أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-08-2015
1464
التاريخ: 3-03-2015
2176
التاريخ: 12-08-2015
4610
التاريخ: 2-03-2015
7054
|
تقع البصرة على سيف البادية، وأكثر عربها من قيس وتميم، وقد عرفت شأنهما في الاحتجاج، وتحف بها قبائل عربية سليمة السليقة لم تفسد لغتها بمخالطة الأعاجم، فكانت هذه القبائل ترد سوق البصرة المشهورة "المربد"، وأنت تعلم أن المربد كانت عكاظ الإسلام، ففيها تناشد وتفاخر كما فيها تجارة وبيع(1)،
ص64
وذلك له أثره في فصاحة أهل البصرة وسلامة لغتهم. ثم كانت هناك رحلات متبادلة، فعلماء البصرة دائمو الترحال إلى البادية والجزيرة يتلقون عن أعرابها، والأعراب دائمو الورود إلى البصرة لشئون معايشهم، فقد ضرب في بوادي الجزيرة الأصمعي وأبو عبيدة ويونس وأبو زيد والخليل وغيرهم، ثم كانوا يتحرون في الأخذ: أما العربي فيتحرون فيه سلامة لغته وسليقته(2), وأما الراوي فالصدق والضبط، ثم كانوا لا يعتدون بالشاهد إذا لم يعرف قائله أو لم يروه عربي يوثق بلغته(3), ومن هنا عجت بلدهم بفصحاء الأعراب المعروفين في كتب الأدب الذين كانوا من مفاخر البصرة التي يعتدها البصريون.
أما الكوفة فهي أدخل في العراق وأقرب إلى الاختلاط بالأعاجم، ولغة أعرابها ليست لها سلامة لغة أعراب البصرة، فأكثرهم يمن وبها قليل من قبائل أخرى، واليمن -كما رأيت في الكلام على الاحتجاج- لا يحتج بلغتها لتغيرها بالاختلاط بالفرس والأحباش، ثم بين الكوفة وجزيرة العرب صحراء السماوة الشاسعة؛ فلذا لم تكن رحلات علمائها إلى الجزيرة كرحلات علماء البصرة، والكسائي الذي ارتحل لم يرتحل إلا لما تتلمذ على الخليل وسأله, فأرشده إلى الرحلة, وقد مر بك أن أبا
ص65
عمرو بن العلاء جاور البدو أربعين سنة, ولم يقم الكسائي بالبدو غير أربعين يوما(4)! بل نقلوا أن الكسائي "حمل إلى الأخفش البصري خمسين دينارا, وقرأ عليه كتاب سيبويه سرا"(5).
نعم كان للكوفة سوق أرادوا بها أن تحاكي مربد البصرة وهي "سوق كناسة"، لكن لم يكن لها ذلك الشأن، وهي إلى أن تكون داعية إفساد اللغة أقرب منها إلى أن تكون عاملا في صيانتها؛ لأن الأعراب الذين يؤمونها غير سليمي السلائق.
كل هذه العوامل صرفت الكوفيين إلى رواية الشعر، فذلك هو الميسور لهم، وزعموا أن سبب علمهم بالشعر وسبقهم فيه أهل البصرة: أن المختار بن أبي عبيد لما خرج بالكوفة قيل له: "إن تحت القصر الأبيض الذي كان للنعمان كنزا"، فاحتفر فوجد الطنوج التي كان النعمان أمر أن ينسج فيها أشعار العرب، فأخرجها. قالوا: فمن ثم كان أهل الكوفة أعلم بالشعر، هذه رواية حماد الراوية الكوفي(6).
هذا حال من ينقلون عنه من حيث السليقة وسلامة اللغة، وأما الجهة الثانية وهي صدق الراوي وضبطه فلم يعنوا بها؛ ولذا كثر الموضوع المصنوع في أكثر رواياتهم، قال أبو الطيب اللغوي: "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن
ص66
أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم"(7) وأبعد من ذلك في الدلالة قصة خلف الأحمر راويتهم الكبير فقد قال:
"أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح. ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم، أنا تائب إلى الله تعالى؛ هذا الشعر لي". فلم يقبلوا مني وبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب(8).
أما راويتهم الأكبر "حماد" فهو الشمس شهرة في كذبه ووضعه، و"قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا ... فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل من الأقدمين ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك"(9).
ولا تنس استشهاده باللحن أيضا حتى امتنع الكميت الشاعر عن إملاء شعره عليه, وقد طلب ذلك منه, وقال له: "أنت لحان, ولا أكتبك شعري"(10).
وقد عجب يونس "كيف يأخذ الناس عن حماد وهو يلحن
ص67
أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم"(11) وأبعد من ذلك في الدلالة قصة خلف الأحمر راويتهم الكبير فقد قال:
"أتيت الكوفة لأكتب عنهم الشعر فبخلوا علي به، فكنت أعطيهم المنحول وآخذ الصحيح. ثم مرضت فقلت لهم: ويلكم، أنا تائب إلى الله تعالى؛ هذا الشعر لي". فلم يقبلوا مني وبقي منسوبا إلى العرب لهذا السبب(12).
أما راويتهم الأكبر "حماد" فهو الشمس شهرة في كذبه ووضعه، و"قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا ... فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل من الأقدمين ويدخله في شعره، ويحمل عنه ذلك في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك"(13).
ولا تنس استشهاده باللحن أيضا حتى امتنع الكميت الشاعر عن إملاء شعره عليه, وقد طلب ذلك منه, وقال له: "أنت لحان, ولا أكتبك شعري"(14).
وقد عجب يونس "كيف يأخذ الناس عن حماد وهو يلحن
ص68
ويكسر الشعر ويكذب ويصحف"(15) ولا تنس أنه ديلمي من السبي.
وحتى كانوا إذا بالغوا في الثناء على علم كوفي شبهوا روايته برواية أهل البصرة, فقالوا في ترجمة ابن الأعرابي تلميذ المفضل الضبي: "ولم يكن أحد من الكوفيين أشبه رواية برواية البصريين منه"(16).
كان من الطبيعي إذًا أن يطرح الثقات روايات أهل الكوفة وقد ملأها حماد وخلف وغيرهما بالمصنوع، وصار ذلك مما يميز مدرسة الكوفة من مدرسة البصرة، وعرف ذلك الخاص والعام، حتى أتى من ألف في طبقات النحويين فسجل الظاهرة الآتية:
"لا يعلم أحد من علماء البصريين بالنحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة إلا أبا زيد الأنصاري البصري، فقد روى عن المفضل الضبي الكوفي"(17).
أما أهل الكوفة فيروون عن أهل البصرة إذ كانوا أساتذتهم،
ص69
حتى الكسائي الذي قرأ على الخليل ويونس وعيسى بن عمر، ورأى تحريهم فيما ينقلون وفيمن يشافهون؛ زايل التحري حين انتقل إلى بغداد وكان أمره كما قال أبو زيد الأنصاري: "قدم علينا الكسائي البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما، وأخذ منهم نحوا كثيرا، ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمية فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن، فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله"(18).
كل ما تقدم مشهور متعارف عند أهل العلم قديما، حتى إن ابن سلام لما نقل قوله المفضل الضبي: "للأسود بن يعفر ثلاثون ومائة قصيدة" عقب عليه بقوله: "ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبا منه، وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي, ويتجوزون في ذلك بأكثر مما تجوزنا"(19).
ولا تظنن هذا الطابع طبع مدرسة الكوفة في علوم العربية فحسب، بل هو سمتهم في كل ما يعتمد السماع، وإليك حكم الخطيب البغدادي على المدرسة الكوفية ومدرسة البصرة في الحديث قال: "ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة ما ليس لغيرهم مع إكثارهم. والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل, قليلة السلامة من العلل"(20).
هذا فرق ما بين المدرستين في أمر السماع وصحته والتحري فيه.
ص69
________________
(1) انظر بسط ذلك في كتابنا "أسواق العرب في الجاهلية والإسلام" .
(2) استضعف أبو عمرو بن العلاء فصاحة أبي خيرة الأعرابي لما سأله: كيف تقول: "استأصل الله عرقاتهم! " ففتح أبو خيرة التاء، فقال له أبو عمرو: "هيهات أبا خيرة، لان جلدك" الخصائص 2/ 13.
(3) في كتاب سيبويه "1050" شاهدا, خمسون منها لم يعرف قائلوها، فاعتذروا بأن سيبويه وثق برواتها. ومع هذا كان بين هذه الخمسين ما وضع وضعا, وهو نزر يسير لا يعتد به.
(4) مجلس العلماء للزجاجي ص171 طبعة حكومة الكويت.
(5) انظر مثلا مراتب النحويين ص74.
(6) انظر الخصائص 1/ 387. الطنوج: الكراريس, والخبر كله أسطورة من الصعب تصديقها، ولعله وضع كما توضع أشباهه من الأخبار النافخة في العصبية للبلدان.
(7) عن مراتب النحويين ص74.
(8) وفيات الأعيان 1/ 393.
(9) كلمة المفضل الضبي, إرشاد الأريب 10/ 265. وعلى أن المفضل الضبي هذا "أعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة" بتعبير ابن سلام "طبقات الشعراء ص21" فقد وقع هو نفسه فيما خاف منه، فذكر ابن سلام في كلامه على عدي بن زيد أنه "حمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد واضطرب فيه خلف وخلط فيه المفضل فأكثر" ص117.
(10) الموشح للمرزباني ص195.
(11) عن مراتب النحويين ص74.
(12) وفيات الأعيان 1/ 393.
(13) كلمة المفضل الضبي, إرشاد الأريب 10/ 265. وعلى أن المفضل الضبي هذا "أعلم من ورد علينا من غير أهل البصرة" بتعبير ابن سلام "طبقات الشعراء ص21" فقد وقع هو نفسه فيما خاف منه، فذكر ابن سلام في كلامه على عدي بن زيد أنه "حمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد واضطرب فيه خلف وخلط فيه المفضل فأكثر" ص117.
(14) الموشح للمرزباني ص195.
(15) مراتب النحويين ص73.
(16) نزهة الألباء لابن الأنباري ص175.
(17) بغية الوعاة ص42.
(18) إرشاد الأريب 13/ 182. الحطمية: قرية على فرسخ من شرقي بغداد، وذكر الأصمعي "أن الكسائي يأخذ اللغة عن أعراب الحطمية, ينزلون بقطربل "قرية بين بغداد وعكبرا" وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر سيبويه استشهد بكلامهم, واحتج بهم وبلغتهم على سيبويه" 13/ 181.
(19) طبقات الشعراء ص123.
(20) نقله المرحوم جمال الدين القاسمي في كتابه قواعد التحديث ص58.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|