أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-6-2016
5110
التاريخ: 1-8-2017
5609
التاريخ: 21-6-2016
9758
التاريخ: 2024-06-09
546
|
الموضوع : طرق الاثبات القضائي (انواع الدليل) في الشريعة الاسلامية
المؤلف : حسين رجب محمد مخلف الزيدي
المصدر : قواعد الترجيح بين ادلة الاثبات المتعارضة في الدعوى المدنية ، ص19-29
_____________
لا بد للقاضي فيما يقضي فيه بين الناس ان يحصل له علمان:-
العلم الاول(1): علمه بالحادثة التي يراد منه الفصل فيها علما منطبقا على الواقع أي بمعنى فهم الواقع او الواقعة المطلوب منه النظر فيها وادراك فحواها حتى يتسنى له بعد ذلك الفصل في القضية او الدعوى المرفوعة امامه على اعتبار انه وكيل ولي الامر في حسم المنازعات وقطع دابر الخصومات من خلال اصدار الاحكام القضائية المناسبة، وان كانت لا تتطابق مئة بالمئة، مع الحقيقة الواقعية، وعلى هذا فالحقيقة القضائية وان كانت حقيقة ثابتة، فهي حقيقة نسبية لا مطلقة، ظنية لا قطعية*.
العلم الثاني: علم بحكم الله تعالى في تلك الحادثة (الواقعة) او كما يقال حديثا علمه او فهمه لنصوص القانون الوضعي المشرع بخصوص ذلك اي فهمه بالنص الشرعي المراد تطبيقه على الواقعة، ويقابله في القانون فهم القاضي للنص التشريعي بخصوص الواقعة.
اما العلم الثاني فيحصل له القاضي من معرفته بأحكام الشريعة المطهرة السمحاء من نصوصها القطعية والظنية او بالاجتهاد وفقا لقواعده واصوله او فهم النصوص القانونية في ضوء ما متعارف عليه حديثا(2).
وايضاحا على ما كتب وبصورة اكثر ايجازا، فالقضاء كما الحكم (عمل)، اشتق منه اسم لفاعله، فقيل القاضي وقيل الحاكم، وقد اضافها الله سبحانه وتعالى اليه على السواء(3)، وبذلك فهما من اسماء الله، قال تعالى وهو خير قائل في محكم كتابه العزيز (والله يقضي بالحق) (4)، (والله يحكم لا معقب لحكمه) (5). وهو كان من الامور المستحبة الى كثير من قضاة المسلمين ان يسمى او يخاطب بالقاضي على حين لم تأنس نفوسهم من كلمة الحاكم(6).
ان مهمة القاضي عن طريق القضاء هي فصل الخصومات وفض المنازعات المضطربة في مجال المعاملات* القائمة بينهم، وذلك بحكم يصدره القاضي بشأن خصومه مطروحة عليه طبقا لمتعارف الفقه الاسلامي، مستندا الى العلم الذي يقصد به الاحاطة والالمام وهو ما يؤكده قوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز في سورة البقرة اية (31): (وعلم ادم الاسماء كلها) أي احاطه علما بالأسماء، والعلم على قول الشيخ (عليش) صفة يتضح بها الامر ويظهر على ما هو عليه(7).
والعلم على نوعين، علم بالنص وعلم بالواقع، وحيث تتضح العلاقة ما بين الواقع والحكم الشرعي، الذي يقصد به كافة الاحكام التي جاء بها خاتم الانبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم سواء أكان مصدرها القرآن الكريم ام السنة النبوية الشريفة وسواء اكانت تلك الاحكام احكام عقائد ام احكام اخلاق ام احكام الفقه بشتى اقسامه، العبادات، المعاملات، الجنايات، الاحوال الشخصية(8)، اما الحكم الوضعي يقصد به مجموعة القواعد القانونية السائدة الان، او التي كانت سائدة في الماضي في شعب واحد او شعوب متجانسة وهو في نظر المشرع مجموع القواعد التي يضعها الشارع ويحميها بجزاء مادي وبتعبير اخر هو مجموعة القواعد او الاحكام التي تنظم العلاقات الاجتماعية الظاهرة بين الناس التي يقهر الناس على اتباعها ولو بالقوة عند الاقتضاء(9).
فالقاضي يستخلص الوصف الشرعي (القانوني) للواقعة حدا او تعزيزا والاثار المترتبة عليه والتي تتحدد في الزام الخصوم بضرورة اتباع مسلك معين.
ولما كان العلم لازما لكشف الرابطة او العلاقة بين الواقع وبين النص وهو ما يعبر عنه في الفقه الاسلامي بإصابة الحق (ادراك الحقيقة)؛ فان هذا العلم انما يتحصل بالفهم والادراك، وهذا هو المعنى الذي تطالعنا به عبارة الخليفة عمر بن الخطاب الى ابي موسى الاشعري رضي الله عنهما (افهم اذ ادلي اليك)، وبالفهم والادراك توصل النبي سليمان عليه السلام في قضية المرأتين اللتين اختصمتا عنده حول احقية ايهما بالطفل، بقوله ائتوني بالسكين حتى اشق الولد بينهما الى معرفة عين الام(10).
وقد ورد بان الذي اختص به اياس وشريح مع مشاركته لأهل عصرهما في العلم هو (الفهم في الواقع) (11)، والسر في ذلك كله يكمن في قوله سبحانه وتعالى (وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ انفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما) (12) فخص سبحانه وتعالى سليمان بفهم القضية وعمهما بالعلم والادراك(13).
ان علم القاضي بالواقعة (فهم الواقع) يحصل له بأحد طريقين:
الطريق الاول: ان يشاهد الواقعة (الحادثة) بنفسه، ويحيط بها علما احاطة تامة.
الطريق الثاني: ان يصل اليه خبرها بطريق التواتر المفيد للعلم.
وبغير هذين الطريقين لا يستفيد علما، وانما يستفيد ظنا او ما دون الظن الشك او الوهم، فاذا قضى بناءا على ذلك احتمل قضاءه الخطأ والصواب. لكن لو اقتصر القاضي على هذين الطريقين فقط من الادلة لتعطلت اكثر مصالح الناس، لان علم القاضي اذا تناول حادثة واحدة او اثنتين فان كثيرا من الحوادث يتعذر على القاضي الوقوف عليها والعلم بها، ومثل ذلك يقال فيما لو كان طريق علمه بالتواتر المفيد لليقين، وليس من السهل والميسور ان يصل اليه خبر الحادثة بمثل الطريق المذكور دوماً. لذلك قضت الحاجة او الضرورة المهمة بين الناس فيما يتخاصمون فيه والتي دعا اليها وجوب المحافظة على نفوسهم واموالهم واعراضهم ان تقبل الحجة الظنية الراجحة، لينبني على اساسها القضاء، وذلك لان القاضي من المحتمل ان يجد نفسه امام حالتين:
الحالة الاولى: هي اهمال النظر في الحوادث التي لم يقم على ثبوتها عند القاضي دليل قطعي، ويترتب على هذا اختلال او عدم توازن النظام بين الناس وضياع حقوق كثيرة لهم، مما يستتبع الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار فيما بينهم لعدم امكانية الحصول على الدليل القطعي في غالب الاحوال(14).
الحالة الثانية: فهي النزول عن اشتراط العلم القطعي في الدليل الى قبول الدليل الظني الراجح منه. واحتمال الصواب في هذا اكثر من احتمال الخطأ، فيما لو جهد القاضي في تحري مواضع الحق ومواقع الصواب بطلب ما يقوي هذا الظن من وسائل الاحتياط والتثبيت، واخذ الحيطة والحذر والفطنة عند تقويم الدليل الظني، وكل هذا يعتمد بالدرجة الاساس على الخبرة والممارسة العلمية العملية التطبيقية في سوح القضاء من خلال تجربة الفصل في الخصومات الناشئة بين الناس عندما تتعارض مصالحهم، وبالموازنة بين هاتين الحالتين يتعين او يتطلب الامر العمل على اختيار الحالة الثانية دفعا وتبريرا لقاعدة اختيار اهون الشرين*، وعليه يثبت الحق بما يفيد العلم القطعي، وبما يفيد الظن الراجح وبذلك تتسع دائرة الاثبات.
وعلى اساس هذه الفكرة في الاستنباط وفي سبيل ايجاد مخرج لما يشوك حقوق الناس من اجل اثباتها قررت الشريعة الاسلامية السمحاء قبول او الاخذ بمبدأ الحجة الظنية الراجحة التي تفيد ثبوت الحق بشرط اخذ الحيطة والحذر(15).
كما بنت او اسست القضاء على اساس الحجة القطعية ان وجدت*، فأجازت للقاضي بناء حكمه على شهادة العدول وعلى اقرار المدعى عليه مع احتمال كذب الشهود فيما شهدوا به، واحتمال كذب المقر في اقراره. لكن جانب الصدق في شهادة العدول ارجح من جانب الكذب استدلالا بالعدالة الظاهرة، كما ان الاقرار ترجح فيه جهة الصدق على جهة الكذب لأنه يستبعد في اغلب الاحوال ان يكذب الأنسان في اقراره على نفسه بحق يلزمه، وانما يقع ذلك في القليل النادر، ولا عبرة بالأحوال النادرة التي يختار فيها الأنسان الاقرار على نفسه كاذبا ملتزما ضرر ما اقر به وان كان ذلك اتقاء ضرر اكبر في نظره وتقديره لاعتبارات يراها هو ويقتنع بها(16).
فبعد ان اظهرت الضرورة الملحة اجازت الشريعة الاسلامية فكرة بناء القضاء على الحجة الظنية كشهادة الشهود المبنية على المعاينة والمشاهدة تنزلت على ذلك فأجازت الشهادة بالسماع، والشهادة على الشهادة، وشهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال من امر النساء وشهادة الصبيان في مواضع تضيع الحقوق ان لم تقبل شهادتهم فيها، وكذلك اجازت شهادة الشاهد الواحد مع يمين المدعي وشهادة الفرد الواحد من غير يمينه في مواضع واحوال مخصوصة، ونحو ذلك كثير(17). لقد اجاز العلامة الفقيه ابن قيم الجوزية قبول شهادة الفاسق فيما لو على الظن صدقه فيها ولا يضرها فسقه في غيرها وصرف المسألة أي مسألة قبول شهادة الفاسق، ان مدار قبول الشهادة وردها على غلبة ظن الصدق وعدمه، والصواب المقطوع به ان العدالة تتبعض فيكون الرجل عدلاً في شيء فاذا تبين للحاكم انه عدل فيما شهد به قبل شهادته ولم يضره فسقه في غيره(18).
وقد ذهب كثير من فقهاء الامة الى ابعد من ذلك، فقد صح فيما روى عن جملة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء أهل الحديث وقول جميع اهل الظاهر قبول شهادة الكافر على المسلم في السفر خاصة، استدلالا بقوله سبحانه وتعالى: ( يا ايها الذين امنوا شهادة بينكم اذا حضر احدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم او اخران من غيركم ان انتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت) (19). ففسر البعض قوله تعالى ( من غيركم) بالأخرين مطلقا، وفسره اخرون باهل الذمة من الكتابيين من اليهود والنصارى كما فسره غيرهم بالمجوس، واهل الشرك(20).
مما يستدل من خلال تتبع اراء الفقهاء المسلمين وجه المرونة في الشريعة الاسلامية السمحاء، لا سيما في مجال البينات والحجج في دائرة الاثبات، ذهب كثير من الفقهاء عملا بالنصوص القطعية والظنية وبالاجتهاد وفقا لقواعده واصوله، حفظا لحقوق الناس ورعاية لمصالحهم على المدى القريب والبعيد.
لكن فقهاء الامة الاسلامية اختلفوا بصدد طرق او اساليب الحكم التي يستند اليها القاضي في حكمه فانقسموا الى فريقين:
الفريق الاول: يتجه الى قبول اية حجة او بينة يمكن الاستناد اليها وتؤيد صحة دعوى المدعي او صحة دفع الدافع (المدعي عليه) ومن انصار هذا الرأي ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
الفريق الثاني: يتجه في رايه الى ضرورة حصر طرق الاثبات (القضاء) في طائفة معينة محددة والاقتصار عليها الا لضرورة تقتضي العمل بغيرها، رعاية لمصالح الناس، وهذا مذهب جمهور العلماء(21).
دليل الفريق الاول: فأساس ما ذهب اليه، ان الاصل في اثبات الحقوق واظهارها العمل على قبول أي دليل يظهر به الحق ولا يقتصر ظهوره على الشهادة والاقرار والطرق الاخرى المتبعة كما هي مقررة لدى من قال بالحصر. لان الهدف الاساس والمقصود اصلا هو العمل ضمن المستطاع على بيان الحق وظهوره بعد خفائه واستتاره او بعد انكاره، فاذا تعذرت الشهادة او امتنع المدعى عليه من الاقرار بالمدعي به، وامكن ظهور الحق بطريق غير ذينك الطريقين ونحوهما من الطرق المحددة فلا وجه لامتناع الاخذ بطريق تعدد الادلة من دون حصرها ما دام قد بان به الحق وظهر وتعين به المستحق، اذ لا فائدة في تخصيص العمل بدليل معين مع مساواة غيره في ظهور الحق او قد يرجح عليه في الدلالة على المقصود رجحانا لا يمكن جحده ودفعه كما في شواهد الاحوال وكثير من القرائن التي لا تقبل النقض والدفع مطلقا.
واوضحوا ان هناك فرقا بين ان يحفظ صاحب الحق حقه باستشهاد شاهدين او شاهد وامرأتين ونحو ذلك، وبين ان يحكم القاضي بتكلم الشهادات، فان الطرق التي يحكم بها القاضي اوسع من الطرق التي ارشد الله صاحب الحق الى ان يحفظ حقه بها.
والاساس الذي استند اليه اصحاب الرأي المؤيد لفكرة تعدد ادلة او طرق القضاء وهو ما ذكر في الصفحة الرابعة عشر من موضوع البحث منعا للتكرار في الكتابة. وهذا بطبيعة الحال يعطي المجال للقول بان لفظ البينة لا يختص بالشاهدين ولا استعمل في القرآن الكريم فيهما البتة. اذ عرف هذا فقول النبي (ص) للمدعي (ألك بينة)؟ وقول الخليفة عمر بن الخطاب (رض): (البينة على المدعي)، المراد به: ألك ما يبين الحق من شهود او دلالة؟ فان الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور دلالة الحق بما يمكن ظهوره به من بينات التي هي ادلة عليه وشواهد له(22).
ولا يرد حق متى ظهر بدليله ابدا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها، ولا يقف ظهور الحق على امر معين لا فائدة في تخصيصه مع مساواة غيره له في ظهور الحق و رجحانه عليه رجحانا لا يمكن جحده ودفعه كترجيح شاهد الحال على مجرد البينة في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة واخر خلفه حاسي الرأس يجري اثره ولإعادة له بكشف رأسه، فبينه الحال ودلالته هذه تفيد ظهور صدق المدعي اضعاف ما يفيد مجرد البينة عند كل واحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة ويضيع حقا يعلم كل واحد ظهوره وحجته، بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريقه الحكم فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم ممكنا من ظلمه وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم على بذلك شاهدان اثنان فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده، وخلاصة ما ذهب اليه اصحاب القول الاول بعدم حصر ادلة الاثبات كما جاء بلسان ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكيمة (انه اذا ظهرت امارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم وجه الله ودينه).
دليل الفريق الثاني: فقد حصروا طرق الاثبات بطائفة محددة، ولم يخرجوا عما حصروا ادلتهم فيه الا لضرورة اقتضتها رعاية مصالح الناس(23) فذكر البعض(24) انها ثلاثة بينة واقرار ونكول.
ونقل الحصكفي عن الاشباه انها سبعة: بينة واقرار ويمين ونكول وقسامة وعلم قاض على المرجوح وقرينة قاطعة(25)، مع انفراد ابن الغرس بذكر القرينة(26).
اما البينة (أي الشهادة): فهي طريق للقضاء بالاتفاق، والحق لا يثبت بها حتى يتصل بها القضاء، لان الشهادة دليل ظني، اذ هي خبر يفيد او يتردد بين الصدق والكذب، فلا يترجح صدقها الا باتصال القضاء بها(27).
اما الاقرار فقد قالوا: انه في الواقع ليس طريقا للقضاء كالبينة لان الحق يثبت به لا بالقضاء وجه ذلك فيما يبدو تهمة الكذب في الغالب على الرغم من انه خبر يحتمل الصدق والكذب.
ثم ان موجب الشهادة الحكم على الغير، وهذا لا يصح الا بالقضاء لأنه ليس للشاهد ولاية على غيره فلا يتعدى حكم شهادته الا بقضاء القاضي بحسب ولايته العامة على الناس. اما المقر فهو يلي امر نفسه بنفسه فلا يحتاج لزوم اقراره في حق نفسه الى القضاء، لكن جعل الاقرار طريقا للقضاء باعتبار ان حكم القاضي انما هو الزام بالعمل بمقتضى الاقرار كما صرحوا به(28).
اما بخصوص اليمين كوسيلة او طريق من طرق القضاء، فقد اعتبرها بعضهم ليست طريقا للقضاء معللين رأيهم بالقول؛ بان المنكر اذا حلف اليمين وعجز المدعي عن اقامة البينة يترك المدعي به في يده لعدم قدرة المدعي على اثباته لا قضاءً له بيمينه كما صرحوا به. ولذا لو جاء المدعي بعد ذلك بالبينة يقضي له بها، ولو كان ترك المدعي به في يد المدعي عليه قضاء له باليمين لما صح نقض القضاء بالبينة اللاحقة(29)، فجعل اليمين طريقا للقضاء انما هو بحسب الظاهر؛ باعتبار ان القضاء يقطع النزاع واليمين تقطعه. واما احتمال قيام البينة بعد ذلك فهو نادر ولا عبرة بالنادر(30)، لكن المرجح رأيا هو اعتبار اليمين طريقا للقضاء حقيقة مؤسسين قولهم على انه اذا حلف المدعي عليه اليمين بعد توجيهها اليه من غير انكار يحكم له ولا تسمع بينة المدعي بعد ذلك وان ظهر اليه دليل يفيد بانه صاحب الحق، وكل ذلك في سبيل استقرار عمل القضاء.
4- والنكول عن اليمين طريق للقضاء من وجهة نظر بعض الفقهاء باعتبار ان النكول في ذاته سكوت فيورث شبهه، فلا يجب به الحق ما لم يتصل به القضاء سواء كان النكول بمعنى الاقرار ام بمعنى البذل على ما عرف فيه الخلاف(31).
5- والقسامة طريق للقضاء بالقود في القتل وبالدية في شبه العمد وفي الخطأ على ان ايمان القسامة يحلفها المدعون في مذهب البعض(32).
وتعرف القسامة بانها (الايمان المكررة في دعوى القتل)(33).
6- القضاء بعلم القاضي، الذي يقصد به الفصل في الدعوى بناء على الوقائع التي ادركها القاضي بنفسه خارج مجلس القضاء ولم يحصل عليها من طرفي الدعوى، مختلف فيه، فذهب بعض الفقهاء الى القول بصحة القضاء به بصورة مطلقة من دون تقييد في كل حق، سواء كان حقا خالصا لله، او حقا خالصا للعبد، او كان حقا مشتركا. لكن خالفهم اخرون بعدم صحة القضاء به اصلا لا في حق العبد ولا في حق الله للتهمة لفساد الزمان وخراب الذمم وقيل عليه الفتوى، لكن اجاز بعض الفقهاء القضاء بعلم القاضي الشخصي في كل حق من الحقوق باستثناء الحقوق الخالصة لله تعالى.
وفرق البعض بين علمه بالحادثة قبل توليه القضاء وبعده كما فرقوا ايضا بين علمه بالحادثة فيما لو كان علمه في محل قضائه او في غير محله(34). وعلى اساس هذا التصور الفقهي نتوافق في القول مع الراي القائل بعدم القضاء بعلم القاضي الشخصي وذلك لتبدل اخلاقيات وسلوكيات الناس مع مرور الازمان وان كان صالح القضاء والقاضي مرهون بالدرجة الاساس بدرجة صلاح اهل الرعية.
7- اما القرينة بوصفها مؤيدة لطريق من طرق القضاء او مؤكدة صدق قول المدعي او حلقة الوصل الى حادثة الدعوى، فالأخذ بها مجمع عليه لدى الفقهاء وان اختلفوا في طبيعة القرائن ونوع الحق الذي يصح ان يعتمد فيه على القرينة(35).
بعد كل هذه الاستفاضة يتضح ان الادلة التي تكون سبيلا لإظهار الحقيقة عند جمهور فقهاء الشريعة، منها ما هو متفق عليه كالشهادة والاقرار، ومنها ما هو مختلف فيه كالقرائن واليمين والنكول، والقافة التي يقصد بها اثبات النسب من خلال ايجاد اوجه الشبه بين اعضاء شخصين لمعرفة من ينسب للأخر، والقرعة التي يقصد بها ايضا تعين صاحب الحق ابتداء.
ان رؤية الفقهاء المسلمين بصدد اطلاق او تحديد ادلة الاثبات وان كانت نابعة من تصور كل فقيه وبساطة المرحلة التي عاشوها، لكن يستلزم الامر وضع ضوابط بخصوص كل دليل، وهذا تعطيه الناحية التطبيقية لأصحاب الفريق الثاني.
________________
1- أحمد ابراهيم، طرق الاثبات الشرعية، مطبعة القاهرة الحديثة للطباعة، القاهرة، مصر، ، ص26؛ احمد عبد المنعم البهي، من طرق الاثبات في الشريعة والقانون، المطبعة العربية، مصر، 1965، ص6؛ مجيد حميد السماكية، حجية الاقرار في الاحكام القضائية، ص5؛ مجيد حميد السماكية، طرق القضاء في الشريعة الاسلامية، ط1، مطبعة الغزي، النجف الاشرف، 1975، ص7؛ ضياء شيت خطاب، سلطة القاضي في تكييف وقائع الدعوى المدنية، (بحث) مجلة القضاء، نقابة المحامين العراقيين العدد 1، 2، 3 لسنة 1982، ص14.
* معنى ذلك ان الاثبات بمعناه القانوني وبصفة خاصة في مجال المنازعات المدنية، يتحدد او يتقيد بطرق الاثبات التي حددها المشرع القانوني، فالقانون يحدد طرق الاثبات ويبين قيمة او حجية او قوة كل منهما، وهذا التحديد يقيد اطراف الدعوى (الخصوم)، كما يقيد القاضي، وهذا ما يؤدي كثيرا الى عدم الاتفاق بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية، فالحق قد يوجد من الناحية الواقعية، ولكن لا يوجد دليل مقبول قانونا على وجوده فلا يمكن بالنهاية ان يعترف به القاضي، بحيث يوجد الحق في الواقع، ولا يمكن لمدعيه اقناع القاضي بذلك فلا يملك الاخير الا انكار وجود الحق. ومن هنا يتضح ان الحقيقة القضائية التي يعنيها في حكمه، مغايرة للحقيقة الواقعية والحقيقة القضائية اذا ما تم الاعلان عنها وجب التزامها واحترامها وتعتبر صحيحة بصفة نهائية لاكتسابها حجية الامر المقضي به. (السنهوري، الوسيط، ج2، ص27؛ جلال العدوي، مبادئ الاثبات، 1983، ص3؛ د. محمد يحيى مطر، الاثبات في المواد المدنية والتجارية، 1987،ص8.)
2- احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص26.
3- الاستاذ ضياء شيت خطاب، فن القضاء، 1404هـ/1984، ص5؛ السمناني، روضة القضاة وطريق النجاة، تحقيق صلاح الدين الناهي، بغداد- 1389هـ/1969م، ج1،ص51.
4- سورة المؤمن، اية 20.
5- سورة الرعد، اية،20.
6- السمناني، روضة القضاة،ص51.
* المعاملات (مباحث فقهية نظمت علاقة مالية بين الافراد سواء الافراد رجلين ام بين امرأتين ام بين الافراد والدولة، وقد امر الله سبحانه وتعالى بحسن العلاقة بين الناس حتى في الكلام لان حسن المعاملة يفضي الى التحابب فالمسالمة فالعيش الرغيد قال تعالى في سورة البقرة اية (82): (واذا اخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون الا الله وبالوالدين احسانا وذوي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا واقيموا الصلاة واتوا الزكاة ثم توليتم الا قليلا منكم وانتم معرضون). لقد زينت كتب الفقه الاسلامي بتفصيل عقود البيع والكفالة والرهن والاجازة والشفعة، الى غير ذلك، وحسبنا الاستشهاد بمجلة الاحكام العدلية وشروطها اذا فصلت احكام المعاملات) . د.خالد رشيد الجميلي ، المدخل في دراسة الشريعة الاسلامية والقانون، مطبعة جامعة الموصل،1989،ص311.
7- الشيخ عليش المتوفي (1299)هـ، فتح العلي المالك، ج1، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1378هـ/ 1958،ص34.
8- د. عبد العظيم شرف الدين، تاريخ التشريع واحكام الملكية والشفعة، ص17؛ نظام الدين عبد الحميد، مفهوم الفقه الاسلامي، ص17.
9- د. منير محمود الوتري، القانون،ط2، مطبعة الحافظ، بغداد، 1989، ص5.
10- ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين، ج1، ص94.
11- ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص38.
12- سورة الانبياء، اية، 78و 79.
13- قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسية الشرعية، طبع القاهرة، 1961 ، ص38.
14- مجيد حميد السماكية، حجية الاقرار، ص6؛ مجيد حميد السماكية، طرق القضاء في الشريعة الاسلامية، ط1، مطبعة الغزي، النجف الاشرف، 1975 ، ص7؛ احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص25.
* م(28) مجلة الاحكام العدلية: (اذا تعارض مفسدتان روعي اعظمهما ضررا بارتكاب اخفهما) والمادة (29): (يختار اهون الشرين). أي اذا تعارضت مفسدة ومصلحة يقدم دفع المفسدة على جلب المنفعة (المصلحة)، فاذا اراد شخص مباشرة عمل ينتج منفعة له، ولكنه من الجهة الاخرى يشكل ضررا مساويا لتلك المنفعة او اكبر منها يلحق بالأخرين، فيجب ان يقلع عن اجراء العمل دراً للمفسدة المقدم دفعها على طلب المنفعة، لان المشرع اعتنى بالمنهيات اكثر من اعتنائه بالمأمور بها، مثال ذلك التكلم بالكذب مفسدة، ولكن اذا اريد به اصلاح ذات البين يجوز على قدر الحاجة. علي حيدر درر الحكام شرح مجلة الاحكام، ص37.
15- احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص26؛ د. محمد فتح الله النشار- احكام وقواعد عبء الاثبات، دار الجامعة الجديدة للنشر، الاسكندرية، مصر، 2000، ص38؛ د. عباس العبودي، نظرية الرجحان ودورها في الاثبات المدني (بحث)، كلية القانون،، جامعة الموصل، مجلة الرافدين للحقوق، العد(4) لسنة 1998، دار الكتب للطباعة والنشر بجامعة الموصل، ص61.
* (ان القاضي يحكم بالحجة التي ترجح الحق اذا لم يعارضها مثلها والمطلوب منها ومن كل من يحكم بين اثنين ان يعلم ما يقع ثم يحكم فيه بما يجب فالأول مداراة الصدق والثاني مداراة العدل) ويستلزم الفقه الاسلامي من القاضي بان يتحرى وقائع الدعوى ويسيطر عليها لكي تصبح الحقيقة القضائية متفقة مع الحقيقة الواقعية، ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين عن رب العالمين، ج1، 1969،ص113. (هناك نوعان من الفقه لا بد للقاضي منهما، فقه في احكام الحوادث الكلية وفقه في الواقع نفسه واحوال الناس، يميز بين الصادق والكاذب والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا فيقضي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع)، ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية في السياسية الشرعية، طبع القاهرة، 1961، ص4.
16- ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، ص184-187، احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص4-6.
17- احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص4-6؛ مجيد حميد السماكية، طرق القضاء في الشريعة الاسلامية، ص9.
18- ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، ص190، الكاساني، بدائع الصنائع، (587هـ) ، مطبعة الجمالية بالقاهرة، 1328هـ/ 1910م، ص270، ابن فرحون المالكي، تبصرة الحكام، (799هـ)، مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة، 1378/1958، ص217؛ ابن حزم الاندلسي، المحلى (456هـ)، المطبعة الاميرية، مصر، 1350هـ، ص393؛ د. محمد مصطفى الزحيلي، وسائل الاثبات في الشريعة الاسلامية، ج1-2، مكتبة دار البيان، دمشق، 120.
19- سورة المائدة، اية 106.
20- ابن قيم الجوزية، الطرق الحكمية، ص200.
21- احمد ابراهيم، المصدر السابق، ص15؛ د. عوض عبد الله ابو بكر، نظام القضاء في الفقه الاسلامي، مجلة الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة، السعودية، العدد (59) لسنة 1403هـ، مطابع الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، ص91.
22- ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين، ج1، ص77، الطرق الحكمية، ص13؛ احمد عبد المنعم البهي، من طرق الاثبات في الشريعة والقانون، المطبعة العربية، مصر، 1965، ص8.
23- احمد ابراهيم ، المصدر السابق، ص15.
24- الدر المختار، شرح تنوير الابصار للشيخ علاء الدين بن محمد بن علي الحصكفي، والمتوفي سنة(1088هـ) ، مطبوع مع شرحه رد المحتار لابن عابدين، مطبعة مصطفى الحلبي، ط2، 1386هـ/ 1966 ،ص202؛ البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم، (970هـ)، مطبعة دار الكتب العربية بمصر، 1333 هـ ، ج7، ص7.
25- الدر المختار، شرح تنوير الابصار للشيخ علاء الدين بن محمد بن علي الحصكفي، والمتوفي سنة(1088هـ) ، مطبوع مع شرحه رد المحتار لابن عابدين، مطبعة مصطفى الحلبي، ط2، 1386هـ/ 1966 ، ج2، ص202، سليم رستم الباز، شرح المجلة، ط3، بيروت المطبعة الادبية، 1923، ج2، ص482.
26- البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم، (970هـ)، مطبعة دار الكتب العربية بمصر، 1333 هـ ، ج2، ، ص205؛ رد المختار، ج4، ص587؛ تكملة رد المختار، ج1، 408.
27- الهداية والعناية وتكملة الفتح، ج6،ص 151.
28- البحر الرائق، ج7، ص202؛ الهداية والعناية وتكملة الفتح، ج6، ص151؛ الدر شرح الغرر، ج2،ص332.
29- قرة عيون الاخيار (تكملة رد المحتار), بن عابدين (1306 هـ), مطبعة مصطفى الحلبي, القاهرة, 1966,ج1, ص407.
30- تكملة بن عابدين، ج1, ص408.
31- تكملة الفتح, ط6, ص163.
32- الاحناف بدائع الصنائع للكاساني, ج7؛ ص286, الهداية للمرغياني, ج4,ص 216-224؛ الدر المختار للحصكفي, ج2, ص746؛ المالكية بداية المجتهد لابن رشد, ج2, ص437-432؛ الحنابلة الاقناع للبهوتي, ج4 ,ص238-244؛ الشافعية, مغني المحتاج للشربيني, ج4, ص109-122؛ الظاهرية, المحلى لابن حزم, ج11, ص54-115؛ الزيدية, البحر الزخار, لاحمد بن يحيى بن المرتضى, ج5, ص295-302؛ الامامية, الخلاف للطوسي, ج3, ص151-157.
33- المغني، لابن قدامة, ج 10, ص2.
34- البحر الرائق، لابن نجيم، ج7، ص205؛ تكملة بن عابدين، ج1، ص408؛ الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية، ص210-217؛ بداية المجتهد لابن رشد، ج2، ص470؛ الدر ورد المختار لابن عابدين، ج4، ص492-493؛ رحمة الامة في اختلاف الائمة للدمشقي، ص311؛ احمد عبد المنعم الهبي، من طرق الاثبات في الشريعة الاسلامية، ص127-148؛ توفيق الفليكي، الحكم بعلم القاضي الشخصي، مجلة القضاء، نقابة المحامين العراقيين، العدد (2) لسنة 1943، ص153؛ د. عوض عبد الله ابو بكر، نظام الاثبات في الفقه الاسلامي، مجلة الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، العدد(60) لسنة 1403هـ ، ص80.
35- الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية، ص3-54؛ احمد عبد المنعم البهي، المصدر السابق، ص7؛ حسين المؤمن المحامي الاثبات في المحررات (الادلة الكتابية) شرعا، مجلة القضاء، نقابة المحامين العراقيين، العدد (1-2) ، 1972، ص180.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|