أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-02-11
900
التاريخ: 2024-08-22
249
التاريخ: 2024-04-04
1032
التاريخ: 2024-10-17
507
|
على الرغم من أن مدينة «إختاتون» قد أُقيمت في الأصل لتكون مدينة دينية وحصنًا حصينًا للمذهب الجديد وللبلاط الفرعوني، فإنه كان ولا بدَّ أن يستند أهلوها — وبخاصة الطبقات الدنيا منهم — على إنشاء صناعات خاصة بهم، وقد بينت لنا أنواع هذه الصناعات بدرجة عظيمة الأحوال التي أُسست فيها هذه المدينة. والواقع أن مدينة «إختاتون» كانت تشبه في حياتها النار التي أُوقدت في هشيم فارتفع لهيبها إلى عنان السماء ساعة ثم خبت وصارت ترابًا هامدًا؛ لذلك كان مقدرًا لهذه المدينة التي أُنشئت ما بين غمضة عين وانتباهتها أن تجد مكانًا في محيطها لإقامة مقابر عدة، ومقاصير وقصر ضخم للفرعون، ومساكن جميلة لكل الأشراف ورجال البلاط، وكذلك مقابر ومقاصير لهم. وقد كان المصري يعني بها أكثر مما يعني بمسكنه، فكل هذه المنشآت كانت تتطلب بطبيعة الحال مقدارًا ضخمًا من صناعة الزخرفة والزينة. أما نوع هذه الصناعة فقد كان القول الفصل فيه للذوق السائد في هذا العصر، وقد كان الذوق العام في زخرفة المباني مندفعًا نحو الرسوم البارزة وتزيينها بالألوان الزاهية، وهذا الذوق كان من خصائص الفن المصري في كل عصوره، ولكنه أخذ يتجه في عهد «إخناتون» إلى استعمال الخزف المطلي، والزجاج الملون في أعمال الزخرفة. ولقد كان أبسط وأسهل وأيسر على القائمين بالأمر أن يُنشئوا معامل للخزف المطلي والزجاج الملون في المدينة نفسها من أن يجلبوه من أماكن نائية كانت في معظم الأحيان معادية للمدينة؛ ولذلك كان من مميزات «إختاتون» ما أُقيم فيها من مصانع لعمل الخزف المطلي والزجاج الملون، وتدل بقايا ما وُجد من هذه الصناعات على أنها ازدهرت وتقدمت تقدمًا عظيمًا في «إختاتون»، وقد بلغت هذه الصناعة من التنوع والبهاء حدًّا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، وكان هذا العصر أعظم عصر بلغت فيه صناعة الخزف منتهى تقدمها، كما وصلت إلى أعظم غاية في تنوع استعمالها. وقد كشفت أعمال الحفر عن موقع مصنعين عظيمين لصناعة الخزف المطلي، وكذلك عن عدة مصانع لعمل الزجاج على أن حجرات العمل في هذه المصانع قد اختفت نهائيًّا، غير أن بقايا هذه الصناعات لا تزال كائنة تظهر لنا في القطع المتخلفة طريقة العمل في إنتاج هذه الصناعة في حين أن مئات من قطع أواني الزجاج وأشياء أخرى تضع أمامنا شكل القطع التي تم صنعها. ولما كانت الأذواق تختلف باختلاف العصور، فإن بعض القطع التي كانت تُصنع من الزجاج الملون قد يمجها ذوقنا، فقد صُنعت مثلًا تماثيل كاملة من الخزف المطلي، وهي لا تكاد تُعَدُّ قطعًا فنية كما نفهم الفن الآن، ففي أشياء أخرى كان الذوق الفني في عهد «إخناتون» ناقصًا على الأقل في نظرنا، ولكن لسنا في شك من القيمة الزخرفية للألوان الفنية التي كانت تُستعمل في صورة خزف مطلي لتزيين منازل الأشراف والقصور الملكية والمعابد. وقد وصل إلينا بعض قطع من أجمل نماذج صناعة الزجاج الموجود في العالم من هذا العصر؛ مثل الإبريق الأزرق الفيروزي المزين بخطوط بيضاء وزرقاء قاتمة، وكذلك الآنية ذات أربعة المقابض بلونها الأزرق اللازوردي، والمزينة بخطوط متموجة صفراء وبيضاء وزرقاء خفيفة وهما في مجموعة اللورد «كارنرفون»، هذا إلى قدح الشراب ذي اللون الفيروزي الأزرق الخالص، وهو الآن بمتحف متروبوليتان (1) بمدينة «نيويورك«. أما من جهة البهاء والفخامة فإن الدقائق الزخرفية والتفاصيل التي توجد على جدران قصر «إخناتون» التي استُعمل فيها الزجاج الملون والذهب الوفير لتزيين تيجان أعمدتها التي على شكل جريد النخل؛ لدليل ناطق على مقدار ذوقهم، ويقول الأستاذ «فلندرز بتري» إن تاج العمود في هذا القصر كان صورة من عمل الميناء التي يحذقها الصائغ المصري، وهو عبارة عن رقعة مقسمة أقسامًا دقيقة وُضع في كل منها حجر ثمين في إطار من الذهب ليخرج من المجموع رسم رائع يظهر فيه كل لون براق مفصول عن المجاور له بخيط من الذهب، وقد استعمل المفتن تلك الصورة على نطاق أوسع في فن العمارة؛ ولذلك كانت تظهر تيجان الأعمدة وهي لامعة بهذا الذهب وبهذا الخزف المطلي الذي يشبه الجواهر. ولا شك في أن التأثير الذي يحدثه صف من هذه الأعمدة المزينة بتلك الزينة لَمِمَّا يأخذ بالأنظار لروعته وفخامته، وبخاصة عندما تسطع عليها أشعة شمس مصر اللامعة. ولعمري فإن مثل هذا المنظر في عين السفير الآسيوي كان يزيده اعتقادًا في أن الذهب كان بمصر يفوق التراب. على أن الفرعون لم يكن مبذرًا دائمًا في بذل الذهب في مثل هذه الأحوال، ولا أدل على ذلك من أنه استُعمل في قاعة المدخل في جنة «مرو آتون» تقليدًا رخيصًا لتزيين عمدها، فقد استُعمل بدل الخزف المطلي عجينة مطلية، وبدل الذهب طلاء أصفر يحاكيه. أما المهارة في الصناعة في هذا العصر فيدل عليها نماذج الأثاث الجميلة التي عُثر عليها في مقبرة «آي» وفي مقبرة «توت عنخ آمون». فالصناعة المصرية في هذا العهد كانت لا عيب فيها من حيث الرسم والفكرة، وصوغها بديع، ولكنها كانت لا تروق في عين عصرنا هذا لما فيها من الفخامة والبذخ المتناهي؛ فخشب المقاعد وغيرها من أدوات الأثاث كثيرًا ما كان يُغطَّى كله بأوراق من الذهب مما يخفي بهجة القطعة من حيث الفن، كما كان يُغطى في معظم الأحيان بطبقة من الجص المرسوم رسمًا بارزًا، وكانت الصناديق تُزين بأحجار شبه كريمة، وخزف ملون بسخاء، وعلى الرغم من أن مثل تلك الزخرفة عندما تقع عليها عين الناقد الحديث تبدو أحيانًا غير متقنة لا تصلح لتأدية الغرض الذي من أجله صُنعت، فليس من شك أن بعض قطع الأثاث مثل عرش «توت عنخ آمون» المشهور، وبعض الصناديق من نفس المقبرة، ومن مقبرة «آي«(2) تُعَدُّ أمثلة منقطعة القرين في جمال رسومها، كما أنها نماذج بديعة للصناعة المصرية نفسها، على أن الانحراف عن الذوق السليم يحدث في كل عصور الفن، وعصر «تل العمارنة» لم يكن خاليًا من إبراز قطع تنبو عنها الأعين، وأي شيء أشد قبحًا من تلك الأَسِرَّة المذهبة التي عُثر عليها في مقبرة «توت عنخ آمون»، وكذلك بعض تلك الأواني المصنوعة من قطعة واحدة من المرمر ومزينة برسوم طبعية من النباتات (3) النيلية، وقد رُصعت بقطع مستديرة من حجر الأبسديان، فإن العين حين تقع عليها لا تلبث أن تتحول عنها؛ لما في صورتها من انعدام الذوق. وعلى أية حال فإن ذوق عصر «تل العمارنة» على وجه عام قد احتفظ بخصوبة بالغة في الجمال، وصلاحية لا تضارعه فيهما عصور أخرى. فمن الصناعات التي تلفت إليها الأنظار لما فيها من رشاقة وجمال فن صناعة الأدوات الصغيرة التي كان يستعملها الإنسان، وبخاصة أدوات الزينة، كملاعق العطور والأواني، والمرايا وجعبها، والأمشاط، وغيرها من الأدوات الصغيرة التي كانت تُصنع من أخشاب أجنبية أو من العاج أو من الشبة أو المرمر، أو حجر استايتيت؛ فكلها كانت قطعًا فنية للاستعمال العادي، ومن المحتمل أن توجد أشياء قليلة تأخذ العين والعقل لبساطتها وقوتها معًا. حقيقة إن مصريي القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانوا في مستوى أية أمة متحضرة في الثقافة العالمية؛ يشهد بذلك هذه الأشياء الصغيرة بما يتجلى فيها من براهين تدل على تمتع القوم وسرورهم بكل ما هو جميل، والحقيقة أن الأشياء الصغيرة الخاصة بحضارة القوم هي في أغلب الأحيان عنوان هذه الحضارة، والمطلع على تاريخ البلاد يعرف تأثير الأفكار الآسيوية التي بدأت تتسرب إلى مصر في بداية الفتوحات المصرية في باكورة هذه الأسرة، غير أنه على ما يظهر لم يكن للنماذج الفنية التي أُتي بها من سوريا، وكذلك أصحاب الصناعات الذين نزحوا إلى مصر في عهد «تحتمس الثالث» ومن بعده من الفراعنة تأثير مستمر. وعلى أية حال فإن تأثير «سوريا» الفني لم يكن ذا أهمية في فن «تل العمارنة» على الرغم من أننا وجدنا أن الفخار السوري كان يُوجد بمصر بدرجة لا بأس بها في ذلك الوقت، ولكن أهم من ذلك هو ما يجب معرفته عن مقدار تأثير النماذج المنوانية (كريت) في الصناعات المصرية؛ لما بين البلدين من علاقات تجارية، هذا فضلًا عن أن أساليب الفن المنواني كانت تنطوي على حيوية وجاذبية في أشكالها وتصميم صنعها كما تكلمنا على ذلك من قبل. ولا نزاع في أن فخارًا من العصر المنواني الثالث قد جُلب إلى مصر في عهد العمارنة، وقد وُجد منه قطع في مدينة «إختاتون «(4)، والظاهر أنه جُلب إلى مصر من «كريت» و«رودس» وغيرها من جزائر بحر إيجة، أو من بلاد الإغريق نفسها. وقد كانت الأواني المنوانية التي على شكل ركاب السرج ومصفاة الخمر منتشرة في مصر في ذلك العهد، وكان الصانع المصري يقلدها في الخزف المطلي والمرمر والمعدن. ومن الجائز أن المصري عندما عاد إلى حب الطبيعة وتقليدها وهو ما يتميز به فن عصر «العمارنة» ثم أخذ المفتن يطلق ليده العنان بما وُهب من حرية وسهولة في تصويره الأشياء؛ قد تأثر بعض الشيء بروح الفن المنواني، ذلك الفن الذي لم يُقيد بتقاليد قط، بل كان قانون نفسه، ونستطيع أن نقول إن هذا التأثير لم يكن إلا عنصرًا ضمن عناصر عدة كان بمثابة روح تنفخ في شخصية كانت في عالم الوجود فعلًا شاعرة بقوتها، وبميلها الشخصي، ولم تكن قط ظلًّا لذوق أجنبي يُفرض على عقول تقبلها بسهولة؛ لأنها خاوية بيضاء الصحيفة؛ إذ الواقع أن الحضارة المصرية كانت شيئًا ضخمًا جدًّا، وعريقة في قِدَمها جدًّا وأصيلة في شعبها أكثر مما يجب مما جعل تكييفها تكييفًا جديدًا بمؤثرات خارجية أمرًا مستحيلًا، فالمصري كان يعرف الشيء الحسن عندما كان يراه، ولم يكن لديه أي مانع من انتحاله لنفسه، ولكنه كان في ذات الوقت عنده قوة العبقرية الحقة التي تجعل ما ينتحله لنفسه — إذا اتفق أنه انتحل شيئًا — ملكه وقطعة منه. وخلاصة القول أن الرقي الذي حدث في عهد «تل العمارنة» منبعه وصدق تعبيره عن الطبيعة من روح مصرية، ومع ذلك لا يمكننا أن ننكر احتمال وجود تأثير منواني إغريقي رائده الحرية وعدم التقييد بالتقاليد (5) الموروثة.
.................................................
1- راجع: Steindorff, “Die Kunst der Agypter”, p. 276.
2- راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. VI, Pls. XXXIX, XL. Etc.
3- راجع: Carter, “The Tomb of Tutankhamon”, Vol. II, Pl. XLVIII.
4- راجع: Frankfort and Pendelbury, “The City of Akhenaton”, II, p. 110.
5- راجع المقال الممتع الذي كتبه الأثري «بندلبري» عن علاقة مصر مع «كريت» وجزر بحر «إيجة» في عهد الاسرة عشرة الثامنة عشرة ( J. E. A. Vol. XVI, p. 75ff).
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|