنٍّ جالس تحت شجرة، حيث ينزع منها البذور بآلة كالمشط الضخم، ويخاطب الولد الذي أحضر له الحزم قائلًا: «إذا أحضرتَ لي تسعًا وإحدى عشرة ألف حزمة، فإني أنا الرجل الذي أفصلها كلها.» غير أن الولد يجيبه بوقاحة غير محترم سنه المتقدِّم قائلًا: «أسرِعْ لا تكن ثرثارًا يا أيها العامل القَذِر.» وفي منظر آخَر يُشاهَد «باحري» يعمل بيدَيْه، فيجلس على كرسي وأمامه أدوات الكتابة يدوِّن حساب الحيوان الذي كان يساق أمامه، والنقوش المفسرة لهذا المنظر تقول: «حساب عدد القطعان بواسطة أمير «دندرة»، والمشرف على حقول بلاد الجنوب المحبوب لدى سيده من أول بيت «حتحور» حتى «الكاب»؛ الكاتب «باحري».» ومن ذلك نعلم أنه كان يدير أملاك الفرعون من «دندرة» حتى مدينة «الكاب»، ويلحظ أن الماشية التي كانت تُحصَى هنا كانت تشمل ثيرانًا وبقرات وعجولًا وحميرًا وماعزًا وجداء وخنازير، وقد كانت بعض هذه الماشية نائمة على الأرض لتكوى، ويُشاهَد أمام «باحري» أخوه المسمَّى كذلك «باحري» ويُلقَّب بالكاتب، ويُرَى «باحري» كذلك في منظر آخَر جالسًا في مقر وظيفته يتقبَّل الذهب من رؤساء البلاد الجبلية، وقد كان يُقدَّم إليه في هيئة حلقات، ويُوزَن أمامه ويُدوِّن أخوه «باحري» قيمةَ كل وزنة، وقد فسر هذا المنظر بما يأتي: تسلم ذهب رؤساء أهل الجبال، تسلم الجزية من رؤساء أهل هذه البلدة بيده المدير اليَقِظ الذي لا يكل، والذي لا ينسى ما هو مكلَّف به الأمير «باحري» المرحوم.
(راجع: Urk. IV. p. 126). ثم نرى «باحري» يسير إلى شاطئ النهر على قدمَيْه، حيث يرقب شحن السفن المحملة بالغلال المستحقة لمخازن غلال الحكومة، وتقول النقوش عن ذلك: «شحن السفن بالقمح والشعير.» ويقول العمال: «هل سنمضي طوال اليوم في حمل القمح والشعير؟ إن المخازن مفعمة والأكوام تفيض على حافاتها، والسفن قد شُحِنت شحنًا ثقيلًا، والقمح يفيض منها، ومع ذلك فإن السيد يحضنا على السرعة، تأمل! فهل صدورنا من برنز (أي: لا تكل) (11) «. ويلحظ أن البحارة الذين في السفن يميلون إلى جنب ويملئون أوانيهم للشرب. وكل المناظر السالفة تحدِّثنا عن حياة «باحري» الرسمية، وهناك مناظر أخرى تبحث عن حياته الخاصة، وتصحبه زوجه، فنجده في منظر يلحظ سير العمل في ضياعه الخاصة ويتسلَّم محاصيله، وكذلك نجده مع تلميذه الصغير الأمير «وازمس» الذي يجلس على حجره معطيًا إياه هدايا بمناسبة يوم عيد، والنقوش تحدِّثنا: ابتهاج القلب بكل شيء، والراحة، وتسلم الهدايا، والتعبُّد «لنخب كاو» بوساطة مربي الأمير، «وازمس» الحاكم «باحري» (Naville Ibid. Pl. IV). والواقع أنه يُشاهَد أمام «باحري» والأمير أطفال محضرون … وقربان، وكل أنواع الأزهار في صباح السنة الجديدة (كما تحضر بعض الأطفال في أيامنا هدايا لبعضهم في العيد) ... ويمكن القول من صور أقارب «باحري» الممثلة على جدران قبره، أنه قد دُوِّن أسماء ستة أجيال من أسرته، ابتداءً من جد والدَيْه حتى أحفاده. ولا نزاعَ في أن أمثال قبر هذا العظيم يُعَدُّ تحفةً لكلِّ مؤرخ يريد أن يبحث في الحياة المصرية من أي ناحية أراد، غير أنه ممَّا يُؤسَف له جد الأسف أن أمثال هذا القبر المحفوظ قليل جدًّا.
.................................................
1- مكان معبد الإله «سكر» إله الموتى في «منف» ثم أطلق فيما بعد على معابد آلهة أخرى (راجع: Gauthier, “Dic. Geog”. V. p. 150).
2- كان المعتقد على حسب خرافة قديمة أن منابع النيل هي في الشلال عند «إلفنتين».
3- كانت الملابس التي تُوضَع على تمثال الإله تُبدَّل من وقت لآخَر، كما يُفعَل بالكسوة الشريفة وكسوة الأولياء الآن في مصر الحديثة؛ فكان يستعملها الكهنة والأهلون كما هي الحال الآن.
4- كان المصري بعد الوفاة يستطيع بوساطة تعاويذ سحرية أن يتحوَّل إلى أشكال مختلفة، ويعود في صورها إلى الحياة الدنيا، وهذا الاعتقاد لا تزال بقاياه موجودة في مصر الحديثة، كما كان يُعتقَد أن روحه كانت تتمتَّع بما يُقدَّم له من ماء وطعام، وهذا أيضًا اعتقاد له نظيره في أيامنا.
5- مكان غير معروف في الكرنك.
6- أي: قاعة المحاكمة، وكان المصري ينظر لكل شيء من ناحيتين، وهما العدالتان.
7- الحقول التي كان لزامًا على المتوفى أن يقوم بالعمل فيها.
8- كان المصري يعتقد أن الإنسان يسكن فيه الإله وينظم حياته.
9- أي: ومثل النيل في طريقه السلسة إلى البحر، فإنه يحدد الحدود والشاطئ؛ فكذلك كان المتوفى يحدد أملاك الفرعون وشاطئه مع غزارتها.
10- هذه المناظر تُشاهَد حتى الآن في قرى الوجه البحري التي لم تدخلها الآلات الحديثة للحرث والزرع والدرس.
11- هذه هي الشكوى التي نجدها من أصحاب رءوس المال؛ فإنهم يريدون أن يبتزُّوا كلَّ مجهود العامل لكثرة الإنتاج؛ ولذلك يقول العامل: هل صدورنا من نحاس — أي: لا تُحس — ولذلك يريد السيد أن يجعلها تعمل باستمرار.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
بالفيديو: لتعريفهم بالاجراءات الخاصة بتحقيق وترميم المخطوطات.. مركز الإمام الحسين (ع) يستقبل مجموعة من طلبة الدراسات العليا في جامعة بابل
|
|
|