المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9117 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الاتفاقات الخاصة بحماية المنظمة وموظفيها
8-3-2017
Jan Lukasiewicz
3-5-2017
اليُمن في البنات
2024-07-05
الفرق بين عدة الطلاق والوفاة
2024-10-29
افتعال المنصور شبهة كثرة طلاق الامام
4-4-2016
أقمار كوكب بلوتو
21-1-2020


الإمام علي (عليه السلام) وقتاله للقاسطين " حرب صفين "  
  
2212   01:31 صباحاً   التاريخ: 2024-01-27
المؤلف : السيد محمد هادي الميلاني
الكتاب أو المصدر : قادتنا كيف نعرفهم
الجزء والصفحة : ج1، ص529-570
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام علي بن أبي طالب / حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله / بيعته و ماجرى في حكمه /

آثار حرب الجمل :

قال نصر بن مزاحم المنقري : " لما قدم علي بن أبي طالب من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ست وثلاثين ، وقد أعز الله نصره وأظهره على عدوه ومعه اشراف الناس وأهل البصرة استقبله أهل الكوفة وفيهم قراؤهم واشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ فقال : لا ولكني أنزل الرحبة . فنزلها وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ، ثم صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال : " أما بعد يا أهل الكوفة ، فان لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا وتغيّروا . دعوتكم إلى الحق فأجبتم ، وبدأتم بالمنكر فغيرتم . ألا إنّ فضلكم فيما بينكم وبين الله في الاحكام والقسم ، فأنتم أسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه . ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل . فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا إنّ الدنيا قد ترحّلت مدبرة والآخرة ترحّلت مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل . الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه وأعز الصادق المحق ، وأذلّ الناكث المبطل ، عليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم ، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه ، من المنتحلين المدعوين المقابلين إلينا ، يتفضلون بفضلنا ، ويجاهدونا أمرنا ، وينازعونا حقنا ، ويدافعونا عنه ، فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا ، ألا انّه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فأنا عليهم عاتب زار ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ، ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة "[1] ( 1 ) .

وروى بسنده عن عامر الشعبي : " إنّ شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال : أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه ، ونحن المؤمنون ، فان كنت رجلا تجاهد علياً وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا استعملناك علينا ، وإلاّ عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد ، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك . فقال جرير : يا شر حبيل ، مهلا فان الله قد حقن الدماء ، ولمّ الشعب وجمع أمر الأمة ، ودنا من هذه الأمة سكون ، فإياك أن تفسد بين الناس ، وأمسك عن هذا القول ، قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع رده ، قال : لا والله لا أسره أبداً ، ثم قام فتكلم ، فقال الناس : صدق صدق القول ما قال ، والرأي ما رأى فأيس جرير عند ذلك عن معاوية وعن عوام أهل الشام " .

وروى بسنده عن الجرجاني قال : " كان معاوية أتى جريراً في منزله فقال : يا جرير ، أني قد رأيت رأياً . قال : هاته قال : اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية ، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي ، وأسلم له هذا الأمر ، وأكتب اليه بالخلافة . فقال جرير : اكتب بما أردت ، واكتب معك . فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي إلى جرير :

" أما بعد ، فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة ، وأن يختار من أمره ما أحب ، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام ، وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة ، فأبيت ذلك عليه ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضداً فان بايعك الرجل والا فأقبل " .

وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث اليه الوليد بن عقبة :

معاوي إنّ الشام شامك فاعتصم * بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

وحام عليها بالقنابل والقنا * ولا تك محشوش الذراعين وانيا

وإن علياً ناظر ما تجيبه * فأهد له حرباً تشيب النواصيا

والا فسلم إنّ في السلم راحة * لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

وإن كتاباً يا ابن حرب كتبته * على طمع ، يزجى إليك الدواهيا

سألت علياً فيه ما لن تناله * ولو نلته لم يبق إلا لياليا

وسوف ترى منه الذي ليس بعده * بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

أمثل علي تعتريه بخدعة * وقد كان ما جرّبت من قبل كافيا

ولو نشبت أظفاره فيك مرة * حذاك ابن هند منه ما كنت حاذياً

وروى بسنده عن محمّد وصالح بن صدقة ، قالا : " وكتب علي إلى جرير بعد ذلك : " أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فأحمل معاوية على الفصل ، وخذه بالأمر الجزم ، ثم خيره بين حرب مجلية ، أو سلم محظية ، فان اختار الحرب فانبذ له ، وإن اختار السلم فخذ بيعته "[2].

مكاتبة علي ومعاوية :

قال ابن قتيبة : " وذكروا إنّ معاوية كتب إلى علي : أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل وقوى بك الضعيف ، وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان ، فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين وقد كان أهل الحجار أعلا الناس وفي أيديهم الحق فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام ، ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ولا حجتك عليَّ كحجتك على طلحه والزبير ، لأن أهل البصرة بايعوك ولم يبايعك أحد من أهل الشام وأن طلحة والزبير بايعاك ولم أبايعك ، وأما فضلك في الإسلام وقرابتك من النبي عليه السّلام فلعمري ما أدفعه ولا أنكره "[3].

وقال ابن قتيبة : " قالوا : فكتب اليه علي : أما بعد ، فقد جاءني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده دعاه الهوى فأجابه وقاده فاستقاده . زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان ، ولعمري ما كنت إلاّ رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا ليضربهم بالعمى وما أمرت فيلزمني قصاص القاتل ، وأما قولك أن أهل الشام هم الحكام على الناس فهات رجلا من قريش الشام يقول في الشورى أو تحل له الخلافة ، فان سميت كذبك المهاجرون والأنصار وإلاّ أتيتك من قريش الحجاز ، وأما قولك ندفع إليك قتلة عثمان فما أنت وعثمان انما أنت رجل من بني أمية وبنو عثمان أولى بعثمان منك ، فان زعمت أنك أقوى على ذلك فأدخل في الطاعة ثم حاكم القوم إليّ وأما تمييزك بين الشام والبصرة وذكرك طلحة والزبير ، فلعمري ما الأمر إلاّ واحد إنها بيعة عامة لا ينثني عنها البصير ولا يستأنف فيها الخيار . وأمّا ولوعك في أمر عثمان فو الله ما قلت ذلك عن حق العيان ولا عن تيقن الخبر .

وأمّا فضلي في الإسلام وقرابتي من رسول الله عليه السّلام وشرفي في قريش ، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته "[4].

معاوية يستشير عمرو بن العاص :

قال نصر بن مزاحم : " وفي حديث صالح بن صدقة قال : لما أراد معاوية السير إلى صفين قال لعمرو بن العاص : إني قد رأيت إنّ نلقي إلى أهل مكة وأهل المدينة كتاباً نذكر لهم فيه أمر عثمان ، فأما أن ندرك حاجتنا ، وأمّا أن يكف القوم عنا ، قال عمرو : انّما نكتب إلى ثلاثة نفر : راض بعلي فلا يزيده ذلك إلاّ بصيرة ، أو رجل يهوى عثمان فلن نزيده على ما هو عليه ، أو رجل معتزل فلست بأوثق في نفسه من علي ، قال : عليّ ذلك . فكتبا :

" أما بعد ، فإنه مهما غابت عنا من الأمور فلن يغيب عنا أن علياً قتل عثمان ، والدليل على ذلك مكان قتلته منه وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله ، فان دفعهم علي إلينا كففنا عنه ، وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب ، وأمّا الخلافة فلسنا نطلبها فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم فان أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد ، هاب علي ما هو فيه "[5].

علّيٌ يستشير المهاجرين والأنصار قبل المسير إلى الشام

روى نصر بن مزاحم بسنده عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود قال : " لما أراد علي المسير إلى أهل الشام دعا اليه من كان معه من المهاجرين والأنصار ، فحمّد الله وأثنى عليه وقال : " أما بعد فإنكم ميامين الرأي مراجيح الحلم ، مقاويل بالحق ، مباركوا الفعل والأمر . وقد أردنا المسير إلى عدونا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم " .

فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : " أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير ، هم لك ولأشياعك أعداء وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء وهم مقاتلوك ومجاهدوك ، لا يبقون جهداً ، مشاحة على الدنيا ، وضناً بما في أيديهم منها وليس لهم إربة غيرها إلاّ ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ولكن الدنيا يطلبون . فسر بنا إليهم فان أجابوا إلى الحق فليس بعد الحق إلاّ الضلال وإن أبوا إلا الشقاق فذلك الظن بهم . والله ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى ولا يُسمع إذا أمر " .

نصر : عمر بن سعد ، عن الحارث بن حصيرة ، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود ، أن عمّار بن ياسر قام فذكر الله بما هو أهله وحمده وقال : " يا أمير المؤمنين إنّ استطعت إلا تقيم يوماً واحداً فا ] فعل ، ا [ شخص بنا قبل استعار نار الفجرة واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة وادعهم إلى رشدهم وحظهم فان قبلوا سعدوا ، وإن أبوا إلا حربنا فوالله إنّ سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند الله وهو كرامة منه " .

وفي هذا الحديث : ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمّد الله وأثنى عليه ثم قال : " يا أمير المؤمنين انكمش بنا إلى عدونا ولا تعرّد ، فوالله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم ، لأدهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من المهاجرين والأنصار والتابعين باحسان إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ونحن لهم - فيما يزعمون - قطين قال : يعني رقيق " .

فقال أشياخ الأنصار ، منهم خزيمة بن ثابت ، وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما : لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام ؟ فقال : أما إني عارف بفضلكم معظّم لشأنكم ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب .

فقال بعضهم لبعض : ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم فقالوا : قم يا سهل بن حنيف فقام سهل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " يا أمير المؤمنين ، نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة ، فتأمرهم بالشخوص ، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل ، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس فان استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب وأما نحن فليس عليك منا خلاف متى دعوتنا أجبناك ومتى أمرتنا أطعناك "[6].

روى نصر بن مزاحم بسنده عن عبد الله بن شريك قال : " خرج حجر بن عدي ، وعمر بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام فأرسل إليهما علي : أن كفّا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقين ؟ قال : بلى . قالا : أوليسوا مبطلين ؟ قال : بلى ، قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرؤون ، ولكن لو وصفتم مساوي أعمالهم فقلتم من سيرتهم كذا وكذا ومن عملهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر ، ولو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم : اللّهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ، كان هذا أحب إلي وخيراً لكم فقالا : يا أمير المؤمنين ، نقبل عظتك ، ونتأدب بأدبك . وقال عمرو بن الحمق : إني والله يا أمير المؤمنين ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك ، ولا إرادة مال تؤتينيه ولا التماس سلطان يرفع ذكري به ولكن أحببتك لخصال خمس : إنك ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأول من آمن به ، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعظم رجل من المهاجرين سهماً في الجهاد . فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي ونزح البحور الطوامي حتى يأتي علي يومي في أمر أقوّي به وليّك وأوهن به عدوك ، ما رأيت إني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك .

فقال أمير المؤمنين علي : اللهم نوّر قلبه بالتقى واهده إلى صراط مستقيم ، ليت أن في جندي مائة مثلك . فقال حجر : إذاً والله يا أمير المؤمنين صح جندك وقل فيهم من يُغّشك "[7].

خروج علي إلى النخيلة :

قال نصر بن مزاحم : " وأمر علي الحارث الأعور ينادي في الناس : أن أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة فنادى : أيها الناس ، أخرجوا إلى معسكركم بالنخيلة ، وبعث علي إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته ، فأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر ودعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة ، وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين ، ثم خرج علي وخرج الناس معه "[8].

وقال : " فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان مكان علي بالنخيلة ومعسكره بها ومعاوية بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم ، وحول المنبر سبعون الف شيخ يبكون حوله لا تجف دموعهم على عثمان خطب معاوية أهل الشام فقال :

يا أهل الشام ، قد كنتم تكذبوني في علي ، وقد استبان لكم أمره ، والله ما قتل خليفتكم غيره ، وهو أمر بقتله ، وألب الناس عليه ، وآوى قتلته ، وهم جنده وأنصاره وأعوانه ، وقد خرج بهم قاصداً بلادكم ودياركم لأبادتكم ، يا أهل الشام ، الله في عثمان فأنا ولي عثمان وأحق من طلب بدمه وقد جعل الله لو لي المظلوم سلطاناً ، فانصروا خليفتكم المظلوم ، فقد صنع به القوم ما تعلمون ، قتلوه ظلماً وبغياً ، وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله ثم نزل ، فأعطوه الطاعة ، وانقادوا له وجمع اليه أطرافه "[9].

وروى بسنده عن عبد الرحمن بن أبي الكنود ، قال : " لما أراد علي الشخوص من النخيلة قام في الناس لخمس مضين من شوال يوم الأربعاء فقال :

الحمد لله غير مفقود النعم ولا مكافأ الأفضال ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ونحن على ذلكم من الشاهدين وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أما بعد ذلكم فإني قد بعثت مقدماتي ، وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري ، فقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم موطنين بأكناف دجلة فأنهضهم معكم إلى أعداء الله إنّ شاء الله ، وقد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري ولم آلكم ولا نفسي فإياكم والتخلف والتربص ، فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي وأمرته إلا يترك متخلفاً إلاّ ألحقه بكم عاجلا إنّ شاء الله .

فقام اليه معقل بن قيس الرياحي فقال : يا أمير المؤمنين ، والله لا يتخلف عنك إلا ظنين ، ولا يتربص بك إلاّ منافق ، فأمر مالك بن حبيب أن يضرب أعناق المتخلفين قال علي : قد أمرته بأمري وليس مقصراً في أمري إنّ شاء الله ، وأراد قوم أن يتكلموا فدعا بدابته فجاءته ، فلما أراد أن يركب وضع رجله في الركاب وقال : " بسم الله " فلما جلس على ظهرها قال : ( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحيرة بعد اليقين وسوء المنظر في الأهل والمال والولد . اللّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد . اللّهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ولا يجمعهما غيرك ، لأن المستخلف لا يكون مستصحباً ، والمستصحب لا يكون مستخلفاً .

ثم خرج وخرج أمامه الحر بن سهم بن طريف الربعي وهو يقول :

يا فرسي سيري وأمي الشاما * وقطعي الحزون والاعلاما

ونابذي من خالف الإماما * إني لأرجو إنّ لقينا العاما

جمع بني أمية الطغاما * أن نقتل العاصي والهماما

وأن نزيل من رجال هاما

قال : وقال مالك بن حبيب - وهو على شرطة علي - وهو آخذ بعنان دابته عليه السّلام : يا أمير المؤمنين أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد والقتال وتخلفني في حشر الرجال ؟ فقال له علي : إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئاً إلا كنت شريكهم فيه . وأنت ها هنا أعظم غناء منك عنهم لو كنت معهم . فقال سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين . فخرج علي حتى إذا جاز حد الكوفة صلّى ركعتين "[10].

وصول علي إلى الرقة :

قال نصر : " ثم سار أمير المؤمنين حتى أتى الرقة وجل أهلها العثمانية الذين فروا من الكوفة برأيهم وأهوائهم إلى معاوية فغلقوا أبوابها وتحصنوا فيها ، وكان أميرهم سماك بن مخرمة الأسدي في طاعة معاوية ، وقد كان فارق علياً في نحو من مائة رجل من بني أسد ، ثم أخذ يكاتب قومه حتى لحق به منهم سبعمائة رجل "[11].

روى نصر بن مزاحم بسنده عن حبة عن علي قال : لما نزل عليّ الرقة نزل بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي : إنّ عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم ، أعرضه عليك قال علي : نعم فما هو ؟ قال الراهب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، الذي قضى فيما قضى وسطر أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، ويدلهم على سبيل الله لا فظّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز وفي كل صعود وهبوط تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير والتسبيح وينصره الله على كل من ناواه فإذا توفاه الله اختلف أمته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ولا يرتشي في الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء ، يخاف الله في السر وينصح له في العلانية ولا يخاف في الله لومة لائم ، من أدرك ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فان القتل معه شهادة .

ثم قال له : فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك قال : فبكى علي ثم قال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً ، الحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار ، ومضى الراهب معه وكان - فيما ذكروا - يتغدّى مع علي ويتعشى حتى أصيب يوم صفين فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال علي : اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه ودفنه وقال : هذا منا أهل البيت واستغفر له مراراً "[12].

وروى بسنده عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث " إنّ علياً قال لأهل الرقة : أجسروا لي جسراً لكي أعبر من هذا المكان إلى الشام ، فأبوا وقد كانوا ضموا السفن عندهم ، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج ، وخلف عليه الأشتر فناداهم فقال : يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردن فيكم السيف ولأقتلن مقاتلتكم ولأخربن أرضكم ولآخذن أموالكم . فلقي بعضهم بعضاً فقالوا : إنّ الأشتر يفي بما يقول وإن علياً خلفه علينا ليأتينا منه الشر ، فبعثوا اليه إنا ناصبون لكم جسراً فأقبلوا فأرسل الأشتر إلى علي فجاء ونصبوا له الجسر فعبر الأثقال والرجال ثم أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس حتى لم يبق أحد من الناس إلاّ عبر ، ثم إنه عبر آخر الناس رجلا "[13].

بعد عبور الفرات :

قال نصر بن مزاحم : " فلما قطع علي الفرات دعا زياد بن النضر ، وشريح ابن هاني فسرحهما أمامه نحو معاوية على حالهما الذي كانا عليه حين خرجاً من الكوفة ، في اثني عشر ألفا . وقد كانا حين سرحهما من الكوفة مقدمة له أخذا على شاطئ الفرات ، من قبل البر مما يلي الكوفة ، حتى بلغا عانات ، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة ، وبلغهما أن معاوية أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقبال علي فقالا : لا والله ما هذا لنا برأي : أن نسير وبيننا وبين أمير المؤمنين هذا البحر ما لنا خير أن نلقى جموع أهل الشام بقلة من عددنا منقطعين من العدد والمدد ، فذهبوا ليعبروا من عانات فمنعهم أهل عانات ، وحبسوا عندهم السفن ، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت ثم لحقوا علياً بقرية دون قرقيسيا وقد أرادوا أهل عانات فتحصنوا منهم ، فلما لحقت المقدمة علياً قال : مقدمتي تأتي من ورائي ؟ فتقدم اليه زياد وشريح فأخبراه بالرأي الذي رأيا ، فقال : قد أصبتما رشدكما . فلما عبر الفرات قدمهما إمامه نحو معاوية فلما انتهوا إلى معاوية لقيهم أبو الأعور السلمي في جند أهل الشام فدعوهم إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين فأبوا ، فبعثوا إلى علي : أنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم في جند من أهل الشام فدعوناه وأصحابه إلى الدخول في طاعتك فأبوا علينا ، فمرنا بأمرك "[14].

تلاحم الجيشين واستيلاء أصحاب معاوية على الماء

قال نصر بن مزاحم : " استعمل علي عليه السّلام ، على مقدمته الأشتر ابن الحارث النخعي ، وسار علي في خمسين ومائة ألف من أهل العراق وقد خنست طائفة من أصحاب علي . وسار معاوية في نحو من ذلك من أهل الشام واستعمل معاوية على مقدمته سفيان بن عمرو : أبا الأعور السلمي ، فلما بلغ معاوية أن علياً يتجهز أمر أصحابه بالتهيُّأ فلما استتب لعلي أمره سار بأصحابه ، فلما بلغ معاوية مسيره إليه سار بقضه وقضيضه نحو علي عليه السّلام واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو ، وعلى ساقته ابن أرطاة العامري - يعني بسراً - فساروا حتى توافوا جميعاً بقناصرين إلى جنب صفين ، فأتى الأشتر صاحب مقدمة معاوية وقد سبقه إلى المعسكر على الماء وكان الأشتر في أربعة آلاف من متبصري أهل العراق ، فأزالوا أبا الأعور عن معسكره ، واقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه وقضيضه ، فلما رأى ذلك الأشتر انحاز إلى علي عليه السّلام وغلب معاوية على الماء وحال بين أهل العراق وبينه واقبل علي عليه السّلام حتى إذا أراد المعسكر إذا القوم قد حالوا بينه وبين الماء "[15].

وروى بسنده عن عبد الله بن عوف بن الأحمر قال : " لما قدمنا على معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستوياً بساطاً واسعاً ، وأخذوا الشريعة فهي في أيديهم وقد صف أبو الأعور عليها الخيل والرجالة وقدم المرامية ومعهم أصحاب الرماح والدرق وعلى رؤوسهم البيض ، وقد أجمعوا أن يمنعونا الماء ، ففزعنا إلى أمير المؤمنين فأخبرناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان فقال : ائت معاوية فقل : إنا سرنا مسيرنا هذا ، وأنا اكره قتالكم قبل الأعذار إليكم وإنك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل إنّ نقاتلك ، وبدأتنا بالقتال ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك وهذه أخرى قد فعلتموها ، حتى حلتم بين الناس وبين الماء ، فخل بينهم وبينه حتى ننظر فيما بيننا وبينكم ، وفيما قدمنا له وقدمتم . وإن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له وندع الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا . فقال معاوية لأصحابه : ما ترون ؟ قال الوليد بن عقبة : امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان ، حصروه أربعين يوماً يمنعونه برد الماء ولين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم الله . قال عمرو : خل بين القوم وبين الماء فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ، ولكن لغير الماء فانظر فيما بينك وبينهم . فأعاد الوليد مقالته . وقال عبد الله بن أبي سرح - وهو أخو عثمان من الرضاعة - : امنعهم الماء إلى الليل فإنهم إنّ لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمتهم امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة . فقال صعصعة بن صوحان : انما يمنعه الله يوم القيامة الكفرة الفجرة شربة الخمر ، ضربك وضرب هذا الفاسق - يعني الوليد بن عقبة - فتواثبوا اليه يشتمونه ويتهدّدونه ، فقال معاوية : كفوا عن الرجل فإنه رسول "[16].

وقال نصر : " وذكروا انه لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة فقال معاوية : يا أهل الشام هذا والله أول الظفر ، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إنّ شربوا منه أبداً حتى يقتلوا بأجمعهم عليه ، وتباشر أهل الشام "[17].

القتال على الماء :

ومن خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام : " لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السّلام على الشريعة : قد استطعموكم القتال ، فأقروا على مذلة وتأخير محلة أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ، ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخير ، حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية "[18].

قال نصر بن مزاحم : " فلما سمع الأشعث . . . أتى علياً من ليلته ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا ومعنا السيوف ؟ خل عنا وعن القوم فوالله لا نرجع حتى نرده أو نموت ومر الأشتر فليعل بخيله فيقف حيث تأمره فقال : ذلك إليكم فرجع الأشعث فنادى في الناس : من كان يريد الماء أو الموت فميعاده الصبح فإني ناهض إلى الماء ، فأتاه من ليلته اثنا عشر ألف رجل ، وشد عليه سلاحه وهو يقول :

ميعادنا اليوم بياض الصبح * هل يصلح الزاد بغير ملح

لا لا ولا أمر بغير نصح * دبوا إلى القوم بطعن سمح

مثل العزالى بطعان نفح * لا صلح للقوم وأين صلح

حسبي من الاقحام قاب رمح

فلما أصبح دبّ في الناس وسيوفهم على عواتقهم ، وجعل يلقي رمحه ويقول : بأبي أنتم وأمي تقدموا قاب رمحي هذا فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم وحسر عن رأسه ونادى : أنا الأشعث بن قيس ، خلوا عن الماء ، فنادى أبو الأعور السلمي : أما والله لا حتى تأخذنا وإياكم السيوف ، فقال : قد والله أظنها دنت منا وكان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي عليه السّلام فبعث اليه الأشعث أن أقحم الخيل ، فأقحمها حتى وضع سنابكها في الفرات ، وأخذت القوم السيوف فولوا مدبرين "[19].

وروى بسنده عن زيد بن حسين قال : " نادى الأشعث عمرو بن العاص ، قال : ويحك يا ابن العاص خلّ بيننا وبين الماء ، فوالله لئن لم تفعل ليأخذنا وإيّاكم السيوف ، فقال عمرو : والله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف وإياكم ، فيعلم ربنا أينا اليوم أصبر . فترجل الأشعث والأشتر وذوو البصائر من أصحاب علي وترجل معهما اثنا عشر ألفاً ، فحملوا على عمرو ومن معه من أهل الشام ، فأزالوهم عن الماء حتى غمست خيل علي سنابكها في الماء "[20].

علي يرسل الناصحين نحو معاوية :

قال نصر : " ثم إنّ علياً دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد ابن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي فقال : ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عزّوجل إلى الطاعة والجماعة ، وإلى اتباع أمر الله تعالى فقال له شبث : ألا نطمِّعه في سلطان توليه إياه ومنزلة تكون به له أثرة عندك إنّ هو بايعك ؟ قال علي : آتوه الآن فالقوه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه - وهذا في شهر ربيع الآخر - فأتوه فدخلوا عليه ، فحمد أبو عمرة بن محصن الله وأثنى عليه وقال : " يا معاوية ، إنّ الدنيا عنك زائلة ، وإنك راجع إلى الآخرة ، وإن الله عزّوجل مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك ، وإني أنشدك بالله أن تفرق جماعة هذه الأمة ، وإن تسفك دماءها بينها . فقطع معاوية عليه الكلام ، فقال : هلا أوصيت صاحبك فقال : سبحان الله ، إنّ صاحبي ليس مثلك ، إنّ صاحبي أحق البرية في هذا الأمر في الفضل والدين والسابقة والاسلام والقرابة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم . قال معاوية : فتقول ماذا ؟ قال : أدعوك إلى تقوى ربك وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك اليه من الحق ، فإنه أسلم لك في دينك ، وخير لك في عاقبة أمرك . قال : ويطل دم عثمان ، لا والرحمن لا أفعل ذلك أبداً قال : فذهب سعيد يتكلم فبدره شبث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

يا معاوية ، قد فهمت ما رددت على ابن محصن انه لا يخفى علينا ما تقرب وما تطلب ، إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا إنّ قلت لهم قتل إمامكم مظلوماً فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ، وقد علمنا إنك قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب ، ورب مبتغ أمراً وطالبه يحول الله دونه ، وربما أوتي المتمنّي أمنيته ، وربما لم يؤتها ، ووالله مالك في واحدة منها خير . والله لئن أخطأك ما ترجوا إنك لشر العرب حالا ، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار . فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ، ولا تنازع الأمر أهله .

قال : فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال :

" أما بعد فان أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك قطعك على هذا الحبيب الشريف سيد قومه منطقه ، ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به . ولقد كذبت ولويت أيها الاعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت وذكرت . انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلاّ السيف " . قال : وغضب فخرج القوم وشبث يقول : أفعلينا تهول بالسيف ، أما والله لنعجلنه إليك . فأتوا عليّاً عليه السّلام فأخبروه بالذي كان من قوله - وذلك في شهر ربيع الآخر "[21].

وساطة القراء بين الفريقين :

قال نصر : " وخرج قراء أهل العراق وقراء أهل الشام ، فعسكروا ناحية صفين في ثلاثين الفاً ، وعسكر علي على الماء وعسكر معاوية فوق ذلك ، ومشت القراء فيما بين معاوية وعلي ، فيهم عبيدة السلماني ، وعلقمة بن قيس النخعي ، وعبد الله بن عتبة ، وعامر بن عبد القيس - وقد كان في بعض تلك السواحل - قال : فانصرفوا من عسكر علي فدخلوا على معاوية فقالوا : يا معاوية ، ما الذي تطلب ؟ قال : أطلب بدم عثمان قالوا : ممن تطلب بدم عثمان ؟ قال : من علي عليه السّلام ، قالوا : وعلي عليه السّلام قتله ؟ قال : نعم ، هو قتله وآوى قاتليه . فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي فقالوا : إنّ معاوية يزعم إنك قتلت عثمان . قال : اللهم لكذب فيما قال ، لم أقتله . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال لهم معاوية : إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالأ . فرجعوا إلى علي عليه السّلام فقالوا : إنّ معاوية يزعم إنك إن لم تكن قتلت بيدك فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان . فقال : اللهم كذب فيما قال .

فرجعوا إلى معاوية ، فقالوا : إنّ علياً عليه السّلام يزعم أنه لم يفعل . فقال معاوية : إنّ كان صادقاً فليمكنّا من قتلة عثمان ، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده فرجعوا إلى علي عليه السّلام . فقالوا : إنّ معاوية يقول لك : إنّ كنت صادقاً فادفع إلينا قتلة عثمان أو أمكنا منهم . قال لهم علي : تأول القوم عليه القرآن ووقعت الفرقة وقتلوه في سلطانه وليس على ضربهم قود . فخصم علي معاوية . فقال معاوية : إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن ها هنا معنا . فقال علي عليه السّلام : انما الناس تبع المهاجرين والأنصار ، وهم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم وأمر دينهم ، فرضوا بي وبايعوني ، ولست استحل إنّ ادع ضرب معاوية يحكم على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك . فقال : ليس كما يقول فما بال من ها هنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه . فانصرفوا إلى علي عليه السّلام فقالوا له ذلك وأخبروه . فقال علي عليه السّلام : ويحكم هذا للبدريّين دون الصحابة ، ليس في الأرض بدري إلاّ قد بايعني وهو معي أو قد أقام ورضي ، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم فتراسلوا ثلاثة اشهر ، ربيعاً الآخر وجماديين ، فيفزعون الفزعة فيما بين ذلك ، فيزحف بعضهم إلى بعض ، وتحجز القراء بينهم ففزعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين فزعة كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم ولا يكون بينهم قتال "[22].

موقف علي من الغلبة على الماء :

قال نصر : " فلما غلب علي على الماء فطرد عنه أهل الشام بعث إلى معاوية : " أنا لا نكافيك بصنعك هلم إلى الماء فنحن وأنتم فيه سواء " فأخذ كل واحد منهما بالشريعة مما يليه "[23].

اعلان الحرب :

قال نصر : " فلما انسلخ المحرم واستقبل صفر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ، بعث علي نفراً من أصحابه حتى إذا كانوا من عسكر معاوية حيث يسمعونهم الصوت قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادي عند غروب الشمس يا أهل الشام ، إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولون لكم : إنا والله ما كففنا عنكم شكاً في أمركم ، ولا بقيا عليكم ، وإنما كففنا عنك لخروج المحرم ، ثم انسلخ ، وأنا قد نبذنا إليكم على سواء ، إنّ الله لا يحب الخائنين . قال : فتحاجز الناس ، وثاروا إلى أمرائهم "[24].

تقييم معسكر معاوية :

روى نصر بن مزاحم باسناده عن شيخ من بكر بن وائل ، قال : " كنا مع علي بصفين ، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح ، فقال ناس : هذا لواء عقده له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يزالوا كذلك حتى بلغ علياً ، فقال : هل تدرون ما أمر هذا اللواء ؟ إنّ عدو الله عمرو بن العاص أخرج له رسول الله هذه الشقّة ، فقال : " من يأخذها بما فيها " ؟ فقال عمرو : ما فيها يا رسول الله ؟ قال : " فيها إنّ لا تقاتل به مسلماً ، ولا تقربه من كافر " فأخذها ، فقد والله قربه ممن المشركين وقاتل به اليوم المسلمين ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر ، فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عداوتهم منا إلا إنهم لم يدعوا الصلاة "[25].

وروى باسناده عن حبيب بن أبي ثابت قال : " لما كان قتال صفين قال رجل لعمار : يا أبا اليقظان : ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : " قاتلوا الناس حتى يسلموا ، فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم " قال : بلى ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً "[26].

وروى باسناده عن منذر الثوري : " قال عمّار بن ياسر : والله ما أسلم القوم ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً "[27].

وروى باسناده عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : " إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه " قال الحسن : فما فعلوا ولا أفلحوا "[28].

وروى باسناده عن عمرو بن ثابت عن إسماعيل عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : " إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه " قال : فحدّثني بعضهم قال أبو سعيد الخدري : فلم نفعل ولم نفلح "[29].

روى نصر بن مزاحم عن خيثمة قال : قال عبد الله بن عمر : إنّ معاوية في تابوت في الدرك الأسفل من النار ، ولولا كلمة فرعون : " أنا ربكم الأعلى " ما كان أحد أسفل من معاوية "[30].

وروى باسناده عن أبي حرب بن أبي الأسود عن رجل من أهل الشام عن أبيه قال : إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : " شر خلق الله خمسة : إبليس ، وابن آدم الذي قتل أخاه ، وفرعون ذو الأوتاد ، ورجل من بني إسرائيل ردّهم عن دينهم ، ورجل من هذه الأمة يبايع على كفره عند باب لد " قال الرجل : إني لما رأيت معاوية بايع عند باب لد ذكرت قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلحقت بعلي فكنت معه "[31].

وروى باسناده عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : " يموت معاوية على غير الاسلام "[32].

وروي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم " يموت معاوية على غير ملتي "[33].

وروي عن البراء بن عازب قال : " اقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : " اللهم العن التابع والمتبوع . اللهم عليك بالأقيعس " فقال ابن البراء لأبيه : من الأقيعس ؟ قال : معاوية "[34].

دعاء علي في الحرب :

روى نصر بن مزاحم بسنده عن تميم قال : " كان علي إذا سار إلى القتال ذكر اسم الله حين يركب ثم يقول : الحمد لله على نعمه علينا وفضله العظيم ( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ )[35] ثم يستقبل القبلة ويرفع يديه إلى الله ثم يقول : اللهم إليك نقلت الأقدام وأتعبت الأبدان ، وأفضت القلوب ، ورفعت الأيدي ، وشخصت الأبصار . ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ )[36] سيروا على بركة الله ، ثم يقول : الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر ، يا الله يا أحد يا صمد ، يا رب محمّد ، بسم الله الرحمن الرحيم ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ، اللّهم كف عنا بأس الظالمين . فكان هذا شعاره بصفين "[37].

وروى بسنده عن الأصبغ قال : ما كان علي في قتال قط إلا نادى : ( كهيعص )[38].

وروى بسنده عمن حدثه عن علي انه سمع يقول يوم صفين : " اللّهم إليك رفعت الابصار ، وبسطت الأيدي ونقلت الاقدام ، ودعت الألسن ، وأفضت القلوب ، وتحوكم إليك في الأعمال ، فاحكم بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاتحين ، اللهم أنا نشكوا إليك غيبة نبينا وقلة عددنا وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا وشدة الزمان وظهور الفتن ، أعنا عليهم بفتح تعجله ونصر تعز به سلطان الحق وتظهره "[39].

وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين ، فقال عليه السّلام لهم :

" أمّا قولكم : أكل ذلك كراهية الموت ؟ فوالله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ . وأما قولكم شكاً في أهل الشام : فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع إنّ تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي ، وذلك أحب إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها "[40].

علي يطلب مبارزة معاوية :

قال نصر بن مزاحم : " ثم قام علي بين الصفين ثم نادى : يا معاوية - يكررها - فقال معاوية : أسألوه ما شأنه ؟ قال : أحبّ إنّ يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة . فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلما قارباه لم يلتف إلى عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ، علام يقتتل الناس بيني وبينك ، ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له ، فالتفت معاوية إلى عمرو فقال : ما ترى يا أبا عبد الله فيما ها هنا ، أبارزه ؟ فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، واعلم انّه إنّ نكلت عنه لم تزل سُبّة عليك وعلى عقبك وما بقي عربي فقال معاوية : يا عمرو بن العاص ، ليس مثلي يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابن أبي طالب رجلا قط إلا سقى الأرض من دمه ، ثم انصرف راجعاً حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه ، فلما رأى علي عليه السّلام ذلك ضحك وعاد إلى موقفه "[41].

جواب علي حول الاختلاف بين الفريقين :

روى نصر بن مزاحم بسنده عن الأصبغ بن نباته قال : " جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، هؤلاء القوم الذين نقاتلهم : الدعوة واحدة ، والرسول واحد ، والصلاة واحدة ، والحج واحد ، فبم نسميهم ؟ قال : تسميهم بما سماهم الله في كتابه قال : ما كل ما في الكتاب أعلمه قال : أما سمعت الله قال : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض ) إلى قوله ، ( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ )[42] فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحق فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا ، وشاء الله قتالهم فقاتلناهم ، هدى بمشيئة الله ربنا وإرادته "[43].

نماذج من احتدام القتال :

روى محب الدين الطبري بسنده عن صعصعة بن صوحان قال : " خرج يوم صفّين رجل من أصحاب معاوية يقال له كريز بن الصباح الحميري فوقف بين الصفين وقال : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل من أصحاب علي فقتله فوقف عليه ثم قال : من يبارز ؟ فخرج اليه آخر فقتله وألقاه على الأول ، ثم قال : من يبارز ؟ فخرج اليه الثالث فقتله وألقاه على الأخرين ، وقال : من يبارز ؟ فأحجم الناس عنه ، واجب من كان في الصف الأوّل أن يكون في الآخر ، فخرج عليه السّلام على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم البيضاء ، فشق الصفوف ، فلما - انفصل منها نزل عن البلغة وسعى اليه فقتله ، وقال : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه على الأول ، ثم قال : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه إلى الآخرين ، ثم قال : من يبارز ؟ فخرج اليه رجل فقتله ووضعه على الثلاثة ، ثم قال : يا أيّها الناس إنّ الله عزّوجل يقول : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ )[44] ولو لم تبدأوا بهذا لما بدأنا ثم رجع إلى مكانه "[45].

روى محب الدين الطبري بسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنه وقد سأله رجل أكان علي يباشر القتال يوم صفين ؟ فقال : والله ما رأيت رجلا أخرج لنفسه في متلف من علي ، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس ، بيده السيف إلى الرجل الدارع فيقتله "[46].

قال نصر : " ولم يزل عمّار بهاشم ينخسه حتى اشتد القتال ، وزحف هاشم بالراية يرقل بها إرقالا ، وكان يسمى المرقال ، قال : وزحف الناس بعضهم إلى بعض والتقى الزحفان فاقتتل الناس قتالا شديداً لم يسمع الناس بمثله ، وكثرت القتلى في الفريقين كليهما "[47].

قال نصر : " ثم تمادى الناس في القتال فاضطربوا بالسيوف حتى تعطفت وصارت كالمناجل ، وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت وتناثرت أسنتها ، ثم جثوا على الركبات فتحاثوا بالتراب ، يحثو بعضهم في وجوه بعض التراب ، ثم تعانقوا وتكادموا بالأفواه وتراموا بالصخر والحجارة "[48].

وقال نصر : " واقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب ، ما كانت صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة ، ثم إنّ ميسرة العراق كشفت ميمنة أهل الشام فطاروا في سواد الليل وأعاد عبيد الله والتقى هو وكرب - رجل من عكل - فقتله وقتل الذين معه جميعاً ، وإنما انكشف الناس لوقعة كرب فكشف أهل الشام أهل العراق فاختلطوا في سواد الليل وتبدلت الرايات بعضها ببعض ، فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلا الف رجل فاقتلعوه وركزوه من وراء موضعه الأول وأحاطوا به ، ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلا ربيعة ، وعليّ عليه السّلام بينها وهم يحيطون به ، وهو لا يعلم من هم ويظنهم غيرهم ، فلما أذّن مؤذّن عليّ حين طلع الفجر قال علي :

يا مرحباً بالقائلين عدلا * وبالصلاة مرحباً وأهلا

فلمّا صلى علي الفجر أبصر وجوهاً ليست بوجوه أصحابه بالأمس ، وإذا مكانه الذي هو به ما بين الميسرة والقلب بالأمس ، فقال : من القوم ؟ فقالوا : ربيعة ، وقد بتَّ فيهم تلك الليلة ، قال : فخر طويلٌ لك يا ربيعة ، ثم قال لهاشم : خذ اللواء ، فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة ، ثم خرج نحو القلب حتى ركز اللواء به "[49].

قال نصر : " ثم كانت بين الفريقين الواقعة المعروفة ب‍ " وقعة الخميس " وحدّثنا بها عمر بن سعد ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم الهجري ، قال : حدّثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي قال : والله إني لواقف قريباً من علي بصفين يوم وقعة الخميس وقد التقت مذحج وكانوا في ميمنة علي وعك وجذام ولخم والأشعريّون ، وكانوا مستبصرين في قتال علي ، ولقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم ، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس ، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض الأرض وفي القتلى ما الجبال تهد ولا الصواعق تصعق بأعظم هولا في الصدور من ذلك الصوت ، نظرت إلى علي وهو قائم فدنوت منه ، فسمعته يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله ، والمستعان الله " ثم نهض حين قام قائم الظهيرة وهو يقول : " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " وحمل على الناس بنفسه ، وسيفه مجرد بيده ، فلا والله ما حجز بيننا إلا الله رب العالمين ، في قريب من ثلث الليل ، وقتلت يومئذ أعلام العرب ، وكان في رأس علي ثلاث ضربات ، وفي وجهه ضربتان .

وقال نصر : وقد قيل إنّ علياً لم يجرح قط . وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وقتل من أهل الشام عبد الله بن ذي الكلاع الحميري "[50].

دور عمار في الحرب :

روى نصر بسنده عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه ، قال : " إنّ الجنة لتشتاق إلى ثلاثة : عليّ وعمّار وسلمان "[51].

وروى بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال : لما بني المسجد جعل عمّار يحمل حجرين ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه : " يا أبا اليقظان ، لا تشفق على نفسك "

قال : يا رسول الله إني أحب إنّ اعمل في هذا المسجد قال : ثم مسح ظهره ثم قال : " إنك من أهل الجنة تقتلك الفئة الباغية "[52].

وقال نصر : " وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع حتى انتهيا إلى أصحابه . فذهب أبو نوح إلى عمّار فوجده قاعداً مع أصحاب له ، منهم ابنا بديل ، وهاشم ، والأشتر ، وجارية بن المثنى ، وخالد بن المعمر ، وعبد الله بن حجل ، وعبد الله بن العبّاس . وقال أبو نوح : انه دعاني ذو الكلاع وهو ذو رحم فقال : أخبرني عن عمّار بن ياسر ، أفيكم هو ؟ قلت : لم تسأل ؟ قال : أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : " يلتقي أهل الشام وأهل العراق وعمّار في أهل الحق يقتله الفئة الباغية " فقلت : إن عماراً فينا فسألني : أجاد هو على قتالنا ؟ فقلت نعم والله أجد منّي ولوددت أنكم خلق واحد فذبحتكم وبدأت بك يا ذا الكلاع ، فضحك عمّار وقال : هل يسرك ذلك ؟ قال : قلت نعم قال أبو نوح : أخبرني الساعة عمرو بن العاص انه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : " عمّار يقتله الفئة الباغية " قال عمّار : أقررته بذلك ؟ قال : نعم أقررته فأقر : فقال عمّار : صدق وليضرنه ما سمع ولا ينفعه "[53].

روى نصر بسنده عن عمر بن سعد قال : " وفي هذا اليوم قتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه ، أصيب في المعركة وقد كان قال عمّار حين نظر إلى راية عمرو بن العاص : والله إنّ هذه الراية قاتلتها ثلاث عركات وما هذه بأرشدهن ثم قال عمّار :

نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

ثم استسقى وقد اشتد ظمؤه ، فأتته امرأة طويلة اليدين والله ما أدري أعس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن فقال حين شرب :

الجنّة تحت الأسنّة * اليوم ألقى الأحبّه

محمّداً وحزبه

والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وهم على الباطل " ثم حمل وحمل عليه ابن جون السكوني وأبو العادية الفزاري ، فأما أبو العادية فطعنه ، وأما ابن جون فإنه احتز رأسه .

وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمّار بن ياسر : " يقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن " فقال ذو الكلاع لعمرو : ويحك ما هذا ؟ قال عمرو : انه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب ، وذلك قبل أن يصاب عمّار فأصيب عمّار مع علي ، وأصيب ذو الكلاع مع معاوية ، فقال عمرو : والله يا معاوية ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا . والله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمّار لمال بعامة قومه إلى علي ، ولأفسد علينا جندنا "[54].

وقال المسعودي : " وقال عمّار بن ياسر : إني لأرى وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لكنا على الحق وكانوا على الباطل .

وتقدم عمّار فقاتل ثم رجع إلى موضعه فاستسقى ، فأتته امرأة من نساء بني شيبان من مصافهم بعس فيه لبن ، فدفعته اليه ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة ، صدق الصادق ، وبذلك أخبرني الناطق ، وهو اليوم الذي وعدت فيه ثم قال : أيها الناس ، هل من رائح إلى الله تحت العوالي ، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله ، وتقدم وهو يقول :

نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

فتوسط القوم ، واشتبكت عليه الأسنة ، فقتله أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي ، واختلفا في سلبه ، فاحتكما إلى عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال لهما : أخرجا عني ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول : أو قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وولعت قريش بعمار " ما لهم ولعمّار ؟ يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وكان قتله عند المساء وله ثلاث وتسعون سنة ، وقبره بصفين وصلى عليه علي عليه السّلام ولم يغسله ، وكان يغيّر شيبه "[55].

ليلة الهرير :

قال المسعودي : " ونظر علي إلى غسان في مصافهم لا يزولون ، فحرض أصحابه عليهم ، وقال : إنّ هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن يخرج منه النسيم ، وضرب يفلق الهام ويصجّ العظام ، وتسقط منه المعاصم والأكف ، وحتى تشدخ جباههم بعمد الحديد ، وتنتثر لممهم على الصدور والأذقان ، أين أهل الصبر وطلاب الأجر ؟ فثاب اليه عصابة من المسلمين من سائر الناس ، فدعا ابنه محمّداً ، فدفع اليه الراية وقال : امش بها نحو هذه الراية مشياً رويداً ، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فامسك حتى يأتيك أمري ، ففعل ، وأتاه علي ومعه الحسن والحسين وشيوخ بدر وغيرهم من الصحابة وقد كردس الخيل ، فحملوا على غسان ومن يليها ، فقتلوا منها بشراً كثيراً وعادت الحرب في آخر النهار كحالها في أوله ، وحملت ميمنة معاوية وفيها عشرة آلاف من مذحج وعشرون ألفاً مقنعون في الحديد على ميسرة علي ، فاقتطعوا ألف فارس ، فانتدب من أصحاب علي عبد العزيز بن الحارث الجعفي وقال لعلي : مرني بأمرك ، فقال : شد الله ركنك ، سر حتى تنتهي إلى اخواننا المحاط بهم ، وقل لهم : يقول لكم علي : كبروا ثم احملوا ونحمل حتى نلتقي ، فحمل الجعفي ، فطعن في عرضهم حتى انتهى إليهم ، فأخبرهم بمقالة علي ، فكبروا ثم شدوا حتى التقوا بعلي ، وشدخوا سبعمائة من أهل الشام ، وقتل حوشب ذو ظليم وهو كبش من كباش اليمن من أهل الشام ، وكان على راية ذهل ابن شيبان وغيرها من ربيعة الحضين بن المنذر ابن الحارث بن وعلة الذهلي ، وفيه يقول علي في هذا اليوم :

لمن راية سوداء يخفق ظلها * إذا قلت قدمها حضين تقدما

فأمره بالتقدم ، واختلط الناس ، وبطل النبل ، واستعملت السيوف ، وجنهم الليل ، وتنادوا بالشعار وتقصفت الرماح ، وتكادم القوم ، وكان يعتنق الفارس الفارس ويقعان جميعاً إلى الأرض عن فرسيهما ، وكانت ليلة الجمعة - وهي ليلة الهرير - فكان جملة من قتل علي بكفه في يومه وليلته خمسمائة وثلاثة وعشرين رجلا أكثرهم في اليوم ، وذلك أنه كان إذا قتل رجلا كبر إذا ضرب ولم يكن يضرب إلا قتل ، ذكر ذلك عنه من كان يليه في حربه ولا يفارقه من ولده وغيرهم .

وأصبح القوم على قتالهم ، وكسفت الشمس ، وارتفع القتام ، وتقطعت الألوية والرايات ولم يعرفوا مواقيت الصلاة ، وغدا الأشتر يرتجز وهو يقول :

نحن قتلنا حوشبا * لما غدا قد أعلما

وذا الكلاع قبله * ومعبدا إذ أقدما

إن تقتلوا منا أبا اليقظان * شيخاً مسلما

فقد قتلنا منكم * سبعين رأساً مجرما

أضحوا بصفين وقد * لاقوا نكالا مؤلما "[56]

ومن كلام لأمير المؤمنين قال الشريف الرضي : إنّ المشهور أنه قاله لأصحابه ليلة الهرير : " معاشر المسلمين استشعروا الخشية ، وتجلببوا السكينة وعضوا على النواجذ فإنه أنبى للسيوف عن الهام ، وأكملوا اللامة ، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها وألحظوا الخزر ، واطعنوا الشزر ، ونافحوا بالظبا ، وصلوا السيوف بالخطأ ، واعلموا إنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله ، فعاودوا الكر واستحيوا من الفر ، فإنه عار في الأعقاب ونار يوم الحساب ، وطيبوا عن أنفسكم نفساً وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنّب ، فاضربوا ثبجه فان الشيطان كامن في كسره وقد قدم للوثبة يداً ، وأخر للنكوص رجلا فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق[57] ( وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ )[58].

ومن خطبة له عليه السّلام بعد ليلة الهرير ، وقد قام اليه رجل من أصحابه فقال : نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها ، فلم ندر أي الأمرين أرشد ؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال : " هذا جزاء من ترك العقدة ، أما والله لو إني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ، لكانت الوثقى ، ولكن بمن والى من ؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها ! اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي وكلَّت النزعة بأشطان الركيِّ ، اين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه ، وقرؤوا القرآن فأحكموه وهيجوا إلى الجهاد فولهوا وَلَه اللقاح إلى أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وصفاً صفاً ، بعض هلك وبعض نجا ، لا يبشَّرون بالأحياء ولا يُعزّون عن الموتى ، مره العيون من البكاء خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الألوان من السهر ، على وجوههم غبرة الخاشعين أولئك اخواني الذاهبون فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الأيدي على فراقهم ، إنّ الشيطان يسنّى لكم طرقه ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ويعطيكم بالجماعة الفرقة وبالفرقة الفتنة ، فأصدفوا عن نزغاته ونفثاته واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليهم واعقلوها على أنفسكم "[59].

خدعة رفع المصاحف :

قال المسعودي : " وكان الأشتر في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - على ميمنة علي ، وقد أشرف على الفتح ، ونادت مشيخة أهل الشام : يا معشر العرب ، الله في الحرمات والنساء والبنات ، وقال معاوية : هلم مخبأتك يا ابن العاص فقد هلكنا ، وتذكر ولاية مصر ، فقال عمرو : أيّها الناس ، من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه فكثر في الجيش رفع المصاحف ، وارتفعت الضجة ونادوا : كتاب الله بيننا وبينكم ، من لثغور الشام بعد أهل الشام ، ومن لثغور العراق بعد أهل العراق ؟ ومن لجهاد الروم ؟ ومن للترك ؟ ومن للكفار ؟ ورفع في عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف ، وفي ذلك يقول النجاشي بن الحارث :

فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا * عليها كتاب الله خير قرآن

ونادوا علياً : يا ابن عمّ محمّد * أما تتقي أن يهلك الثقلان "[60]

قال ابن الأثير : " فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية : هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة ؟ قال : نعم . قال : نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها : هذا حكم بيننا وبينكم فان أبي بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول : ينبغي لنا أن نقبل ، فتكون فرقة بينهم ، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل . فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله عزّوجل بيننا وبينكم من لثغور الشام بعد أهله ؟ من لثغور العراق بعد أهله ؟ فلما رآها الناس قالوا : نجيب إلى كتاب الله "[61].

علي يحذّر عن الانخداع بهذه الخديعة :

قال المسعودي : " فلما رأى كثير من أهل العراق ذلك قالوا : نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه ، وأحب القوم الموادعة وقيل لعلي : قد أعطاك معاوية الحق ودعاك إلى كتاب الله فاقبل منه ، وكان أشدهم في ذلك اليوم الأشعث بن قيس فقال علي : أيها الناس ، انه لم يزل من أمركم ما أحب حتى قرحتكم الحرب وقد والله أخذت منكم وتركت وإني كنت بالأمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً ، وقد أحببتم البقاء ، فقال الأشتر : إنّ معاوية لا خلف له من رجاله ولك بحمد الله الخلف ، ولو كان له مثل رجالك لما كان له مثل صبرك ولا نصرك ، فأقرع الحديد بالحديد واستعن بالله ، وتكلم رؤساء أصحاب علي بنحو من كلام الأشتر ، فقال الأشعث ابن قيس : أنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس ، ولسنا ندري ما يكون غداً ، وقد والله قلّ الحديد وكلت البصائر ، وتكلم معه غيره بكلام كثير ، فقال علي : ويحكم إنهم ما رفعوها لأنكم تعلمونها ولا يعلمون بها ، وما رفعوها لكم إلا خديعة ، ودهاء ومكيدة ، فقالوا له : انه ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله ، فقال : ويحكم انما قاتلتهم ليدينوا بحكم الكتاب ، فقد عصوا الله فيما أمرهم به ونبذوا كتابه ، فامضوا على حقكم وقصدكم ، وخذوا في قتال عدوكم ، فان معاوية وابن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن النابغة وعددا غير هؤلاء ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن وأنا أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالا ورجالا فهم شر أطفال ورجال "[62].

إصرار الأشعث على التحكيم :

قال المسعودي : " وقال الأشعث : إنّ شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ، قال : ذلك إليك فأته إنّ شئت ، فأتاه الأشعث فسأله ، فقال له معاوية : نرجع نحن وأنتم إلى كتاب الله والى ما أمر به في كتابه : تبعثون منكم رجلا ترضونه وتختارونه ونبعث برجل ، ونأخذ عليهما العهد والميثاق أن يعملا بما في كتاب الله ولا يخرجا عنه ، وننقاد جميعاً إلى ما اتفقا عليه من حكم الله ، وصوّب الأشعث قوله وانصرف إلى علي ، فأخبره ذلك ، فقال أكثر الناس : رضينا وقبلنا وسمعنا وأطعنا ، فاختار أهل الشام عمرو بن العاص ، وقال الأشعث وممن ارتد بعد ذلك إلى رأي الخوارج : رضينا نحن بأبي موسى الأشعري فقال علي : قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن ، إني لا أرى أن أولّي أبا موسى الأشعري فقال الأشعث ومن معه : لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري ، قال : ويحكم ! هو ليس بثقة قد فارقني وخذّل الناس عنّي وفعل كذا وكذا ، وذكر أشياء فعلها أبو موسى ، ثم إنه هرب شهوراً حتى أمنته ، لكن هذا عبد الله بن عبّاس أوليه ذلك ، فقال الأشعث وأصحابه : والله لا يحكم فينا مضريان ، قال علي : فالأشتر ، قالوا : وهل هاج هذا الأمر إلا الأشتر ، قال : فاصنعوا الآن ما أردتم ، وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه ، فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا له القصة ، وقيل لأبي موسى : إنّ الناس قد اصطلحوا فقال : الحمد لله ، قيل : وقد جعلوك حكما ، قال : إنا لله وإنا اليه راجعون "[63].

خاتمة المطاف :

وأخيراً تمّ الاتفاق بين الفريقين على التحكيم ، الأمر الذي كان يحذّر عنه الإمام أمير المؤمنين ، لكنه لم يجد بداً إمام إصرار أهل العراق . . . فكان إنّ نقم الخوارج عليه ، فقادوا فيما بعد حملة عظيمة ضده ، وهذا ما سنراه في الفصل القادم إنّ شاء الله .

النزاع على السلطة بين معاوية وعمرو بن العاص :

قال المسعودي : " فلما انصرف أبو موسى انصرف عمرو بن العاص إلى منزله ، ولم يأت إلى معاوية فأرسل إليه معاوية يدعوه فقال : انما كنت أجيؤُك إذ كانت لي إليك حاجة ، فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق إنّ تأتينا ، فعلم معاوية ما قد دفع اليه ، فخمر الرأي وأعمل الحيلة ، وأمر معاوية بطعام كثير فصنع ، ثم دعا بخاصته ومواليه وأهله ، فقال : إني سأغدوا إلى عمرو ، فإذا دعوت بالطعام فدعوا مواليه وأهله فليجلسوا قبلكم فإذا شبع رجل منهم وقام فليجلس رجل منكم مكانه ، فإذا خرجوا ولم يبق في البيت أحد منهم فاغلقوا باب البيت ، واحذروا إنّ يدخل أحد منهم إلا إنّ آمركم .

وغدا إليه معاوية وعمرو جالس على فراشه ، فلم يقم له عنها ولا دعاه فجاء معاوية وجلس على الأرض ، واتكأ على ناحية الفراش وذلك إنّ عمرواً كان يحدّث نفسه انه قد ملك الأمر واليه العقد يضعها فيمن يرى ، ويندب للخلافة من يشاء فجرى بينهما كلام كثير ، وكان مما قال له عمرو : هذا الكتاب الذي بيني وبينه عليه خاتمي وخاتمه ، وقد أقر بأن عثمان قتل مظلوماً ، وأخرج علياً من هذا الأمر ، وعرض علي رجالا لم أرهم أهلا لها ، وهذا الأمر إلى أن استخلف من شئته ، وقد أعطاني أهل الشام عهودهم ومواثيقهم ، فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عما كانوا عليه ، وضاحكه وداعبه ، ثم قال : يا أبا عبد الله هل من غداء ؟ قال : أما شئ يشبع من ترى فلا والله ، فقال معاوية : هلم يا غلامي غذاءك فجئ بالطعام المستعد ، فوضع ، فقال : يا أبا عبد الله ، أدع مواليك وأهلك ، فدعاهم ، ثم قال له عمرو : وادع أنت أصحابك ، قال : نعم يأكل أصحابك أولا ثم يجلس هؤلاء بعد فجعلوا كلما قام رجل من حاشية عمرو قعد موضعه رجل من حاشية معاوية ، حتى خرج أصحاب عمرو وبقي أصحاب معاوية ، فقام الذي وكله بغلق الباب ، فأغلق الباب ، فقال له عمرو : فعلتها ، فقال : أي والله بيني وبينك أمران فاختر أيهما شئت : البيعة لي أو أقتلك ، ليس والله غيرهما قال عمرو : فأْذن لغلامي وردان حتى أشاوره وانظر رأيه ، قال : لا تراه والله ولا يراك إلا قتيلا أو على ما قلت لك ، قال : فالوفاء إذن بطعمة مصر قال : هي لك ما عشت فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه ، واحضر معاوية الخواصّ من أهل الشام ، ومنع إنّ يدخل معهم أحد من حاشية عمرو فقال لهم عمرو : قد رأيت إنّ أبايع معاوية ، فلم أر احداً أقوى على هذا الأمر منه ، فبايعه أهل الشام وانصرف معاوية إلى منزله خليفة.

مقارنة بين فعل علي يوم الجمل وفعله يوم صفين :

قال المسعودي : " وقد تكلم طوائف من الناس ممن سلف وخلف من أهل الآراء من الخوارج وغيرهم في فعل علي يوم الجمل وصفين ، وتباين حكمه فيهما ، من قتله من أهل صفين مقبلين ومدبرين واجهازه على جرحاهم ، ويوم الجمل لم يتبع مولياً ، ولا اجهز على جريح ، ومن القى سلاحه أو دخل داره كان آمناً ، وما أجابهم به شيعة علي في تباين حكم علي في هذين اليومين لاختلاف حكمهما ، وهي أن أصحاب الجمل لما انكشفوا لم يكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنما رجع القوم إلى منازلهم ، غير محاربين ولا منابذين ولا لأمره مخالفين ، فرضوا بالكف عنهم ، وكان الحكم فيهم رفع السيف إذ لم يطلبوا عليه أعواناً . وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة ، وإمام منتصب ، يجمع لهم السلاح ويسنّى لهم الأعطية ويقسم لهم الأموال ويجبر كسيرهم ويحمل راجلهم ويردهم ، فيرجعون إلى الحرب ، وهم إلى إمامته منقادون ولرأيه متبعون ، ولغيره مخالفون ولإمامته تاركون ، ولحقّه جاحدون ، وبأنه يطلب ما ليس له قائلون ، فاختلف الحكم لما وصفنا ، وتباين حكماهما لما ذكرنا ، ولكل فريق من السائل والمجيب كلام يطول ذكره ويتسع شرحه "[64].

 

[1] وقعة صفين ص 3 . اعتمدنا في الشطر الأكبر من هذا الفصل على كتاب ( وقعة صفين ) لنصر بن مزاحم المنقري . لأنه أقدم نص جامع في هذا الموضوع . وقال ابن أبي الحديد المعتزلي : " ونحن نذكر ما أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين في هذا المعنى ، فهو ثقة ثبت ، صحيح النقلّ ، غير منسوب إلى هوىً ولا ادغال ، وهو من رجال أصحاب الحديث " . ( شرح نهج البلاغة ، ج 2 ص 206 تحقيق أبي الفضل إبراهيم ) .

[2] وقعة صفين ص 55 .

[3] الإمامة والسياسة ج 1 ص 94 .

[4] الإمامة والسياسة ج 1 ص 95 . ورواه مع اختلاف يسير في الألفاظ : نصر بن مزاحم في وقعة صفين ص 57 .

[5] وقعة صفين ص 62 .

[6] وقعة صفين ص 92 .

[7] وقعة صفين ص 103 .

[8] وقعة صفين ص 121 .

[9] وقعة صفين ص 127 .

[10] وقعة صفين ص 131 .

[11] وقعة صفين ص 146 - 147 .

[12] وقعة صفين ص 146 - 147 .

[13] وقعة صفين ص 151 - 152 .

[14] وقعة صفين ص 151 - 152 .

[15] وقعة صفين ص 156 .

[16] وقعة صفين ص 160 - 163 .

[17] وقعة صفين ص 160 - 163 .

[18] نهج البلاغة ص 88 .

[19] وقعة صفين ص 166 .

[20] وقعة صفين ص 167 .

[21] وقعة صفين ص 187 .

[22] وقعة صفين ص 188 .

[23] وقعة صفين ص 193 .

[24] وقعة صفين ص 202 .

[25] وقعة صفين ص 215 - 216 .

[26] نفس المصدر السابق .

[27] نفس المصدر السابق .

[28] نفس المصدر السابق .

[29] نفس المصدر السابق .

[30] نفس المصدر السابق .

[31] وقعة صفين ص 217 .

[32] نفس المصدر السابق .

[33] نفس المصدر السابق .

[34] وقعة صفين ص 217 .

[35] سورة الزخرف : 13 - 14 .

[36] سورة الأعراف : 89 .

[37] وقعة صفين ص 230 - 231 .

[38] وقعة صفين ص 230 - 231 .

[39] وقعة صفين ص 230 - 231 .

[40] نهج البلاغة ص 91 .

[41] وقعة صفين ص 274.

[42] سورة البقرة : 253 .

[43] وقعة صفين ص 322 .

[44] سورة البقرة : 194 .

[45] الرياض النضرة ج 3 ص 260 .

[46] المصدر .

[47] وقعة صفّين ص 238 - 304 .

[48] وقعة صفين ص 238 - 304 .

[49] نفس المصدر السابق ص 330 .

[50] وقعة صفين ص 362 و 323 و 324 .

[51] وقعة صفين ص 362 و 323 و 324 .

[52] وقعة صفين ص 362 و 323 و 324 .

[53] وقعة صفّين ص 335 .

[54] وقعة صفين ص 340 .

[55] مروج الذهب ج 2 ص 391 .

[56] مروج الذهب ج 2 ص 398 .

[57] نهج البلاغة - صبحي الصّالح ص 97 .

[58] سورة محمّد : 35 .

[59] نهج البلاغة ص 177 .

[60] مروج الذهب ج 2 ص 400 .

[61] الكامل لابن الأثير ج 3 ص 316 .

[62] مروج الذهب ج 2 ص 400 وفي الكامل في التاريخ ج 3 ص 316 : " . . أنا أعرف بهم منكم . قد صحبتهم أطفالا ثم رجالا فكانوا شرّ أطفال ورجال ، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعة ووهناً ومكيدة . فقالوا له : لا يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله " .

[63] مُروج الذهب ج 2 ص 401 .

[64] مُروج الذهب ج 2 ص 421 .




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.