العمق الجغرافي والحرب الحديثة

تعمل الطائرات الحديثة على اضعاف مبدأ العمق الجغرافي، من حيث قدرتها على نقل ميدان المعركة الى عمق الميدان الجغرافي للدول المتحاربة. كما ان التطور التكنولوجي الذي طرأ على صناعة الصواريخ وتزايد اهميتها في نقل المعركة الى عمق ارض العدو ، ادى إلى تقليص اهمية البعد الجغرافي الاستراتيجي للدول الى حد كبير. فتمتاز الصواريخ البالستية، والطائرات الحديثة، بالقدرة على الوصول الى الهدف، دون الحاجة الى المرور بميادين المعارك. ولذلك فان استخدامها لا يتأثر بالنتائج القتالية في ميدان المعركة. ذلك انه يمكن لطرف منهزم في ميدان المعركة اطلاق الصواريخ وارسال طائرته الحربية الى المناطق الحيوية والتجمعات السكانية للطرف المنتصر في الحرب. ولعل امتلاك الصواريخ يشجع على القيام بالضـربة الاستباقية، او الهجوم الاستباقي لسببين: يتعلق الأول بالمرونة والقدرة التي تمنحها الصواريخ للدول في الوصول الى اعماق الدول المعادية، والثاني يتعلق بالتخطيط لتـدمـيـر منصات الصواريخ والطائرات في المطارات، لمنعها من القيام بهجوم وقائي عليها.

وتظهر أهمية العمق الجغرافي حتى في الحروب الحديثة، من كونها توفر ملاذا للأسلحة النووية بعيد المنال، سواء كان ذلك في البر، البحر، او حتى في الفضاء الخارجي، الذي تحول الى مـيـدان للتـسـابـق في التسلح، خاصة من قبل الولايات المتحدة في مـواجـهـة الاتحاد السـوفـيـتـي قبل سقوطه. ويرى بعض القادة العسكريين الامريكيين، ان الحرب الحديثة لا تتطلب عمقا جغرافيـا كـبـيـرا، ويرى بعض خبراء وزارة الخارجية الامريكية لشؤون الشرق الأوسط، انه لم تعد هناك أية أهمية للعمق الجغرافي الاستراتيجي في ظل التطورات الحديثة الوسائل التقنية المستخدمة في الحرب. وهذا ما اشار اليه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اعقاب حرب الخليج ضد العراق عام 1991، حيث قال ان الجغرافيا وحدها لا يمكن أن توفر الأمن لإسرائيل". مشيرا الى ان التكنولوجيا الحربية الحديثة جعلت من السهل الوصول الى اعماق العمق الجغرافي الاستراتيجي حتى من قلب ميدان المعركة للجيش المهاجم. وهذا ما أبطل مفعول احد قواعد الحرب التي مررها الينا القائد العسكري الفذ کلاوزفتز، والقائل بانه لا يمكن لدولة ان تتصف ساحة معركة العدو من ساحة معركتها. ويرى العميد الاحتياط الالماني ارنست فربر، الذي عمل قائدا أعلى للقوات الحلفاء في وسط اوروبا بين عامي 1973 و 1975، ان المساحة الجغرافية والوقت وقوة التسلح يجب ان تكون اسس الاستراتيجية العسكرية الحديثة. وتشمل المساحة الجغرافية نوعية السطح الجغرافي وصفاته المختلفة من حيث اهميته الحيوية واستخداماته العسكرية. ومن ضمن ذلك شبكات الطرق البرية والبحرية، اضافة الى الحواجز الطبيعية والصناعية، والأهمية السياسية للمنطقة الجغرافية.