أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-04
1075
التاريخ: 9-1-2021
1887
التاريخ: 2023-05-20
786
التاريخ: 21-9-2020
1676
|
قد يكون ابن الحائك الهمداني أول عالمِ عربي يُقدِّم لنا دليلًا تجريبيا علميا على وجود علاقة بين الهواء الجوي وعملية الاحتراق. لكنه قبل ذلك قام بإجراء تصنيف للمواد حسب قابليتها للاحتراق، وهو تصنيفٌ مُختصر عن تصنيف أرسطو؛ فقد قسم المواد إلى قابلة للاحتراق (مثل القطن والحطب والنفط)، وغير قابلة للاحتراق (مثل الحجر)، ويُفسر ذلك تفسيرًا جُزيئيًّا منطقيًّا، فالروابط والذرات بين هذين النوعين مختلفة.
قال الهمداني: «ثم تفعل الطبيعة كل واحدٍ منها على قدر الانفراد فعلا من الأفعال في كلية الأركان وفي أجزائها ويقبل كل رُكن وكل جزء من أجزائه قوى طبائعها قبولًا مختلفًا، على قدر ما في طبيعة كل ركن وكل جزء من تلك الطبيعة من القبول، كجميع ما يقبل النار، فإنه متفاضل في القبول على قدر ما فيه من أجزاء النار كالحُراق 45 يقبل القادِحَة التي لا يقبلها غيره والكرة التي تقبل داخل الزند، ثم الكرشفة 46 التي تقبل شعل السراج عن بعد من محاذاته، والكبريت والنفط، ثم بعد ذلك الحَلْفا 47 والتراع 48 والسخت 49 من الحطب، ثم الجَزْلُ 50 حتى يبلغ الدَّوْحَ، 51 وكذلك أشياء أخرى لا تقبل النار قبول الحطب؛ إذْ ليس فيها من أجزاء ما فيه، ولكن قبول صدفة، كالحجرة التي تصير نورةً 52 والحَجَر الذي يصيرُ حديدًا، والحديد الذي يصير أُسْرُبًا 53 وَمَرتكَا 54 وفضَّة، والطين الذي يَصِيرُ فخَّارًا، وآخر يصير حجرًا مثل الآجر المحترق. ويقبل الماء النار عن حاجز وتقبل النار الهواء وتقوى به لاتصالها، ولا تبقى في موضع لا هواء فيه».55
وقد أكَّد على ملاحظته الأخيرة بقوله: «وتقبل النَّار الهواء وتقوى به لاتصالها ولا تبقى في موضع لا هواء فيه» في كتاب «الإكليل» 56 في باب القبوريات، وذلك عندما انتقد خبر رجلين دخلا مغارةً وأمضيا فيها وقتًا طويلًا، وهما يحملان شمعة يستدلان بها على الطريق المتعرجة العميقة وقال: «هذا الحديث فيه زيادة لا تُمكن؛ لأنهم ذكروا المسلك في المغارة ثم دخولهم منها إلى هوة وأبيات، فقل به النسيم، ويعجز بها التنفس، ويموت فيها السراج، ومن طباع النفس وطباع السِّراج أن يحيا ما اتصل بالنسيم، فإذا انقطع في مثل هذه المغارات العميقة، والخروق المستطيلة، لا يثبت فيها روح ولا سراج .»57
ثم يطرح أمثلة واقعية أخرى حدثت مع أشخاص لم يعرفوا كيف يُفسرون انطفاء السراج، فنَسَبوا السبب إلى الجن: «ومن ذلك خَرقُ قلعة ضهر وهو مستطيل جدًّا، ويقول الناس: فيه مال عظيم، وقد دخله جماعة بالمصابيح والشمع أحدهم أبو محجن بن طريق غلام يعفر وكان أميرًا يطلب ما فيه من ضنين، فلما تغلغلوا حصُرَت السرج في موضع انقطاع النسيم، ثم طفت، وأخذ حاملها بالكظم فنكصوا، وهم يرون أنَّ الجن أطفأت السرج وليس كذلك. ولعل هذا الخَرْق لا شيء فيه، وإذا بلغت السرج موضع انقطاع النسيم تنشَّطت السرج لأن النار لاحقة للهواء؛ إذْ هو مجانس لعنصرها، والدليل على ذلك: أنك لو أخذت سراجًا وملأته زيتا صافيًا أو سَليطًا، 58 وصيَّرت فيه ذبالة 59 جديدة، وألقيت على ظهر مستوي السطح، ثم قلبت على السراج مكبا لا خلل فيه، وطينت على ما يتخلل من النسيم من بين خروقها ووجه السطح، لمات السراج مكبًا إذا انقطع عنه النسيم».60
أراد الهمداني أن يُقدِّم دليلًا تجريبيًّا على أن الهواء يقوم بدور مهم في عملية الاحتراق، فافترض إشعال سراج بفتيل جديد، ثم وضع وعاءً مقلوبًا عليه، بحيث يكون فم الوعاء للأسفل ومُغلقًا بإحكام من أسفله فلا يُمرِّر أي نسمة هواء للداخل، عندها لن يستمر السراج بالاشتعال طويلًا، وإنما سينطفئ. هذه التجربة سبق بها أعضاء الجمعية الملكية البريطانية (الفيزيائيان روبرت بويل وروبرت هوك والطبيب ريتشارد لوير بأكثر من 700 سنة، عندما أجروا تجاربهم على شمعة وفأر؛ حيث انطفأت الشمعة ونفق الفأر. (مصدر الشكل من رسم المؤلف).
ثم يقدِّم الهمداني دليلًا عمليًّا إضافيًا لضرورة وجود الهواء من أجل عملية الاحتراق: «ومن ذلك أن التنُّور تُسجَر 61 للهريس والفرني والمشوي من الحملان والجدار ويكثر جمرها، فإذا خُتِمَ عليها طفئَت بالنار، ورجع الجمر فحما، ولم يبق النضج إلا بالتهر،ؤ 62 فإذا فتَحتَ لم تجد نارًا، ولم تجد إلا حرارة التهر الواصلة من الجدار وأسفل التنور.»63
الصفحات التي وردت فيها أفكار الهمداني في الاحتراق (مصدر الصورة: الهمداني، الحسن بن أحمد، كتاب الإكليل، ج 8، مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون، رقم (oct382)، ص61-62.)
وبذلك فإنَّ الهمداني برهن بشكل قاطع على وجود علاقة الهواء الجوي باحتراق الأجسام، قبل ظهور أي نظرية مماثلة في أوروبا بنحو ستة قرون.
_________________________________________________
هوامش
45- جاء في لسان العرب: «العُشَرُ : شَجَرٌ لَهُ صَمْع وَفِيهِ حُرَّاقٌ مِثْلُ الْقُطْنِ يُقْتَدَح بِهِ. العُشْرِ مِنِ العِضاه وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الشجَرِ، وَلَهُ صَمْغْ حُلْوٌ، وَهُوَ عَرِيضُ الْوَرَقِ يَنْبُتُ صُعُدًا فِي السَّمَاءِ، وَلَهُ سُكر يَخْرُجُ مِنْ شُعَبِهِ وَمَوَاضِعِ زَهْرِه، يُقَالُ لَهُ سُكَّرُ العُشَر، وَفِي سُكَّرِه شيءٌ مِنْ مَرَارَةٍ، وَيَخْرُجُ لَهُ نُّفَّاخُ كَأَنها شَقاشِقُ الْجِمَالِ التِي تَهْدِرُ فِيهَا، وَلَهُ نَوْرٌ مِثْلُ نورِ الدَّفْلِى مُشْرِبٌ مُشرق حَسَنُ المَنظَرِ وَلَهُ ثَمَرٌ»، ج 4، ص574.
46- يقصد القطن.
47- «الْحَلْفَاءُ نَبَاتٌ حَمْلُه قصَبُ النُّشَّابِ. قَالَ الأَزهري : الحَلْفَاء نَبْتٌ أَطْرافُه مُحَددةٌ كَأَنَّهَا أَطْرافُ سَعَفِ النخل وَالْخُوصِ»، لسان العرب، ج 9، ص 56.
48- «اليراعُ فَراشةٌ إِذَا طارَتْ فِي الليْلِ، لَمْ يَشُك مَن لَمْ يَعْرِفْها أَنها شَرَرةٌ طارتْ عَنْ نارِ»، لسان العرب، ج 1، ص297.
49- يقصد البقايا.
50- يقصد الحطب اليابس.
51- «الدَّوْحةُ: الشجَرَةُ الْعَظِيمَةُ الْمُتسِعَةُ مِنْ أَي الشجَرِ كَانَتْ»، لسان العرب، ج 2، ص436 .
52- يقصد تصبح زهرة.
53- الرصاص الأبيض تحديدًا.
54- «المرتك فارسي معرَّب. وفي القاموس المرتك: المردَاسَنجُ. وأراد الآنك؛ أي الرصاص أسودَه أو أبيضَه» لسان العرب، ج 10، ص486.
55- الهمداني، الحسن بن أحمد، كتاب الجوهرتين العتيقتين المائعتين من الصفراء والبيضاء (الذهب والفضة)، ص88.
56- الهمداني، الإكليل، ج 8، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، دمشق، 1979م، ص213-218.
57- الهمداني، الحسن بن أحمد، كتاب الإكليل، ج 8، مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون، رقم (oct382)، ص 61.
58- «السليط عِنْدَ عَامِةِ الْعَرَب الزيْتُ، وَعِنْدَ أَهل الْيَمَنِ دُهْنُ السَّمْسِم»، لسان العرب، ج 7، ص320.
59- 59 «الذُّبَالَةُ: الفَتِيلة التي تُسرج»، لسان العرب، ج 11، ص256.
60- الهمداني، الحسن بن أحمد، كتاب الإكليل، ج 8، مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون، رقم (oct382)، ص 61-62.
61- يقصد مُلثَت نارًا.
62- يقصد بالتهر هذا الرمل.
63- الهمداني، الحسن بن أحمد ، كتاب الإكليل، ج 8، مخطوطة في مكتبة جامعة برنستون، رقم (oct382)، ص 61-62.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|