أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-1-2020
1676
التاريخ: 22-3-2018
4906
التاريخ: 4-6-2017
18120
التاريخ: 26-7-2017
3274
|
قال الفارابي: ان الاقاويل الشعرية كاذبة بالكل لا محالة(1)، ولا ريب انه كان يزيد تمييزها من ضروب الاقاويل الاخرى، البرهانية، والجدلية، والخطابية، من حيث اعتماد الاقاويل الشعرية على التخييل، ولم يكن يريد بها سوءاً، لأنها في النهاية ضرب من القياس (يرجع إلى نوع من انواع السولوجسموس او ما يتبع السولوجسموس، واعني بقوله: ما يتبعه الاستقراء، والمثال ، والفراسة وما أشبهها ، مما قوته قوة قياس)(2) ، على ان النقاد لأمر ما فهموا من الكذب شيئاً آخر، فظنوا انه نقيض الصدق وافضى هذا الغلط، فضلاً عن اقتران مصطلح الصدق بالمدلول الديني الخلقي، إلى التخبط طويلاً بين القول: ان الكذب هو غاية الشعر، وبين القول: ان الصدق هو غاية الخلق، وكأن ثمة تعارضا بين الشعر والخلق، ويلوح ان منشأ الغلط يرجع إلى الخلط بين مفهوم الخيال، ومفهوم الكذب، على نحو يوهم الوحدة، وربما كان ارسطو مصدر هذا الخلط، لأنه ازرى بالخيال اذا لم يخضع لوصاية العقل وجاء ابن سينا فحذر منه(3)، ولكن ارسطو كان قد وضع قواعد المحاكاة بما يكفل لها تصوير الفعل الانساني كما هو كائن، أو محتمل من خلال غاية خلقية تطهيرية، فلا تعارض بين الشعر والخلق في معيار الفن، ثم أن الصدق ــ كما يقول "كروتشه" ــ انما يفرض باسم الجمال، ولا يفرض باسم الخلق، لأنه تعبير عن عدم خداع الذات، وليس تعبيراً عن عدم خداع الجار(4)، بيد ان النقاد العرب انكروا ان يوصف الشعر بالصدق الجمالي او الاخلاقي وخيل اليهم ان بلوغ غاية الفن يقتضي الغلو في طلب المثل الاعلى من صفات الشيء دون طلب الصادق منها، ويحار المرء في تعليل ما يلوح من تناقض بين إيثار النقاد للمحاكاة الواضحة الصادقة، وبين ذهابهم إلى جعل الكذب قيمة شعرية، فإن لم يكن الكذب فالغلو، وإلا فيكف نفر انكارهم للتشبيه البعيد من ناحية، وولعهم بالغلو البعيد من ناحية أخرى؟ أفما كان يجدر بمن اشترط وضوح المحاكاة ان يشترط صدق المحاكي؟ أتراهم امنوا بالصدق الجزئي في التشبيه، والكذب الكلي في الشعر؟ اغلب الظن ان النقاد كانوا يميلون إلى ان يروا في الشعر مجلى مثل مجردة، لا بد ان يكشف عنها الشاعر سواء اكان صادقاً ام لم يكن بل الاولى إلا يكون صادقاً لأن اعذب الشعر اكذبه كما يقولون، على انهم آثروا فيما يتعلق بالتشبيه، ان يكون قريباً صادقاً، والغريب ان كلا الامرين مما يضعف خيال الشاعر بما يفرضه من قيود، ولو انهم عكسوا فاشترطوا "الكذب" في التشبيه بمعنى البعد و "الصدق" في الشعر بمعنى القرب لكان اولى، وربما قيل: ان مذهبهم في الكذب وجعله مرادفاً لما يشبه معنى الخيال، يناقض ما يقال من ولعهم بمحاكاة الظاهر من خلال قيود تضعف الخيال، وليس الامر كذلك، لانهم ارادوا بالكذب ان الشاعر ليس ملزما بالصدور عن موضوع بعينه ما دام يجيد صياغة اي موضوع، وكما لا يعيب فن النجار رداءة الخشب كذلك لا يعيب الشاعر كذب الموضوع ولا ريب ان هذا المفهوم يرجع إلى اعتبار التصوير وحده معيار الفن مهما كان موضوع التصوير، ولا بد للشاعر اذن من ان يغدوا اسير الشكلة من ناحية والكذب من ناحية اخرى، فلا يبالي بأن يكون شعره مرآة ذاته اذا كان مرآة الاشياء، ولا ببالي بأن يجعل خاتمه من حديد اذا كان يحسن صياغته، وربما رجع بنا ذلك إلى مفهوم افلاطون الذي جعل الشاعر حامل مرآة يجلو بها طبيعة "الشيء" لا طبيعة "النفس" ولم يجعله يحاكي بالكلمة ما يحاكيه الموسيقار باللحن من صادق المشاعر.
على ان النقاد، اذ
زينوا للشاعر ان يغفل التعبير عن نفسه، ليجيد التعبير عن فنه لم يدعوا لم الخيار
في طابع الفن نفسه، فثمة اعراف وتقاليد لا بد ان يخضع لها كما يحضى بالرضا، اجل ان
عليه ان يحاكى الشيء من خلال قيود النقاد، وذلك ما يحرمه من عالم الشعور الذاتي
اللامتناهي، ويجعله حبيس عالم الاشياء المتناهي، فلا يجد إلا ان يبدئ ويعيد في
وصفه وصفاً ظاهرياً وعلى هذا النحو كان اتجاه النقد إلى جعل الكذب غاية فنية ذا اثر
بالغ في حرمان الشعر ــ غالباً ــ من التعبير الذاتي الصادق، وما ينطوي فيه من
اخيلة قد تبدو في ظاهرها متناقضة مع رسوم العقل ، بيد انها تكون منسجمة مع خلجات
النفس، وقد رأينا كيف انكر النقاد على ابي تمام ان يجعل للملام ماء والملام في
عرفهم امر مكروه، أليسوا قد درجوا على ان يجعلوا الماء للصبابة فحسب؟ وهكذا،
........ أو لعوا به من الكذب اية قيمة خيالية نفسية، لاقترانه ــ غالباً ــ
بالتصوير وكأن التصوير ينبغي ان ينصب على الشيء وحده دون الذات، اما علة ....
فلعلها رغبتهم في اخضاع الشعر لتقاليد معينة، فأما الشيء المحسوس فيمكن اخضاعه،
واما الذات فلا سبيل إلى اخضاعها، اذن فلتهمل محاكاة الذات، وليقل الشاعر ما يشاء،
ولينقضه فيما بعد إذا شاء، ولكن شريطة ان يتقن تصويره دائماً.
لم تكن الحقيقة
اذن غاية النقاد في الشعر، وانما الزخرف، وإذا كان افلاطون قد ازرى بالشعراء لما
يشوهونه من الحقائق سواء فيما يتعلق بوصف الالهة ام فيما يتعلق بوصف الاشياء، وإذا
كان ارسطو يرى ان الحقيقة هي غاية الشعر النهائية، وان الشاعر إذا ابتعد عنها
قليلاً، فلكي يبتغي سبيل الاقناع الفني(5)، فإن النقاد العرب اختاروا
جوار افلاطون مع فارق جوهري هو انهم لم يزروا بالشعر لما يشوه من حقائق، وانما
ذهبوا إلى نقيض ذلك فأثروا هذا التشويه، وجعلوا للشاعر ان يكذب، وجعلوا الكذب من
غاية الفن فكأنهم كانوا يؤكدون ما تذرع به افلاطون حين اعرض عن الشعر، بيد ان ما
اعتبره هو عيباً اعتبروه هم فناً.
وربما كان وقوع
النقد بين قطبي الصدق والكذب، هو ما افضى بالنقاد إلى ايثار جانب الكذب ظناً منهم
ان الصدق قرين المألوف، فلقد اجمع البلاغيون على ان الخبر اما صادق، وما كاذب، ثم
اختلفوا في التفسير، وانتهوا إلى ان الخبر الصادق هو ما طابق حكمه الواقع والكاذب
هو ما لم يطابق الواقع، أما مطابقة الواقع، فقد فهمت على انها ابتذال، فبقي ان عدم
المطابقة هو الابداع، والغريب انه كان ينبغي لهم ــ قياساً على ايثارهم مطابقة التشبيه ــ ان يؤثروا
مطابقة الواقع، فيطلبوا الصدق، بيد انهم ظنوا ان مطابقة الواقع لا تقتضي ابداعاً،
ومن ثم فإن الابداع يقتضي غلوا وربما كان مرد ذلك ايضاً ان مفهوم الشعر يتعلق
بتصوير مثل مجردة، اكثر مما يتعلق بالتعبير عن مشاعر ذاتية حقاً ان الغلو في تصوير المثل المجردة على نحو كاذب امر غير مقبول، وانما فبله النقاد ــ
بل حضوا عليه ــ لأنه يؤدي إلى الاغراب فكأنهم اذ انكروا الاغراب في التشبيه قبلوه
في غير التشبيه وها هنا فقد فاتهم مبدأ كان يمكن ان يخلصهم من ثنائية الصدق
والكذب، وهو مبدأ قال به الجاحظ حين ذهب إلى ان من الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب،
وطبعاً، ان البلاغيين الذين نظروا في الامر نظرة منطقية، لا نظرة فنية انكروا
مذهبه هذا، وافاضوا في الرد عليه قال القزويني في "الايضاح" (اختلف
القائلون بانحصار الخبر في الصدق والكذب في تفسيرها، ثم اختلفوا، فقال الاكثر
منهم: صدقه مطابقة حكمه للواقع، وكذبه عدم مطابقة حكمه له، هذا هو المشهور، وعليه
التعويل . . .وانكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين، وزعم انه ثلاثة اقسام: صادق،
وكاذب، وغير صادق ولا كاذب لأن الحكم اما مطابق للواقع مع اعتقاد الخبر له او
عدمه، واما غير مطابق مع الاعتقاد او عدمه، فالأول: اي المطابق مع الاعتقاد هو
الصادق، والثالث: أي غير المطابق مع الاعتقاد، وغير المطابق مع الاعتقاد هو
الكاذب، والثاني والرابع، اي المطابق مع عدم الاعتقاد، وغير المطابق مع الاعتقاد،
كل منهما ليس بصادق ولا كاذب، فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده والكذب
عدم مطابقته مع اعتقاده، وغيرهما ضربان: مطابقته مع عدم اعتقاده، وعدم مطابقته مع
عدم اعتقاده) (6). والحق ان مذهب الجاحظ فيما هو ليس بصادق، ولا كاذب
كان يمكن ان يخلص الخيال من معضلة الحيرة بين الصدق والكذب، فهو يمثل بذور ما عرف
فيما بعد بالتخييل الذي لا ينطوي على صدق أو كذب، لأنه اداة فنية يصور بها الشاعر
فكرة ذهنية، بحيث لا يمكننا القول: ان هذا الاداة صادقة او كاذبة، لأنها ليست
حكماً على الواقع وانما هي تصوير للفكرة، وهكذا فقد فات النقاد ان يفيدوا من هذا
المذهب ما يقوي ملكة الخيال بعيداً عن مشكلة الصدق والكذب.
ويحار المرء في
معرفة ما نسبه "قدامة" من القول بعذوبة الكذب إلى الاغريق حين قال:
"ان الغلو عندي اجود المذهبين، وهو ما ذهب إليه اهل الفهم بالشعر والشعراء
قديماً وقد بلغني عن بعضهم انه قال: احسن الشعر اكذبه، وكذا نرى فلاسفة اليونانيين
في الشعر على مذهب لغتهم)(7) اما الدكتور طه حسين فيرى انه اذا كان
ارسطو قد اجاز الغلو حقاً، فإن قدامة هو الذي مضى أجاز الكذب: "كذلك يستغل
قدامة نظرية اخرى لأرسطو في كثير من الاقتناع بصحتها، تلك نظرية الغلو الذي يجيزه
ارسطو على ما هو معروف للشعراء في جميع الاحوال، وللخطباء في احوال خاصة فيعد قدامة
الغلو ما يمتاز به فحول الشعراء، وينحى على انصار الاعتدال، ومن يرون الاقتصار على
الحد الاوسط زاعماً انهم ليس لهم ان يطلبوا إلى الشاعر، من حيث هو شاعر، ان يتوخى
الصدق، بل ولا ان يتقيد بالأخلاق نفسها) (8) واما الدكتور محمد غنيمي
هلال فينكر انكاراً تاماً نسبة القول بكذب الشعر إلى ارسطو، ويعده خلطاً وقصوراً،
لأن ارسطو انما تكلم على المبالغة من خلال الاسلوب: (فهو لا يقصد مطلقاً المبالغة
التي تصل إلى حد تزييف الحقائق، وإلا كان هذا ضاراً بالتصوير ــ .. انما قصد إلى
تصوير احساس او شعور خاص بمعنى جزئي، اي الإيحاء بقوة المعنى في نفس القائل، قوة
تؤديها المبالغة خير اداء والمعنى في ذاته بعد ذلك صحيح . . . وعلى ذلك فالاستشهاد
بما ورد في كتاب فن الشعر على تبرير التناقض في كلام شاعر في موقف، أو على الغلو
في التعبير، خلط وقصور . . . وكلام قدامة في استحسانه المبالغة، واشاراته إلى
استحسان شعراء اليونان لها، وانهم قالوا: اصدق الشعر اكذبه، غير صحيح الاسناد إلى
ارسطو مطلقاً)(9) واما الدكتور احسان عباس فيرجع ان قدامة انما فهم ذلك
من مثل قول الفارابي، ان الشعر اقاويل كاذبة من حيث اعتماده على التخييل، قال في
معرض كلامه على الفارابي: (اما الاقاويل الشعرية فإنها كاذبة بالكل لا محالة قائمة
على التخييل ومن هنا نفهم من اين سند قادمة القول العربي اعذب الشعر اكذبه بسند من
الفلسفة اليونانية)(10)، غير ان الدكتور شكري عياد نبه على ان قدامة
(كتب نفد الشعر قبل ان يكتب الفارابي تلخيصه) (11) وايضاً فإن الفصل
الذي تناول فيه ارسطو مسألة الكذب كان ناقصاً في ترجمة "متى" وهكذا يخلص
الدكتور شكري عياد إلى (ان قدامة إذا كان قد تأثر بكتاب الشعر، فهو لم يتأثر بهذه
الفكرة، بل بما نراه مثبتاً في ثنايا الكتاب من فهم للعمل الفني على انه تصوير لأمور
بالغة، سواء كانت فضائل ام رذائل تصويراً ينزع هو نفسه إلى الاتقان، ويحاول ان
يعطينا مثالاً للشيء الذي يحاكيه) (12). ويرى الدكتور شوقي ضيف ان كلام
قدامة في الغلو انما يرجع إلى كتاب الخطابة لا إلى كتاب الشعر يقول: (ولا ريب في
انه يشير إلى كتاب ارسطو في الخطابة، او على الاقل لما فهمه منه من مثل قوله: ان
الصناعة الشعرية انما يقصد بها التخييل لا التصديق، وقوله: ان الخطابة معدة للإقناع،
والشعر ليس للإقناع والتصديق ولكن للتخييل)(13)، واذا كان الامر كذلك،
فينبغي بالتخييل الذي فسره هو بالغلو الكاذب، دون ان يتاح له الاطلاع على تلخيص
الفلاسفة لذلك الكتاب، لأنه كان معاصراً للفارابي ومتقدماً على ابن سينا وابن رشد(14)،
ولعل مما يؤكد عدم اطلاعه التام هو ان ارسطو ينص في "كتاب الخطابة" على
ان المغالاة ضرب من الفظاعة يقول ابن رشد في تلخيص الخطابة (ومن التغييرات ايضاً، الإفراطات
في الاقاويل، والغلو فيها وهي تدل من حال المتكلم على الفظاظة، وصعوبة الاخلاق،
والغضب المفرط، مثل قول القائل: ولا لو اعطيت مثل هذا الرمل ذهباً افعل كذا وكذا،
وكما قال بعضهم ولا الزهرة الشبيهة بالذهب تعدل حسن هذه الفتاة، وهذا النوع من
الكلام كثير في كلام العرب واشعارهم) (15)
ومهما يكن من امر
الميل إلى الغلو ومنشأ هذا الميل ــ ولعل قدامة كان يعبر به عن جنوح المزاج العربي
إلى المطلق ــ فقد كان ذا اثر بالغ حقاً في وأد فضيلة الصدق، وكان لقدامة القدح
المعلى في امر هذا الكذب الذي جعله معيار الفن الشعري، حتى لقد زعم ان مناقضة
الشاعر نفسه في قصيدتين بحيث يذم في احداهما ما مدحه في الاخرى ليست مباحة فحسب
وانما هي دليل قوة الشاعر: (ومما يجب تقديمه ايضاً ان مناقضة الشاعر نفسه في
قصيدتين او كلمتين، بأن يصف شيئاً وصفاً حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذماً بينا، غير
منكر عليه، ولا معيب من فعله، اذا احسن المدح والذم، بل ذلك عندي يدل على قوة
الشاعر في صناعته، واقتداره عليها)(16) ولو ذهب قدامة إلى ان المناقضة
قد تكون ناشئة عن اختلاف تجربة الشاعر الذاتية في زمانين، فليس ينكر ان يكره
الشاعر في يوم ما كان قد احبه في يوم آخر، لسلمنا له بذلك ولكنه ان يكره الشاعر في
يوم ما كان قد احبه في يوم آخر، لسلمنا له بذلك ولكنه الح على اباحة التناقض من
خلال مذهبه في اباحة الكذب، فقد عقب على انتقاد امرئ القيس في قوله.
فلو ان ما اسعى لأدنى
معيشة كفاني ولم اطلب قليل
من المال
ولكنما اسعى لمجد
مؤثل وقد يدرك المجد
المؤثل أمثالي
وقوله في موضع
آخر:
فتملا بيتنا اقطا
وسمنا وحسبك من غنى شبع وري
فقال: ان الشاعر
لم تناقض، فيصرح مرة بسمو الهمة، ومرة بضعفها، (ومع ذلك فلو قاله، وذهب إليه لم
يكن عندي مخطئاً، من اجل انه لم يكن في شرط شرطه يحتاج إلى ان لا ينقص بعضه بعضاً
ولا في معنى سلكه في كلمة واحدة ايضاً، لم يجر مجرى العيب، لأن الشاعر ليس يوصف
بأن يكون صادقاً) (17).
(الشاعر ليس يوصف
بأن يكون صادقاً)، ذلك هو المبدأ الذي افضى إلى محاكاة المظاهر، وزيف المشاعر،
وازدراء الشعر، حتى جاء، "الكلاعي" يقول في كتابه: "احكام صنعة الكلام":
(ان الشعر داع لسوء الادب، وفساد المنقلب، لأنه لضيقه، وصعوبة طريقه، يحمل الشاعر
على الغلو في الدين حتى يؤول إلى فساد اليقين، ويحمله على الكذب، والكذب ليس من
شيم المؤمنين) (18) ولعل ما سمي بــ "ارادة المثل" و
"بلوغ الغاية" هو الذي دفع قدامة إلى الذود عن الغلو المنكر في مثل قول
ابي نواس:
واخفت اهل الشرك
حتى انه لتخافك النطف التي
لم تخلق
لأنه إذا (يخرج عن
الموجود، ويدخل في باب المعدوم، فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، وهذا أحسن
من المذهب الآخر . . . وكذا كل غالٍ مفرط في الغلو، إذا اتى بما يخرج عن الموجود، فإنما
يذهب فيه إلى تصييره مثلاً، وقد أحسن ابو نواس حيث اتى بما ينبئ عن عظم الذي وصفه)
(19)
ليس على الشاعر
اذن ان يتوخى الصدق الواقعي من خلال المحتمل، فمدح مما يمكن وجوده، ولا جناح عليه إذا
ما جاوز الغاية، بل عليه ان يجاوزها، فيغلو ف نعت ما يريد نعته حتى يجعله
"مثلاً" وهذا الولع بالمثل هو علة التطرف، وكذلك ليس على الشاعر ان
يتوخى الصدق الفني، فيعبر عما يخالجه حقاً من مشاعر، وانما عليه ان يقفو وهذا المثل
ليبلغ غاية الوصف مجرداً عن ذاته، وعلى هذا النحو، لا يمكننا ان نهتدي إلى حقيقة
ما كابده ابو نواس من شعور وهو يصنع بيته، فمن المحتمل ان يكون هذا البيت انموذجاً
من صنعة شاعر آخر أراد المثل ايضاً على ما رسم النقاد، فجاوز الغاية في النعت اذ
ليس في هذا البيت ما يميز قائله، وهكذا فهو يغفل الحقيقة مرتين: فيغفلها فيما
يتعلق بالممدوح اذ ينظر إلى "المثل" لا إلى "الواقع"، ويغفلها
فيما يتعلق بالشاعر، اذ ينظر إلى "المثل" ايضاً لا إلى
"الذات"، فينأى بذلك عن الواقع والذات معاً، وانى لنا ان ننتظر من مثل
هذه المبادئ النقدية ان توجه الشعر إلى التعبير عن اعماق الذات، او إلى محاكاة
الحقيقة؟.
على ان قدامة عاد
فجعل من عيوب المعاني ما يمتنع وجوده، ولا يكون من قبيل الغلو، وكأنه خشي ان يرمي
بالتناقض فوضع لذلك معياراً يتخلص في ان ما يقبل من الغلو هو ما يكون من طباع
الشيء ولكن يؤتى به على سبيل المبالغة، اما الممتنع فلا يكون من طباع الشيء اصلاً
نحو قول ابي نواس:
يا امين الله عش
ابداً دم على الايام
والزمن
إذا ليس في طباع
الانسان ان يعيش ابداً، وهكذا، فما يحسن من الغلو هو ذاك الذي يقبل وضع
"كاد" ويبقى سائغاً، ولا يسوغ مثل قولنا: امين يكاد يعيش ابداً(20).
ويبدو ان شغف
قدامة بالمقارنة بين "المادة" و "المعنى" افضى به إلى
الاعتقاد بأن معيار الفن ليس المعنى وانما الصياغة، فللشاعر ان يعبر عما شاء من
معان دون النظر إلى غاية ما وليس ثمة معنى فاحش او وضيع في معيار الفن، فلا يعاب
الشاعر بقبح معانيه إذا ما أحسن صياغة هذا القبح، وكأن قدامة يريد القول: ان اقحام
المعيار الخلقي في ما يقوم على المعيار الفني غلط بين: (فاني رأيت من يعيب إمرأ القيس
في قوله):
فمثلك حبلى قد
طرقت ومرضع فألهيتها
عن ذي تمائم محمول
إذا ما بكى من
خلفها انصرفت له بشق
وتحتي شقها لم يحول
ويذكر ان هذا معنى
فاحش، وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة
النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته) (21) ويقول ايضاً: (المعاني
كلها معرضة للشاعر، وله ان يتكلم منها فيما أحس وآثر، من غير ان يحظر عليه معنى
يروم الكلام فيه، إذا كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة)
(22).
وحقاً ، ان اطلاق
يد الشاعر في اغتراف ما شاء من معان، امر تقتضيه طبيعة الفن، بيد ان المعضلة هي في
جعل الكذب قرين الحرية، بما من شأنه ان يئد الحرية ذاتها، ولو ان قدامة اذ اجاز
للشاعر ان يقول ما شاء قد اشترط ان يكون هذا القول نابعاً من تجربة صادقة، لكان قد
افضى بالشعر إلى ان يغدو معادلة صادقة بين الذات والعالم، اي بين ذات الشاعر من
جهة، والعالم المحيط به من جهة اخرى، ولكن اباحة حرية المعنى، مع وضع
"مثل" يطلب من الشاعر بلوغ الغاية في محاكاتها على سبي الغلو الكاذب، لا
بد ان يفضي إلى حيرة الشاعر بين ما يشعر به، وما يعبر عنه، وسواء اكان ابو نواس
يشعر ان ممدوحه بلغ من الرهبة حقاً ما يخيف به النطف، ام لم يكن يشعر فإن عليه ان
يعبر عن هذا المعنى ما دام يبلغ به الغاية، ويجعل منه مثلاً، وهكذا يحرم الشاعر من
ان يملك مشاعره، ويفرض عليه ان يحاكيه مثلاً جامدة.
وليس في كلام قدامة
ما ينم على انه يفسر الكذب بالتخييل، او قرنه به، كما ذهب الدكتور احسان عباس(23)،
ولعله قصد به ــ على الارجح ــ ما نبه عليه من بلوغ الغاية في النعت حتى يصير
مثلاً، بغض النظر عن اي التزام يمنع الشاعر من ان ينقض اليوم ما ذهب إليه بالأمس،
او يذم في بيت ما مدحه في آخر، على انه وان سلمنا بذلك فان ربط الكذب بالتخييل
ربما كان أكثر جناية على الخيال الشعري، لأنه يجعله ضرباً من العبث لا صلة له بذات
الشاعر.
ويكاد المرء يلمح
في "عيار الشعر" كلاماً على الصدق وان كان غامض المدلول، فابن طباطبا
يقول مثلاً: ان على الشاعر ان "يتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكايته)(24)، وأغلب الظن انه يريد بذلك ما اثر من قرب
التشبيه وموافقته للواقع، وربما كان يريد مراعاة مقتضى الحال، كما قد يفهم من
كلامه بعد ذلك على مخاطبة الملوك بما يستحقونه، وعدم خلط مراتبهم بمراتب العامة
وطبعاً(25)، ليس في ذلك شيء من الصدق الواقعي او الفني، وان كان فيه
شيء من الصدق "النقدي" او الخضوع لقواعد النقد التي اوضحت ما ينبغي ان
يمدح به الملوك أو العامة.
ولما كان
"ابن طباطبا" قد جعل عيار الشعر ما أدركه "الفهم الثاقب"، فقد
ذهب إلى ان الكلام ينبغي ان يكون عدلاً صواباً بحيث يوافق النفس، فتأنس إليه، ولا
تستوحش منه وذلك بأن يخلو من اود اللحن وغلط التعقيد، وجور الغموض: (والفهم يأنس
من الكلام بالعدل الصواب الحق، والجائز، المعروف المألوف . . . ويتوحش من الكلام
الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول ، وينفر منه، ويصدأ له فاذا كان الكلام
الوارد على الفهم منظوماً مصفى من كدر العي، مقوماً من اود الخطأ واللحن، سالماً
من جور التأليف، موزوناً بميزان الصواب، لفظاً ، ومعنى وتركيباً، واتسعت طرقه
ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له وانس به . . . وعلة كل حسن مقبول الاعتدال،
كما ان علة كل قبيح منفي الاضطراب ، والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما
يخالفه، ولها احوال تتصرف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها
اهتزت به وحدثت لها اريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت)(26).
وإذا كان العقل يأنس بالصدق والحق، وينفر من الكذب والباطل، فهو اذن مناط الصدق،
وليس الشعور، وما دام العقل. قد وافق الشعر فلا ضرورة للتساؤل عن موافقة النفس،
ليس بالنسبة إلى المتلقي طبعاً ــ فذلك ما يعنى به النقاد دائماً ــ وانما بالنسبة
إلى الشاعر، وهكذا فالصدق هنا عقلي وليس شعورياً، ويتعلق بالصدق، ولا يكون في
الوقت نفسه معبراً عن ذات الشاعر؟ لا ريب ان هذه النظرة تفضي ايضاً مثلما افضت
نظرية الكذب، إلى اضعاف المخيلة الشعرية المرتبطة بأعماق الشاعر، وان كانت تطلب
الاعتدال والانسجام والصدق، خلافاً لما يطلبه قدامة من الغلو والكذب، فمدار الامر
في النهاية على ما يوافق العقل، وما يوافق العقل قد يخالف الخيال.
على ان ابن طباطبا
يتكلم على صدق الشاعر على استحياء، والحق انها لمحة بارعة تنم على ذهن لطيف، ولكن
ابن طباطبا لم يشأ ان يتوقف عندها طويلاً، على الرغم من خطرها فقد كان يذكر موافقة
المعنى للحال فقال: (فإذا وافقت هذه المعاني هذه الحالات تضاعف حسن موقعها عند
مستمعها، لا سيما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس، بكشف المعاني
المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها) (27).
ومن النادر حقاً ان يقرأ المرء في النقد العربي شيئاً عن صدق التعبير عما اختلج من
المعاني في اعماق النفس، ولكن يلاحظ ان ابن طباطبا انما ذكر "المعاني"
ولم يذكر "المشاعر" فكأن الطابع العقلي عنده هو لب الشعر، والصدق في كشف
المعنى يختلف عن الصدق في كشف الشعور، والمعنى لا يحتاج إلى قوة الخيال لإماطة
اللثام عنه، وانما يحتاج إلى دقة المنطق، وسلامة اللغة، واصابة التشبيه ولا سيما
انه قيد الصدق بالاعتراف بالحق فجعله عقلياً محضاً، وايضاً فإن المعاني انما تتعلق
غالباً بالأشياء لا بالمشاعر.
وهذا الذي فات
صاحب عيار الشعر، لم يفت صاحب نقد النثر ولكن على استيحاء ايضاً، وان كان محكم
العبارة قال: (والشاعر من شعر يشعر شعراً فهو شاعر، والشعر المصدر . . . ولا يستحق
الشاعر هذا الاسم حتى يأتي بما لا يشعر به غيره وإذا كان انما استحق اسم الشاعر
لما ذكرنا فكل من كان خارجاً عن هذا الوصف فليس بشاعر، وان اتى بكلام موزون مقفى)
(28)، وقد تابع ابن رشيق فيما بعد ابن وهب فقال: (وانما سمي الشاعر شاعراً
لأنه يشعر به بما لا يشعر به غيره) (29). ولعل هذه اوضح اشارة جعلت من
التعبير الذاتي عن الشعور معيار الشاعرية، بحيث لا يمكن الشاعر ان يلج عالم الشعر
حتى يعبر عن مشاعره الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد سواه: (حتى يأتي بما لا يشعر
به غيره) والغريب ان ابن وهب غادر ملاحظته هذه غفلاً من الشرح، فلم يفض فيها ولم
يستنبط منها، وعاد يقفو أثر النقاد في سائر كلامه، فضيع فكرة قيمة كان يمكن ان
تعيد الشاعر إلى ذاته يحاكيها على نحو يجلو جوهرها، فلا تبقى اسيرة الظاهر
المحدود.
ومهما يكن، فقد ظل
"ابن طباطبا" يقدر للشاعر "العبارة عما كان في الضمير" مهما
كانت هذه العبارة ضعيفة، فكأنه ظل وفياً لفضيلة الصدق التي تدفع الشاعر إلى وصف ما
يعانيه على الرغم من هلهلة النسيج، وقد جعل من هذا القبيل الابيات الشهيرة في
القفول من الحج.
ولما قضينا من منى
كل حاجة ومسّح بالأركان من
هو ما سمح(30)
غير ان ابن طباطبا
كأنه نسي ما افا فيه من الكلام على الصدق، فراح يسوغ للشاعر سبيل السرقة، ويعلمه
كيف يخفي معالمها حتى على البصراء بها(31).
اما ابن سنان فلم
يكد يزيد شيئاً على ما ذهب إليه قدامة، فحمد الغلو، وقال انه مذهب اليونانيين
ولكنه فضل ان يورد الشاعر ما يجعل كلامه أقرب إلى الصحة من مثل "كاد"
وما في معناها: (والذي اذهب إليه المذهب الاول في حمد المبالغة والغلو، لأن الشعر
مبنى على الجواز والتسمح، لكن ارى ان يستعمل في ذلك كاد وما جرى في معاناها، ليكون
الكلام أقرب إلى حيز الصحة كما قال ابو عبادة:
أتاك الربيع
المطلق يختال ضاحكاً من الحسن
حتى كاد ان يتكلما(32)
وإذا كان لنا ان
نفهم من "الجواز والتسمح" اللذين بني عليهما الشعر، ضرباً من الخيال
الذي لا يلتزم بمطابقة الحقيقة، فكيف يسوغ استعمال "كاد" التي تعيد
الكلام إلى صبغته الاولى، وتضعف من ايحائه الخيالي؟ وهل يكمن فضل الكلام دائماً في
ان يغدو أقرب إلى "الصحة"؟ وما هي هذه الصحة التي يحبذها ابن سنان؟ الحق
انه لو طلب الصحة بمعنى الصدق ف الشاعر لكان اولى من ان يطلب الصح بمعنى التنبيه
على ان في الكلام استعارة، وكأنه يريد ان يسلب الذهن انطلاقه الخيالي بتذكيره
بالحقيقة، وتكبيله بلفظة "كاد" ولعلنا نذكر كيف ذهب عبد القاهر إلى ان
غرابة الاستعارة انما هي في خفائها، بحيث لو عرفنا وجه الشبه على سبيل الافصاح
لخرجنا إلى شيء تعافه النفس(33)، وطبعاً لا يلام البحتري على ايراد
لفظة "كاد" لأنها جاءت في موقع يتطلبه الفن بما توحيه من مشارفة الكلام
دون كلام، ولكن اشتراط ذلك او تفضيله مما يقيد حرية الشاعر، ولو ان البحتري اورد
هذه اللفظة مرة اخرى فقال عن الربيع: انه كاد ان يختال، وكاد ان يتكلم، لأتى بما
لا تخفى غثاثته، والمعضلة كلها هي في اضطراب النقاد بين مفاهيم المنطق العقلي،
والمنطق الفني وعدم وضع الصدق معياراً وحيداً ، بحيث ان الشاعر اذا غلا او بالغ
وهو صادق لجاز له ذلك ما دام يعبر عن عاطفة صادقة، والمهم ان يكون نمط التعبير
نابعاً من خيال الشاعر أو تجربته لا من حكم الناقد او منطقه.
ولا يدعنا
"ابن رشيق" ننتظر طويلاً، فيهرع إلى القول في مطلع كتابه: ان الكذب من
فضائل الشعر: (ومن فضائله ان الكذب ــ الذي اجتمع الناس على قبحه ــ حسن فيه،
وحسبك ما حسن الكذب، واغتفر له قبحه) (34)، ويروع المرء ان يعرف ان ابن
رشيق لا ينظر إلى الكذب من الناحية الفنية، فيقره، وانما هو يزين الكذب في الشعر
من الناحية الخلقية فيبيح للشاعر ان يكذب، فينكر ما كان قاله، او فعله، ذلك انه
استشهد في تفضيل الكذب بما اتفق من امر كعب بن زهير حين اوعده رسول الله صلى الله
عليه [وآله] وسلم، ثم جاءه كعب معتذراً منكراً ما كان قاله، فقبل الرسول عذره مع
علمه بأنه قاله حقاً، واستشهد ايضاً بما اتفق من امر حسان بن ثابت حين أنكر ما كان
وقع فيه من حديث إلا فك فاحتمل له (فلم يعاقب لما يرون من استخفاف كذب الشاعر،
وانه يحتج عليه) (35). وها هنا موقف غريب حقاً إذا ما الذي يجعل الكذب
الخلقي من فضائل الشعر؟ أترى ابن رشيق خيل إليه ان الرسول صلى الله عليه وسلم اعذر
كعباً لبراعة كذبه الشعري ام ليؤمن رجلاً اتاه عائذاً به، فأمنه، حتى قبل ان يصغي
إلى اعتذاره الكاذب وتجاوز عنه؟ وواضح ان في مثل هذا الموقف النقدي خطراً خلقياً
وفنياً معاً، لأنه يسوغ للشاعر ان يخرج عن مبدئ الفن والخلق، ولا ريب ان مسألة
الصدق الفني هنا تبدو غريبة ما دام ابن رشيق لا يلزم الشاعر بالصدق الخلقي، وانما
يبيح له او يزين له الكذب المحض، وكيف نطلب من الشاعر ان يعبر عن شعور صادق إذا
ابحثا له ان يعبر عن خلق كاذب بل زينا له ذلك؟
ولسنا ندري كيف
نوفق بين كلام ابن رشيق هذا في جعل الكذب من فضائل الشعر، وبين ما ذهب إليه فيما
بعد من القول ان خير الكلام ما قارب الحق، وهجر المبالغة، حتى لقد قرن الغلو
بالباطل فقال: "وأصح الكلام عندي ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من
كتاب الله تعالى، ونحن نجده قد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق .... جل من قائل:
(يا اهل الكتاب لا تغلو لله دينكم غير الحق) (36). بل ان ابن رشيق يصرح
بمذهبه دون وجل: (ومن الناس من يرى ان فضيلة الشاعر، انما هي في معرفته بوجوه
الاغراق والغلو، ولا ارى ذلك إلا محالاً لمخالفته الحقيقة، وخروجه عن الواجب
والمتعارف . . . وقد قال الحذاق: خير الكلام الحقائق، فإن لم يكن فما قاربها وناسبها)
(37) ويعجب المرء كيف استقام لابن رشيق ان يقر الكذب ــ وهو نقيض الحق ــ
مرة، ثم ينكر الغلو لأنه نقيض الحق مرة اخرى؟ واذا كان يؤثر الحق، فهلا قال بذلك
منذ البداية، وزين للشاعر مذهب الصدق بحيث لا يعبر عما لا يراه او يشعر به، واباح
له ان يبالغ لتكون مبالغته سبيلاً إلى التعبير القوي عما يكابده فحسب، لا طلباً
للغاية أو المثل، ولا فيما انه انكر
المبالغة إلا ان تجيء عرضاً؟ : (اذا لم يجد الشاعر بداً من الاغراق ــ لحبه ذلك
ونزوع طبعه إليه ــ فليكن ذلك منه في الندرة، وبيتا في القصيدة ان افرط ولا يجعل
ذلك هجيراه كما يفعل ابو الطيب واحسن الاغراق ما نطق فيه الشاعر او المتكلم بكاد
او ما شاكلها نحو كان ولو ولولا)(38) واذا كان ابن رشيق ــ شأن ابن
سنان ــ قد آثر ما اتى فيه الشاعر يكاد او ما شاكلها، حرصاً على مقاربة الحقيقة،
فإننا نتساءل مرة اخرى: اذا كان قد طلب المقاربة فيما من شأن الفن فيه المباعدة
باسم الحق، فكيف اجاز للشاعر ان يكذب فينكر الحق؟ اغلب الظن ان ابن رشيق يعتقد
حقاً ان الصدق والاعتدال من فضائل الشعر، ولا سيما انه من أنصار الاستعارة القريبة
الواضحة ــ كما رأينا(39) بيد انه لم يمحص ما شاع من القول بعذوبة
الكذب فانساق معه، وراح يلتمس له الحجج والبراهين.
على ان مسألة
الصدق والكذب لم تقتصر على مثل هذه المناقشات القريبة، وانما بلغت ذروة التعقيد
عند عبد القاهر، حين نظر إليها من خلال علاقتها بالتخييل، وما استقر في اذهان
النقاد من ان التخييل ضرب من الكذب المناقض للعقل، وطبعاً، لسنا ننتظر من ناقد
اشعري ان يتمسح في قبول الكذب، وان تردى ثياب الفن، ولم يخطر بباله ـت فيما يبدو
ــ ان التخييل ربما كان سبيلاً إلى تصوير الحقيقة وانه اداة فنية قد يعبر بها
الشاعر عن الحق مثلما يعبر بها عن الباطل، ومدار الامر في النهاية على ما تقتضيه
طبيعة الفن في الكشف عن اعماق الشعور، ولكن المشكلة هي ان عبد القاهر ــ شأن معظم
النقاد ــ نظر إل الصدق من خلال العقل، وليس من خلال الشعور، ومن ثم فقد حكم علي
حكماً خلقياً لا حكماً فنياً، وان كان قد لاحظ ان التخييل قد يأتي في الشعر بما
يشبه السحر، وحقاً ان الصدق ينبغي ان يكون غاية الشعر ، بيد ان معيار هذا الصدق
ليس مبادئ الاخلاق ، وانما مبادئ الجمال، واذا ما كان الشاعر صادقاً في التعبير عن
"كذبه" فلا ريب ان هذا الكذب يحتمل له باسم الفن ما دام يصور حقيقة
ذاته، يقول "كروتشه" : (اما ان يزاد بالصدق ذلك الواجب الاخلاقي الذي
يلزمنا إلا نخدع جارنا، فهو حينئذ غريب عن الفنان الذي لا يخدع احداً ما دام يعطى
صورة لما هو قائم في فكره ، فإذا كان ما في فكره خداعاً وكذباً فإن الصورة التي
يعطيها له، لأنها جمالية لا يمكن ان تكون خداعاً وكذباً، واذا كان الفنان كاذباً
دعياً خبيثاً فهو يطهر ذاته الاخرى هذه حين يمنحها العرض الفني اما اذا اردنا
بالصدق في المعنى الآخر، كمال العبارة وحقيقتها، فهو اذ ذاك معنى لا صلة له
اطلاقاً بالتصور الاخلاقي ، وهكذا ينكشف هذا القانون الجمالي الاخلاقي معاً عن
كلمة يستخدمها معاً علم الاخلاق، وعلم الجمال)(40) اذن، الصورة التي
خيلت تخييلاً صادقاً ما في النفس، لا يمكن ان تكون كاذبة، لأن الكذب ليس قرين
التخييل كما ظن النقاد، فأساؤوا بظنهم هذا إلى مفهوم الخيال، وجعلوه ضرباً
من العبث الذي
يوهم في الشيء ما ليس فيه ولننظر كيف قال عبد القاهر : انه التخييل (خداع العقل،
وضرب من التزويق)(41) وهكذا لا يمكننا ان ننتظر مما يخدع العقل بما فيه
من تزويق ان يحظى برضا النقاد على نحو يغير ما درجوا عليه من ازدرائه، فقد اقترن
مصطلح التخييل دائماً بالوهم، والكذب، والزيف، والخداع، في كلام العسكري، وابن
رشيق، والشريف الرضي، وعبد القاهر، وابن خفاجة، وابن بسام، فنوى ابن خفاجة مثلاً
يدافع عما اتهم به من كذب فيقول: (فإن الشعر مأخذ وطريقة، اذا كان القصد فيه
التخييل ، فليس القصد فيه الصدق، ولا يعاب فيه الكذب)(42) ويصف ابن
بسام الشعر بأن (اكثره خدعة محتال، وخلعة مختال: جده تمويه وتخييل، وهزله تدليله
وتضليل)(43).
وبعد القاهر، اذ
يقسم المعاني منذ البداية إلى عقلية وتخييلية ، ويحصر العقلية بما يستقيم به امر
الدين، فكأنه يفترض ان التخييل نقبض العقل بحيث لا يمكن ان يعبر عن معنى صادق،
فضلاً عن شعور صادق قلنا عني به النقاد اصلاً، فالمعاني: (اولها عقلي صحيح مجراه
في الشعر والكتابة، والبيان والخطابة، مجرى الادلة التي تستنبطها العقلاء،
والفواقد التي تثيرها الحكماء ولذلك تجد الاكثر من هذا الجنس منتزعاً من احاديث
النبي صلى الله عليه[وآله] وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم، ومنقولاً من آثار
السلف الذين شأنهم الصدق وقصدهم الحق، أو ترى له اصلاً في الامثال القديمة، والحكم
المأثورة عن القدماء، فقوله:
وما الحسب الموروث
لا در دره بمحتسب إلا بآخر
مكتسب
معنى صريح محض
يشهد له العقل بالصحة، ويعطيه من نفسه أكرم النسبة) (44). وظاهر ان
مدار هذا القسم على ما يشهد له "العقل" بالصحة، ويكون معنى صريحاً
"محضاً" وهو الذي يؤثره عبد القاهر كل الايثار ويجعله مقصد البلاغة.
(واما القسم التخييلي فهو الذي لا يمكن ان يقال انه صدق، وان ما أثبته ثابت، وما
نفاه منفي) (45)، بيد ان عبد القاهر لا ينكر التخييل جملة، وانما هو
يشعر بما ينطوي عليه من فن فيقر من مذاهبه التي يرى انها متشعبة، ما فيه شبهة
الصدق، او ما ظاهره الصدق، وباطنه الوهم، وذلك بأن يتخيل الشاعر علة في الجمع بين
شيئين هي غير العلة العقلية على نحو ما درج عليه ابو تمام في مثل قوله:
لا تنكري عطل
الكريم من الغنى فالسيل
حرب للمكان العالي
(فهذا قد خيل إلى
السامع ان الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة في قدره، وكان الغنى كالغيث في
حاجة الخلق إليه، وعظم نفعه، وجب بالقياس ان ينزل عن الكريم نزول ذلك السيل عن
الطود العظيم ومعلوم انه قياس تخييل وايهام، لا تحصيل واحكام، فالعلة في ان السيل
لا يستقر على الامكنة العالية ان الماء سيال لا يثبت إلا إذا حصل في موضع له جوانب
تدفعه عن الانصاب، وتمنعه عن الانسياب، وليس في الكريم والمال شيء من هذه الخلال)
(46)
وإذا كان عبد
القاهر قد جعل التخييل قياساً يعتمد على علة غير عقلية، فقد كان يمكن ان يقف منه
موقفاً أكثر تسامحاً فلا يجعله كذباً، ولا ينكر ان ابا تمام مثلاً في بيته السابق
قد جلا المعنى الذي اراده جلاء تماماً بما خيله لنا من وجه الشبه بين الكرم
والسمو، ذلك انه اراد ان يعلل ما يبدو من فقر الكريم بما يبدو من نزول الماء عن
الربا، وهي على غير حقيقية، ولكنها توضح ان مكانة الكريم تقتضي ان يفيض بالمال حتى
لا يبقى منه شيئاً، مثلما يفيض المكان العالي بالماء حتى لا يبقى منه شيئاً ايضاً
ولا يريد بو تمام بذلك صدقاً ولا كذباً وانما يريد تخييلاً يمثل به ما خالجه من
معنى المقارنة بين الانسان الكريم، والمكان العالي.
ومن التخييل ايضاً
قول ابي تمام:
الشيب كره، وكره
ان يفارقني أعجب بشيء على
البغضاء مودود
فهذا حق في ظاهره،
ولكنه على سبيل التخييل ايضاً، لأن المرء لا يحب اشيب لذاته، وانما لما يمثله من
بقاء الحياة، فليس هو المحبوب على الحقيقة، وانما هي الحياة، وواضح ان ذلك لا يسيء
إلى معنى الشاعر، لأنه انتقل من القريب إلى البعيد على نحو يضفي عليه ضرباً من
الغموض المحبب، وهو ما ذهب إليه عبد القاهر نفسه في الاستعارة، ولو ان ابا تمام
قصد الحقيقة هنا لما ظل بيته على هذا الجمال النابع من المفارقة بين كون الشيب
مكروها محبوباً معاً، وايضاً، فلا يمكن القول ان في الامر كذباً، لأن المرء ربما
احب الشيب حقاً لأنه الرمز الظاهر للمعنى الخفي وكثيراً ما يأنس المرء بالرمز،
وينسى المعنى ذاته، او يكون المعنى متضمناً في الرمز فالأمر بعد على التخييل الذي
هو اداة فنية لا صلة لها بالكذب، هذه الصلة التي اساءت إلى مفهوم التخييل(47).
على ان هذا الضرب
من التخييل قد يكون مقبولاً وابعد منه عن الحقيقة (صنيعهم إذا ارادوا تفضيل شيء،
او نقصه، او مدحه، او ذمه، فتعلقوا ببعض ما يشاركه في اوصاف ليست هي سبب الفضيلة
والنقيصة، وظواهر امور لا تصحح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة، كما
تراه في باب الشيب والشباب كقول البحتري:
وبياض البازي اصدق
حسناً ان تأملت من سواد
الغراب(48)
فها هنا تهجين
حقيقي يزيف المعنى، فكون بياض البازي آنق من سواد الغراب، لا يقتضي على اي وجه كون
بياض شعر الشيب، اجمل من سواد شعر الشباب، ولا ريب ان هذا هو ما ينطبق عليه قول
عبد القاهر عن التخييل انه خداع العقل، دون غيره من فنون التخييل التي تعتمد على
تمثيل المعنى وتوضيحه، لا على تحقيقه بقياس زائف، ولقد نبه عبد القاهر على ان في
التخييل من اختلاف المنزع ما يتعذر معه الحصر ولا بد فيه من الاستقراء(49)،
وكأنه شعر بصعوبة وضع معيار يندرج فيه ما تباين من ضروب التخييل: (وانما الطريق
فيه ان يتتبع الشيء بعد الشيء)(50) بيد انه لو اطرح ما وقر في ذهنه من
امر الكذب، فقرن التخييل (المحاكاة) بالصدق، لاستقام له ما يحرر به الخيال من قيد
الكذب، ويجلو ما فيه من جمال حين يعبر عن فكر او شعور صادق، ولكنه. فيما يلوح ــ
ظل اميل إلى ذلك القول الذي طالما ضلل النقاد، وهو القول بفضل الكذب في الشعر، حتى
لقد فسر الكذب التخييل في قول البحتري:
كلفتمونا حدود
منطقكم والشعر يكفي عن صدقة كذبه
قال: (اراد
كلفتمونا ان نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق،
حتى لا ندعي إلا ما يقاوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجأ إلى موجبه، مع ان
الشعر يكفي فيه التخييل) (51)، وأيضاً من قال: "خير الشعر
اكذبه" (فهذا مراده، لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعر فضلاً، ونقصاً،
وانحطاطاً، وارتفاعاً، بأن ينحل الوضيع من الرفعة ما هو منه عار او يصف الشريف
ينقص وعار، فكم جواد بخله الشعر، وبخيل سخا وشجاع وسمه بالجبن، وجبان ساوى به
الليث، وذي ضعة اوطأة قمة العيوق، وغبي قضى له بالفهم وطائش ادعى له طبيعة الحكم،
ثم لم يعتبر ذلك في الشعر نفسه، حيث تنتقد دنانيره، وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه،
فيضوع أريجه) (52).
ومن الجلي ان عبد
القاهر يؤثر الصدق العقلي، على الكذب التخييلي، وكم كان اسدى إلى النقد لو غير
شيئاً من طرفي هذه المعادلة، فآثر الصدق التخييلي على الكذب العقلي؟ ذلك ان مشكلة
النقد العربي كله ربما لخصها هذا الخلط، فلقد بسط حجة من قال بالصدق لما فيه من
حكمة العقل، وحجة من قال بالكذب لما فيه من لطف التخييل، ثم نصر مذهب الصدق نصراً عقلياً،
وأنكر ان يكون الصدق ادعى إلى الضعف: (والعقل بعد على تفضيل القبيل الاول (الصدق)
وتقديمه، وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره والتحقيق شاهده، فهو العزيز
جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: الباطن مخصوم وان قضي له، والحق مفلج وان قضي
عليه. هذا ومن سلم ان المعاني المعرقة في الصدق، في حكم الجامد الذي لا ينمى،
والمحصور الذي لا يزيد وان اردت ان تعرف بطلان هذه الدوى فانظر إلى قول ابي فراس:
وكنا كالسهام إذا
اصابت مراميها فراميها
اصابا
الست تراه عقلياً
عريقاً في نسبه، معترفاً بقوة سببه، وهو على ذلك من فرائد ابي فراس التي هو ابو
عذرها، والسابق إلى اثارة سرها) (53).
ويبدو ان علينا ان
نبدئ ونعيد في القول ان عبد القاهر وان كان ينصر الصدق نصراً صريحاً، فانه يرده
إلى العقل، لا إلى الخيال الذي يراه قرين الكذب، ولذا فقد سارع إلى القول بأن
الاستعارة (لا تدخل في قبيل التخييل) (54)، وكيف وقد استفاضت في القرآن
الكريم الذي لا يأتيه باطل التخييل من بين يديه ولا من خلقه؟ وما هي إلا اثبات شبه
لا على سبيل الحقيقة، بينما التخييل: (ما يثبت فيه الشاعر امراً هو غير ثابت
اصلاً، ويدعى دعوة لا طريق إلى تحصيلها، ويقول قولاً يخدع فيه نفسه، ويريها ما لا ترى)
(55) وايضاً: (كيف يعرض الشك في ان لا مدخل للاستعارة في هذا الفن، وهي
كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى) (56).
على ان هذا الموقف
العقلي الصارم في اعتبار التخييل ضرباً من الكذب، لم يصف من كدر الحيرة، فعيد
القاهر يدرك تماماً ما في صنوف التخييل من لطف قد يخلب الالباب، ولكنه يحار في
التوفيق بين الحكم العقلي والحكم الفني ولا سيما ان مصطلح الصدق نفسه يفضي إلى
الاضطراب بين هذين الحكمين، ويبدأ فيوافق على ما براه انموذجاً وسطاً من التخييل
المعتدل في مثل قول ابي تمام:
ان ريب الزمان
يحسن ان يهــ ـــدى الرزايا
إلى ذوي الاحســــاب
فلهـــذا يجف بـعد
اخضــــرار قبل روض الوهاد روض
الروابي(57)
حيث يبرأ هذا
القول من شبهة الكذب، ويمضي عبد القاهر فيثنى على نمط من التخييل يأتي فيه الشاعر
لصفة في الشيء بعلة من عنده، على سبيل التعظيم، نحو قول الشاعر:
لو لم تكن نية
الجوزاء خدمته لما رأيت
عليها عقد منتطق(58).
وهذا الضرب لا
يرجع إلى التشبيه، وانما هو تعليل خيالي، لأمر حقيقي، ولا ريب انه مذهب لطيف بما
ينطوي عليه من اضفاء المشاعر الحية على الاشياء الجامدة، وبما يوحي به من مشاركة
شعورية بين الانسان والعالم، وفي هذا البيت مثلاً ايحاء بأن الجوزاء انما تشارك في
الشعور بعظمة هذا الممدوح، ولسنا في حاجة بعد ذلك إلى تعليل الامر تعليلاً عقلياً
يبين وجه التخييل من حيث الصدق أو الكذب. وكذلك فإن قول المتنبي:
وما ريح الرياض
لها ولكن كساها دفنهم في
الترب طيبا(59)
انما يوحى بمشاركة
الريح في الشهور بطيب هؤلاء الاموات، وحقاً، ان هذا الضرب اللطيف من التخييل انما
يعبر عن قوة الخيال الشعري على نحو كان ينبغي ان يثير اهتمام النقاد، فيصرفهم عما أغرموا
به من مسائل النقد الشكلي، ويدفعه إلى جلاء اوجه الجمال في صور التخييل، والغريب
ان عبد القاهر وقف عند هذا النمط وقفة متأنية، قلب فيها مذاهبه، وغاص على دقائقه،
ولكنه لم يتخلص من شرك الكذب، ولم يفل ان سبيل الخيال هو سبيل ما اورده من مثل قول
الشبلي:
قضيب الكرم نقطعه
فيبكي ولا تبكي وقد قطع
الحبيب؟
بما يثيره في
النفس من "وحدة الشعور" بين الانسان والطبيعة من خلال التعبير عن فكرة
صوفية فاذا كان النبات يبكي من ألم الفراق عن منشئه، فكيف لا يبكي الانسان ايضاً
من ألم فراق منشئه الإلهي؟ الحق ان ذلك يذكرنا بالنمط الشائع في الشعر الصوفي
الفارسي، من مثل قصيدة جلال الدين الرومي عن الناي وما يشكوه من الم الفراق عن
الغاب الذي اقتطع منه(60) والتي تعتبر ذروة سامقة من ذرى الخيال
الشعري، لقد استطاع "الشبلي" في بيته ان يوحد بين الفكر والخيال فيكون
صادقاً من جهة، ويعبر عن صدقه بإيحاء خيالي من جهة اخرى، وذلك هو المثل الذي كان
ينبغي ان يستلهم منه النقاد، والذي كاد ان يستلهم منه عبد القاهر ما ينقذ الخيال
من وهده الزيف، لولا صعوبة التخلص مما رسخ في الاذهان عن كذب الخيال.
ولم يقتصر عبد
القاهر على قول الشبلي، فقد اورد ايضاً مما اعتبره لطيفاً قول ابي العباس الضبي:
لا تركنن إلى
الفرا ق، وان سكنت إلى
العناق
فالشمس عند غروبها تصفر من حذر الفراق(61)
فها هنا ايضاً تعليل خيالي لأمر حقيقي ، فالشمس
تصفر حقاً عند غروبها، ولكن علة هذه الصفرة ليست خوفها من الفراق كما خيل الشاعر،
وجمال التخييل هنا يتجلى في اضفاء الشعور الانساني الذي يجيش من هول الفراق على
مظهر طبيعي من مظاهر الكون، فيخلق بذلك نوعاً من التعاطف بين الانسان والكون على
جناح الخيال المحض، وهكذا فشعور الانسان بأن الجوزاء تفرح، والقضيب يبكي، والريح
تطيب، والشمس تألم، كل اولئك يخلف في نفسه انطباعاً لطيفاً يجعله يحس بنبض الحياة
في الطبيعة من خلال مشاعره، لا من خلال التشخيص المجرد كما يظهر في الاستعارة
وربما كان للخيال الصوفي اثره في ذلك، فقد قيل ان ابيات الضبي هذه ترجع إلى ما أثر
من ان يعض الصوفية سئل: لم تصفر الشمس عند الغروب، فقال من حذر الفراق(62)،
وما كان اجدر بعيد القاهر ان يتأمل في ذلك، ويحدثنا عما يمكن ان يخلفه الخيال
الصوفي من اثر في الشعر العربي، فمن الحق ان الصوفية درجوا على هذا النحو من
التخييل انطلاقاً من مشاعرهم المرهفة ازاء الاشياء، حيث يرون الوحدة في الكثرة ،
والنور في الجماد، ويردون الاشياء إلى مصدرها الالهي، فلا يرونها مظاهر محسوسة
فحسب، وانما هي كالإنسان خلق من خلق الله، وامر من امره، ولعل ابيات ابن الفارض
الشهيرة خير مثل لذلك حين يرى الله سبحانه في كل معنى وكل شيء وايضاً فإن ذلك مذهب
افلاطون الذي دعا إليه فيما بعد الشاعر "كولردج" وكان اولى بالنقاد
العرب ان يأخذوا من افلاطون فلسفته الروحية لا نظرته الشعرية ولا سيما ان فلسفته
تقترب في جوهرها مما الفه الصوفية المسلمون في فلسفتهم وشعرهم الذي كان امام
النقاد جاء في ترجمة كولردج من كتاب "قصة الادب في العالم": (كان كولردج
روحانياً في نظرته إلى الوجود، فالأشياء المادية عنده لا تنحصر حقائقها في مادتها
بل هي وسائل للتعبير عن روح الوجود الكامنة وراءها، فانت تعلم ان الفلاسفة منذ
نشأة الفلسفة ــ ينقسمون شعبتين، وكل فيلسوف اما ان ينتمي إلى هذه او تلك ففريق
يرى ان الاشياء مركبات مادية، وان اختلف
بعضها عن بعض ففي طريقة التركيب، وفريق آخر ينفذ ببصره خلال سجف المادة البادية
فيرى وراءها فكرة او روحاً اتخذت من هذه الاشياء التي نراها وسيلة للتعبير عن
وجودها ومن هذا الفريق كان افلاطون، وبهذه النظرة الافلاطونية اخذ كولردج)(63)
بل كان اولى بالنقاد ان يأخذوا هذه الفلسفة الروحية من ثقافتهم الدينية، قبل ان يأخذوها
من افلاطون، لولا انه ــ لأمر ما ــ لم يقدر لهذه الثقافة ان تنفذ إلى مبادئ
النقد، على الرغم من نفاذها إلى مبادئ الفن الاسلامي جميعاً.
وإذا رجعنا إلى
عبد القاهر الفيناه يقيض في هذا الضرب من لطف التخييل بما ينم على افتتانه به،
فيذكر قول الصولي:
الريح تحسدني
عليـــ ــــك ولم اخلها
في العدا
لما هممت
بقبلـــــــــة ردت على
الوجه الردا(64)
ومن الجلي هنا
ايضاً، ان الصولي أشرك الريح في الشعور بالجمال، وإنها للفتة خيال بارعة ان يعلل
ردها للرداء بما خالجها من حسد، ولعل ذلك يذكرنا بما لاحظه ابن الاثير ايضاً في
مثل قول ابن حمد يس:
يا سالبا قمر
السماء جماله البستني
للحزن ثوب سمائه
وان كان ابن
الاثير لم يدرجه ضمن التخييل، وانما الحقه بما اسماه استخراج المعنى من غير شاهد
حال متصور وحقا لا يملك المرء إلا ان يعجب بهذا التخييل إذا اراد ان يصور الخال،
فجعله جمرة حب أطفأها ماء الخد، وصيره رمزاً من رموز الحب الصادق الذي يجمع بين
قلب الحبيب، وخذ المحبوب، فيعبر بذلك عن حرقة العاطفة وبرد الجمال وهذه هي غاية الخيال.
(65)
ويلحق عبد القاهر
بهذا الضرب ما أصله التشبيه، فيرى ان التخييل اضفى عليه من السحر ما (لا تأتي
الصفة على غرابته، ولا يبلغ البيان كنه ما ناله من اللطف والظرف، فأنه قد بلغ حداً
يبز المعروف في طباع الغزل، ويلهي الثكلان، وينفث في عقد الوحشة، وينشد ما ضل عنك
من المسرة) (66)، ومن ذلك قول ابن الرومي في تفضيل النرجس:
خجلت خدود الورد
من تفضيله خجلاً توردها عليه
شاهد(67)
على ان مشكلة
الصديق تبقى قائمة في هذه اللمحات التخييلية فليس يدري أحد مدى ارتباطها بذات
صاحبها، وواضح انها أقرب إلى العقل منها إلى النفس، وان الشاعر معني فيها بأن يخيل
المعنى للسامع، أكثر مما هو معنى بأن يخيل ما في ذاته، وليس غريباً مثلاً ان نجد
ابن الرومي في موضع آخر يفضل الورد على النرجس، ويخيل لعقل السامع من الحجج ما
يشبه السحر ايضاً وان نجد النقاد يثنون عليه لهذا الامر بالذات(68)،
ومهما يكن فإن عبد القاهر على الرغم من اطرائه البالغ لهذا المذهب، ظل ينظر إليه
على انه مغالطة معللة، إذ قال مفسراً طبيعة التخييل في الابيات السابقة جميعاً:
(كل واحد من هؤلاء خدع نفسه عن التشبيه ، وغالطها، واوهم ان الذي جرح العرف بان
يأخذ منه الشبه قد حضر ، وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى حصوله حتى
اصاب له علة، واقام عليه شاهداً)(69) وهذه النظرة هي التي حالت دون ان
يفيد النقد شيئاً من ملاحظة انب الخيال في الشعر، على الرغم ادراك ما فيه من لطف
على نحو ما رأينا عند عبد القاهر الذي كاد يضه يدع على لب المسألة وهكذا كان
لمشكلة الكذب اثرها البالغ في الجناية على مفهوم الخيال، بجعله من العبث في قول
القائل:
مررت بباب هند فكل
متني فلا والله ما نطقت بحرف(70)
فلا يعدو الشعر ان
يكون أثره مثل أثر التصاوير، فكما ان هذه انما تخلب اللب، كذلك الشعر (لإيما يصنعه
من الصورة ويشكله من البدع، ويوقعه في النفوس، من المعاني التي يتوهم بها الجامد
الصامت في صورة الحي الناطق، والموت الاخرس في قضية الفصيح المعرب، والمبين
المميز، والمعدوم المفقود في حكم الموجود المشاهد، كما قدمت القول عليه في باب
التمثيل حتى يكسب الدنى رفعة، والغامض القدر نباهة(71)
وهكذا، بدأ عبد
القاهر فقال: ان التخييل كذب، وانتهى فقال انه كذب، والتمس له فيما بين ذلك شيئاً
من اللطف قد يشفع له قليلاً، ولكنه لا يسوغه تماماً وكيف وهو ضرب من الكيمياء
والسحر، وقلب الصور والجواهر؟ (72)
_____________________________
(1) انظر: فن
الشعر: ص150-151
(2) المصدر نفسه:
ص151.
(3) انظر: النقد
الادبي الحديث: ص117-162
(4) علم الجمال:
ص71.
(5) انظر: النقد
الادبي الحديث: ص60-62.
(6) القزويني:
الايضاح حاشية الجزء الاول من مختصر التفتازاني على تلخيص المفتاح، الطبعة الاولى،
بولاق 1317هـ ص174-189.
(7) نقد الشعر:
ص55-56.
(8) الدكتور طه
حسين مقدمة نقد النثر: في البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر دار الكتب،
القاهرة 1933 ص19.
(9) النقد الادبي
الحديث: ص131-132 حاشية(2)
(10) تاريخ النقد
الادبي: ص218
(11) كتاب الشعر:
ص234.
(12) المصدر نفسه:
ص267.
(13) البلاغة تطور
وتاريخ: ص84
(14) توفي قدامة
سنة 337 هـ، وابن سينا 597 هــ وابن رشد 595هـ
(15) ابن رشد:
تلخيص الخطابة، تحقيق الدكتور محمد سليم سالم، القاهرة ص623-624.
(16) نقد الشعر:
ص13-14.
(17) نقد الشعر:
ص17
(18) الكلاعي:
احكام صنعة الكلام، تحقيق الدكتور محمد رضوان الداية، دار الثقافة بيروت 1966 367.
(19) نقد الشعر:
ص56-57.
(20) انظر: نقد
الشعر: ص208 – 209.
(21) نقد الشعر:
ص14.
(22) نقد الشعر:
ص13
(23) انظر: تاريخ
النقد الادبي، ص70.
(24) عيار الشعر:
ص6
(25) انظر: الصدر
نفسه: ص6.
(26) المصدر نفسه:
ص14-15.
(27) المصدر نفسه:
ص16-17.
(28) البرهان:
ص164.
(29) العمدة:
1/116.
(30) انظر: عيار
الشعر، ص83-85.
(31) انظر: انظر:
المصدر نفسه: ص76-77
(32) سر الفصاحة:
ص256
(33) انظر: دلائل
الاعجاز، ص346.
(34) العمدة.
1/22.
(35) انظر:
العمدة، 1/22-25.
(36) المصدر نفسه:
2/61.
(37) المصدر نفسه:
2/60.
(38) المصدر نفسه:
2/64.
(39) انظر: المصدر
نفسه: 1/269
(40) علم الجمال:
ص71.
(41) اسرار
البلاغة: ص39.
(42) ديوان ابن
خفاجة تحقيق الدكتور مصطفى غازي دار المعارف، المقدمة ص [؟]
(43) ابن بسام:
الذخيرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1939 – ص7.
(44) اسرار
البلاغة: ص228-220.
(45) المصدر نفسه:
ص231.
(46) اسرار
البلاغة: ص231.
(47) انظر تعليق
عبد القاهر في اسرار البلاغة ص232
(48) المصدر نفسه:
ص232.
(49) انظر: المصدر
نفسه، ص240.
(50) المصدر نفسه:
ص240.
(51) المصدر نفسه:
ص235.
(52) اسرار
البلاغة: ص236.
(53) المصدر نفسه:
ص238.
(54) المصدر نفسه:
ص238.
(55) اسرار
البلاغة: ص239.
(56) المصدر نفسه:
ص238.
(57) المصدر نفسه:
ص240.
(58) المصدر نفسه:
ص241.
(59) اسرار
البلاغة: ص242.
(60) المثنوي:
1/ص73-75.
(61) اسرار
البلاغة: ص242
(62) اسرار
البلاغة: ص242
(63) قصة الادب في
العالم: تصنيف: احمد امين، زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة
ص6
(64) اسرار
البلاغة: ص243.
(65) المثل
السائر: ص128.
(66) اسرار
البلاغة: ص247.
(67) اسرار
البلاغة: ص247.
(68) يبدو ان ابن
الرومي قد درج على اللعب المنطقي بالمعاني نقياً واثباتاً، فكان يذم الحقد تارة
ويمدحه اخرى حتى قيل فيه انه (ممن يخالف الناس ويعكس القياس فيذم الحسن ويمدح
القبيح)
(69) اسرار
البلاغة: ص252-253.
(70) المصدر نفسه:
ص297.
(71) اسرار
البلاغة: ص297.
(72) المصدر نفسه:
ص298-299
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
قسم الشؤون الفكرية والثقافية يجري اختبارات مسابقة حفظ دعاء أهل الثغور
|
|
|