أقرأ أيضاً
التاريخ: 24/9/2022
1812
التاريخ: 2023-04-29
1823
التاريخ: 2023-12-11
1044
التاريخ: 2023-06-09
930
|
توثيقات يحيى بن أبي طي (1):
قد مرّ في موضع سابق (2) أنّ ابن حجر قد أكثر في أوائل كتابه (لسان الميزان) من النقل عن الكشي والنجاشي والشيخ (قدّس الله أسرارهم) وقد نسب معظم ما نقله الى كتبهم - تصريحا أو تلويحا - مع أنّه لا يوجد كثير منه في النسخ المتوفرة بأيدينا من تلك الكتب وكما لا يحتمل أن يكون ذلك اختلاقاً منه فإنّه لا يناسبه ولا مصلحة له فيه - كذلك لا يحتمل سقوط كل ذلك عن النسخ المتأخرة من تلك المصادر فإنّه كثير جدا بل لمّا كان في الغالب بمضامين لم يعهد صدورها من أصحاب تلك الكتب فمن المستبعد أصل اشتمالها عليه.
والاحتمال الأقرب هو أنّه اعتمد في نقل تلك المطالب عن بعض كتب المتأخّرين، ويبدو أنّ منشأ وقوعه في الاشتباه هو أنّ مؤلّف ذلك الكتاب لمّا كان يترجم لشخص ويذكر ما ليده بشأنه من المعلومات يشير ضمنا الى أنّه قد ذكره الشيخ في رجال الشيعة أو في مصنّفي الإماميّة ونحو ذلك، قاصداً بذلك التنبيه على بعض مصادر ترجمته ولكن ابن حجر كان يفهم منه أنّ ما ورد في الترجمة إنّما هو مقتبس من كلام الشيخ - مثلا - فينسبه إليه مباشرة!
ولا يبعد أنّ الكتاب الذي كان يعتمد عليه ابن حجر فيما نسبه الى عدد من رجاليّ الإماميّة كالكشي والنجاشي والشيخ هو: (الحاوي في رجال الإماميّة) (3) ليحيى بن أبي طي فإنّه قد نقل عنه في عدّة موارد بعناوين مختلفة (4) وصرّح في بعضها بأنّه كان موجوداً عنده بخطّه (5)، فمن القريب جداً أنّه كان معتمده فيما أورده في سائر الموارد أيضاً وإن لم ينسبه إليه بل نسب بعضه إلى الكشي أو النجاشي أو الشيخ أو غيرهم (6).
لا يقال: إذا كان مصدره في ما حكاه عن الأعلام المذكورين هو كتاب ابن أبي طي فلماذا انقطع عن النقل عنهم في أواخر باب الحسين) (ج: 3 ص: 199) - إلا في موارد قليلة فقد روى عن الكشي في ( ج: 8 ص:5)، وعن النجاشي في ( ج 3 ص: 220، ج: 6 ص: 21)، وعن الطوسي في ( ج: 5 ص: 477، 496، 530، ج: 6 ص:21) ـ مع أنّه نقل عن ابن أبي طي كثيراً في العديد من الموارد بعد ذلك كما في (ج: 3 ص: 208، 291، 488، ج: 4 ص: 407، ج: 5 ص: 85، 530، ج: 7 ص:374، 389، 399، ج:8 ص:323، 339، 376)، كما أخرج عن ابن بابويه ـ وهو يعبر عنه بـ(ابن بانويه - إلى أواخر الكتاب، حيث إنّ كتابه (تاريخ الري) كان من مصادره.
فإنّه يقال: إنّ كتاب ابن أبي طي كان مرتّباً على حروف الهجاء ـ كما قال ابن الشعار الموصلي (7) ــ أو حسب الطبقات ـ كما يناسبه تسميته المذكورة في الإصابة (8) أو مرتبا على السنوات كما في كشف الظنون (9) - وهو كان عدة مجلدات - كما نصّ عليه الذهبي في ما تقدّم النقل عنه ويبدو أنّ ابن حجر لم يطّلع إلا على بعض أقسامه وهو الى حرف ( الحاء ) وبعض حرف ( العين ) ممّن كان من طبقة أصحاب الصادقين ومن بعدهما ممّن ورد ذكرهم في كتب الأعلام الثلاثة : الكشي والنجاشي والطوسي، بالإضافة الى قسم تضمّن تراجم من كانوا في القرون المتأخّرة وقد نسب ما نقله في أحوالهم الى ابن أبي طي مباشرة. وفي كل الأحوال فإنّه لا يوجد تفسير منطقي لما يلاحظ من إكثار ابن حجر في النقل عن الأعلام الثلاثة في أوائل كتابه ثم انقطاعه في النقل عنهم إلا في موارد قليلة غير ما تقدّم وأمّا ما ورد في مقدمة الطبعة الحديثة (10) من أنّه استمر في النقل من كتب تراجم الشيعة الى أنّ توقّف فجأة عند ترجمة (الحسين بن علي بن الحسين بن موسى) (2588) ولا أدري سبب توقفه ولعلّه خشي الإطالة فإنّ غالب هؤلاء لا رواية لهم في كتب أهل السنّة) فهو غير تام:
أولا: لأنّه لم يتوقف عند هذا الموضع عن النقل عن جميع كتب تراجم الشيعة بل استمر بعده في النقل عن كتاب ابن بابويه وابن أبي طي وفي بعض الموارد عن كتب الكشي والنجاشي والطوسي.
وثانيا: أنّ النسخة المخطوطة من اللسان التي هي بخط تلميذه تقي الدين القلقشندي الموجودة في مكتبة راغب باشا بإسطنبول تكشف بوضوح عن مدى اهتمام ابن حجر بإيراد ما تيسّر له من تراجم رواة الشيعة في كتابه فإنّ الناسخ قد قابلها بأصل الكتاب مرتين مرة عام (846 ـ 849) ومرة اخرى في عام (851 ـ 852) وألحق بها هذه المرة ما ألحقه ابن حجر بكتابه في الهوامش ومن يلاحظ الهوامش يجد فيها العديد من تراجم رواة الشيعة ممّن فات ابن حجر ذكرهم في كتابه عند تأليفه أول مرة.
وهذا يكشف كشفا قطيعا عن انقطاعه عن ذكر تراجم الشيعة لم يكن من جهة انصرافه عن ذلك لقلة الجدوى فيه أو لتبين عدم اعتبار الكتاب الذي كان يعول عليه في ذكر تراجمهم ونحو ذلك بل كان لقصور يده عن الحصول على بقية أقسام ذلك الكتاب وبالتالي تراجم بقية رواة الشيعة.
ومهما يكن فإنّ الأقرب في النظر هو أنّ ابن حجر قد اعتمد على كتاب ابن أبي طي فيما نسبه الى الكشي والنجاشي والشيخ ولكنّه لم يعرف طريقته في النقل عن كتبهم فنسب إليهم ما كان من كلام ابن أبي طي نفسه. وعلى ذلك ينبغي البحث عن مدى إمكانية الاعتماد على ما صدر من ابن طي في كتابه من مدح أو قدح أو نحوهما.
فأقول: ليس بأيدينا من كلمات علمائنا المعاصرين لابن أبي طي أو القريبين من عصره ما يبين حاله ومكانته العلمية، فإنّه كان من رجال أواخر القرن السادس والثلث الأول من القرن السابع حيث ولد عام (575 هـ) وتوفي في جمادى الأولى سنة (627) هـ(11) ولا تتوفر تراجم حتى مختصرة لمعظم علماء الإمامية في هذا العصر حتى يلاحظ أنّ العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني لم يجد ما يذكره في تراجم أعلام الشيعة في القرن السابع في كتابه (الأنوار الساطعة في المائة السابعة) إلا رؤوس أقلام عن كثير منهم في مائتي صفحة فقط.
وبالجملة: لا غرو إذا لم يصل إلينا ما يفي بترجمة ابن ابي طي في مؤلفات رجالي الشيعة، فإنّه قد شابه حاله كثيراً آخرين من رجال الشيعة في ذلك العصر.
وأول من ترجم له هو الميرزا عبد الله الأفندي (ت 1130 هـ) في رياض العلماء(12) قائلاً: (الشيخ يحيى بن أبي طي الحلبي.. كان من مشاهير علماء أصحابنا الإمامية، وصاحب التصانيف في أقسام العلوم، وكان في حدود الستمائة)، ثم حكى قسماً ممّا ورد في ترجمته في كتاب ياقوت الحموي، نقلاً عن خط الشهيد الأول. وذكره العلامة الشيخ آغا بزرك في الطبقات (13)، وأورد ما ذكره ابن حجر في لسان الميزان في ترجمته. والحاصل أنّه ليس في كتب أصحابنا وكلماتهم ما يكشف عن حال ابن أبي طي في أي جانب من جوانبه.
والذي ورد بشأنه في كتب معاصريه من المترجمين من أهل السنة يشتمل على قدح كبير في أمانته ومكانته العلمية، فقد ترجم له ياقوت الحموي المتوفّى سنة (626 هـ) وقال كما حكاه عنه ابن حجر (14): (كان يدّعي العلم بالأدب والفقه والأصول على مذهب الإمامية، وجعل التأليف حانوته ومنه قوته ومكسبه، ولكنّه كان يقطع الطريق على تصانيف الناس بأخذ الكتاب الذي أتعب جامعه خاطره فيه فينسخه كما هو إلا أنّه يقدّم فيه ويؤخّر، ويزيد وينقص، ويخترع له اسماً غريباً، ويكتبه كتابة فائقة، ويقدّمه لمن يثيبه عليه، ورزق من ذلك حظّاً). وعلّق على كلامه ابن حجر قائلاً: (وقفت على تصانيفه وهو كثير الأوهام والسقط والتصحيف، وكان سبب ذلك ما ذكره ياقوت من أخذه من الصحف).
وقال ابن الشعار الموصلي (15): وكان هذا الرجل يأخذ نفسه بالتصنيف والجمع والتأليف ويختلق أسماء وألقاباً للكتب فيضعها ويضيفها إلى نفسه وينتحلها، ولم يكن إلا صاحب دعاوى ومخاريق وأباطيل، وتوهم أنه قد صنف وليس عنده مما ذكر علم ما، ولا وجدت شيئاً من مصنفاته إلا اليسير، وحدثني الصاحب الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي بحلب ــ أيده الله تعالى ـ قال: كان ابن أبي طي كذاباً كثير الكذب والتحريف، وإن هذه الكتب التي عددها وادعاها وعمـل لـهـا فهرستاً تمويهـا وتوهيماً لم أقف منها على شيء إلا أنه كان يقول: قد صنف الكتاب الفلاني في العلم الفلاني، فنسأله إحضاره، فيحتج بحجة ما، ويغالطنا، ويوهم أنه قد فرغ. وكل ما يتلفظ به ويدعيه زور وكذب، فإذا صح له ذلك وصدق في تصنيفه فيكون قد أغار على بعض الكتب فيقدم فيه أو يؤخر أو يزيد قليلاً أو يختصر، ويختلق له اسماً غريباً وينتحله. هكذا كانت شيمته، وكان قد جعل التصنيف بضاعته، ورأس ماله وصناعته). أقول: هناك طريقان للتحقق من موضوعية كلّ من ياقوت وابن أبي جرادة وابن الشعار في تقييمهم السلبيّ لابن أبي طي وطعنهم الشديد فيه، أو كون ذلك منهم خاضعاً لاعتبارات أخرى كالتعصّب المذهبي أو الحساسيات الرائجة لدى بعض أهل العلم تجاه معاصريهم ممّن ينالون حظّاً أكبر من الشهرة والمقبولية.
الطريق الأول:
استقصاء من اعتمدوا عليه من كبار المؤرّخين وأضرابهم، وقد قام بهذه المهمة عدد من الباحثين منهم الباحثة المصرية الدكتورة شيرين العشماوي في كتابها (كتابات ابن أبي طي الحلبي في المصادر الإسلامية)، ومنهم: الباحث الأردني لؤي إبراهيم بواعنة في مقاله بعنوان (يحيى بن أبي طي مؤرّخاً)، ومنهم: الباحث العراقي محمد عزيز عبد الأمير في مقاله بعنوان: (ابن أبي طي، حياته وسيرته) (16)، وتبيّن أنّ عدداً كبيراً من قدامى المؤرّخين اعتمدوا علـى مؤلفات ابن أبي طي ومنهم:
1- ابن الأثير (ت 630 هـ) في كتابه (التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل).
2 ـ ابن العديم (ت 660 هـ) في كتابه (بغية الطلب في تاريخ حلب).
3 ـ أبو شامة المقدسي (ت 665 هـ) في كتابيه (الروضتين) و(عيون الروضتين في أخبار الدولتين النوريّة والصلاحيّة).
4 ـ ابن خلكان (ت 681 هـ) في كتابه (وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان).
5 ـ ابن شداد (ت 684 هـ) في كتابه (الأعلاق الخطيرة في أمراء الشام والجزيرة).
6 ـ ابن الفوطي (ت 732 هـ) في كتابه (مجمع الآداب في معجم الألقاب).
7 - النويري (ت 733 هـ) في كتابه (نهاية الإرب في فنون الأدب).
8- ابن كثير (ت) 744 هـ) في كتابه (البداية والنهاية).
9 ـ الذهبي (ت 748 هـ) في كتابيه (تاريخ الإسلام) و(سير أعلام النبلاء).
10 ـ ابن شاكر الكتبي (ت 764 هـ) في كتابه (فوات الوفيات).
11 - ابن الفرات (ت 807 هـ) في كتابه (تاريخ الدول والملوك).
12- المقريزي (ت 845 هـ) في كتابيه (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) و(المقفى الكبير).
13 - ابن حجر العسقلاني (ت 852 (هـ) في كتابيه (لسان الميزان) و(الإصابة في تمييز الصحابة).
قالت الدكتورة شيرين العشماوي (17): (كانت كتابات المؤرّخ ابن أبي طي مصدراً مهما لبعض المؤرّخين، وقد ظهر ذلك من خلال تصريحهم بالاعتماد عليه، خاصة تلك الكتابات التي أرّخ فيها لأحداث القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميلادي، حيث سنحت له بحكم مولده في مطلع الربع الأخير من هذا القرن فرصة التحدّث مع بعض الشخصيات التي كانت لا تزال على قيد الحياة، وعاصر بذلك فترات مهمة من أحداث هذا القرن وفي مقدمتهم والده الذي كتب عنه أحداثا مهمة فقرأ هؤلاء المؤرخون في تاريخه أحداثا وتفاصيل ميّزت كتاباته عن غيره من المؤرّخين المعاصرين فاعتمدوا لذلك عليه).
الطريق الثاني:
المقارنة بين ما أورده ابن أبي طي في كتبه من أخبار وروايات تاريخه مع ما ورد في كتب المؤرّخين الآخرين ممّن سبقوه للتعرّف على مصادره التي استمد منها كتاباته أو ممّن عاصروه للوقوف على مكانته بينهم.
وقد قام بهذه المهمة عدد من الباحثين أيضا منهم الدكتورة شيرين العشماوي وقد خلصت الى القول إلى انّه: (ظهر لنا من خلال مقارنة كتابات ابن أبي طي مع غيره من المؤرّخين و بصفة خاصة مع المؤرّخين المعاصرين له في مقدّمتهم المؤرّخ عزّ الدين ابن الأثير (ت 630) والمؤرّخ بهاء الدين بن شداد (ت 632) أنّ كتاباته كانت تتسم بسمات خاصة تميّزه وتجعل له بصمة واضحة بين معاصريه وقد تأكّد لنا هذا طول دراساتنا لكتابات ابن أبي طي ولهذا صارت كتاباته مادة مهمة لكثير من المؤرخين اللاحقين به فنقلوا الكثير منها).
وقال أيضا: (ساعد ابن أبي طي في الوصول الى هذه المرحلة في الكتابة المنهج الذي اتبعه في استقصاء مصادره فقد لاحظنا أنّ منهجه في اختيار مصادر كتاباته كان أساسه معاصره مؤلفه للأحداث التي يكتب عنها كما كان ينتقي أيضا المصادر التي تخصّصت في تاريخ دولة أو بلد كما كان مهتماً بسماع شهود العيان للأحداث وبتدعيم كتاباته بالعديد من الوثائق الهامة والتي كان بعضها يمثّل أهمية كبيرة لاطلاعه على النسخة الأصلية للوثيقة ولهذا جاءت كثير من كتاباته تحوي المزيد من التفاصيل التي لم ترد في كثير من المصادر الاخرى ومع كل ما تميّزت به كتابات ابن أبي طي فقد أخذنا عليه أنّه لم يكن دقيقاً في كتاباته بعض التواريخ والروايات والأسماء وإن كان ذلك لا يقلّل من أهمية كتاباته).
وقال الباحث الأردني لؤي إبراهيم بواعنة (18):
(تأتي أهميّة المؤلفات التاريخيّة التي تركها يحيى بن أبي طي بمحتواها وقيمتها بين الكتب التاريخية التي ألّفت في عصره، إذ زخرت تلك الفترة بكتب تاريخية مهمّة، وكانت مؤلّفات يحيى بن أبي طي من بينها، وهذا يعني أنّ مؤلّفاته التاريخيّة كانت على قدر من الأهمية التي حملتها مؤلفات تلك الفترة من مؤرّخي الشام كالعظيمي (ت 558 هـ)، وابن أبي أصيبعة (ت 668 هـ)، وابن نظيف الحموي (ت 644 هـ)).
وأضاف (19): (ويرى المتتبّع لروايات يحيى بن أبي طي أنّه لم يعتمد على رواية واحدة أحياناً أو على رواية مؤرّخين معاصرين له فقط بل نجده يبحث عن أكثر من رواية للحدث نفسه.. وهناك ما يشعر أنّ يحيى بن أبي طي كان دقيقاً في نقل الروايات، فقد استخدم عبارات في بعض رواياته يستدل منها أحياناً على عدم الطمأنينة، مثل استخدامه ألفاظاً تدل على نحو ذلك نحو (قيل) و(يقال)).
وقال أيضاً (20): (عرف عن يحيى بن أبي طي بأنّه كان شيعي المذهب، غير أنّ ذلك لا يعني أنّه اتخذ موقفاً مستنداً إلى مذهبه في الرواية التاريخية، إذ إنّه كان متحرياً الموضوعيّة تماماً في رواياته إلى حد بعيد، بمعنى أنّه لم يظهـر لـه مـيـول واضحة سواء كانت سياسيّة أو مذهبيّة يمكن من خلالها بناء حكم عليه بأنّه التزم جانباً دون الآخر لاعتبارات مذهبيّة).
وفي ضوء ما تقدّم يمكن القول: إنّه ليس هناك ما يشير إلى صحة ما طعن به ياقوت الحموي في ابن أبي طي من التقليل بشأنه واتهامه بالاستحواذ على مؤلفات الآخرين وتسجيلها باسمه.
قالت الباحثة المصرية الدكتورة شيرين العشماوي (21):
(إنّ ياقوت الحموي كان معاصراً لابن أبي طي في حلب حيث زارها في عام (613 هـ) ثم أقام فيها آخر فترة من حياته، وتوفي بها في عام (626 هـ))، وقد أكّد أنّه التقى مع ابن أبي طي في حلب في عام (619هـ)، ولا نعلم شيئاً عن طبيعة العلاقة بينهما، ولكن من خلال ما لاحظناه من المستبعد أن يكون قد قامت بينهما علاقة طيبة بل العكس هو الصحيح، بسبب معتقدات كل منهما، فالمعروف أنّ ابن أبي طي كان شيعي المذهب، أمّا ياقوت الحموي فقد كان على حد قول ابن خلكان متعصّباً على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وتوجّه إلى دمشق في سنة ثلاث عشرة وستمائة، وناظر بعض من يتعصب لعلي (عليه السلام) وجرى بينهما كلام أدّى إلى ذكره علياً (عليه السلام) بما لا يسوغ، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه، فسلم منهم وخرج من دمشق منهزماً، بعد أن بلغت القضية والي البلد، فطلبه فلم يقدر عليه، ووصل إلى حلب خائفاً يترقب. وعلى كل الأحوال فإنّ تعصّب ياقوت الحموي الشديد تجاه الشيعة يجعلنا ننظر إلى روايته عن ابن أبي طي - بصفة عامة ـ بحذر شديد.
ومن خلال دراستنا لابن أبي طي نرى عدم صحة اتهام ياقوت لابن أبي طي بأنّه كان يدّعي العلم بالأدب والفقه والأصول على مذهب الإمامية، فإنّ ابن أبي طي تحدّث كثيراً عن أسرته، وظهر أنّها كانت ذات مكانة دينية كبيرة في حلب، وعدّت من أهم فقهاء الشيعة الإمامية فيها.
ولهذه المكانة الكبيرة كانت فيمن نفذ عليهم قرار نور الدين محمود في عام (543هـ) بنفي زعماء الشيعة فيها، ومع ذلك ظلّت مكانة والده كما هي، وازدادت مكانته مع الأيام حتى إنّه بعد وفاة نور الدين محمود وإلغاء قراراته بشأن الشيعة في عام (570 هـ) أمّ والده الشيعة وصلّوا خلفه. ولهذا فمن غير المعقول أن يكون والد ابن أبي طي على هذه المكانة الدينية الكبيرة ويترك ولده الوحيد دون أن يلقّنه العلوم الدينيّة.
أمّا بالنسبة لما ذكره ياقوت عن أنّه كان يقطع الطريق على تصانيف الناس، فهذا الرأي إن كان صحيحاً فلماذا عندما قام ابن أبي طي بتهذيب كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر سمّاه (تهذيب الاستيعاب لابن عبد البر) ولم يغيّر اسمه وينتحله لنفسه؟ من خلال كل ما سبق نستطيع أن نقول: إنّ ياقوت الحموي كان متحاملا على ابن أبي طي في نقده له ولعلّ ذلك كان كما ذكر الأستاذ مصطفى جواد من غمز ياقوت الحمويّ به وطعنه عليه فقد كانا متعاصرين ومختلفين في المذهب جمعتها حلب الشهباء).
وقال الباحث الأردني لؤي إبراهيم بواعنة (22) تعليقا على كلام ياقوت بشأن ابن أبي طي: (إنّ فيه شيئاً من التجنّي عليه وليس لدينا ما يثبت صحة ما قاله ياقوت ولكن يبدو أنّ العامل المذهبي (تشيّع يحيى بن أبي طي) أسهم في تكوين تلك الصورة عنه عند ياقوت وربّما لخلافات علميّة بينهما).
ثم قال (23): (أمّا أسباب اختفاء مؤلفات يحيى بن أبي طي فقد أرجعها بعض الباحثين الى تشيّعه وقد يكون هذا الطرح مقبولا في حال قياسه بمؤرخين معاصرين مثل ابن الأثير الذي وصلت معظم مؤلفاته).
أقول : هذا حال ياقوت الحموي في موقفه من ابن أبي طي وأمّا ابن الشعار الموصلي فأمره غريب إذ إنّه ترجم لابن أبي طي (24) قائلا ما مختصره: اشتغل بصنعة التجارة مع أبيه برهة من الزمان ثم تركها وحفظ القرآن العزيز وتعلّم الكتابة ومال الى طلب العلم والأدب ولقي العلماء وجالس الفضلاء فقرأ فقه الإماميّة على أبي جعفر محمد بن علي بن شهرآشوب السروي المازندرانيّ وقرأ الخلاف على أبي الثناء محمود بن طارق الحلبيّ الفقيه الحنفي ثم انتقل الى تعليم الصبيان وإقراء القرآن الكريم ثم ترفّع عن ذلك ولزم بيته وطلب مشايخ الأدب فقرأ على أبي محمد القاسم الواسطيّ وأبي البقاء يعيش بن علي يعيش النحويّ الحلبيّ وأبي القاسم أحمد بن هبة الله بن الجبرانيّ الحلبي وأبي الحرم مكي بن ريان النحوي الماكسيني وغيرهم ثم عمل الشعر وصار أحد شعراء دولة الملك الظاهر ثم أحبّ التصنيف وصنّف كتبا في التواريخ وتفسير القرآن الكريم والآداب والفقه والأصول كثيرة منها:
التاريخ الكبير الذي وسمه ب (معادن الذهب في تاريخ حلب) وهو كاتب جمع فيه أخبار الملوك والعلماء واحتوى على أخبار الشام لا يوجد مجموعه في كتاب قديم ولا حديث وابتدأ به من أول الفتوح الى سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأوصل فيه الدول وأخبارها القديمة في الإسلام والحديثة وهو كتاب نافع ومفيد وكتاب (التنبيه على محاسن التشبيه) أتى فيه بجميع فنونه وما قال العلماء فيه وهو كتاب حسن في بابه، وكتاب في محاسن الغلمان يحتوي عل ألف وتسعمائة غلام جمع فيه من جيد الأشعار اللطيفة ما لا يوجد مجموعا في كتاب وقدّمه للملك الظاهر فأعجب فيه وأثابه عليه أحسن ثواب ثم ذكر عددا آخر من مؤلفاته وقال: (وغير ذلك من التصانيف الكثيرة وبلغت مصنّفاته أكثر من خمسين مصنّفا ) وبعد هذه الترجمة المشتملة على المدح والثناء على ابن أبي طي من حيث دراسته الفقه والأدب على أهله وممارسته للشعر حتى صار أحد شعراء الدولة وتصنيفه الكثير من الكتب تزيد على الخمسين كتابا وإقراره بأنّ البعض منها نافع ومفيد وقد احتوى ما لا يوجد بمجموعه في كتاب قديم ولا حديث لا أدري كيف سمح لنفسه أن يطعن في الرجل بما تقدم عنه من أنّه اختلق أسماء وألقابا لكتب وضعها وأضافها الى نفسه وانتحلها ولم يكن إلا صاحب دعاوى ومخاريق وأباطيل ويوهم أنّه قد صنّف وليس عنده ممّا ذكر علم ما ؟ أليس بين كلاميه هذين تنافٍ واضح وتعارض صارخ؟ واحتمل والله العالم أنّ الطعن المذكور لم يكن في أصل كتابه وإنّما أضافه في الهامش بعد ما سمعه من عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة من اتهام ابن أبي طي مثل ما ورد في كلامه بل ما يزيد عليه ممّا تقدم نقله عنه ولا ينقضي العجب من ابن أبي جرادة الذي هو المؤرخ ابن العديم المعروف كيف اتهم ابن أبي طي بكثرة الكذب والتحريف وأنّه لم يقف على شيء من الكتب التي عدّدها وادّعاها وأّنّ كل ما يتلفّظ به ويدّعيه زور وكذب وإذا صحّ له شيء من التصنيف فإنّما يكون قد أغار على بعض الكتب فقدّم وأخّر، مع أنّه بنفسه قد اعتمد عليه في كتابه (بغية الطلب في تاريخ حلب) وحكى عن خطّه في غير موضع منه (25) ولفظه في موضع منه: قرأت بخط المنتجب يحيى بن أبي طي النجّار في مجموعه قال أبو المجد بن فضلان الضرير الدقي البغدادي الشطرنجي: ورد إلى حلب وامتدح السلطان الملك الظاهر، وذلك في سنة خمسة وثمانين وخمسمائة، وله شعر لطيف منه ما أنشدنيه اللطيف السرّاج قال: أنشدني ابن فضلان لنفسه يمدح أهل البيت (عليهم السلام):
يا لائمي في حب آل أحمد * ما يبغض الخمسة غير مشركِ
أقصر فما لي في سواهم حاجة * إن أنا أخلصت لهم تنسّكي
هم جنّتي في هذه وجنّتي * في تيك والله ضمين الدركِ
لو كان في الأرض لهم من سادس * ما سدّسوا تحت العبا بالملكِ
ومن الغريب أنّ ابن الشعار (26) حكى عن ابن أبي جرادة أنّ يحيى بن أبي طي استعار منه كتابه (الأخبار المستفادة في ذكر ابن أبي جرادة) فبقي عنده مدّة يطالعه، ثم لمّا أرجعه وجد في أثنائه ورقة بخط يده متضمّنة هذه الأبيات من شعره في مدح آل أبي جرادة منها قوله في مدح صاحب الكتاب:
ولهم بخاتم مجدهم وكمالهم * عمر الكمال على الأنام علاء
بحر العلوم وأين عذب مذاق ذا * من طعم ذاك إذا تمطق ماء
قسماً أقول وإن تقدّمة الألى * من قومه وأتى به الأجزاء
فلقد سما وعلا بكل فضيلة * لا يستطع لحاقها القدماء
فيلاحظ أنّه كيف أثنى على ابن أبي جرادة وذكره ببليغ المدح، ولكن جازاه بما تقدّم من أقذع الطعن والقدح، وصدق من قال: وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
والمتحصّل ممّا سبق: أنّ ما اشتملت عليه كلمات ياقوت وابن أبي جرادة وابن الشعار من الطعن في ابن أبي طي والنيل من أمانته ومكانته العلميّة ما لا يمكن التعويل عليه ويبدو أنّه ليس وراءه إلا التعصّب المذهبي والحساسية المفرطة تجاه معاصر كان له القدح المعلّى في التاريخ والأدب ومشاركة جيدة في الفقه والأصول.
وهكذا يتضح أنّ مقتضى الشواهد والقرائن أنّ ابن أبي طي مؤرّخ قدير ومترجم نابه ولا يبعد الاعتماد على ما صدر منه من جرح أو توثيق حتى بالنسبة الى الرجال السابقين في عصر أئمة الهدى فإنّ الذي يظهر من حاله وما تبقى متفرّقا من كتابه (الحاوي) (27) وفرة المصادر التي كانت في متناول يده في هذا المجال فليتأمّل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحوث في شرح مناسك الحج ج22، ص 175.
(2) لاحظ ج1، ص 173؛ ج2، ص 327.
(3) هكذا سمّاه ابن حجر في لسان الميزان (ج: 8) ص: 453) نقلاً عن ياقوت الحموي، وسمّاه ابن الشعار الموصلي في قلائد الجمان (ج: 7 ص: 226) بـ(الحاوي) أيضاً وقال: (ذكر فيه رجال الشيعة وعلمائهم وفقهائهم وشعراءهم وأئمتهم المصنفين في مذاهبهم، وأورد ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات (ج: 4) ص:271) في عداد مؤلفات ابن أبي طي (أسماء رواة الشيعة ومصنفيها)، وذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة ( ج: 6) ص:542) خبراً قال: إنه قرأه في كتاب (طبقات الإمامية لابن أبي طي، وذكر الذهبي في تاريخ الإسلام (ج: 13 ص: 949) لابن كتاباً بعنوان (تاريخ الشيعة) وقال: (هو مسودة في عدة مجلدات، نقلت منه كثيراً)، وسماه في ج: 7) ص: 521) بـ (تاريخ يحيى بن أبي طي) وقال: (خطه مغلق سقيم). ويبدو أنه أراد به نفس ما ذكره ابن حجر والكتبي بقرينة تطابق ما حكاه عنه مع ما ورد في لسان الميزان نقلا عنه في جملة من المواضع، ومن ذلك في ترجمة ريحان الحبشي (يلاحظ تاريخ الإسلام ج:12 ص: 195، ولسان الميزان ج 3 ص: 448، وفي ترجمة أبي يعلى حمزة بن الحسن الجعفري يلاحظ تاريخ الإسلام ج 10 ص: 215، وسير أعلام النبلاء ج: 18 ص: 141، ولسان الميزان ج:3 ص: 290). وبذلك يظهر النظر فيما بنى عليه العلّامة الشيخ آغا بزرك في الذريعة (ج:3 ص: 220) من مغايرة تاريخ الشيعة لطبقات الإمامية
(4) تارة بعنوان (كتاب ابن أبي طي) ج: 7 ص 374، وأخرى بعنوان (تاريخه) ج:1 ص:89، وثالثة بعنوان (مصنّفه في الإماميّة) ج 2 ص: 209، ورابعة بعنوان (كتاب الإماميّة) ج: 3 ص 149، وخامسة بعنوان (رجال الشيعة) ج 2 ص:172 تحقيق: أبو غدة.
(5) لاحظ ج 2 ص: 95، 126، 172، 361، ج: 9 ص: 80.
(6) وممّا يؤكد ذلك أنّه ذكر في (ج 2 ص: 66) إسحاق بن عبد العزيز الكوفي أبو السفائح ثم قال: ذكره الطوسي في رجال الشيعة. وقال في (ج:9 ص:80) في باب الكنى: (أبو السفائح، اسمه إسحاق بن عبد العزيز نقلته من خط ابن أبي طي، فإنّ كلامه الأخير قرينة على أنّه اعتمد على كتاب ابن أبي طي فيما نسبه في الموضع الأول إلى الشيخ الطوسي في رجاله، فليتدبّر.
(7) قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان ج: 7 ص: 227.
(8) الإصابة في تمييز الصحابة ج6، ص 542.
(9) كشف الظنون ج1، ص 277.
(10) لسان الميزان ج1، ص 105 تحقيق: أبو غدة.
(11) هكذا ذكره ابن الشعار الموصلي في قلائد الجمان (ج7، ص 224)، وهو أدق ممّا ذكره ابن شاكر الكتبي في (فوات الوفيات، ج4، ص 269) من أنّه توفّي في حدود عام (630 هجريّة) والملاحظ أنّه ورد في بعض الدراسات (كتابات ابن أبي طي الحلبي في المصادر الإسلاميّة، ص 68) ترجيح أنّه توفّي بعد عام (650 هجريّة) ولكن الدراسة المذكورة اعتمدت على الطبعة الهنديّة من كتاب (اللسان، وهو مغلوطة، والصحيح (605 هجريّة) كما ورد في الطبعة الحديثة بتحقيق أبي غدة (ج8، ص 376).
(12) رياض العلماء وحياض الفضلاء ج: 5 ص: 328
(13) طبقات أعلام الشيعة ج: ص: 205.
(14) لسان الميزان ج: 8 ص:454 تحقيق: أبو غدة.
(15) قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان ج: 7 ص: 226.
(16) مجلة التراث العلمي العربي العدد 32 2019م.
(17) كتابات ابن أبي طي الحلبي في المصادر الإسلامية، ص 9.
(18) المجلّة الأردنيّة للتاريخ والآثار مجلد 3، عدد 2، 2009م، ص 44.
(19) المصدر السابق، ص 61.
(20) المصدر السابق، ص 63.
(21) كتابات ابن أبي طي الحلبي في المصادر الإسلامية، ص 118.
(22) المجلّة الأردنيّة للتاريخ والآثار مجلد 3، عدد 2، 2009م، ص 43.
(23) المصدر السابق، ص 47.
(24) قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان ج: 7 ص: 224.
(25) بغية الطلب في تاريخ حلب ج7، ص 3377، 3473؛ ج9، ص 4167؛ ج10، ص 4527، 4609.
(26) قلائد الجمان في فرائد شعراء هذا الزمان ج: 7 ص: 228.
(27) الحاوي في رجال الشيعة الإماميّة، جمع وتنظيم: الشيخ رسول جعفريان.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|