أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-07-2015
1793
التاريخ: 13-2-2018
2159
التاريخ: 1-07-2015
3467
التاريخ: 1-07-2015
1714
|
إنّ المعروف من مذهب الحكماء انّ العالم حادث بالحدوث الذاتي ، والمراد به تأخّر وجود العالم عن علّته تأخّرا بالذات ـ أي : بحسب المرتبة العقلية ـ لا في الخارج ومتن الاعيان ، فلا يتحقّق بين وجود الواجب ووجود العالم انفصال في الخارج (1).
وذهب السيد المحقّق الداماد وجلّ من تأخّر
عنه إلى أنّه حادث بالحدوث الدهري. والمراد به تأخّر وجود العالم عن الواجب تأخّرا
انسلاخيا انفكاكيا (2)! ـ أي : وجوده بعد العدم الصريح المحض البحت الّذي ليس زمانيا
ولا سيالا ولا متكمّما ولا متقدّرا ـ. وعلى هذا فالعالم ينفكّ عن الواجب في الواقع
ونفس الأمر ، إلاّ أنّ هذا الانفكاك ليس زمانيا. والحاصل ـ كما افاده السيّد ; ـ انّه
مسبوقية الوجود بالعدم الصريح المحض ، لا مسبوقية بالذات ، بل مسبوقية انسلاخية انفكاكية
غير زمانية ولا سيالة ولا متقدّرة ولا متكمّمة.
وجمهور المتكلّمين ذهبوا إلى أنّه حادث
بالحدوث الزماني. والمراد به تأخّر وجود العالم عن العلّة تأخّرا زمانيا ، بمعنى انّ
العدم الفاصل بين الواجب وبين العالم عدم زماني ممتدّ ، لأنّه ينتزع من الواجب قبل
وجود العالم زمان موهوم هو وعاء هذا العدم ، فينسب هذا العدم إليه.
فتلخيص اقسام الحدوث :
انّ « الذاتي » عبارة عن وجود الماهية بعد
عدمها في لحاظ العقل دون الواقع ؛
و « الدهري » عبارة عن وجودها بعد نفي صريح
واقعى غير كمّي ؛
و « الزماني » عبارة عن وجودها بعد عدم
واقعى كمّي.
فالفرق بين الحدوث الذاتي والحدوث الزماني
ظاهر لا يحتمل الاشتباه ، والفرق بين الحدوث الدهري والحدوث الذاتي انّ الحدوث الذاتي
هو تأخّر الذات بحسب المرتبة العقلية لا تأخّر انفكاكي في الوجود بحسب حاقّ الواقع
البات ، والحدوث الدهري هو تأخّر وتخلّف في متن الاعيان الخارجة عن لحاظ الذهن وفي
حاقّ الواقع الصريح. والفرق بينه وبين الحدوث الزماني انّ الحدوث الزماني هو الوجود
بعد العدم المتقدّر السيال الواقع في الزمان القبل قبلية زمانية متكمّمة ، وفي حدوث
الدهري ليس العدم متقدّرا متكمّما ، بل إن هو إلاّ محض مسبوقية الوجود بالعدم المحض
والليس الساذج.
ثمّ الوجه في تسمية هذا القسم من الحدوث
« بالدهري » ، بناء على أنّ الاوعية عند الحكماء ثلاثة :
الأوّل : وعاء بحت الوجود الثابت الحقّ
المتقدّس عن عروض التغير مطلقا والمتعالي عن سبق العدم على الاطلاق ، ويسمّى « بالسرمد
» ؛
الثاني : وعاء الموجود بعد العدم الصريح
المرتفع عن أفق التقدير واللاتقدير ـ كالعقول والافلاك ـ ، ويسمّى « بالدهر » ؛
والثالث : وعاء الأمور المتغيرة المتقدّرة
السيالة المسبوقة بالعدم الزماني ـ كالحوادث ـ ، ويسمّى « بالزمان ».
وكما أنّ وعاء وجود الاشياء المتقدّرة السيالة
الزمانية هو الزمان ، فكذا وعاء عدمها أيضا هو الزمان ؛ وكما انّ وعاء وجود الموجودات
المسبوقة بالعدم الصريح المنزّهة عن التكمّم والتقدّر هو الدهر ، فكذا وعاء عدمها أيضا
هو (3) الدهر ؛ فاحقّ الأسماء وأجدرها للحدوث بحسب سبق العدم الصريح هو الحدوث الدهري.
وأمّا بحت الوجود الخالص المتعالي عن سبق العدم على
الاطلاق فلا يتصوّر له عدم حتّى يكون وعاء ، بل الوعاء له ـ أي : السرمد ـ انّما هو
وعاء وجوده.
ثمّ انّه لا يتصوّر الاختلاف في الأوعية
بحسب الاوقات ، بل وعاء كلّ من الموجودات الثلاث هو وعائه المختصّ به في كلّ وقت. فوعاء
الوجود الخالص المتعالي عن العدم هو « السرمد » ولو بعد تحقّق الوعائين الآخرين ـ أي
: الدهر والزمان ـ ، لانّه محيط بهما ، فلا فرق في عدم انتسابه إليهما وتعاليه عنهما
قبل وجودهما وبعده. وكذا وعاء الموجود بعد العدم الصريح هو « الدهر » ، ولو بعد وجود
الزمان لتعاليه عن الزمان واحاطته به ، فلا يتصوّر انتسابه إليه وكونه وعاء له. وما
يتخيل عندنا من انطباق وجود الواجب والعقول والافلاك على الزمان فانّما يتراءى ذلك
في اذهاننا لألفها بالزمان والزمانيات ، ولا نتصوّر شيئا إلاّ بتصوّر كونه زمانيا ،
ولكن البرهان دلّ على تعالي بعض الموجودات عن الزمان واحاطته به.
ثمّ الحق الحقيق بالتصديق هو الحدوث الدهري.
والحقّ انّ القول به ليس ممّا اخترعه السيد الداماد ، بل هو ممّا ذهب إليه كثير ممّن
تقدّمه من الحكماء ومحقّقي (4) المتكلّمين.
ثمّ السيد ـ ; ـ صرّح بأنّ النزاع بين الحكماء
وغيرهم انّما هو في هذا الحدوث لا في الذاتى ولا في الزماني ، لأنّ الذاتي لم ينكره
أحد من الحكماء ـ وهو ظاهر ـ ، ولا المتكلّمون ، لانّ القول بالحدوث الدهري أو الزماني
مستلزم للذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن علّته بالعدم الصريح الواقعي أو بالعدم
الزماني مستلزم لتأخّره عنها بالذات ـ كما يأتي توضيحه ـ. والزماني ممّا لا يصلح أن
يكون محلاّ للنزاع بين العقلاء ، فانّ القول به انّما نشاء من بعض الأشاعرة ؛ قال ـ
قدّس سره ـ في القبسات : لا يجوز أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو الحدوث الذاتي لاتفاق
الحكماء على الحدوث بذلك المعنى ، ولا الحدوث الزماني ، لأنّ من العالم المبحوث عن
حدوثه نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة لعوالم الأزمان والأماكن
رأسا ، فكيف يظنّ بافلاطن وسقراط ومن في مرتبتهما من
أفاخم الفلاسفة وائمّتهم انّهم يثبتون الحدوث الزماني للعالم الأكبر ويقولون : انّ
نفس الزمان ومحلّه وحامل محلّه والجواهر العقلية المفارقة مسبوقة الوجود بالزمان وحاصلة
الذات في الزمان؟! ، وليس يتفوّه بذلك من في دائرة العقلاء والمحصّلين (5)! ؛ انتهى.
ومراده ـ ; ـ انّه لا ريب في وقوع التنازع
بين الحكماء في الحدوث ، ولا يجوز أن يكون تنازعهم في الحدوث الذاتي والزماني ـ لما
ذكره ـ ، فيظهر منه أنّ المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري ، فيكون ممّا قال به بعضهم
ونفاه الآخرون. وقد صرّح بمثل ذلك بعض المحققين حيث قال بعد نقل اقسام الحدوث وحصرها
في الذاتي والدهري والزماني : وليس النزاع في هذه المسألة بين بعض الحكماء والمتكلّمين
في الأوّل ، إذ الحكماء أيضا قائلون بالحدوث الذاتي ، ولا في الثالث ، لأنّ هذا النزاع
انّما وقع بين العقلاء والعاقل لا يقول انّ العام بتمام اجزائه مسبوق بالعدم الزماني
وزمان عدمه جزء من اجزائه ، بل انّما النزاع في الثاني. فذهب المتكلّمون والمحقّقون
من الحكماء إلى أنّ وجود العالم مسبوق بعدم صريح واقعي خارجي ، والباقون من الحكماء
قالوا : انّ انواع العالم لا يمكن أن تكون مسبوقة بالعدم الخارجي ، وقالوا : هذا القول
لا يستلزم ازلية العالم وسرمديته وكونه قديما بالذات ، لأنّه مختصّ به ـ تعالى ـ ،
اذ الازلية هو عدم المسبوقية بالعدم مطلقا والعالم وإن لم يكن مسبوقا بالعدم الصريح
إلاّ أنّه مسبوق بالعدم الذاتي ؛ انتهى.
وقال بعض الأفاضل : انّا لا نسلّم انّ المتنازع
فيه بين الحكماء هو الحدوث الدهري ، بل المتنازع فيه انّما هو الحدوث الذاتي ، وكونه
متفقا عليه بينهم ممنوع ـ وإن كان نسبة الخلاف إلى ارسطاطاليس وامثاله من خطاء الناظرين
في كلامهم وعدم فهمهم لما هو مرادهم ، على ما حقّقه الفارابي في الجمع بين الرأيين
(6) ـ ، بل الظاهر ـ كما يشهد به الفحص ـ انّه كان التكلّم في الحدوث الذاتى والمناظرة
فيه شائعا بينهم ، فلعلّه ذهب بعضهم إلى القدم بذلك المعنى أيضا وإن
لم يظنّ ذلك في شأن أرسطاطاليس وأمثاله.
وأمّا المتكلّمون فلا شكّ انّ غرضهم اثبات
الحدوث الزماني أيضا ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم ما سوى ذلك الامتداد الموهوم
، فانّ المراد به ما سوى الواجب ـ تعالى (7) ـ من الموجودات ، والامتداد المذكور لا
وجود له ، فلا اشكال من جهة الزمان.
وأمّا محلّه ـ أي الحركة ـ وحامل محلّه
ـ أعني : الافلاك ـ فلا محذور في القول بحدوثها زمانا على رأيهم ، فانّهم لا يقولون
بالحالية والمحلّية المذكورة ـ أي : كون الزمان حالاّ في الحركة والحركة محلاّ له ـ
، بل انّما هو رأي الحكماء. وأمّا الجواهر العقلية فالعقل لا يقول به المتكلّمون (8)
، والنفس لمّا كان فيها جهة مادّية فيمكن أن يطلق عليها الحدوث الزماني بهذا الاعتبار
، على أنّه يمكن أن يقال : انّ كونها حادثة بمعنى انّه كان زمان لم يصحّ فيه أن يقال
: أنّها موجودة على وجه يصحّ الآن ذلك ، بل قد ظهر انّه يمكن القول بكونها زمانية ـ
أي : مقارنة للزمان ـ ، وحينئذ لا اشكال أصلا ؛ وهذان الوجهان يجريان في العقل أيضا
على القول بوجوده ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.
وما ذكره هذا الفاضل أخيرا من جواز مقارنة
المجرّدات من النفوس والعقول للزمان ، فيأتي ما فيه.
وأمّا تحقيق انّ النزاع بين الحكماء في
أيّ معنى من معاني الحدوث وأيّ معنى متفق عليه بينهم؛ فاعلم! انّ المشهور بين القوم
انّ افلاطون قائل بالحدوث الزماني للعالم بأسره ، وأرسطو قائل بالقدم الزماني لأصوله
وكلّياته (9). وتوهّم جماعة انّ مذهب ارسطاطاليس انّ العالم قديم بالذات ـ أي : غني
بذاته ـ كما يقوله الملحدون.
وقد دعاهم إلى هذه النسبة كلمتان منه في
اثولوجيا : إحداهما ما قال : انّ الزمان نفسه ، والهيولى والعالم الأعلى ليس لها بدء
زماني ؛ والثانية ما قال في بيان المطلب الجدلي : انّه يمكن أن يكون مطلب يحتاج على
كلى طرفيه بقياسات جدلية مثل العالم هل هو قديم أو حادث (10).
وغير خفيّ أنّه لا دلالة لهما بوجه على
القدم الذاتي للعالم ، بل هما يدلاّن على خلافه! ؛ ولذا ردّ المعلم الثاني هذه النسبة
في الجمع بين الرأيين (11) وقال : لا تدلّ الكلمتان المذكورتان على ذلك ، أمّا الأولى
فلأنّ المراد بنفي البدء الزماني عنها أنّها ليست مكوّنة من مادّة وأجزاء في زمان ـ
كالحوادث اليومية ـ ، بل هي مبدعة من الواجب ـ تعالى ـ لا في زمان ـ كما نصّ هو نفسه
بذلك في مواضع شتّى من أثولوجيا وساير كتبه ـ ؛ وأمّا الكلمة الثانية فلأنّ التمثيل
لا يدلّ على اعتقاد شيء من الطرفين ، فانّ التمثيل بالأحوال المتصوّرة للعالم لإيضاح
المطالب الجدلية لا يدلّ على إرادة اثبات حالة ، ولو دلّ لم لا يدلّ على الطرف الآخر؟!.
فثبت ممّا ذكر انّ نسبة القول بالقدم الذاتي للعالم إلى أرسطاطاليس خطاء وأي خطاء!.
والحدوث الزماني له لم ينسبه (12) إليه أحد ، لأنّ اثولوجيا مشحون بانّ العالم الأعلى
والأجرام العلوية ليست في الزمان ، بل هي علّته. فمذهبه انّ العالم بأسره من الأجرام
العلوية والسفلية والزمان ومحلّه مبدع لا في زمان ، أي : حادث بالحدوث الذاتي أو الدهري
، لأنّ المبدع لا في زمان يشملهما بإطلاقه. ولمّا نسب إليه الأكثرون الحدوث الذاتي
وكان المشهور بينهم انّ الحادث الذاتي مرادف للقديم الزماني فقد ينسبون إليه القول
بالقدم الزماني.
وقال بعض أهل التحقيق : الحقّ انّ المبدع
لا في زمان قسيم للقديم الزماني وليس مرادفا له ، لأنّ المبدع صادر لا في زمان ، والقديم
الزماني لكونه منسوبا إلى الزمان ما كان في الزمان كلّه فمعناه ما لم يتقدّمه زمان
ولكن كان في الزمان ، فالنسبة بينهما هي المخالفة دون المرادفة. ولمّا فرّق بذلك بين
المبدع والقديم الزماني وصرّح أرسطاطاليس بكون العالم مبدعا فانّ نسبة القدم الزماني
إليه أيضا (13) خطاء ، بل مذهبه الابداع المرادف للحدوث الذاتي.
وأنت تعلم انّ القائل بالقدم الزماني لا
يقول بأنّ العالم الأعلى والأجرام العلوية والزمان
واقعة في الزمان ، فمرادهم من القدم الزماني هو الابداع المرادف للحدوث الذاتي. فبعد
اصطلاحهم على ذلك لا يضرّهم دلالة لفظ القديم الزماني على لزوم كونه في الزمان ؛ مع
أنّ هذه الدلالة ممنوعة.
ثمّ التحقيق انّ افلاطون كأرسطاطاليس في
القول بالإبداع المحتمل للحدوث الذاتي والدهري.
وإذا كان ما ذهبوا إليه من الابداع محتملا
للحدوثين فيمكن أن يكون الحدوث المتنازع فيه بينهم هو الحدوث الدهري بعد اتفاقهم على
الحدوث الذاتي ـ كما حقّقه السيد ; ـ ، بمعنى انّهم بعد اتفاقهم على افتقار العالم
واحتياجه إلى الواجب يتنازعون في انّه هل تقدّم على العالم مجرّد العدم الذاتى أو ما
هو فوق ذلك ـ أعني : العدم الواقعي الصريح ـ ، ويحتمل ـ كما نقلناه عن بعض الأفاضل
ـ أن يكون الحدوث المتنازع فيه هو مطلق الحدوث من غير تقييد بشيء من الذات والدهر والزمان
، بل بمعنى الحاجة الصرف والفقر المحض المرادف للحدوث الذاتي في الواقع. لا لأنّ أحدا
من افلاطون وسقراط وأرسطو وامثالهم انكر الحدوث بهذا المعنى ، بل لأنه لمّا قال قوم
من الدهرية والطباعية ـ خذلهم الله ـ بالقدم الذاتي لكثير من الموجودات واستغنائها
بأنفسها عن العلّة ـ كالدهر والجواهر الفردة والخلأ والاجسام الصغار الصلبة وغير ذلك
ـ ، فكان بحثهم عن الحدوث واثباتهم له ردّا عليهم.
ومن المنكرين للحدوث الذاتي ولاحتياج الممكن
إلى المؤثّر « ذيمقراطيس » واتباعه ، القائلون بأنّ وجود السموات بطريق البخت والاتفاق
؛ ولهم شكوك واهية نقلناها في المقدّمات وأجبنا عنها. وكان ارسطاطاليس كثيرا ما يخاصم
اصحاب ذيمقراطيس ويبطل شكوكهم ويردّهم إلى الحقّ. فظهر ممّا ذكرناه أنّ الحدوث المتنازع
فيه والمبحوث عنه بين الأقدمين يمكن أن يكون هو الحدوث الدهري ـ كما ذكره السيد الدّاماد
(14) ـ ، ويمكن أن يكون هو الحدوث الذاتى ـ أعني : محض الفقر والحاجة ، كما ذكره
جماعة من الأفاضل ـ ، إلاّ انّ الانصاف
أنّ الأقرب هو الثاني : كما لا يخفى على المتتبّع الفطن.
هذا ؛ ثمّ تحقيق الحقّ على ما اخترناه يتوقّف
على بيان أمرين ؛
الأوّل : انّه لا ريب في تناهى العالم من
جانب البداية بمعنى انّ الامتداد المفروض من وجود الأجسام الفلكية والعنصرية ـ أعني
: الزمان والحركات اللازمة لها ـ من حين وجودها إلى ايّ وقت فرض متناهيان ، ويدلّ عليه
ما تقدّم من حقّية جريان التسلسل في الأمور المتعاقبة ـ سواء كانت مجتمعة في الوجود
أم لا ـ ؛ ونحن نشير إلى كيفية جريان طرق من أدلّة ابطال التسلسل في تناهي الحركة والزمان
، ليقاس عليها البواقي ؛
فمنها : طريق التطبيق ؛ وتقريرها هاهنا
: انّه لو كانت الحركة غير متناهية أو الزمان غير متناه لكان لنا أن نفرض من جزء معيّن
منهما ـ كدورة معيّنة مثلا من الحركة ويوم بليلة من الزمان إلى ما لا بداية لهما ـ
جملة واحدة ، ثمّ نفرض من جزء قبلهما بمقدار متناه ـ كخمس دورات مثلا من الحركة وخمسة
أيّام بلياليها من الزمان ـ جملة اخرى ، ثمّ نطبق بين الجملتين ونسوق الكلام حتّى يتمّ البرهان ـ على ما تقدّم في المقدّمات ـ.
ومنها : طريق التضايف ؛ وتقريره ما هاهنا
: انّ الحركة والزمان بحسب تآلفهما من اجزاء بعضها سابقة وبعضها مسبوقة ، ولنجعل تلك
الاجزاء دورات وأيّاما بلياليها ، فلو كانت الحركة والزمان غير متناهيين كانت تلك الدورات
وتلك الأيّام بلياليها غير متناهية. ويمكن لنا أن نأخذ من دورة معيّنة ومن يوم معيّن
بليلته إلى ما لا بداية له جملة ، فنأخذ ذلك ونقول : كلّ واحد من تلك (15) الدورة وذلك
اليوم بليلته هو الجزء الأخير في هذه الجملة ، فهو موصوف بالمسبوقية وليس موصوفا بالسابقية
، وكلّ واحد من أجزائها الأخر موصوف بالمسبوقية والسابقية معا ـ إذ لو وجد في الأجزاء
الأخر سابق غير مسبوق لانقطعت السلسلة به ولزم التناهي ، وهو خلاف الفرض ـ ، فيلزم
أن يكون كل واحد من الاجزاء المتقدّمة على الجزء الأخير موصوفا بالسابقية والمسبوقية
، وقد كان الجزء الأخير موصوفا بالمسبوقية دون السابقية. ففي الجملة المفروضة كلّ سابق
مسبوق من غير عكس كلّي لوجود الجزء الاخير ، فيكون عدد المسبوقية أزيد من عدد السابقية
بواحد ، وأنّه محال لأنهما متضايفان حقيقيان يجب تكافؤهما في الوجود وتساويهما في العدد
، وأن يكون بإزاء كلّ واحد من آحاد إحداهما واحد من آحاد الأخرى ـ كما تقدّم مفصّلاـ
؛ فيجب أن يكون عدم التناهي باطلا لتنقطع السلسلة ويوجد في أوّلها سابق غير مسبوق لتحصيل
التكافؤ.
ومنها : انّه لو كان الحركة والزمان أزليين
لكان عدد الدورات الماضية من كلّ فلك غير متناه وعدد كلّ من الساعات والأيّام والشهور
والسنين الماضية غير متناه ، فنقول : لا ريب في أنّ عدد دورات الفلك الأطلس اكثر من
عدد دورات القمر ، وعدد دورات القمر أكثر من عدد دورات الشمس ، والشمس من المريخ والمريخ
من المشتري والمشتري من زحل وزحل من الثوابت ، وكذا عدد الساعات أكثر من عدد الأيّام
والأيّام من الشهور والشهور من السنين ؛ ولا ريب في أنّ كلّ ما هو أقلّ من غيره يكون
متناهيا ، فكذا ما هو أكثر منه بقدر متناه ، فيجب تناهي الحركات والأزمنة .ومنع تناهى
ما هو أقلّ من غيره بقدر متناه مكابرة محضة يأبى العقل السليم من تجويزه.
ومنها : انّه لو كانت الدورات الماضية والأيام
الخالية غير متناهية لتوقّف حدوث كلّ حادث من الحوادث اليومية على انقضاء ما لا نهاية
له ، وهو محال ؛ فيلزم أن لا يوجد حادث. أمّا توقّف وجود الحادث على انقضاء ما لا نهاية
له فظاهر ؛ وأمّا استحالة انقضائه فلأنّ الانقضاء فرع التناهي من الطرفين ، فغير المتناهي
ولو من طرف واحد يمتنع انقضائه ـ لأنّ معنى انقضائه أن ينقطع ويحيط بمجموعه وعاء ويتحقّق
له طرفان ـ ، ومع عدم حصول انقطاع أحد طرفيه لا معنى لانقضائه ، فيحصل من فرض انقضائه
تناهيه.
فان قلت : اللازم ممّا ذكر تناهى الحركة
والزمان وهو لا يفيد تناهى العالم من جانب البداية ، لجواز أن يكون الاجسام الأوّلية
قديمة ساكنة ويكون سكونها أزليا ولا تكون لها حركة ولا زمان حتّى يجري فيها براهين
بطلان التسلسل ، والحركات الّتي نشاهد من بعضها يجوز أن تكون طارية مسبوقة بسكون ازلي
؛ والحاصل انّ براهين ابطال التسلسل لا يفيد أزيد من تناهي الحركة والزمان وهو لا يوجب
تناهى العالم ، لجواز أن تكون أصوله الأوّلية قديمة ساكنة لا متحركة ولا منتزعة عنها
الزمان ، فلا يثبت منه تناهي العالم من جانب البداية ؛
قلت : أمّا أوّلا : انّه لا ريب انّ اصول
العالم الجسماني منحصرة بالأفلاك والعناصر ، والأجسام عند العقلاء منحصرة بهما ، وحركة
الافلاك عندهم واجبة ولا يجوز سكونها في وقت، والدليل عليه ظاهر. ولا ريب أنّ العناصر
ليست متقدّمة على الافلاك في الوجود ، فهي إمّا متأخّرة عنها أو مقارنة لها في الوجود
، وعلى التقديرين لا ينفكّ العالم عن الحركة والزمان، ويلزم منه تناهى السكون للأجسام
الساكنة.
امّا ثانيا : فلأنّه لو سلّم جواز السكون
للأفلاك أيضا وقلنا انّ الحركة الّتي للأفلاك طارية مسبوقة بالسكون أو احتملنا وجود
اجسام أخر ساكنة سوى الافلاك والعناصر وقلنا هي الاجسام الأوّلية ، نقول : لا ريب أنّ
وجود الاجسام وإن كانت ساكنة لا ينفكّ عن الامتداد الواقعي المعبّر عنه بالزمان ، فيجري
فيه ادلّة ابطال التسلسل ويثبت به تناهيه ، ومنه يظهر تناهي العالم من جانب البداية.
وأمّا ثالثا : فانّ المتكلّمين أقاموا حجّة
على عدم جواز كون السكون قديما ؛ وتقرير حجّتهم : انّ السكون أمر وجودي لأنّ الكون
ـ أعني : حصول الجسم في الحيّز ـ أمر محسوس فيكون موجودا. وهو تمام ماهية الحركة والسكون
، وامتيازهما بالعوارض الخارجية ، فيكون السكون موجودا كالحركة. وحينئذ لو كان قديما
لامتنع زواله ـ لأنّ كلّ امر وجودي ثبت قدمه امتنع عدمه (16) ـ ، مع أنّ السكون يجوز
زواله بالإجماع والبرهان ؛ أمّا الاجماع فلأنّ الأجسام عند الحكماء منحصرة في الفلكيات
وحركتها واجبة عندهم ، وفي العنصريات وحركتها جائزة عندهم ، فلا يوجد في العالم جسم
يمتنع عليه الحركة ؛ وأمّا البرهان فلأنّ الأجسام إمّا بسيط ، فيجوز على كلّ جزء منها
ما يصحّ على الجزء الآخر ، فيصحّ لكلّ جزء أن يماسّ بيساره ما يماسّ بيمينه وبالعكس
، وما هو إلاّ بالحركة ؛ وإمّا مركبة ، فيصحّ على بساطتها الحركة ـ كما قلناه ـ ، ويلزم
من صحّة الحركة على البسائط صحّتها على المركّب ولو في الوضع ـ أي : تبدّل نسب الأجزاء
إلى الأجزاء ـ.
وأنت تعلم أنّ جميع مقدّمات هذه الحجّة
ظاهرة إلاّ استحالة عدم القديم ، فلا بدّ من تحقيق الحق فيه ليظهر جلية الحال ، فنقول
: المشهور في الاستدلال عليه انّ القديم إن كان واجبا لذاته فامتناع عدمه ظاهر ، وإن
كان ممكنا كان مستندا إلى واجب بالذات دفعا للتسلسل. ولا يجوز أن يكون ذلك الواجب مختارا
بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد ، لأنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد ومقارن
لعدم ما قصد ايجاده ، لأنّ القصد إلى ايجاد الموجود محال بالبديهة ، فيجب أن يكون ذلك
الواجب فاعلا لا بالقصد سواء كان فعله بالعلم والمشية أم لا. وحينئذ نقول : إن لم يتوقّف
تأثير هذا الفاعل في ذلك القديم على شرط أصلا ـ بل كان ذاته كافيا في ايجاده ـ كان
عدم ذلك المعلول القديم محالا لامتناع تخلّف المعلول عن الموجب التامّ واستلزام عدمه
لعدم الواجب ـ لأنّه يلزم ذاته من حيث هي هي ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم
ـ ؛ وان توقّف تأثيره فيه على شرط فلا يجوز أن يكون ذلك الشرط حادثا وإلاّ لكان القديم
المشروط به أولى بالحدوث ، فيكون ذلك الشرط أيضا قديما ويعود الكلام في ذلك الشرط وفي
صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط؟ ، ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب
بلا شرط دفعا للتسلسل في الأمور المترتّبة الموجودة. وهذا الشرط المنتهى إلى الواجب
بالذات الصادر عنه بلا شرط يمتنع عدمه ـ لاستلزام عدمه لعدم الواجب ـ ، فاذا امتنع
عدمه امتنع عدم مشروطه ومشروط مشروطه ... ، وهكذا إلى القديم الّذي كلامنا فيه.
واعترض عليه بوجهين : أحدهما : أنّ فاعل
السكون يجوز أن يكون فاعلا بالقصد. وما ذكر في بيان استحالته غير تامّ. لانّ تقدّم
القصد على الايجاد كتقدّم الايجاد على الوجود في انّهما بحسب الذات ، فيكون القصد مقارنا
للإيجاد في الوجود زمانا وإن تقدّم عليه ذاتا ، ولا يوجب ذلك تحصيل الحاصل المحال ،
لأنّ المحال هو القصد إلى ايجاد الموجود بوجود حاصل قبل. بل نقول : إذا كان القصد كافيا
في وجود المقصود كان مع المقصود زمانا ، وإذا لم يكن كافيا فيه فقد يتقدّم عليه زمانا
ـ كقصدنا إلى افعالنا ـ ، وإذا جاز استناد وجود القديم إلى الفاعل بالقصد جاز استناد
عدمه أيضا إليه بان يقصد اعدامه فيصير معدوما.
وثانيهما : انّا لا نسلّم أنّ الشرط الّذي
يتوقّف عليه السكون القديم يجب أن يكون أمرا وجوديا قديما حتّى يعود الكلام فيه وفي
صدوره عن الواجب هل هو بشرط أو بغير شرط ويلزم الانتهاء إلى ما يجب صدوره عن الواجب
بلا شرط ، ولم لا يجوز أن يكون ذلك الشرط عدما ازليا كعدم حادث مثلا؟!. فاذا وجد ذلك
الحادث زال السكون لزوال شرطه الّذي هو عدم ذلك الحادث ، لا لزوال الواجب حتّى يحكم
بامتناعه.
فان أجيب عن هذا الاعتراض : بأنّ هذا العدم
ـ أعني : عدم الحادث ـ لكونه ازليا ممكنا لا بدّ أن يستند إلى عدم يكون واجبا ـ أعني
: عدم الممتنع ـ إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية كما أنّ وجود الممكن الأزلي لا بدّ أن
يستند إلى وجود واجب إمّا ابتداء أو بواسطة ازلية ـ دفعا للتسلسل ـ. وإذا استند هذا
العدم إلى العدم الّذي كان واجبا بواسطة أو بدون واسطة كان زواله ممتنعا ـ لاستلزامه
زوال الواجب ، أعني : العدم الواجب الّذي انتهى إليه استناده ـ ، فلا يمكن أن يزول
ما هو شرط السكون ـ أعني : عدم الحادث ـ بأن يصير هذا الحادث موجودا ثمّ يزول السكون
ـ لزوال شرطه ـ ، فالمحذور لازم.
قلنا : العدمات الأزلية الممكنة جاز أن
يستند كلّ واحد منها إلى عدم أزلي آخر ممكن من غير أن ينتهى إلى عدم يكون واجبا ، بل
ترتّب العدمات الممكنة
ترتّبا ذاتيا إلى غير النهاية ، وليس ذلك
التسلسل لكونها في الاعدام محالا.
اقول : الوجه عند الحكماء في عدم استناد
القديم الممكن إلى واجب الوجود المختار بمعنى كون فعله مسبوقا بالقصد أنّ الواجب لذاته
لا يجوز أن يكون عندهم فاعلا بالقصد ـ لما مرّ ـ ، فالتعليل الّذي ذكر في الدليل المذكور
لعدم استناده إليه مع الاعتراض عندهم ساقط. فهذا الاعتراض ساقط على قواعد الحكمة ،
بل يتوجّه على من علّل عدم الاستناد بما ذكر من أنّ القصد إلى الايجاد متقدّم على الايجاد
المحال.
وأمّا الاعتراض الثاني فالحقّ امكان ورود
مثله على قواعد الحكمة أيضا ، ولكن فيه تفصيل وتنقيح لا بدّ أن يشار إليه. فنقول :
القديم إمّا قديم بالذات أو قديم بالزمان (17) ، والثاني على قسمين : أحدهما : ما هو
متقدّم على الزمان ومتعال عنه ولا يعلّل وجوده بالزمان بوجه ، وهو الّذي اشرنا إليه
انّه المبدع لا في زمان المرادف للحادث الذاتي ـ وذلك مثل العقول والعالم الأعلى والافلاك
عند الحكماء ـ ، وثانيهما : ما هو متأخّر عن الزمان تأخّرا ذاتيا أو مقارن له ومعلّل
به من وجه ، وهو الّذي خصّص بعض المتأخّرين اسم القديم الزماني به ـ كما اشرنا إليه
قبل ذلك ـ. وذلك مثل الاتصال والالتيام للأجسام الفلكية والعنصرية والسكون للعناصر
وأمثال ذلك ، فانّها واقعة في طرف الزمان معلّلة به.
ولا ريب في امتناع العدم على القديم بالذات
والقديم بالزمان بالمعنى الأوّل ، لأنّ منشأ التغيّر والتبدّل والوجود بعد العدم وبالعكس
هو الزمان ، لعدم استقراره وثباته وجمعه المتقابلات واختلافاتها لاتساع ذاته ، فما
هو خارج منه متعال عنه غير محمول في طرف متقدّر ، بل قائم بذاته أو بعلّته فقط ، فانما
حامل وجوده وعدمه جميعا هو ذاته أو علّته. فان كان موجودا استحال عدمه ، وإن كان معدوما
استحال وجوده ـ لاستحالة التناقض ـ. فهذا الموجود ـ أي : الخارج عن ظرف الزمان ـ اوّل
وجوده ووسطه وآخره واحد لا يمتاز له قبل ولا بعد ، فكونه موجودا هو عين كونه باقيا.
وأمّا القديم الزماني بالمعنى الثاني فلا يبعد أن يجوز عدمه ، لاحتمال أن يكون رفع
مانع مربوط الوجود بالزمان وتدريجه من تتمّة العلّة
التامّة لوجوده. فحيثما كان المانع في الأزل معدوما كانت العلّة التامّة موجودة ، فكان
معلولها موجودا. ولمّا وجد بتدريج الزمان مانع وجوده فنقصت العلّة فصار معلولها معدوما
، وذلك مثل خرق السماء وشقّ القمر وامثالهما ، فانّه يجوز أن يكون عدم داعية الاعجاز
من تتمّة العلّة المستقلّة لاتصال السماء والقمر ، فحيثما عدم هذا الداعي ولم يكن لها
داع إلى الانخراق والانشقاق كانت الافلاك مصونة ملتئمة ، ولمّا حدث لها بتدريج الزمان
داعية الاعجاز نقضت العلّة ، فعدم معلولها. ولا ريب انّ السكون إذا كان قديما يكون
من هذا القبيل ، فيجوز أن يكون من تتمّة العلّة التامّة لوجوده عدم حدوث حادث مربوط
الوجود بالزمان وتدريجه ، فحيث لم يحدث الحادث في الأزل وجد السكون ، فلا يبعد زواله
إذا حدث ذلك بتدريج الزمان.
وبذلك يظهر أنّ العمدة في اثبات تناهى السكون
للأجسام الساكنة هما الوجهان الأوّلان لا الدليل الّذي استدلّ به في المشهور. وإذ ثبت
تناهي العالم من جانب البداية (18) يبطل به الحدوث الذاتي ـ أعني : القدم الزماني ـ
، اذ على القول به يكون الافلاك والعناصر غير منفكّة عن الواجب ـ تعالى ـ في الخارج
ولا يوجد بينهما فاصلة.
ولا ريب أنّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ ازلي
لا بداية له ، فتكون الافلاك والعناصر أيضا كذلك ، فيلزم عدم تناهي الحركات والزمان
؛ وقد علم تناهيها.
فان قيل : مجرّد تناهي العالم من جانب البداية
لا يبطل القدم الزماني ؛ لأنّه إذا كان العالم متناهيا ولكن كان متّصلا بالواجب ولم
يتحقّق بينهما انفصال حتّى امكن أن يقال كان الواجب ولم يكن العالم كان العالم حينئذ
قديما ، والقول به ليس إلاّ قولا بالقدم. ولو اطلق عليه الحدوث فلا يكون إلاّ بمجرّد
الاصطلاح على اطلاق الحادث والقديم على ما كان زمان وجوده متناهيا وغير متناه ، وهو
غير مفيد ، ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه أيضا؟!. والمفسدة فيه ليس إلاّ
لزوم عدم الانفكاك بين الواجب ـ تعالى ـ وبين العالم ، وهو قد لزم في صورة التناهى
أيضا!. فما لم يتبيّن الانفكاك والانفصال بين الواجب وبين العالم
لا يبطل القدم ، ومجرّد ثبوت تناهى العالم لا يكفي لذلك.
قلنا : القائلون بالقدم متفقون على عدم
تناهي العالم من جانب البداية ، والقدم عندهم مفسّر بعدم تناهي العالم ، لا بمعيته
للواجب ـ تعالى ـ في الوجود وعدم الانفصال بينهما في الخارج ، لأنّ وجود الواجب ـ تعالى
ـ ليس زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم به وانفكاكه عنه. ولا جائز أن يوصف بمعيته له
أو تأخّره عنه ـ سواء كان العالم متناهيا أو غير متناه ـ. وإذا كان مرادهم بالقدم هو
عدم تناهى العالم فاذا ثبت تناهيه يبطل القدم ؛ ولم يجوّز أحد من الحكماء القائلين
بالقدم الزمانى للعالم كونه متّصلا بالواجب ـ تعالى ـ في الخارج مع كونه متناهيا من
جانب البداية.
فان قيل : ليس المراد بالانفصال والانفكاك
أن يتحقّق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، وكذا ليس المراد بالاتصال
والمعية أن يتحقق زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب والعالم فيه معين متقارنين ؛ بل المراد
بالأوّل وقوع انفكاك يصحّح القول بانّه كان الواجب في الواقع والخارج ولم يكن العالم
فيه ، والمراد بالثاني ثبوت تلازم يصحّح القول بانّه كلّما كان الواجب موجودا في الخارج
كان العالم موجودا معه ؛ فالمراد بالحدوث هو الأوّل وبالقدم هو الثاني ، سواء كان العالم
متناهيا أو غير متناه.
قلنا : مجرّد التلازم بين الواجب والعالم
في الوجود الخارجي ـ وإن كان العالم متناهيا ـ ليس قولا بالقدم ، ولذا لم يقل به أحد
من الحكماء القائلين بالقدم كما لم يقل به أحد من المليين القائلين بالحدوث. والسرّ
انّه يستلزم تناهي بقاء الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، لانّه إذا صدق انّه كلّما كان الواجب
موجودا كان العالم موجودا وكان وجود العالم متناهيا فكان وجود الواجب أيضا كذلك.
ولا يقال : انّ وجود الواجب لا يتصف بالتناهي
وعدم التناهي ، فلا يلزم الفساد المذكور ؛ لأنّا نقول : لمّا كان وجود الواجب ـ تعالى
شأنه ـ في الواقع والخارج بحيث
وجد (19) في ذلك الواقع وجود العالم أيضا
وكان متناهيا منقطعا يصدق انّ وجود الواجب أيضا منقطع ، وهذا كوجود الافلاك فانّها
أيضا خارجة عن الزمان ولا ينطبق وجودها عليه. إلاّ انّه إذا كان وجودها في الواقع بحيث
لو فرض فيه زمان كان متناهيا لصدق تناهيها أيضا. وهذا كما يوجب حدوث العالم يوجب حدوث
الواجب أيضا ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا! ـ. فهذا الاحتمال ـ أي : التلازم بين الواجب
والعالم ـ مع فرض تناهي العالم احتمال فاسد عند العقل ليس مبنى شيء من الحدوث والقدم
، بل مبنى الحدوث على تناهى العالم وإن استلزم الانفكاك بين الواجب والعالم في الوجود
الخارجي وعدم التلازم بينهما ، ومبنى القدم على عدم تناهيه وإن استلزم التلازم والمعية
في الوجود بينهما. والسرّ انّ الحكماء والمليين متفقون على ازلية الواجب ـ تعالى ـ
وقدمه بمعنى دوام وجوده وبقائه في الخارج بحيث لو فرض فيه الزمان كان غير متناه ، فالحكماء
قالوا : وجد فيه الزمان فحكموا بعدم تناهى العالم والزمان ، والمليون قالوا لو لم يوجد
فيه ولكن بحيث لو وجد فيه لكان غير متناه. فالحكماء حكموا بأزلية وجود الواجب والعالم
والمليون حكموا بأزلية وجود الواجب دون العالم ؛ هذا.
مع أنّ المطلوب هاهنا انّ مجرّد اثبات تناهي
العالم من جانب البداية يستلزم ابطال القدم بالمعنى الّذي اثبته الفلاسفة ، ولا ندّعي
انّ مجرّد ذلك يثبت تمام المطلوب الّذي نحن بصدده ـ وهو ثبوت الانفكاك الواقعي بين
الواجب والعالم ـ ، وصحّة قولنا : كان الواجب موجودا في الخارج ولم يكن العالم ، فانّ
ذلك يأتي بيانه مفصّلا ؛ هذا.
وممّا يدلّ على تناهي العالم من جانب البداية
ـ بل على حدوثه بعد العدم المحض ـ اجماع الأنبياء والمليين واتفاق أهل الأديان أجمعين
(20) ، فانّه قد ثبت بالتواتر القطعي من الأنبياء وأوصيائهم تناهي العالم من جانب البداية
وحدوثه بعد العدم المحض والليس الصرف ، بحيث لا يتطرّق إليه شائبة تجوّز وتأويل. والعقل
السليم إذا تشبّث بذيل الانصاف واجتنب عن العناد واللجاج ولاحظ انّ جمّا غفيرا من أولى
النفوس القادسة وذوي العقول الثاقبة ـ الّذين لم ينحرفوا قطّ عن الصراط القويم وفاقوا
على طوائف العباد أجمعين ، وتأيّدوا من عند الله تعالى بالمعجزات الباهرة والآيات القاهرة
ـ قد اتوا بتناهي العالم من جانب البداية وحدوثه ودانوا به واصرّوا على ذلك وتشدّدوا
في الانكار على منكريه ـ مع انّه لا يضرّهم القول بقدم العالم بوجه ـ يجزم بانّهم لم
يأتوا به إلاّ عن يقين قطعيّ وصدق واقعى ، إذ القول بعدم ثبوت الحدوث بعد العدم من
الأنبياء. ومنع تحقّق الاجماع مكابرة صرفة ومجادلة محضة ، كيف وجمّ غفير من مشاهير
علماء الفريقين ادّعوا الاجماع عليه؟! ، والأخبار الدالّة عليه بلغت حدّ التواتر ؛
منها : الحديث المشهور الّذي تلقّته الأمّة بالقبول وهو قوله ـ 6 ـ : كان الله ولم
يكن معه شيء (21).
فان قيل : المعية المنفية في هذا الخبر
ليست هي المعية الزمانية ـ كما يأتي بيانه ـ ، ولا المعية الشرفية ، فبقى أن تكون هي
الذاتية الّتي هي تأخّر الأشياء جميعا بمحض ذواتها عن ذات العلّة وافتقارها الذاتي
إليها ؛
قلنا : لا ريب في أنّ المعية المنفية ليست
زمانية ولا شرفية ، بل هي المعية الدهرية ، فالمراد : انّ الله ـ تعالى ـ كان موجودا
في حاقّ الواقع ومتن الدهر ولم يكن معه العالم بمعنى انّ العدم المحض والليس الصرف
كان سابقا عليه ـ كما يأتي بيانه مفصّلا ـ. فالمراد من الخبر نفي القدم الدهري من العالم
وهو أن لا يسبقه عدم في متن الدهر بأن يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر.
وهذا المعنى هو الظاهر من الخبر والمتبادر عند اهل اللسان والمتعارف المألوف من عرف
ارباب الشريعة.
وأمّا حمل المعية المنفية على المعية الذاتية
والقول بأنّ المراد بيان مجرّد التقدّم الذاتي ـ كتقدّم اليد على المفتاح ـ ، فممّا
لا يكاد يفهمه أهل اللسان وليس مألوفا من عرف صاحب الشرع ، ولا ينتقل إليه اذهان السامعين
ولا يوافقه ألسنتهم ، مع انّ الله ـ تعالى ـ يقول : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ؛ هذا.
وأورد على الاستدلال بالنصّ والاجماع على
حدوث العالم : بأنّه دوري ، إذ حجية النصّ والاجماع موقوفة على ثبوت الشرع ، وثبوت
الشرع موقوف على العلم بصدق الأنبياء ، والعلم بصدقهم موقوف على العلم بقدرته ـ تعالى
ـ ، إذ لولاه لجاز أن لا يقدر على منع اظهار المعجزة على يد الكاذب أو لا يكون صدور
المعجزة منهم من جانبه ـ تعالى ـ ومن قدرته. والعلم بالقدرة ـ بمعنى جواز انفكاك العالم
عن ذاته تعالى بالنظر إلى الداعي ـ هو عين العلم بحدوث العالم ، فيتوقّف حجية النصّ
والاجماع بوسائط على العلم بالحدوث. فلو كان الحدوث موقوفا عليهما لزم الدور ؛
والجواب : انّ العلم بصدق الأنبياء ـ :
ـ لا يتوقّف على القدرة بهذا المعنى ، بل انّما يتوقّف على القدرة بالمعنى الأوّل المشهور
ـ يعنى كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل ـ ، أي : يكون صدور الفعل منه
بالمشية والإرادة ، فانّه إذا علم أنّ صدور الفعل منه ـ تعالى ـ بالمشية والإرادة يحصل
العلم بصدق الأنبياء ، لأنّه ـ تعالى ـ لا يشاء ولا يريد اظهار المعجزة على يد الكاذب
، وان لم يعلم الانفكاك بين الواجب والعالم. الا ترى انّ الحكماء لم يقولوا بثبوت القدرة
بهذا المعنى له ـ تعالى ـ مع انّهم لا يجوّزون عليه ـ تعالى ـ اظهار المعجزة على يد
الكاذب؟.
ونقل عن غياث الحكماء انّه قال في رسالته
المسمّاة بدليل الهدى : (22) ويمكن أن يقال بمجرّد مشاهدة المعجزة يحصل العلم بصدق
صاحبها بلا احتياج إلى مقدّمة أخرى.
وحينئذ يمكن اثبات الاختيار بأيّ معنى كان
ولو بالمعنى الأوّل ، بل اثبات الواجب وصفاته الكمالية أيضا بالشرع.
وقال بعض الفضلاء : الحقّ أن يقال : انّ
اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة والاختيار لا على العلم بوجودهما ، لأنّا نعلم
بديهة انّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه ، وهذا
القدر كاف في اثبات النبوّة. وبعد اثبات النبوّة يثبت صدق النبي ـ 6 ـ. وإذا ثبت صدقه
يثبت صدقه في كلّ ما اخبر به ، ومنه حدوث العالم ، فيجوز أن يكون اثبات النبوّة موقوفا
على أصل القدرة والاختيار ، والعلم بهما يكون موقوفا على اثبات النبوّة ، فقد حصل اختلاف
الجهة فلم يلزم الدور ؛ انتهى.
واعترض عليه : بانّ العلم بأنّ اظهار المعجزة
على يد الكاذب قبيح يجب تنزيهه ـ تعالى ـ عنه، انّما هو بعد العلم بقدرته ، وأمّا قبل
ذلك فيشكل دعوى ذلك جدا ؛ هذا.
وأيضا : لو امكن دعوى ذلك فهذا يكفى في
اثبات القدرة ولا حاجة إلى التمسّك بالشرع في حدوث العالم ؛ انتهى.
وغير خفي انّ الفرق بين هذا الجواب وبين
ما نقلناه عن غياث الحكماء : انّ مبنى جوابه على انّ اثبات النبوّة لا يتوقّف على القدرة
والاختيار مطلقا ، بل لا يتوقّف على وجود الواجب أيضا، لأنّ اثبات النبوّة لا يكون
إلاّ بإظهار المعجزة. ومبنى هذا الجواب على أنّ اثبات النبوّة موقوف على وجود القدرة
وليس موقوفا على العلم بها ، فيرد عليه : انّ توقّف اثبات النبوة على القدرة انّما
يكون لحصول العلم بأنّ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح ، وذلك التوقّف إنّما يكون
على العلم بالقدرة لا على مجرّد وجودها ، فجعل مجرّد وجودها ممّا يتوقّف عليه اثبات
النبوّة غير مفيد ، فلا بدّ إمّا أن يدّعى عدم توقّف اثبات النبوّة عليها مطلقا ـ كما
قال غياث الحكماء ـ أو يجعل الموقوف عليه هو العلم بها ، ويجاب عن الدور بما تقدّم
أوّلا. هكذا ينبغي تقرير الايراد عليه.
وأمّا ما اورد عليه المعترض بقوله : وأيضا
لو امكن المحال ، فلا يخفى ما فيه ؛ هذا.
فظهر ممّا ذكر من تناهى العالم مضافا إلى
اجماع الملّة وأخبار الحجج ثبوت حدوث للعالم فوق الحدوث الذاتي وعدم كفاية مجرّد الحدوث
الذاتى ، فانحصر الأمر بين الحدوث الدهري والزماني. وسيأتي بيان بطلان الثاني ليلوح
الحقّ من بينهما.
فان قلت : اللازم من دليل التناهي هو حدوث
العالم الجسماني من الأجسام والمقادير القائمة بها ـ بمعنى تناهي المدّة المفروضة من
آن حدوثه إلى ما بلغ ـ. ولا يلزم منه حدوث المجرّدات كذلك ـ لتعاليها عن الزمان وانتسابها
إليه ـ ، فيجوز أن يكون العقول حادثة بالذات ـ أي متأخّرة عن الواجب بمجرّد المرتبة
العقلية دون المرتبة الخارجية والواقعية ـ. ثمّ يوجد الله تعالى (23) ـ بوساطتها أو
بدون وساطتها العالم الجسماني في الوقت الّذي كان قابلا للحدوث فيه ؛
قلت : هذا الاحتمال وإن لم يلزم بطلانه
من ادلّة تناهي العالم ـ لاختصاصها بالعالم الجسماني ـ ولم يثبت أيضا دليل عقلي على
امتناعه ، إلاّ أنّ ما ذكرنا ثانيا من اجماع المسلمين وأخبار الحجج ناهضة بإبطاله.
فالعمدة في اثبات حدوث المجرّدات بمعنى وجودها بعد العدم الصرف والليس المحض هو الاجماع
والاخبار ؛ منها : الخبر المشهور المتقدّم ذكره ، فانّ الظاهر منه تأخّر جميع ما يطلق
عليه اسم العالم في الخارج ونفس الأمر عن ذاته ـ تعالى ـ ، لانّ لفظ « شيء » وقع نكرة
في سياق النفي ، فيفيد العموم. فمعنى الخبر : انّه قد تحقّق الواجب في الواقع والخارج
ولم يكن شيء من الأشياء موجودا سوى ذاته الأقدس ، وما سواه كان معدوما بعدم صريح خالص
وليس صرف ساذج. وحمل الخبر على انّه ـ تعالى ـ كان موجودا في الزمان ولم يكن معه شيء
فيه باطل ، لأنّ كون الواجب زمانيا من أشنع المحالات ـ كما يأتي مفصّلا ـ.
ومن الأخبار الدالّة على حدوث جميع ما سوى
الله الخبر القدسيّ المشهور بين أهل الاسلام ، وهو قوله ـ تعالى ـ : كنت كنزا مخفيا
فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لأعرف (24). فان الظاهر منه انّه ـ تعالى ـ كان موجودا
في الواقع والخارج ولم يكن غيره من الأشياء موجودا فيهما.
ويمكن أن يقال : الوجه في حدوث المجرّدات
من العقول مع عدم دلالة ادلّة التناهي عليه هو عدم قبولها الوجود الأزلي ـ لإمكانها
وافتقارها ـ.
ثمّ هنا بعض دلائل أخر ذكرها جماعة لاثبات
حدوث العالم وبطلان قدمه ، وهي عند التحقيق ليست بتامّة فلنذكرها ونشير إلى ما يرد
عليها.
منها : ما ذكره المحقّق الطوسي في الفصول
والفخر الرازي في الأربعين (25) ، وهو أنّه لو وجد ممكن كان قديما ، فتأثير الفاعل
فيه إمّا حال بقائه أو حال عدمه أو حال حدوثه ؛ فعلى الأوّل يلزم تحصيل الحاصل ، وعلى
الأخيرين يلزم الخلف مع المطلوب.
ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين ، وهو انّه
لو وجد ممكن كان قديما لكان بقاؤه أيضا قديما ، وكما انّ الايجاد في زمان البقاء يستلزم
تحصيل الحاصل فكذا ايجاد الموجود القديم ـ الّذي كان بقائه قديما ـ يوجب تحصيل الحاصل
بالضرورة.
ومنها : ما ذكره بعض المتأخّرين أيضا ،
وهو انّ تأثير الفاعل على قسمين :
أحدهما : ايجاد المعدوم ، وثانيهما : ضبط
الموجود وابقائه ، وفي الممكن القديم لا يتصوّر الأوّل ، وفي الوجود المكتسب عن الغير
لا يكفي الثاني.
ويرد على هذه الأدلّة الثلاثة أنّها منقوضة
بمثل تأثر حركة اليد في حركة المفتاح ، فانّ الثانية محتاجة إلى الاولى معلولة لها
، مع انّه ليس بينهما انفكاك زماني ولا دهري.
فيرد عليه أيضا انّ تأثير الأولى في الثانية
إمّا حال عدمها أو حال بقائها ، فيلزم أحد المفاسد المذكورة ، فما تقولون في الجواب
هنا نحن نقول هناك. وبالجملة إذا تحقّق مثل هذا الربط بين بعض الحوادث بأن يكون حادث
مستندا إلى حادث آخر من غير وقوع انفكاك في الخارج بينهما فيجوز تحقّقه بين بعض القدماء
أيضا بأن يكون ممكن قديم مستندا إلى قديم آخر واجب بالذات من غير وقوع انفكاك في الخارج.
فهذه الأدلّة لا تفيد أزيد من الحدوث الذاتي.
الأمر الثاني : ممّا يتوقف عليه تحقيق الحقّ
فيما اخترناه من حقّية الحدوث الدهري انّه لا ريب في انّ المراد من الزمان الموهوم
الّذي اثبته المتكلّمون هو الشيء المتكمّم المتصرّم له واقعية ونفس أمرية ، وبالجملة
هو كمّ واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار. وليس المراد
به هو الزمان التقديري الّذي ذكره الطبرسي في مجمع البيان (26). فانّ
المراد به هو الامتداد بمجرّد الفرض والتقدير من دون أن يكون له واقعية ونفس أمرية
، فانّ الاذهان البشرية إذا سافرت من بقعة الزمان والزمانيات إلى صقع الدهر والدهريات
تخترع لألفها بالزمان أمرا ممتدا تقديريا تخيّليا من غير شائبة تحقّق له في متن الواقع.
ومثل هذا الامتداد نحن نقول به ، لأنّ القول به لا يوجب تحقّق امتداد في نفس الأمر
قبل وجود العالم ، بل قبله عدم صرف وليس ساذج. وهذا التقدير انّما حصل منّا ، فالوجود
يكون مسبوقا بالعدم الصريح مسبوقية غير زمانية . ويؤيّد ما ذكرناه من انّ الزمان التقديري
غير الزمان الموهوم وأنّ المتكلّمين انّما قالوا بالموهوم دون التقديري ما ذكره بعض
المحدّثين من أصحابنا من انّ اوّليته ـ تعالى ـ وآخريته فسّرتا بوجوه :
الأوّل : أن يكون المراد بالأسبقية بحسب
الزمان ، وهذا انّما يتمّ إذا كان الزمان أمرا موهوما ـ كما ذهب إليه المتكلّمون ـ
، أو بحسب الزمان التقديري ـ كما ذكره الطبرسي في مجمع البيان ـ.
وإذ ثبت انّ المراد بالزمان الموهوم هو
الامتداد الواقعي النفس الأمري فنقول : ثبوت مثل هذا الشيء قبل ايجاد العالم باطل بوجوه
:
منها : انّه لا يتصوّر في الدهر وفي العدم
والليس الصريح المحض امتداد وتصرّم وحدّ وتمايز ولا نهاية ، إذ ذلك من لوازم وجود الحركة.
وأورد عليه : بانّا لا نسلّم انّ الاتصاف
بالامتداد والانقضاء وامثاله فرع وجود الحركة ، لم لا يجوز أن ينتزع من استمرار وجود
الواجب أمر ممتدّ على سبيل التجدّد والتفصّي؟! ، بل الظاهر انّه كذلك ولا استبعاد فيه.
كيف وانّهم يقولون انّ الحركة القطعية ينتزع من الحركة التوسطية والزمان ينتزع من الآن
السيال ، فكما جاز هناك انتزاع الأمر الممتدّ المتجدّد المتفصّي من الأمر الشخصي الّذي
لا امتداد فيه ولا انقسام ولا تجدّد ولا انقضاء فكذلك يجوز هاهنا أيضا بلا تفرقة اصلا
؛ انتهى.
وأنت تعلم انّ هذا الايراد في غاية الوهن
والركاكة! ، لأنّه كيف يجوّز عاقل أن ينتزع من الوجود الأحدي الصرف الثابت المتعالي
عن الزمان والحركة شيء سيال متجدّد ممتدّ؟! ، بل ما هو نفس الزمان بعينه ، لعدم الفرق
بين هذا الزمان والزمان الموهوم بالحقيقة ـ كما اشير إليه ـ. ويدلّ عليه أيضا ما قال
بعض المثبتين للزمان الموهوم : انّا لا نقول انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ يتجدّد
وينقضي كوجود زيد في الزمان ، بل هو كعدم زيد في زمان قبل زمان وجوده ، ولا تفاوت إلاّ
بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك من الصفات ، وليس ذلك فى
ذلك الزمان ، وعلى هذا يلزم اعترافهم بكون الواجب محلاّ لمثل هذا الزمان (27). وأيّ
عارف بالحقيقة الواجبية وصفاته الكمالية يتفوّه بمثل هذا الكلام ، والمتعالي عن التغير
والحدثان والمتقدّس عن التجدّد والسيلان ومن هو (28) صفاته وافعاله خارجة عن بقعة الزمان
والمكان كيف ينتزع الأمر الممتدّ المتجدّد المتصرّم الواقعي النفس الأمري عن حاقّ ذاته
الاقدس؟! ، أليس المناسبة بين المنتزع ـ الّذي هو المعلول ـ والمنتزع عنه ـ الّذي هو
العلّة ـ لازمة؟! ، وأيّ مناسبة بين الثابت والمتغير والبسيط الحقيقي والمركّب من أجزاء
غير متناهية وليس ذلك الزمان عرضا واقعيا نفس أمري؟!. فكيف يقوم بالوحدة الحقّة والبساطة
الصرفة. أو لا يوجب ذلك تركّبا وتكثّرا في ذات الواجب ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا؟
ـ. ثمّ ما ذكره من التمثيل لا دخل له بالممثّل له ، وشتّان ما بينهما!. فانّ حركة الوسطيّة
والآن السيّال ليسا أمرين ثابتين ، بل هما متجدّدان متصرّمان سيّالان يحدثان في الذهن
أو الخارج على اختلاف الرأيين في الحركة والزمان ، ولو لم يكن لهما تجدد وسيلان لم
يحدثا الحركة القطعية والزمان ، فيكون التغير والتجدّد والتصرّم من شرائط ارتسام الأمر
الممتدّ السيال ، وهو واضح.
ثمّ الانصاف انّ المتكلّمين يقولون : انّ
اتصاف عدم العالم السابق عليه بالتقدّر والامتداد وأمثالهما إنّما هو بالعرض باعتبار
وعائه الّذي هو هذا الأمر الممتدّ المنتزع من ذات
الواجب ، ولا يقولون انّ الأمر الممتدّ هو عين هذا العدم الصرف ـ لي لزم كون محض العدم
زمانا أو حركة ـ. والحاصل إنّهم يقولون : انّ عدم العالم كان في وعاء ممتدّ متجدّد
منقض كوجود زيد في الزمان ، وكما انّه لا يلزم منه كون وجود زيد زمانا أو حركة كذلك
لا يلزم هناك أيضا كون العدم زمانا أو حركة ، بل ليس إلاّ كعدم زيد في زمان قبل زمان
وجوده. ولا تفاوت إلاّ بأنّ هذا الزمان يتبعّض بالليل والنهار ويتّصف بما شأنه ذلك
من الصفات ، وليس ذلك في ذلك الزمان.
فاللازم على هذا ليس إلاّ وجود الزمان هناك
، والقائلون بالزمان الموهوم يلتزمونه لا كون العدم هو الحركة أو الزمان.
وبذلك يندفع ما أورد عليهم السيد الداماد
في جملة ما أورد عليهم : انّه لو تصحّح في العدم ما توهّموه لكان هو الزمان بعينه أو
الحركة بعينها اذ كان متكمّما سيالا كلّه أزيد لا محالة عن بعضه وابعاضه متعاقبة غير
مجتمعة ، فإمّا انّه بالذات على تلك الشاكلة فيكون هو الزمان ، أو بالعرض فيكون هو
الحركة ، فقد اطلقوا على الزمان أو على الحركة اسم العدم ، فليت شعري بأيّ ذنب استحقّ
الزمان أو الحركة سلب الاسم والالحاق بالعدم؟!.
ومنها : انّ هذا الامتداد لكونه منتزعا
من الواجب ـ تعالى شأنه ـ وكون الواجب قديما أزليا يلزم أن يكون غير متناه ، وهو باطل
لجريان التطبيق وغيره من ادلّة بطلان عدم التناهي في الكميات ، وادلّة بطلان التسلسل
بعد أن يفرض اشتمال هذا الكمّ على أعداد ـ كالازرع وأمثالها
فان قيل : انّه ليس موجودا خارجيا حتّى
يتأتّى فيه التطبيق ؛
قلنا : انّهم يقولون انّ له تحقّقا في حاقّ
الواقع ومتن نفس الأمر ، فيثبت في الواقع ونفس الأمر ما هو غير متناه ويصحّ أن نطبق
بين شيئين متحقّقين في الواقع ـ كما مرّ في التسلسل في الأمور المتعاقبة ـ وإن لم تكن
مجتمعة في الوجود. وقال السيد المحقّق الداماد ـ ; ـ : على ما ذكره المتكلّمون يكون
الباري الحقّ ـ سبحانه ـ واقعا في حدّ بعينه من ذلك الامتداد العدمي ـ تعالى عن ذلك
ـ والعالم في حدّ آخر بخصوصه ، حتّى يصحّ تخلّل ذلك الامتداد الموهوم بينه
ـ سبحانه ـ وبين العالم ويتصحّح تأخّر العالم وتخلّفه عنه ـ سبحانه ـ في الوجود ، فإذن
إذا كان ذلك الامتداد غير متناهي التمادي كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، هما
حاشيتاه وطرفاه (29) ؛ انتهى.
وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ مرادهم بقولهم
« بين الباري الحقّ وأوّل العالم زمان موهوم ازلي » : انّه كان قبل العالم امتداد موهوم
لم يكن العالم فيه ، وكان الحقّ ـ تعالى شأنه ـ فيه بالمعنى الّذي يقال الآن انّه ـ
تعالى ـ موجود ، لا انّ ذلك الزمان واسطة بينه ـ تعالى ـ وبين العالم بحيث يكون هو
ـ تعالى ـ في أحد الحدّين والعالم في الحدّ الآخر حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا
بين حاصرين ؛ انتهى.
والظاهر ـ كما ذكره المورد ـ انّه لا يلزم
كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين ـ كما ذكره السيّد ـ ، لأنّ المتكلّمين يقولون
: انّ هذا الامتداد منتزع من الواجب قبل ايجاد العالم وبعده ، ويكون عدم العالم في
بعضه ووجوده في بعض آخر منه وابتداء وجوده يقارن جزء منه ، فالواجب هو محلّ هذا الامتداد
عندهم ، لا أن يكون هو شيئا خارجا عن الواجب متّصلا أحد طرفيه به وإن كان جزء منه متّصلا
بأوّل العالم ومقارنا له.
نعم! ، يمكن أن يقال : لمّا كان هذا الزمان
غير متناه يمكن أن يستدلّ على ابطاله بوجوه :
منها : لزوم المفسدة المذكورة ـ أي : كون
غير المتناهي محصورا بين حاصرين ـ من فرض وجوده ، فلذلك لا يبعد أن يدّعى لزوم كون
غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، بناء على تحقّق الزمان الموهوم. مثلا نقول : لو كان
الزمان الموهوم متحقّقا مع كونه غير متناه لاشتمل في الواقع ونفس الأمر على عدّة غير
متناهية كالازرع ومثلها ، فنقول : يلزم كونه محصورا بين حاصرين بوجهين : أحدهما : انّه
لا ريب في انّه تعرض لهذه العدّة مرتبة من العدد معينة البتة ـ لأنّ كلّ جملة متحقّقة
في الواقع معينة الآحاد يعرضها عدد معيّن ضرورة ـ ، ثمّ نقول : يوجد في هذه الجملة
مراتب اعداد ناقصة عنها بواحد أو اثنين أو بثلاثة أو
أربعة وهكذا طبقات مترتبة متنازلة غير متناهية ويوجد فيها واحد البته لا مرتبة تحته
، فيوجد بين مرتبة العدد الّذي لكل السلسلة وبين مرتبة الواحدية مراتب غير متناهية
مترتبة مع كونها محصورة بين حاصرين ـ هما مرتبة العدد الّذي للكلّ ومرتبة الواحدية
ـ.
وثانيهما : انّ كلّ عدد التئم من آحاد مترتبة
وكان له نصف فما لم يحصل له نصف أوّلا لا يحصل كلّه ، وهو بديهي ، فلما تحقّق في الزمان
الموهوم اعداد غير متناهية في الواقع لها مبدأ فنقول : لا ريب في انّه يوجد في هذه
الأعداد آحاد فردية غير متناهية وآحاد زوجية غير متناهية ، ويكون بإزاء كلّ واحد من
الأولى واحد من الثانية وبالعكس ، فالآحاد الزوجية مثلا نصف السلسلة ، فلعدد السلسلة
نصف البتة.
فاذا اعتبرت الجملة من حيث انّ آحادها المترتبة
مأخوذة مع الثواني والترتيب يجب أن يحصل نصفا أوّلا ثمّ يحصل الجملة ـ لما ذكرناه من
أنّ كلّ عدد له نصف ـ فما لم يحصل نصفه لم يحصل كلّه. ولا ريب انّ النصف الّذي يوجد
محصور بين المبدأ ومبدأ النصف الآخر مع انّ الفرض انّه غير متناه ، فكذا كلّه.
ومنها : انّ المتقدّس عن الغواشي والعلائق
يكون مع أيّ امتداد فرض ومع كلّ جزء من اجزائه وكلّ واحد من حدوده معينة غير متقدّرة
على سبيل واحد ومحيط بجميع اجزائه وحدوده على نسبة واحدة موجودا كان ذلك الامتداد أو
موهوما ، فإذن اختصاص العالم بحدّ من حدود ذلك الامتداد الموهوم لا يفيد تأخّره وتخلّفه
عن الباري الحقّ اصلا ، فانّه إذا كان امتداد الزمان الموجود بالقياس إليه ـ تعالى
ـ على هذا السبيل فالزمان الموهوم بالقياس إليه أجدر. بل التحقيق انّ الحادث بالزمان
أيضا لا يجوز أن يصل عدمه السابق بينه وبين الواجب ـ تعالى شأنه ـ وصل كينونة المعلول.
لا أن يتوهّم الواجب ـ تعالى ـ عند رأس الزمان ويجعل ذا وضع واشارة، لأنّ انفصال الزمان
الّذي هو من الاعراض الجسمانية بين المجرّد المتعالي عن جميع الجسمانيات من الجواهر
والاعراض والامكنة والازمان وبين غيره غير معقول ، فانّ القول به توجب جعله ـ تعالى
ـ ذا وضع واشارة ، وهو بديهي البطلان.
وبذلك يظهر انّه لا معية بين الواجب وبين
العالم بوجه أصلا ؛ أمّا بحسب الذات والوجود والشرف فلأنّه ـ تعالى ـ علّة العالم ،
فهو أقدم على كلّ ما سواه بمحض ذاته ووجوده والاشرف لغيره إلاّ منه ؛ وأمّا بالمكان
والزمان فلأنّه خارج عنهما محيط بهما ، فلا يوصف بهما بمعية وغيرها ، إذ الاتصاف بهما
بمعية وغيرها يتوقّف على توهّم كونه فيهما ، وقد علم بطلانه.
وأورد عليه : بأنّ القول بالامتداد المذكور
ليس إلاّ ليصحّح تحقّق العدم قبل الوجود ، وقد صحّ ذلك ، ومرادهم من تخلّف العالم عن
الحقّ ـ سبحانه ـ ليس إلاّ ذلك لا انّه كان الواجب في وقت لم يكن العالم فيه حتّى يقال
: انّ الواجب بريء عن الكون في الوقت ، فلا يصحّ ذلك. على انّه يمكن القول بمقارنة
وجوده ـ تعالى ـ للوقت ، فحينئذ يتصحّح التخلّف بهذا المعنى أيضا. وبالجملة : انّا
لا نقول انّه لا يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم حتّى
يرد ما ذكرت ، بل الغرض انّه يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم وتصحّ فيه قولنا : كان
الواجب بالمعنى الّذي تصح الآن ولا يكون العالم فيه. على أنّ الظاهر أنّه كما يقال
في الأجسام انّه زماني بمعنى أنّ وجوده مقارن لوجود الزمان يصحّ ذلك في شأن الواجب
ـ تعالى ـ أيضا ، اذ يصدق انّ وجوده مقارن لوجود الزمان نفسه ؛ فلا يصحّ أن يقال :
انّه زماني بمعنى أنّ وجوده ينطبق على الزمان مثل الحركة ، ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا
؛ انتهى.
وفيه : انّ تحقّق العدم أيّ حاجة له إلى
هذا الامتداد؟ ، بل هو مناف لحقيقته ـ كما مرّ ـ ، والعدم بنفسه يصلح للفصل والتخلّف
والانفصال (30) ـ كما يأتي ـ. فإذا كان نسبة الواجب إلى جميع اجزائه على السواء ولم
يفتقر إليه في تصحيح التخلّف والانفصال كان القول بوجوده باطلا.
فان قيل : إذا اتصف العدم في نفس الأمر
بانّه سابق على الوجود سبقا غير ذاتي فيكون محتاجا إلى وعاء وطرف يكون فيه ، ويتصف
لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيرهما ، وكونه سابقا عليه بدون ذلك لا يقدر على تعقّله
؛
قلنا : هذا مجرّد استبعاد منشأه عدم تعقّل
غير الزمانيات والف الذهن بها ، وهل التقدّم يلزم أن يكون منحصرا بالتقدم بالزمان؟!.
وأمّا انّ تقدّم العدم الواقعي على الوجود من أيّ قسم من التقدّم فيأتي الكلام فيه.
ثمّ ما ذكره المورد أخيرا من مقارنة وجود
الواجب للزمان كمقارنة وجود الاجسام فهو إجراء الصفات المادّي المحدث على المجرّد القديم
وجهل بالله الكريم! ، وكيف يقارن صرف الوجود المجرّد عن المادّيات وغواشيها والمتعالي
عن الجسمانيات وما يقربها والمحيط بالأجسام وما يلحقها من اعراضها من الزمان والمكان
بالزمان!؟ ، وهل يشكّ عاقل بأنّ الأزمنة بآزالها وآبادها بالنسبة إلى حرم كبريائه كان
واحد والأمكنة بعلوها وسفلها بالنظر إلى ساحة قدسه كنقطة واحدة؟!.
على أنّ المتكلّم الّذي يريد حفظ قوانين
الشريعة الطاهرة كيف يتكلّم بمثل هذا الكلام؟!. مع أنّ ما ورد في الشرع من الأخبار
الدالّة على تقدّس ذاته ـ تعالى ـ عن الاتيان إلى الزمان ـ بأيّ طريق كان ـ أكثر من
أن يحصى ؛
روى شيخنا الاقدم محمد بن يعقوب الكليني
ـ ; ـ في الكافي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ انّه قال: من زعم انّ الله من شيء
أو في شيء أو على شيء فقد كفر (31)! ؛
وروى الصدوق في توحيده عن أبي ابراهيم ـ
عليه السلام ـ انّه قال : انّ الله ـ تعالى ـ لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان (32)
؛
وعنه ـ عليه السلام ـ انّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان
والمكان والحركة والسكون ، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا (33) ؛
وعنه ـ عليه السلام ـ : انّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ كان لم يزل بلا زمان وهو الآن كما كان (34).
وأمثال هذه الأخبار بلغت حدّ التواتر. ومن
تأمّل في كلام مولانا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في نهج البلاغة يعلم انّ من وصف
الله ـ تعالى ـ بالزمان ونسبه إليه لم يكن من العارفين بالله وصفات كماله ونعوت جلاله
(35).
ومنها : انّ الزمان والمكان متشابهان متساويان
في الاحكام ، فكما انّ وراء الامتداد المكاني ـ أعني : فوق الفلك الاقصى المحدّد لجهات
العالم ـ عدم صرف لا خلأ ولا ملأ ولا امتداد لا لا لا امتداد ولا نهاية ولا لا نهاية
وإذا بلغ انسان إلى السطح المحدّب منه لم يمكنه أن يمدّ يده ويبسطها ـ لا لمصادم ومانع
مقداري ، بل لعدم الفضاء والبعد وانتفاء المكان والجهة ـ فكذلك وراء الامتداد الزماني
عدم صريح لا تمادّ ولا لا تمادّ ولا استمرار ولا لا استمرار ولا زيادة ولا نقصان ولا
نهاية ولا لا نهاية.
وأورد عليه : بانّه تمثيل لا يناسب المباحث
الحكمية ، وهو قول على سبيل التوسّع. والمقصود انّه لا شيء ورائه بدون توهّم فوقية
أصلا.
وغير خفي انّه ليس مجرّد التمثيل ، بل العقل
السليم يحكم بتساويهما وعدم الفرق بينهما ، فانّهم قالوا : انّ فوق محدّد الجهات لا
خلأ ولا ملأ مع انّ الفوقية متحدّدة به.
فكما انّ العقل هناك يعلم من تناهي البعد
المكاني انّ ورائه عدم صرف ونفي محض وينتزع من ذلك ويحكم بمعونة الوهم انّ لهذا العدم
المحض فوقية ما على المكان والمكانيات كفوقية بعض اجزاء المكان على بعض مع انّه لامكان
هنا ، كذلك هاهنا يعلم من تناهي الزمان والزمانيات في جانب البداية انّ ورائها عدم
صرف ونفي محض ويحكم بانّ لهذا العدم المحض قبلية ما هو على وجود العالم والزمان شبيهة
بقبلية اجزاء الزمان بعضها على بعض ؛ ولذا قيل : الحدوث الزماني المتنازع فيه بين الفلاسفة
والمليين هو هذا الحدوث لا تقدّم العدم المحض على وجود العالم والزمان ، فالمليون يثبتونه
والفلاسفة ينكرونه. واطلاق الحدوث الزماني عليه لكون سبق العدم على الزمان والعالم
ـ كسبق اجزاء الزمان بعضها على بعض ـ. ولا يلزم من ذلك وجود
زمان قبل الزمان ، بل مجرّد ذلك الزمان
الموجود مع ملاحظة تناهيه كاف لانتزاع الوهم وحكم العقل بهذه القبلية. وليس هذا اثبات
الزمان الموهوم كما ليس هناك اثبات المكان الموهوم . فان قيل : لمّا كان الواجب قبل
الزمان موجودا فيجب أن ينتزع منه شيء ممتدّ بامتداد بقائه وليس فوق المكان شيء موجود
حتّى ينتزع منه المكان الموهوم ، فثبت الفرق ؛
قلت : الواجب ـ تعالى شأنه ـ كما هو متعال
عن المكان فهو متعال عن الزمان أيضا. فكما انّ وجوده في الخارج لا يوجب انتزاع مكان
موهوم منه ، فكذلك لا يوجب انتزاع زمان موهوم عنه ، والفرق تحكّم. وكيف يمكن أن ينتزع
مثل هذا الشيء الغير المتناهي الممتدّ المتفصّي المتصرّم المتجدّد منه ـ تعالى ـ ،
مع أنّ التناهي واللاتناهي والتفصي والامتداد ـ وما شأنه ذلك من الصفات ـ من خواصّ
المقادير والكميات ولوازمها ، فيكون هذا الزمان مقدارا ، والمقدار كيف يكون محلّه ذات
الواجب ـ تعالى ـ مع تجرّدها ووحدتها الحقّة؟! ، فانّ محلّ المقدار لا بدّ أن يكون
جسما أو جسمانيا. فاذا استحال أن يكون محلّه ذات الواجب فيلزم أن يقوم بمحلّ آخر ،
فان كان هذا المحل عرضا فلا بدّ من الانتهاء إلى محلّ جوهري قائم بذاته دفعا للدور
والتسلسل، فيلزم وجود ممكن قديم.
فان قيل : لا ريب في أنّ ذاته ـ تعالى ـ
من حيث هو لا يمكن أن يكون منشئا لانتزاع هذا الأمر الممتدّ ، بل انّما يتوهّم هذا
الامتداد من توهّم بقائه ـ تعالى ـ ، فبقائه ـ تعالى ـ مقتض لهذا الامتداد بمعنى أنّ
هذا الامتداد منتزع من ذات الله ـ تعالى ـ باعتبار بقائه وأزليته ؛
قلنا : إن اريد بالبقاء دوام وجوده ـ تعالى
ـ وسرمديته فهذا لا يوجب الامتداد ، لأنّ الامتداد انّما هو لازم لدوام وجود المتغيرات
ودوام الذات الثابتة الّتي لم يسبقها عدم لا يوجب ثبوت الامتداد لها ـ لأنّ وعائها
السرمد لا الزمان ـ ؛ وإن اريد به ما هو نفس هذا الامتداد فنقول : البقاء في الواجب
ليس بهذا المعنى ، بل لا يجوز ان يثبت له البقاء
بهذا المعنى ؛ وإن اريد به شيء ممتدّ آخر غير هذا الزمان الممتدّ وتوهّم هذا الزمان
إنّما هو لتوهّمه ففيه : انّ تصوّر شيء ممتدّ آخر هو البقاء يوجب الدور ، لأنّ توهّم
هذا الزمان يتوقّف على البقاء ، مع أنّ البقاء بهذا المعنى لا يتصوّر بدون الزمان الممتدّ.
فان قيل : إذا لم يتحقّق الزمان الموهوم
ولا يكون هو سابقا على العالم لكان السابق عليه هو مجرد العدم المحض ، وسبق العدم على
الزمان ـ على ما قلتم ـ لا يرجع إلاّ إلى كون الزمان متناهيا من غير أن يكون سبق عدم
حقيقة ، بل بمحض التوهّم ؛ وهذا ليس إلاّ القول بالقدم بالحقيقة. لأنّه إذا لم يكن
انفصال بين ذات الواجب ـ تعالى ـ وبين العالم ولا يمكن أن يقال اصلا انّه كان الواجب
ولم يكن العالم فيكون العالم قديما البتة ، ولو اطلق عليه الحادث فلا يكون إلاّ بمجرّد
الاصطلاح على اطلاق القديم والحادث على ما كان زمانه متناهيا وغير متناه ، وهو لا يفيد.
وبالجملة انّه لا بدّ على طريقة الملّة من القول بوجود آله العالم بدون العالم بأن
يكون بينهما انفصال. وعلى ما ذكرتم لا يكون كذلك ، بل يكون وجود العالم متّصلا بوجوده
ـ تعالى ـ من غير انفكاك ولا انفصال بينهما. ولو جوّز هذا فلم لا يجوز كونه غير متناه
أيضا؟!. إذ لا يلزم فيه من الف وإلا عدم الانفصال ، وهو قد لزم في صورة التناهي أيضا
؛
قلنا : قد تقدّم انّ لزوم القدم في صورة
تقدّم العدم المحض على العالم ممنوع ، وانّ تحقّق تناهي العالم من جانب البداية مستلزم
لارتفاع القدم ، ويأتي انّ مجرّد تقدّم العدم يحصل به الانفصال والتخلّف.
ومنها : انّ القائلين بالزمان الموهوم معترفون
بانّه شيء ممتدّ واقعي نفس أمري وقديم أزلي وعاء لعدم العالم ، وغير خفي انّ هذا مخالف
لما ثبت من الشريعة المقدسة ومناف لما انعقد عليه اجماع أهل الملّة ، لانّه اثبات موجود
قديم في نفس الأمر سوى الواجب ، واجماع المليين وعموم « كان الله ولم يكن معه شيء
» ومثله من الأخبار يدفعانه.
فان قيل : مرادهم بالعالم المحكوم عليه
بالحدوث ما سوى ذلك الامتداد النفس الأمري من الموجودات الخارجية ، والامتداد
المذكور لا وجود له في الخارج وإن كان له وجود في نفس الأمر ؛
قلنا : لا ريب في أنّ هذا الامتداد النفس
الامري غير الله ـ تعالى ـ ، فهو من أجزاء العالم ، والاجماع منعقد على حدوث العالم
بجميع اجزائه ، والتخصيص تحكّم.
وبذلك يندفع ما ذكره بعض الأفاضل من انّه
لا شكّ انّ غرض المتكلّمين اثبات الحدوث الزماني ولا استبعاد فيه ، إذ مرادهم بالعالم
ما سوى ذلك الامتداد الموهوم ، فانّ المراد به ما سوى الواجب ـ تعالى ـ من الموجودات
والامتداد المذكور لا وجود له ؛ انتهى.
وذلك لأنّه إن اراد ان لا وجود له اصلا
لا في الخارج ولا في نفس الأمر فهو مناف لما صرّح به المتكلّمون ، بل هذا القائل أيضا
حيث صرّح بأنّه موجود واقعي نفس أمري لا تفاوت بينه وبين هذا الزمان إلاّ بالليل والنهار.
مع أنّه على هذا مجرّد اسم من دون ثبوت للمسمّى ، فيرجع إلى الزمان التقديري الفرضي
الّذي أشرنا إليه. ونحن أيضا نقول به ، ولكن كيف يكون مثله أمرا ممتدّا منقضيا ذو اجزاء
كثيرة وعاء لعدم العالم ؛
وإن اراد انّه لا وجود له في الخارج ولكنّه
موجود في نفس الأمر ، فيرد عليه ما تقدّم من أنّه ليس واجبا بالذات ، فيكون من اجزاء
العالم. ولمّا لم يكن قائما بذاته فلا بدّ له من محلّ ، ولا يجوز أن يكون محلّه هو
الواجب ـ تعالى ـ ، لما مرّ ـ ، ولا شيء آخر ثابت ، لأنّ الأمر الثابت لا يكون محلاّ
للمتجدّد المتغير ، فلا بدّ أن يكون له محل مثل الحركة ، فيلزم قدم الجسم.
والحاصل : انّ الممتنع هو ما يصدق عليه
ذلك الامتداد صدقا نفس أمري لا مفهومه ، فان كان له في نفس الأمر مصداق فهو جزء من
العالم ، فينفيه الاجماع والاخبار ، وإلاّ فهو محض اسم ليس إلاّ كشريك الباري وأنياب
الاغوال.
وكذا يندفع بما ذكرنا وما ذكره بعض أصحابنا
القميّين من أنّ العالم حادث بمعنى انّه حدث بعد تقضي امتداد غير متناه في جانب الأزل
منتزع من ذات الله ـ تعالى ـ باعتبار بقائه وازليته ، وتقدّم العدم على
العالم تقدّم بالزمان ، ولكن مرادنا بالزمان ليس مقدار حركة الأطلس بل مرادنا به امتداد
انتزعه العقل من ذات الله ـ تعالى ـ بملاحظة ازليته وبقائه. والزمان بهذا المعنى ليس
من جملة العالم ، لأنّه ليس من الموجودات الخارجية ، بل منشأ انتزاعه موجود في الخارج
، فليس تقدّم العدم زمانا على العالم محالا ؛ انتهى.
ووجه الاندفاع وإن ظهر ممّا مرّ لكنّا نزيده
إيضاحا بما ذكره استاذنا المحقّق المازندراني في رسالته الّتي الّفها في هذه المسألة
تيمّنا بكلامه. قال (36) ـ طاب ثراه ـ بعد نقل الكلام المذكور : كيف لا يكون الزمان
الموهوم من جملة العالم مع كونه امرا ممتدّا منقضيا غير متناه ، مع أنّ الاجماع والحديث
المشهور من أمير المؤمنين وقول الباقر والرضا ـ عليهما السلام ـ دلائل لحدوث العالم
بمعنى ما سوى الواجب. ولا اختصاص بها بالموجودات الخارجية ، فكم من موجود في الخارج
وهو موجود في نفس الأمر ، فهذا الامتداد لمّا كان امرا واقعيا نفس أمريّ كلّه أزيد
من جزئه إلى غير ذلك من أمارات الوجود كان منافيا لما مرّ ، وقد مرّ أنّه لا يمكن أن
ينتزع من ذات الله ـ تعالى ـ بملاحظة استمراره وثباته أمر موصوف بالتجدّد والتغير ،
فتقدم العدم زمانا على العالم محال بالعقل والنقل. فظهر انّ دليله على عدم كونه من
العالم ليس بشيء إذ عدم كونه من الموجودات العينية لا يدلّ على عدم كونه منه ، فانّ
المراد به كلّ ما سوى الواجب من الموجودات العينية والنفس الأمرية ـ أعني : ما لا يكون
وجودها وتحقّقها متعلّقا بفرض فارض واعتبار معتبر ـ ؛ وهي أعمّ من الخارج مطلقا ومن
الذهن من وجه لامكان اعتبار الكواذب فيه دون نفس الأمر ، ومثل هذا يسمّى ذهنيا فرضيا.
ولا شكّ انّ الزمان الموهوم ـ على ما قرّروه ـ ليس من هذا القبيل ، كيف وهم قد حكموا
بكونه امرا نفس امري وعاء لعدم العالم ممتدّا متجدّدا متقضيا ذا اجزاء مخصّصة لحدوث
الحادث في حدّ منها دون آخر قبله ؛ انتهى كلامه رفع مقامه.
فظهر ممّا تلوناه عليك انّ القول بالزمان
الموهوم يؤدّي إلى ثبوت قديم سوى الله ، وهو خلاف اجماع المليين نعم! الأشاعرة لا يبالون
بالتزام مثله ، فانّهم قالوا بقدماء سبعة هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام
والسمع والبصر ـ لأنّ هذه الصفات عندهم قديمة زائدة على الذات ـ ، فلو كانوا قائلين
بالزمان الموهوم ـ كما نسب إليهم ـ لكان القدماء عندهم ثمانية.
ثمّ انّ البقاء والوجود والموصوف به أيضا
زائدان عندهم ، فتلك عشرة كاملة! ، قال أستاذنا ـ;ـ: العجب انّ الاشاعرة كفّروا الحكماء
بقولهم بالايجاب والقدم وهم قائلون بهما جميعا ، لأنّهم قالوا بزيادة الصفات وازليتها
وعندهم انّ الازلي لا يكون اثرا للمختار ، فلزمهم القول باستناد تلك الصفات إلى الذات
على وجه الايجاب ، فهم كما يقولون بقدم هذه الصفات يقولون بالايجاب. مع أنّ الحكماء
لا يقولون بالايجاب ، اذ مجرّد القول بالقديم لا يستلزم استناد ذلك القديم إلى الموجب،
فانّ أثر المختار أيضا يمكن أن يكون قديما بأن تكون له إرادة مستمرة متعلّقة بمقدور
أزلي مستمرّ ويكون بعدم القدرة والإرادة عليه تقدّما ذاتيا لا زمانيا ؛ انتهى.
ومنها ـ على ما قيل ـ : انّ حدود ذلك الامتداد
متشابهة ـ إذ لا اختلاف في العدم ولا مخصّص من استعداد أو حركة أو غير ذلك ـ فلم اختصّ
العالم بهذا الحدّ ولم يكن حدوثه في حدّ آخر قبله؟.
وأورد عليه بعض الأفاضل : بأنّ هذا مجرّد
دعوى بلا دليل ، إذ لعلّه كان اختلاف في اجزائه ، لأنّه ليس عدما محضا لا يجري ذلك
فيه ، بل أمر نفس أمري وقع العدم فيه ؛ انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التعسّف ، لأنّ الغرض
انّه منتزع من ذات الواجب ـ تعالى ـ بملاحظة بقائه وازليته ، والشيء المنتزع من الوحدة
الصرفة والبساطة المحضة بأي سبب تتأتّى فيه الاختلاف؟!. أليس اختلاف المعلول مستندا
إلى اختلاف في العلة؟ ، فبعد قيام الدلالة القطعية على وجوب تشابه الأجزاء فالمنع مكابرة.
نعم! يمكن الجواب عن الايراد بأنّ قبول العالم للوجود انّما كان متوقّفا على انقضاء
هذا القدر وانتهائه إلى هذا الحدّ.
ومنها : انّ منشأ ثبوت هذا الامتداد انّما
هو تحقّق موجود ما ايّ موجود كان ، لأنّهم قالوا : انّ الباعث لتحقّقه إنّما هو وجود
الواجب بملاحظة بقائه ، فما دام الواجب موجودا ينتزع منه هذا الامتداد سواء كان قبل
ايجاد العالم أو بعده ، ولا فرق إلاّ بأنّه إذا وجد العالم ينطبق هذا الامتداد على
الحركة والزمان ، ولذا قال بعضهم : انّ هذا الامتداد العقلي بمنزلة المذروع وحركة الاطلس
بمنزلة خشبة الذراع. فبهذه الحركة يتميّز أبعاض هذا الامتداد فتصير قطعة منها نهارا
وأخرى ليلا واخرى أسبوعا وأخرى شهرا وأخرى سنة. وإذا انتزع هذا الامتداد من الواجب
بملاحظة بقائه مع وحدته وتجرّده وتعاليه عن الزمان لانتزع بطريق أولى عن كلّ موجود
ـ مجرّدا كان او ماديا ، حيوانا أو نباتا أو جمادا أو غير ذلك ـ بعدد كلّ فرد من افراد
كلّ نوع بحسب بقائه ، إن متناهيا فمتناهيا وإن غير متناه فغير متناه. فيتحقّق في العالم
امتدادات واقعية نفس أمرية غير متناهية عددا وإن انطبق بعضها على بعض إلاّ أنّ التغاير
بينهما متحقّق ، كما بين الزمان الموهوم والزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية.
فان قيل : بعد تحقّق الحركة الدورية والزمان
الّذي هو مقدارها كلّ موجود يوجد فامتداده هو جزء من هذا الزمان ، ولأنتزع منه زمان
موهوم على حدة ؛
قلنا : الباعث لحصول الامتداد ان كان وجود
الشيء بملاحظة بقائه فيلزم أن ينتزع من كلّ موجود له بقاء امتداد خاصّ على حدة وإن
انطبق على الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية ـ ولو كان وجود الحركة الدورية ومقدارها
منافيا لهذا الانتزاع ـ لوجب أن لا ينتزع الزمان الموهوم من الواجب بعد وجود الحركة
الدورية ومقدارها ، وهو خلاف ما صرحوا به.
فان قيل : المسلّم اللازم هو انتزاع امتداد
واحد هو أوّل الامتدادات ، وهو الّذي ينتزع من الواجب ـ أعني : الزمان الموهوم ـ ،
وساير الامتدادات اجزاء له ؛
قلنا : باعث تحقّق الزمان الموهوم ـ على
ما قلتم ـ هو وجود الواجب بملاحظة بقائه ، والشيء المنتزع من الواجب كيف ينتزع من كلّ
واحد من الموجودات المتخالفة المتباينة؟! ، مع انّ الباعث المستقلّ في
كلّ واحد منها متحقّق بطريق أولى. وان ادّعى انّ الامتدادات المنتزعة من سائر الموجودات
منطبقة على الامتداد الأوّل فهو ممنوع ، إلاّ انّه لا ينافي التعدّد ، فحصول الامتدادات
الواقعية النفس الأمرية الغير المتناهية عددا لازم ، والبديهة قاضية ببطلانه ، فانّا
نعلم قطعا انّ الامتداد الحاصل لوجود زيد هو الزمان الّذي هو مقدار الحركة الدورية
الّتي وقع وجوده فيه ، وليس هنا امتداد آخر.
فالامتداد الواقعي النفس الأمري يجب أن
يحصل من موجود متغيّر متحرّك بالحركة الدورية ، ولولاه لم يتحقّق في الواقع امتداد
ولم يوجد زمان. والظاهر أنّ المتكلّمين لمّا التزموا تحقّق الزمان الموهوم المنتزع
من الواجب فهم لا يبالون بالتزام انتزاع مثله من كلّ فرد من افراد الموجودات وان بلغ
عدده إلى غير النهاية ؛ ولهم أن يقولوا : إذا سلّم وجوده ولم يكن فيه مفسدة فأيّ مانع
من تعدّده وتكثّره وإن بلغ عدده أضعاف افراد الموجودات. على أنّها متداخلة بعضها مع
بعض ومنطبقة بعضها على بعض ، فهذا الوجه الأخير لا ينهض حجّة مستقلّة للمطلوب ، فالعمدة
هي الحجج المتقدّمة.
ثمّ لا يخفى انّه وإن ظهر بما تقدّم من
الحجج بطلان الزمان غاية الظهور ، إلاّ أنّا نذكر تأكيدا واستظهارا برهانا مشتملا على
الاحتمالات المتصوّرة لذلك الزمان وابطالها كما أورده بعض الافاضل ؛ وهو : انّ هذا
الزمان لا يخلوا إمّا أن يكون موجودا ، أو موهوما ؛ فان كان موجودا كان ممكنا من الممكنات
، فيلزم أن يكون داخلا فيما سوى الله ، فيكون وجوده أيضا مسبوقا بالعدم بحكم الاجماع
والحديث النبوي ، والحال انّه قد ذكرنا انّ الزمان إذا كان ظرفا للعدم الأزلي يجب أن
يكون قديما لا حادثا ، فيلزم التناقض!.
وأيضا إذا كان الزمان موجودا قابلا للمساواة
واللامساواة فيلزم أن يكون كمّا ، والكم عرض ، فلا بدّ له من محلّ ، ومحله لا يكون
إلاّ ماديا ، فيلزم قدم ذلك المادي وهو خلاف الاجماع والحديث النبوى ؛
وإن كان موهوما فلا يخلو : إمّا أن يكون
موهوما صرفا اختراعيا ـ كأنياب الأغوال ـ وحينئذ لا يكون عدم العالم قبل
وجوده في ظرف يكون هو الزمان ، بل يكون عدمه عدما لا بزمان ولا مكان ، ولا نعني بالعدم
الصريح الخالص إلاّ هذا ؛ ولو كان موهوما له منشأ الانتزاع فننقل الكلام إليه ، فهو
إمّا واجب أو ممكن ؛ لا جائز أن يكون واجب الوجود ، فبقي أن يكون ممكنا ، فذلك المنتزع
منه يكون مادّيا البتّة.
فلا يخلوا : إمّا أن يكون قديما ، أو حادثا
فان كان قديما لزم خلاف الاجماع والحديث النبوي ، وإن كان حادثا فلا يجوز أن يكون عدمه
مسبوقا بهذا الزمان ، لأنّه متأخّر عنه ، فلا بدّ من زمان آخر وهكذا فيلزم التسلسل
، فبقي أن يكون مسبوقا بعدم لا يكون ذلك العدم في زمان ولا مكان.
فان قيل : قوله ـ تعالى ـ : {إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف:
54]، وقوله ـ تعالى ـ : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:
12] يدلّ على تحقّق الزمان الموهوم ، لأنّه لو لا الامتداد المنقضي المتجدّد لم يكن
لستة أيّام أو يومين في الآيتين معنى ؛
قلنا : المراد بهذه الأيّام الأوقات الفرضية
التقديرية ، ولو لم يكن الحمل عليها صحيحا لم يكن الحمل على الزمان الموهوم أيضا صحيحا
، إذ المتعارف والمتبادر من اليوم ـ كما صرّح به أهل اللغة والتفسير ـ هو زمان طلوع
الشمس إلى غروبها ، ولم يكن حينئذ طلوع وغروب. ويؤيّده تصريحهم ـ كما مرّ ـ بأنّ ابعاض
هذا الامتداد انّما يتميّز ويصير قطعة قطعة ليلا ونهارا بحركة الفلك الأطلس ولم يكن
حينئذ فلك ولا حركة ، فالمراد مجرّد الفرض والتقدير. على أنّ المحقّقين يفرّقون بين
اليوم والنهار ويقولون : انّ اليوم عبارة عن دورة واحدة من حركة الفلك الأقصى وهو ليس
بسماء ، بل السماء في الحقيقة منحصرة في افلاك الكواكب السبعة السيّارة ، ووجود الليل
والنهار بحركة فلك الشمس ، فيجوز أن يكون أصل جرم الفلك الأطلس خلق أوّلا طبقة واحدة
ثمّ أدير ستّة دورات وفي مدّتها خلق ما فيها من السموات والأرض بأن جعل السماء بعد
كونها طبقة سبع طبقات أو ازيد والأرض مثلهنّ ، وحينئذ لا حاجة في تصوير
معنى الآيتين إلى الزمان الموهوم ، فضلا من أن تكونا دليلتين عليه.
وإذ ثبت بطلان الزمان الموهوم ـ وقد ثبت
أيضا فساد القول بمجرّد الحدوث الذاتي ـ فثبت من ذلك حقّية الحدوث الدهري ـ أي : مسبوقية
وجودية العالم على العدم الصريح الواقعي الّذي لو وجد فيه زمان لكان غير متناه ـ. وهذا
الحدوث مستلزم للحدوث الذاتي أيضا ، لأنّ تأخّر العالم عن الله بالعدم الصريح الواقعي
مستلزم للتأخّر الذاتي الّذي هو عبارة عن محض الفاقة المرادف للحدوث الذاتى ، فالحدوث
الدهري مستلزم للحدوث الذاتي بخلاف العكس ، كما انّ الحدوث الزماني مستلزم للحدوث الدهري
بخلاف العكس.
ثمّ اعلم! انّ تقدّم الواجب والعدم على
القول بالحدوث الزماني هو تقدّم بالزمان ، بمعنى أنّهما متقدّمان زمانا على العالم
، وعلى القول بالحدوث الذاتي تقدّم بالذات. ويسمّى بالتقدّم العقلي ، لأنّه اعتبار
يخترعه العقل من تلقاء نفسه ، وليس تقدّما بحسب الخارج والواقع. وعلى القول بالحدوث
الدهري هو تقدّم دهري بمعنى انّ الواجب وعدم العالم متقدّمان عليه بحسب الدهر ـ الّذي
هو الواقع ونفس الأمر ـ ، لأنّ الفصل بينهما هو الواقع ونفس الأمر لا الزمان ، فيكون
تقدّما زمانيا ، ولا مجرّد اعتبار العقل ليكون محض التقدّم العقلي. وتوضيحه : انّه
إذا كان وجود العالم متناهيا في جانب البداية كان للعدم تقدّم عليه سوى التقدّم الذاتي
الّذي اثبته الحكماء، لعدم تقدّم الممكن على
وجوده المعبّر بالحدوث الذاتي. وهذا التقدّم شبيه بالتقدّم الزماني الّذي للحوادث الزمانية
ولأجزاء الزمان بعضها على بعض عندهم في عدم اجتماع السابق والمسبوق. والفرق انّ لتقدم
الزمانيات ملاكا في الخارج متجدّدا متصرّما مستمرّا يعرض ذلك التقدّم في الخيال أوّلا
وبالذات لأجزائه المتجدّدة المتصرّمة المستمرّة وبتوسّطها يعرض للحوادث الزمانية ،
ولهذا يفرض لهذا التقدّم خواصّ التقدّر والتكمّم. بخلاف تقدّم العدم على وجود العالم
، فانّه ليس له ذلك الملاك ، ولا يمكن تعيينه وتقديره ولا يكون فيه قرب وبعد وزيادة
ونقصان إلاّ بمحض التوهّم وإن كان عدميا واقعيا نفس أمري كالعدم الّذي فوق محدّد الجهات.
فان قلت : إذا كان شيء متقدّما على آخر
فلا محالة يكون بالقياس إلى ثالث ـ ويقال لهذا الثالث : « ملاك التقدّم » ـ ، واتّفق
العقلاء على أنّ اقسام التقدّم باعتبار الملاك لا يزيد على خمسة أنواع :
الأوّل : التقدّم المكاني ، كالجالس في
الصدر على من في صفّ النعال. وملاكه صدر المكان ؛
والثاني : التقدّم الزماني ، وملاكه صدر
الزمان. وهو فيما بين اجزاء الزمان بالذات وفيما بين الحوادث الزمانية بالتبع ، فهو
تقدّم واحد يتقدّم به اجزاء الزمان بالذات والزمانيات بالعرض. كالتقدّم بحسب الامكنة
، فان التقدّم لأجزاء المكان بالذات وللمتمكّنين بالعرض ، ومثله حركة جالس السفينة.
والمتكلّمون جعلوا هذا القسم قسمين وسمّوا التقدّم بين اجزاء الزمان تقدّما بالذات،
والتقدّم بين الموجودات الزمانية تقدّما بالزمان ، وهو تكلّف بلا فائدة! ؛
والثالث : التقدّم بالشرف ، وهو الّذي يكون
بين الأشياء باعتبار صفاتها شريفة كانت أو خسيسة، وسمّوه بالشرف تغليبا. وملاكه تلك
الصفة ؛
والرابع : التقدّم بالطبع ، وهو الّذي للعلّة
الناقصة على معلولها ، وملاكه الوجود ؛
والخامس : التقدّم بالعلّية وبالذات ، وهو
تقدّم العلّة التامّة على معلولها. وملاكه الوجوب ، لأنّ بوجوبها يجب عنها المعلول
من غير تخلّف ، بخلاف الناقصة ، فانّ لوجوبها فقط لا يجب عنها المعلول ما لم يجتمع
جميع ما يحتاج إليه فتصير تامّة. وقد يقال للأخيرين جميعا : بالذات وبالطبع أيضا بإطلاق
أعمّ. فهذه أقسام التقدّم الّتي ذكرها العقلاء ولم يزيدوا عليها شيئا ، والتقدّم الدهري
ليس شيئا منها ، فلا يكون صحيحا! ؛
قلت : عدم ذكر الشيء لا يدلّ على البطلان
، وكم ترك الأوّل للآخر!.
فان قلت : التقدّم بالذات ليس تقدّما بمجرّد
العقل ، بل هو أمر حقّ ثابت في نفس الأمر وفي محض الوجود والذات ، ولو فرض عدم العقول
والأذهان فانّ حركة اليد بنفس ذاتها وصرف وجودها أصل لحركة المفتاح مفيضة لها وهي في
حاقّ حقيقتها ومحض إنّيتها متفرّعة عليها فائضة
منها من غير توقّف ذلك على ملاحظة تعقّل ، فهذا التقدّم ثابت في نفس الأمر ، فيلزم
أن يكون فاعل العالم بجميع اجزائه هو ـ سبحانه وتعالى ـ ، ويلزم منه تقدّمه على كلّ
جزء من اجزائه تقدّما ذاتيا. فيمكن أن يقال ردّا على القائلين بالحدوث الدهري بأنّ
وجوده ـ تعالى ـ عين ذاته وذاته لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن ، وانّما هو موجود
في العين بالاتفاق ـ لأنّ القوّة المدركة لا يدرك ذاته ـ ، فيكون العالم في مرتبة ذاته
الّذي هو عين خارجي معدوما صرفا ، فيلزم كون وجوده بتمام اجزائه مسبوقا بالعدم الخارجي.
ولا معنى للحادث الدهري إلاّ ما يكون وجوده مسبوقا بهذا العدم ، وتسميته بالعقلي أيضا
لأنّ المدرك الشاهد عليه هو العقل دون الحواسّ بخلاف ساير الأقسام. وحينئذ نقول : التقدّم
الدهري الّذي أنتم تثبتونه لا يريدون منه غير ذلك ، فهو بعينه التقدّم الذاتي! ؛
قلنا : التقدّم الذاتي وإن كان تقدّما حقّا
ثابتا بنفسه ـ لما ذكر ـ إلاّ أنّ العدم المتقدّم ليس إلاّ العدم الّذي يلزم لماهية
الممكن من دون تحقّقه في الواقع ونفس الأمر ، ولو فرض اطلاق التحقّق الواقعي على مثله
فهو غير صالح لأن يكون فصلا بين الواجب والعالم وأن يكون بحيث لو فرض وقوع الزمان فيه
كان غير متناه ، لأنّ العدم الذاتي عدم مجامع للعلّة والمعلول وليس عدما غير مجامع
لهما ، بخلاف التقدّم الدهري ، فانّ المراد به أن يتقدّم العلّة على المعلول مع فصل
العدم الغير المجامع لهما ، فيكون فاصلة واقعية بين الواجب والعالم. فحقيقة الحدوث
الذاتي للعالم أن يكون العالم مبدعا من غير زمان ، ولا عدم حينئذ إلاّ العدم الّذي
يلزم لماهية العالم وهو عدم مجامع يستحيل أن يفصل بينه وبين الواجب فصل بينونة ؛ وحقيقة
الحدوث الدهري له أن يتقدّمه عدم غير مجامع بذاته يتحقّق به الفصل بينهما فصل بينونة
؛ وحقيقة الحدوث الزماني له أن يتقدّمه عدم زماني ويسبق كلّ زمان زمان.
فان قلت : لا معنى لأن يفصل العدم بين الواجب
وبين العالم فصل بينونة ، لأنّ الفاصل بين شيئين يجب أن يكون شيئا حتّى يصلح لأن يقع
به الفصل ، والتخلف والعدم محض السلب ليس له ماهية وذات وهوية يصلح أن يتقدّم ويتأخّر
و
يجيء ويذهب ، فالقول بتقدّمه وتأخّره من
باب قياس محض اللاّشيء على الشيء ؛
قلنا : جواز تقدّم العدم على الوجود من
البديهيات العقلية لا يمكن انكاره ، كيف وهو مشاهد؟!. على أنّ الحكماء مصرّحون بتقدّم
العدم الذاتي للعالم عليه ، فما يقولون في جواز تقدّم هذا العدم نحن نقول في جواز تقدّم
العدم الواقعي.
قيل : العدم الذاتي لعدم ايجابه الفصل بين
الواجب والعالم لا يلزم أن يكون ممّا ينقضي ويتصرّم ويجيء ويذهب وإن وصف بالتقدّم في
لحاظ العقل أو مرتبة من الواقع ، بخلاف العدم الدهري ، فانّه لإيجابه الفصل بين الواجب
والعالم لا بدّ من التزام تقضّيه وتصرّمه ومجيئه وذهابه. وحينئذ نقول : هذا العدم الواقعي
الفاصل بين المبدأ وبين العالم إن لم يعتمد على زمان وظرف يتقضّى بتقضّيه فكيف يمكن
أن يتقضّى بمحض نفسه ويصير منشئا للانفكاك وفاصلا بين الواجب والعالم؟! ، وأنّى يتأتّى
له ذلك مع انّه من خواصّ الذوات المحصّلة الّتي يمكنها الذهاب والمجيء؟!. وإن اعتمد
على ظرف فان كان الظرف ثبوتيا فكيف يكون الفاصل هو محض العدم؟! ، بل يرجع إلى القول
بالزمان الموهوم ، وإن كان عدما فيرجع الاشكال الأوّل ـ أعني : لزوم كون العدم الصرف
فاصلا بين الشيئين ومنشئا للانفكاك بينهما ـ وهو لزوم مضيّ محض العدم بنفسه من غير
اعتماد على طرف موجود. وليس لهم أن يقولوا : انّ هذا العدم لا يمضي بنفسه بل بالجزء
الأوّل من الزمان ، فانّه إذا وجد العالم وتحقّق الجزء الأوّل من الزمان إن كان بعده
بعدا يجامعه بحيث لم يتحقّق به فصل بين الواجب والزمان لكان الزمان قديما ولزم الحدوث
الذاتي ، وإن كان بعده بعدا لم يجامعه فقد صدق مضيّ العدم بنفسه لا بالزمان.
وتلخيص هذا الايراد : انّ هذا العدم الواقعي
إن اتّصف بالسابقية وحصل به الفصل بين الواجب والعالم لكان له وعاء البتة ، فيكون قولا
بالزمان الموهوم ؛ وإن لم يتّصف بالسابقية ولم يحصل به الفصل لزم الحدوث الذاتي.
قال بعض المثبتين للزمان الموهوم الموردين
على الحدوث الدهري : إذا اتّصف العدم في نفس الأمر بأنّه سابق على الوجود سبقا غير
ذاتي ـ كما يظهر من بعض كلمات السيد الدّاماد ـ فيكون البتة محتاجا إلى
وعاء وظرف يكون فيه ويتصف هو لا محالة بالتقدّر والتكمّم وغيره ، وكونه سابقا عليه
بدون ذلك ممّا لا نقدر على تعقّله ، فلعلّه يحتاج إلى لطف قريحة لم يكن لنا! ، وإن
لم يقولوا بسابقية العدم بحسب الحقيقة ـ كما يشير إليه بعض كلمات السيد ; حيث ذكر انّ
في السبق الذاتي والزماني ليس الوجود مسبوقا بالعدم المقابل له ، إذ سلب الوجود في
مرتبة نفس الماهية من حيث هي لا يقابل الوجود الحاصل في حاقّ الواقع من تلقاء العلّة
الفاعلة بل يجامعه ، وكذا العدم السابق على الوجود سبقا زمانيا لا يقابل ذلك الوجود
لاختلاف الزمان ، بل يقابله العدم في ذلك الوقت الّذي كان فيه الوجود ، بخلاف الحدوث
الدهري ، اذ ليس في الدهر توهّم الامتداد والانقسام اصلا ـ فلا يكون حدّ العدم الصريح
السابق في الدهر متميّزا في التوهّم عن حدّ الوجود الحادث من بعد ، بل انّه يبطل عقد
السلب الدهري ويقع في حيزه عقد الايجاب الثابت الدهري ، فلا يفهم حينئذ معنى للحدوث
والمسبوقية بالعدم اصلا ، بل ليس القدم إلاّ هذا. وبالجملة ما افاده السيّد ممّا لا
يصل إليه فهمي ولا يحيط به وهمي!.
والجواب : انّ الفصل بين الحوادث الزمانية
انّما هو بالزمان ، ولا يتعقّل الانفصال والانفكاك بينهما دونه. وأمّا الفصل بين الثابت
والحادث ـ كالواجب والعالم ـ انّما هو بالدهر الّذي هو نسبة بينهما ووعاء للزمان ولكلّ
ما يوجد مبدعا في غير زمان. قال ارسطاطاليس في أثولوجيا : اصول العالم واركانه ـ كالأفلاك
والعناصر ـ ليست موجودة في الزمان ، بل في الدهر ، وصرّح أساطين الحكمة بأنّ كون الثابت
مع مثله سرمد ومع المتغيّر دهر وكون المتغيّر مع مثله زمان ، والدهر وعاء للزمان والزمان
كمعلول للدهر ، والدهر كمعلول للسرمد ، إذ لو لا دوام نسبة المعلولات إلى عللها ـ كنسبة
الحوادث الزمانية إلى عللها والاجسام الأولية إلى العقول مثلا والعقول إلى الواجب والزمان
إلى مبدئه ـ لم يوجد معلول عن علّته ، فيجب لذلك أن يتحقّق النسبة دائما بين الموجودات
بعضها إلى بعض من المتغيّر بالذات إلى ما فوقه حتّى ينتهى إلى الثابت بالذات ، فيظهر
ممّا ذكروه انّ هذا الدهر وعاء للمبدعات من غير زمان ، ولعدمها
السابق عليها. وحقيقة هذا الوعاء عبارة
عن حاقّ الواقع ومتن نفس الأمر ، وكونه فاصلا بين الواجب وبين العالم كناية عن كون
الواجب ثابتا في الخارج والواقع في حدّ ذاته مع كون العالم معدوما بحيث لو كان زمان
في هذا الواقع الّذي كان الواجب فيه موجودا والعالم معدوما لكان غير متناه وان لم يكن
في هذا الواقع وفي العدم المتحقّق فيه امتداد وتصرّم وتجدّد. وحاصله انه كان الواجب
موجودا في متن الدهر وحاقّ الواقع ولم يكن معه عالم في متن الدهر وإن لم يكن زمان وامتداد
، إلاّ أنّه يمكن فرض الزمان وتقديره ـ كما تقدّم ـ ، فالزمان التقديري المفروض في
الواقع الّذي تحقّق فيه الواجب ولم يتحقّق فيه العالم غير متناه. ولو فرض وقوع الزمان
الخارجي في هذا الزمان التقديري وانطباقه عليه لكان غير متناه ، فحقيقة الحادث الدهري
أن يسبقه العدم في متن الدهر وحاقّ الواقع ، والقديم الدهري أن لا يسبقه عدم في متن
الدهر ، بل يكون ازلي الحصول في حاقّ الواقع وليس في الواقع امتداد زماني وفصل كمّي
إلاّ بمجرّد الفرض والتقدير ، إلاّ أنّ الانفكاك الدهري والفصل الواقعي متحقّق.
والمتوغّلون في الزمان لا يعرفون من الانفكاك
والفصل إلاّ ما هو زماني ، ولكن المسافرين من صقع عالم الزمان إلى ما فوقه يعرفون بصفاء
عقولهم وتجرّد نفوسهم هذا الانفكاك والفصل ، ويعلمون انّه مع عدم توهّم تجدّد وتجزّ
هناك يتحقّق به انفكاك الواجب والعالم في الوجود وعدم المعية بينهما في الوجود الواقعي
والتحقّق النفس الامري. ولا يلزم من الانفكاك في الوجود والتحقّق ثبوت الامتداد والتجزي
، لأنّ امثالهما من خواصّ الزمانيات وليس وجود الواجب زمانيا ، فلا معنى لاتصال العالم
وانفكاكه عنه في الحقيقة ونفس الأمر. ومرادنا من الانفكاك والفصل ـ كما أشير إليه ـ
ارتفاع المعية بين الواجب والعالم في التحقّق الواقعي والثبات النفس الأمري بحيث يصحّ
أن يقال : كان الواجب على المعنى الّذي يصحّ الآن ولا يكون العالم فيه.
وبهذا يندفع عنّا ما أورده بعض الناهجين
منهج الحكماء في اثبات الحدوث الذاتي : انّه لا ريب انّ الّذي يفصل بين المبدأ الاوّل
ـ تعالى ـ وبين العالم ـ سواء كان فاصلا متقدّرا أو غير متقدر ـ يجعل المتفاصلين متباينين
في الوضع ، فلو كان الزمان أو الدهر فاصلا بين الواجب والعالم لزم كون الواجب ذا وضع.
ووجه الاندفاع ـ كما مرّ ـ أنّه لا نريد
من كون الدهر فصلا الاّ تحقّق الواجب بدون العالم في حاقّ الواقع ، ولو كان للواقع
امتداد لم يرد تلك الشبهة فضلا عن عدم ثبوت امتداد في الواقع ، وعدم كونه ممتدّا متجزّيا
لانّه ليس المراد أنّه فاصل يقع في أحد طرفيه الواجب وفي الآخر العالم ، بل هذه الشبهة
عند التحقيق ـ كما مرّ ـ لا يرد على القائلين بالزمان الموهوم أيضا ، لأنّهم لا يقولون
: انّه يجب أن يكون زمان يصحّ أن يقال : كان الواجب فيه ولم يكن العالم ، بل يقولون
: انّه يجب أن يتحقّق انفصال بين الواجب والعالم ويصحّ فيه قولنا : كان الواجب ولم
يكن العالم فيه. نعم! هذه الشبهة ترد على من قال منهم : انّه كما يقال في الجسم انّه
زماني بمعنى انّ وجوده مقارن لوجود الزمان ، فصحّ ذلك في شأن الواجب أيضا ، إذ يصدق
انّ وجوده مقارن لوجود الزمان.
نعم! لا يصحّ أن يقال : انّه زماني بمعنى
انّ وجوده منطبق على الزمان مثل الحركة ولا يصحّ ذلك في الجسم أيضا ، لأنّ مقارنة الزمان
لوجوده ـ تعالى ـ يجعله ذا وضع وإن انطبق وجوده على الزمان ، وهو بديهي البطلان ـ كما
مرّ ـ. وأيّ مناسبة للمجرّد الصرف المتعالي عن الزمان مع المقارنة للزمان ووقوعه في
طرفه!؟.
فان قلت : حاصل ما ذكرت في الدهر ـ الّذي
هو وعاء عدم العالم ـ انّه مع عدم وقوع الامتداد والتكمّم فيه يحصل به الانفكاك الواقعي
، وما طريق تعقّل ذلك وبأيّ حيلة نهتدي إلى ادراكه!؟. مع أنّ المعقول عندنا انّ هذا
الشيء المسمّى بالدهر عندكم إن حصل به الفصل والانفكاك في الواقع لم يكن إلاّ شيئا
ممتدّا هو الزمان ، وإن لم يحصل به الامتداد لزم قدم العالم وكونه موجودا
مع الواجب في الواقع والخارج ؛
قلت : طريق ادراك ذلك بعد التذكّر بأنّه
لو لم يوجد انفكاك واقعي بين العالم والواجب بحيث لو فرض تحقّق الزمان. فيه لكان غير
متناه لزم إمّا كون الواجب محلاّ للزمان الواقعي النفس الأمري أو عدم تناهي الزمان
والحركة من جانب البداية أو كون بقاء الواجب بقدر زمان متناه ، والكلّ قطعي البطلان
ـ كما مرّ ـ انّ وعاء الواقع اعمّ الأوعية واشملها ، لأنّه عبارة عن الخارج والخارج
من حيث هو خارج ليس شيئا موجودا على حدة مغايرا للموجودات الخارجية
، بل هو عبارة عن حدّ ذات الشيء ومرتبته في الوجود ، فالخارج للواجب كونه ثابتا موجودا
بذاته قائما بنفسه لا في زمان ولا في مكان ولامع شيء آخر من الموجودات ـ ويعبّر عنه
بالسرمد ـ ، وللعقول والنفوس ونفس الزمان كونها موجودة بغيرها لا في زمان ولا في مكان
ولأعدامها كونها متحقّقا لا في زمان ـ ويعبّر عنه بالدهر ـ ، وللحوادث اليومية كونها
موجودة في الزمان والمكان. فنحن إذا أردنا أن نعبّر عن كون الواجب موجودا بذاته بدون
شيء من الأشياء نقول : موجود في السرمد تجوّزا ، وإذا أردنا أن نعبّر عن تحقّق عدم
العالم قبل وجوده لا في زمان نقول : انّه متحقّق في الدهر على سبيل التوسّع مع أنّ
الدهر والسرمد ليسا شيئين. موجودين منفردين ، فالسابق على وجود العالم ليس إلاّ عدمه
الخالص الصرف ووجود الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ. ولا يلزم مع ذلك معية الواجب للعالم
في الخارج ، لأنّه لا نسبة بين الواجب وبين غيره من الموجودات بوجه من الوجوه ليتصوّر
بينهما المعية في الوجود الخارجي ، فانّ المجرّد الصرف القائم بذاته البريّ عن شوائب
المادّية والمتعالي عن الانتساب إلى الزمان ايّ معية ومقارنة يتصوّر أن يكون له بالنسبة
إلى الزمان وغيره ممّا ينتسب إليه؟ ، فانّ المعية والمقارنة بين الشيئين في الزمان
فرع كونهما زمانيين. وإذا انتفت المعية عنه ـ تعالى ـ يتحقّق انفكاكه عن العالم وان
لم يكن انفكاكا زمانيا ، فانّه لو فرض قدم الزمان لكان منفكّا عنه بهذا المعنى أيضا.
إلاّ أنّ الفرق انّه في صورة تناهيه وحدوثه انّه يتحقّق حينئذ قبل العالم والزمان عدم
الخالص المحض ويكون الواجب فيه موجودا ، فيصدق انّه كان الواجب في الخارج ولم يكن فيه
زمان ، ويصدق انّه لو وجد فيه زمان لكان غير متناه. وللعقل أن يفرض فيه زمانا تقديريا
، فانّ جميع الأزمنة بآزالها وآبادها ، بل أضعافها بألف ألف مرّة لو القيت في هذا العدم
أوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه واحد بالنسبة إلى الزمان الغير المتناهي ، والأمكنة
بعلوها وسفلها بل أضعاف أضعافها لو القيت فيه لوسعها ، بل كانت بالنسبة إليه كحلقة
في فلاة وقطرة في بحر زخّار ، بل كنقطة بالنسبة إلى الكرات الغير المتناهية. وممّا
يوضح ذلك انّ الواجب ـ تعالى شأنه ـ مع عدم كونه في مكان له تحقّق في الواقع ويصدق
عدم المعية بين الواجب وبين غيره من الممكنات في المكان ، بل لو قيل بتحقّق الانفكاك
بين كلّ مكان وبين الواقع الدهر ـ الّذي هو ظرف تمكّنه تعالى ووعاء استقراره ـ لكان
صحيحا ، ومعنى استقراره وتمكّنه في وعاء الواقع والخارج هو قيامه بذاته الواجبة بنفسها.
ولو ادّعى انّه لو فرض بينهما بعد لكان غير متناه لم يكن بعيدا. والسرّ عدم امكان تحقّق
النسبة بينهما وعدم جواز وقوع الواقع في أحد طرفي البعد ، كما يجوز وقوع مكان ما في
أحدهما ، فهو ـ تعالى شأنه ـ مع انّه أبعد الأشياء إلى كلّ مكان يتصوّر فهو أقربها
إليه!.
وقس على ذلك نسبته ـ تعالى ـ مع كلّ زمان
وزماني ، فانّه مع عدم كونه في زمان له تحقّق في الواقع ويصدق عدم المعية بينه وبين
غيره من الزمانيات في الزمان ، ويصحّ القول بتحقّق الانفكاك بين كلّ زمان وبين الواقع
الّذي هو ظرف وجوده ـ تعالى ـ.
ومعنى كون الواقع ظرف وجوده هو كونه ثابتا
بنفسه مصونا عن التغيّر والتجدّد وقيامه في حدّ ذاته. ولا يبعد ادّعاء انّه لو فرض
بين الواقع الّذي هو ظرف وجوده وبين كلّ زمان زمان لكان غير متناه ، والسرّ عدم امكان
تحقّق النسبة بينهما وعدم تعقّل وقوعهما في طرفي الزمان ، فهو ـ تعالى ـ مع أنّه أبعد
الأشياء إلى كلّ زمان فهو أقربها إليه. وكما يصدق أنّه ـ تعالى ـ مباين (37) عن كلّ
مكان وكان موجودا فيما لم يوجد متمكّن فيه كذلك يصدق انّه ـ تعالى ـ مباين (38) عن
كلّ زمان ، وكان موجودا ولم يوجد العالم أصلا.
وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الازمنة
فيه واحاطته بها واتصافها بالامتداد والزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه : انّه لا يمتنع
أن يفرض الواجب ـ تعالى ـ منفردا بدون تحقّق شيء من الزمان والزمانيات والمكان والمكانيات
إلى هذا الآن ، فنفرضه كذلك ونقول : على هذا الفرض يلزم أن لا يتحقّق قبل هذا الآن
غير الواجب شيء لا موجود خارجي ولا واقعي نفس امري ، فلا يتحقّق امتداد أصلا ، بل المتحقّق سوى
الواجب هو العدم الصرف الخالص مع انّه بعد فرض وجود العالم فيه كما هو المطابق للواقع
يحصل فيه الامتداد القابل للزيادة والنقصان ، فانّ الامتداد الحاصل في الزمان من وقت
حدوث العالم إلى هذا الآن أكثر من الامتداد الحاصل من زمان نوح إلى هذا الآن مع انّه
لم يقع إلاّ في العدم الصرف ، ولو فرض عدم وجوده لم يكن إلاّ العدم الخالص الغير القابل
للامتداد والانقضاء.
ثمّ الامتداد والتفاوت وإن لم يكن معلوما
لنا لو لم يوجد الزمان إلاّ أنّه بعد وجود الزمان يظهر لنا ثبوت الامتداد والتفاوت
فيه ؛ فكذا الحال في العدم الخالص الّذي لم يوجد فيه الزمان ، فانّ العقل يحكم بأنّه
لو وجدت فيه الزيادة يحصل فيه الامتداد الغير المتناهي. فيظهر انّه يمكن تحقّق وعاء
واقعي غير ممتدّ لو وجد فيه الزمان لكان غير متناه.
والمنازع إن قال : لا يمكن أن يفرض وجود
الواجب منفكّا عن العالم بدون امتداد واقعي نفس أمري ؛ فهو مكابر ، لأنّه مع ما علمت
انّ تحقّق الامتداد للواجب بديهي البطلان ؛ نقول : جواز فرض ذلك ممّا لا ينبغي الريب
فيه ، فانّ ما هو محال في الواقع لا يستحيل فرضه.
وإن قال : وجود العالم والزمان لا يقع في
العدم المفروض ؛ فهو اشدّ مكابرة.
وممّا يوضح قبول العدم المذكور لوقوع الأمكنة
فيه واحاطته بها وقبولها للزيادة والنقصان بعد وقوعها فيه انّه لا ريب في أنّ قبل وجود
العالم لم يكن البعد الّذي حصل فيه المحدّد بما فيه بعد وجوده شيئا خارجيا موجودا ،
بل كان عدما لا خلأ ولا ملأ كما هو فوق المحدّد والآن ، ومع ذلك بعد وجود العالم حصل
فيه الأمكنة والأبعاد القابلة للزيادة والنقصان.
ولو فرضنا وجود الابعاد والاماكن في العدم
الخالص السابق على العالم لحصل فيه الامتدادات المكانية وكان قابلا لها ، بل لحصول
الابعاد الغير المتناهية.
وبما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل : انّ العدم
والوجود اللّذين في هذا الوعاء ان كانا متعاقبين ـ كما يظهر من بعض كلمات السيد الداماد
حيث قال فيما مضى من كلامه : « يبطل عقد السلب الدهري ويقع
في حيزه عقد الايجاب الدهري » ـ كانا زمانيين ، وإن كانا مجتمعين في حالة واحدة ـ كما
يظهر من بعض اخر من كلماته المتقدّمة حيث قال : « وليس حدّ العدم السابق فيه متميزا
عن حد الوجود اللاحق » ـ لزم الحدوث الذاتي ؛ انتهى.
ووجه اندفاعه : انّهما ليسا مجتمعين ، بل
متعاقبين لا بالتعاقب الزماني ، بل بالتعاقب الدهري الواقعي ـ كما مرّ مفصّلا ـ. فلا
يلزم كونهما زمانيين ، فانه قال قبل هذا : الواقع المسمّى بالدهر ـ الّذي هو وعاء عدم
العالم ـ إن كان معدوما صرفا فكيف يتحقّق به الانفكاك الواقعي ويكون وعاء للموجود كالواجب
أو غيره من المجرّدات ، وإن كان موجودا فامّا أن يكون قديما فيلزم وجود قديم سوى الله
، فمن يرضى بقدم الواقع الّذي هو غير الله ـ تعالى ـ فما باله لا يرضى بذلك لغيره من
الزمان والعالم! ؛ وإن كان حادثا فامّا يلزم التسلسل أو الانتهاء إلى القديم ؛ وكلاهما
باطلان. وأيضا الدهر إمّا ثابت بنفسه من غير علّة ، فيكون واجبا لذاته ، وهو باطل ؛
أو بالواجب لذاته ومعلول له ، فان كان منتزعا منه فيلزم قيامه بذاته ـ تعالى ـ وهو
محال. ولو قطع النظر عنه نقول : ما قام به ـ تعالى ـ كيف يصير ظرفا لعدم العالم ولغيره
ـ تعالى ـ من المبدعات؟! وإن لم يكن منتزعا منه ـ بل كان موجودا منفصلا عنه تعالى قديما
أو حادثا ـ فمع لزوم كون الواجب موجودا لا في الدهر والواقع يعود بعض الاشكالات المتقدّمة
أيضا ، فمن تأمّل يظهر له انّ اكثر الاشكالات الواردة على الزمان الموهوم يرد على الدهر
أيضا ، مع اختصاصه بورود اشكالات أخر.
قلنا : أوّلا انّ الواقع أو الخارج ونفس
الأمر المرادف للدهر ممّا لم يختصّ بإثباته القائلون بالحدوث الدهري ، بل هو ممّا قال
به جميع الفلاسفة والمتكلّمين ، فالترديد فيه بانّه موجود أو معدوم ، قديم أو حادث
، ثابت بنفسه أو معلول ـ مع ما ذكر من فساد كلّ شقّ ـ يرد عليهم أيضا؛ فما يقولون في
الجواب فهو جوابنا بعينه. ولا فرق بيننا وبينهم إلاّ انّ الحكماء يقولون : انّ الواقع
لا ينفكّ عن وجود العالم والمتكلّمون يقولون لا ينفكّ عن الزمان الموهوم ، ونحن نقول
ينفكّ عنهما ويحصل به الانفكاك بين الواجب والزمان
والعالم ، فالإيراد المختصّ بنا هو انّه كيف يمكن أن يحصل به الانفكاك؟ ، وقد تقدّم
جواب ذلك.
وأمّا ما أورده هنا من الترديدات فيه وايراد
فساد كلّ شقّ فوروده مشترك بيننا وبين الحكماء والمتكلّمين.
وأمّا ثانيا : انّ الواقع والخارج أو نفس
الأمر ـ على ما تقدّم مفصّلا ـ ليس إلاّ حدّ ذات كلّ شيء ومرتبته ، فوجود كلّ شيء في
الواقع هو كونه في حدّ ذاته ومرتبته. فهو من لوازم وجود كلّ موجود ، فليس موجودا منفصلا
ولا معدوما صرفا ، بل هو شيء واقعي نفس أمري له منشأ انتزاع هو موجود ما ، وهو في القديم
قديم وفي الحادث حادث وفي كلّ موجود بحسبه وعلى ما يليق به ، وما يتحقّق لكلّ واحد
من الموجودات غير ما يتحقّق للآخر. فالواقع الثابت للواجب ـ تعالى شأنه ـ هو ما يليق
ويناسب ذاته ـ تعالى ـ ، وليس هو ثابتا لغيره ، وكذا ما يثبت للعقول غير ما يثبت للأفلاك
وهكذا ؛ وليس شيئا ممتدّا ـ كالزمان ـ حتّى يقال : لا يناسب أن ينتزع من ذاته ـ تعالى
ـ ؛
قلنا : انّا نختار من الترديدات كونه قديما
منتزعا عن ذاته ـ تعالى ـ ولا يلزم فساد ، لأنّ حدّ ذات الواجب ومرتبته ليس شيئا سوى
الله حتّى يلزم وجود قديم سوى الله ، وهذه المرتبة ليست مرتبة لغيره ـ تعالى ـ حتّى
يلزم أن يكون ما ينتزع من الواجب وعاء لغيره ـ تعالى ـ.
ثمّ ما ذكرنا هاهنا يؤكّد ويقوّي ما ذكرنا
قبل ذلك من أنّ الواقع صالح لأن يحصل به الانفكاك بين الواجب والعالم ، لانّ منشأ الانفكاك
حقيقة بين الأشياء انّما هو حدود ذوات الاشياء ومراتبها ، فالانفكاك الواقعي بين الواجب
والعالم ونفي المعية عنهما لا يتوقّف على تخلّل شيء موجود على حدة ، بل هما يحصلان
بمجرّد اعتبار وجودهما في حدّ ذاتهما وتحقّقهما في مرتبة حقيقتهما مع تخلّل العدم الصرف
الخالص.
فوجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ في حدّ ذاته
وحاقّ مرتبته يكفي لانفكاكه عن العالم وعدم وجوده معه ، وهذا الحدّ أو المرتبة هو المعبّر
عنه عندنا بالدهر أو السرمد. فالدهر أو السرمد ليس عندنا شيء على حدة أزليا كان مساوقا
للواجب في الوجود ؛ ولقد أجاد فيما أفاد بارع المحقّقين حيث قال في شرح رسالة العلم
: أزليته ـ تعالى ـ واثبات سابقيّته له على غيره ونفي المسبوقية عنه ، ومن تعرّض للدهر
أو الزمان أو السرمد في بيان الأزلية فقد ساوق معه غيره في الوجود (39).
ثمّ انّ الحكماء الذاهبين إلى قدم العالم
احتجّوا على اثبات ما ذهبوا إليه بوجوه (40) عمدتها ثلاثة :
أحدها : انّه لو كان العالم مطلقا حادثا
لزم التخلّف في الازل عن العلّة التامة ، إذ ذاته بذاته في الأزل كافية في فيضان الوجود
عنه وعلّة تامّة مستقلّة لإيجاد العالم ، فانّه منبع الجود وفيّاض على الاطلاق وتامّ
في ذاته وصفاته الّتي هي عين ذاته ، فبم يتصحّح تخلّف العالم وانقطاع الفيض عنه مع
أنّه نقص على وجوده وفيضه وفتور على احسانه وفضله؟! ، بل هو وهن على حريم سلطنته التامّة
الكبرى وغير لائق بساحة جبروته القاهرة العظمى ؛
والجواب عنه : انّ التخلّف لقصور العالم
وعدم قبوله الوجود الازلي ، فتخلّفه عنه من مقتضى ذاته وتلقاء نفسه لا من جهة تاخّره
في الافاضة وعدم كونه علّة تامّة. وذلك كما أنّ تخلّف المعلول عن مرتبة ذات العلّة
من نقصان جوهره عن قبول الوجود في تلك المرتبة ؛ وإلى ذلك يشير قولهم : انّ العالم
لم يكن ممكنا قبل ذلك الوقت ثمّ صار ممكنا فيه ، والامكان شرط في التأثير والمقدورية
، والوجوب والامتناع يحيلانها. وثبوت الامكان للعالم أزلا لا ينافي ذلك ، إذ لا يلزم
من امكان العالم امكان أزليته ، إذ امكان ازلية الشيء انّما يتحقّق إذا كان امكانه
الوقوعي ازليا. ألا ترى انّ الحادث بشرط كونه حادثا امكانه أزلي وليس ازليته ممكنة
لاستحالة ازلية الحادث من حيث انّه حادث؟! ، فالإمكان الذاتي يتحقّق في الأزل ، فلا
انقلاب ؛ والوقوعي غير متحقّق فيه ، فلا قدم. فلمّا زال المانع من جهته وصار ممكنا
بالإمكان الوقوعي وجد ، فلا تأخّر في الافاضة ولا تغيّر في الذات ولا تخلّف للمعلول
عن علّته التامّة ، ولا تسلسل أيضا. وكون الشيء بالإمكان الذاتي ـ أي : كونه بحيث لا
يقتضي لذاته الوجود والعدم ـ لا يوجب كونه ممكنا بالإمكان الوقوعي.
ثمّ هذا الجواب يتأتّى عند من جعل الداعي
آن أوّل الايجاد ، فانّ المذاهب في اثبات الداعي لفعله ـ تعالى ـ خمسة :
الاوّل : مذهب الحكماء ؛ وهو : انّ الداعي
نفس ذات الواجب ـ تعالى ـ ، ولذا قالوا بقدم العالم. فلا يرد عليهم لزوم تخلّف المعلول
عن العلّة التامة ؛
الثاني : مذهب الاشاعرة ؛ وهو : انّ الداعي
نفس الإرادة ، فانّ المرجّح عندهم هو مجرّد الإرادة بناء على ما ذهبوا إليه من جواز
الترجيح بلا مرجّح ؛
والجواب عن الايراد المذكور ـ اعني : لزوم
تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ـ على هذا المذهب: انّ تمامية العلّة انّما هو بعد
الإرادة وهي لم توجد في الأزل ، بل انّما وجدت في الوقت الّذي أوجد العالم ، فقبل ايجاد
العالم لم يوجد جزء العلّة ـ اعني : الإرادة ـ ، وبعد وجود الإرادة لم يتخلّف العالم
عن الواجب ، فلا تخلّف.
الثالث : مذهب أهل التحقيق من المتكلّمين
؛ وهو : انّ الداعي آن أوّل الايجاد.
بمعنى انّ العالم قبل ذلك لم يكن ليقبل
الوجود ، إمّا لقصوره وعدم قبوله الوجود السابق على هذا الآن أو لعدم وجود وقت قبل
ذلك الآن ـ كما يشر إليه قولهم : واختصّ الحدوث بوقت إذ لا وقت قبله (41) ـ.
والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب
كما ذكرناه مفصّلا.
ثمّ أهل التحقيق من هذا المذهب جعلوا الداعي
هو آن الحدوث على سبيل الوجوب دون الأولوية، وبعض من لم يثبت جعل الداعي آن الحدوث
على سبيل الأولوية ، دون الوجوب ؛ وبطلانه ظاهر!.
الرابع : مذهب بعض المعتزلة ؛ وهو : انّ
الداعي مصلحة تعود إلى العالم.
والجواب عن الايراد المذكور على هذا المذهب
انّ تلك المصلحة من أجزاء العالم ولا تتمّ العلّة بدونها ، وتلك المصلحة انّما توجد
إذا وجد العالم في الوقت الّذي أوجد لا قبل ذلك ، لأنّ أجزاء العالم ومصلحته انّما
كان بأن يوجد في هذا الوقت دون غيره ، فقبل ذلك لم توجد المصلحة وبعد وجودها لم يتخلّف
العالم.
الخامس : مذهب جمع آخر من المتكلّمين ـ
ومنهم المحقّق الطوسي كما نسب إليه الاكثرون ـ ؛ وهو : انّ الداعي العلم بالمصلحة
(42).
والجواب عن الايراد المذكور عن هذا المذهب
يظهر ممّا ذكر.
وقد ظهر انّه على المذهب الأوّل لم يتخلّف
العالم عن الواجب اصلا ؛ وعلى الثاني التخلّف لعدم الإرادة ؛ وعلى الثالث التخلّف لعدم
تحقّق الوقت الّذي يمكن للعالم أن يقبل فيه الوجود ؛ وعلى الرابع التخلّف لعدم وجود
المصلحة في ايجاد العالم قبل الوقت الّذي وجد فيه ؛ وعلى الخامس لعدم العلم بالمصلحة
، بل للعلم بعدمها في ايجاده قبل ذلك.
ثمّ الحق انّ القول بأنّ المرجّح هو المصلحة
الراجعة إلى العالم والقول بأنّ المرجّح هو العلم بالأصلح ليسا قولين متغايرين ، بل
مآلهما واحد ، فيرجعان إلى قول واحد.
فانّ من ذهب إلى انّ الداعي هو المصلحة
اراد أنّ الواجب ـ سبحانه ـ لعلمه باقتضاء المصلحة اختصاص حدوث العالم بوقته المعيّن
أوجده فيه بالقدرة والاختيار ، فيمكن أن يسند التخصيص إلى المصلحة وإلى العلم بها ،
والمآل واحد. ولذلك تارة يقولون : المرجّح هو المصلحة ، وتارة يقولون : هو العلم بالمصلحة
، تعويلا على الظهور. فليس مذهب القائل بعلّية المصلحة غير مذهب القائل بعلّية العلم
بها ـ كما نصّ عليه جماعة من الأفاضل ـ ؛ هذا.
وقد أجاب بعض الاعلام المتأخّرين عن الايراد
المذكور : بأنّ التخلّف عن العلّة التامة انّما يلزم ويستحيل إذا كانت العلّة التامّة
موجودة في زمان موجود أو موهوم لم يوجد المعلول فيه بعد ، ولا يتصوّر ذلك إلاّ بأن
يكون تلك العلّة أو بعض اجزائها وشرائطها زمانية ، والله ـ تبارك وتعالى ـ من حيث ذاته
وصفاته الحقيقية منزّه عن أن يكون زمانيا ، بل هو خارج عن سلسلة الزمان
والزمانيات ، سواء كان متناهية ـ كما عليه المليون ـ أو غير متناهية ـ كما ظنّه الحكماءـ،
ونسبته إلى جميعها نسبة واحدة.
فلا يلزم من تناهي زمان وجود الممكنات كون
الواجب ـ تعالى ـ موجودا في زمان موجود أو موهوم لا يوجد فيه ممكن ، كما لا يلزم من
تناهي مكان الممكنات كونه ـ تعالى ـ موجودا في مكان كذلك فكيف يتصوّر وأنّى يلزم التخلّف
المستحيل؟!. نعم! عند المليين له ـ تعالى ـ قبلية على جميع الممكنات سوى القبلية بالعلّية
، لكن ليست قبلية متقدّرة متكمّمة حتّى يحتاج إلى زمان يكون ملاكا لها. بل منشأ انتزاعها
هو اختصاص جميع الموجودات الممكنة بالزمان عندهم ، إمّا من حيث الذات والحقيقة وإمّا
من حيث العلاقة الذاتية ، وتناهي الزمان واحاطته ـ تعالى ـ عليه وتعاليه عنه من حيث
الذات والصفات الحقيقية. ولا يلزم من ذلك محال ـ كما لا يخفى على المتأمّل المنصف ـ.
وليس المراد من لفظة « كان » في الحديث
المشهور (43) الزمان الماضي موجودا ـ لكونه من العالم أيضا ـ ، ولا موهوما ـ لبطلانه
عند المحقّقين ، كالمحقق الطوسي وغيره ـ.
وليس المراد من توصيفه ـ تعالى ـ بالدوام
والازلية والقدم واشباهها كونه موجودا في زمان غير متناه ـ تعالى عن ذلك ـ. كيف وقد
ورد عن ائمّتنا المعصومين ـ : ـ أيضا : انّ متى مختصّ بالحوادث وأن ليس له ـ تعالى
ـ متى ، والردّ على من سأل عن ذلك ، وانّه كان إذ لا كان ولا مكان ، فخلق الكان والمكان
، وانّه قبل القبل بلا قبل وانّه لا يوصف بزمان ولا مكان ، بل هو خالق الزمان والمكان
، وانّه لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وانّه الآن كما كان ـ على ما هو منقول بعبارات
متغايرة وروايات متظافرة (44) ـ ، انتهى.
وأنت تعلم انّ حاصل هذا الجواب انّ التخلّف
انّما يتصوّر إذا وجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول فيه ، ووجود العلّة لا في زمان
بل في حاقّ الواقع بدون الامتداد بدون المعلول لا يطلق عليه اسم
التخلّف ، لعدم تحقّق الأوّلية والآخرية والجزئية وأمثالها بدون تحقّق الزمان وعدم
تحقّق طرف يصدق تحقّق التخلّف فيه. وغير خفيّ انّ بناء هذا الجواب على عدم وقوع التفاوت
والاختلاف في ظرف الواقع ونفس الأمر بدون وجود الزمان ، وقد تقدّم ذلك مفصّلا ؛ فتأمّل!.
وثانيها : انّه لو كان العالم حادثا لكان
مسبوقا بمادّة ، إذ كلّ حادث مسبوق بمادّة ، إذ امكان وجوده متقدّم على وجوده. وليس
ذلك الامكان قائما بذاته ـ إذ ليس جوهرا ـ ولا بالفاعل ـ إذ ليس هو قدرة الفاعل عليه
، ولا يتعقّل أن يقوم بالفاعل سوى القدرة على ايجاد الحادث ـ ولا بالماهية ـ إذ ليس
هو الامكان الذاتي المجامع مع الوجود ـ ، فيكون قائما بمادّة الحادث أو موضوعه أو متعلّقة
، فلو كان العالم حادثا لزم أن تكون له مادّة سابقة على جميع اجزائه ؛ هذا خلف!.
وجوابه : انّ الامكان السابق على وجود العالم
ليس إلاّ الامكان الذاتي مع اعتبار قيد العدم معه ، وتقدّمه على الوجود وعدم اجتماعه
معه انّما هو لأجل ملاحظة قيد العدم المتقدّم عليه ، وذلك أمر اعتباري لا وجود له في
الخارج حتّى يحتاج إلى محلّ غير الماهية ، بل هو بعينه الامكان الذاتي ، والفرق ليس
إلاّ بانضمام قيد العدم وعدمه.
نعم! لو كان العالم موصوفا بصفات الموجودات
كالقرب والبعد وامثالهما الّتي للامكان الاستعدادي المعبّر عنه بالقوّة الّتي لا بدّ
من تحقّقها فى غير ما هو قوّة له ـ أعني : فيما هو مادّة بالنسبة إليه ، كالقوّة الحاصلة
في النطفة للجنين وفي الغذاء للنطفة ـ لكان محتاجا إلى مادّة أو موضوع ؛ والقائل بحدوث
العالم لا يسلّم ثبوت الامكان الاستعدادي له قبل وجوده. كيف وهو يدّعى كونه مبدعا لا
في زمان ولا يتعقّل للمبدع أن يسبقه المادّة؟! ، فانّ سبق المادّة انّما يكون لما يتصف
بالقرب والبعد وامثالهما ممّا لا يتحقّق إلاّ في الزمان ، فغير المحتاج إلى الزمان
لا يحتاج إليه. ولو كان مع كونه مبدعا لا في زمان محتاجا إلى مادّة لكان لقائل أن يقول
: لو كان حادثا ذاتيا لاحتاج إلى المادّة أيضا ، اذ (45) امكان وجوده متقدّم بالذات
على وجوده وليس قائما بذاته ولا بالفاعل ولا بالماهية إلى آخر ما تقدّم.
وثالثها : إنّه لو كان العالم حادثا لكان
الزمان متناهيا ، وإذا كان الزمان متناهيا كان عدمه سابقا على وجوده ـ سبقا لا يجامع
السابق المسبوق ـ ، وذلك لا يكون إلاّ بزمان ، فيكون قبل الزمان زمان ، وهكذا إلى ما
لا بداية له ؛
وجوابه : انّ تقدم عدم الزمان المتناهي
على وجوده لا يحتاج إلى زمان آخر يكون ملاكا له ـ لأنّه ليس متقدّرا ولا متكمّما ـ
، بل ـ إذا ثبت عند العقل تناهي الزمان ينتزع منه بمعونة الوهم تقدّما لعدمه على وجوه
تقدّما لا يجامع المتقدّم به المتأخّر شبيها بتقدّم اجزاء الزمان والزمانيات بعضها
على بعض ؛ ولا فرق إلاّ بالتقدّر وعدمه ، كما ينتزع من تناهي المكان فوقية لعدمه عليه
ـ وقد مرّ توضيح ذلك على ما ينبغى ـ.
وبما ذكرناه يظهر فساد ما توهّمه بعض المتأخّرين
من قوّة أدلّة القدم ، فانّها لا تنتهض حجّة على القائلين بالحدوث الدهري مطلقا.
قال بعض الأعلام : ولعلّ مقدّم الفلاسفة
ورئيسهم تفطنان بأنّ دلائل القدم كلّها مردودة حيث عدّا مسئلة أزلية العالم في طونيقا
من المسائل الجدلية الطرفين الّتي لا برهان عليها ـ بل هي بعد مشكوك فيها! ـ. نعم!
يمكن تتميم تلك الأدلّة على من قال بزمان موهوم مستمرّ متقدّم على وجود العالم هو ظرف
عدم العالم أو مقدار بقاء الواجب ؛ فليتدبّر.
__________________
(1) راجع : المباحث المشرقيّة ، ج 1 ص
134 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص 271 / 246.
(2) راجع : القبسات ، ص 4.
(3) الاصل : ـ هو.
(4) الاصل : محصّلي.
(5) راجع : القبسات ص 25.
(6) راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ، المسألة
الحادي عشر ص 100.
(7) راجع : الاربعين ج 1 ص 19.
(8) هذا قول جماعة من المتكلّمين. راجع
: كشف المراد ص 131.
(9) راجع : القبسات ص 24.
(10) ما وجدت العبارتين في اثولوجيا. وانظر
: القبسات ، ص 25 / 27.
(11) راجع : الجمع بين رأيي الحكيمين ،
ص 100.
(12) الاصل : لم ينسب.
(13) الاصل : ـ أيضا.
(14) قال المحقّق الداماد : فإذن قد استبان
انّ حريم النزاع هو الحدوث الدهري لا غير. راجع : القبسات ، ص 26.
(15) الاصل : ـ تلك.
(16) راجع : رسالة الكندي إلى المعتصم بالله
، ص 19 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 8 ص 388 ؛ شوارق الالهام ، ج 1 ص 144.
(17) راجع : الحكمة المتعالية ، ج 3 ، ص
255 ؛ درّة التاج ، ج 3 ، ص 29.
(18) النسختان : + و.
(19) الاصل : ـ وجد.
(20) راجع : رسالة الحدوث ، ص 181.
(21) هذا الحديث ـ كما قال المصنّف ; ـ
تلقّته الامّة بالقبول ، فيوجد في كثير من مصادر الفريقين. راجع : بحار الأنوار ، ج
57 ، ص 234 ؛ صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 129 ، ج 9 ، ص 152 ؛ اتحاف السادة المتقين ، ج
2 ، ص 105.
(22) لم أعثر على هذه الرسالة ، والظاهر
أنّها لم تطبع بعد.
(23) الاصل : ثمّ بوحدانيته تعالى.
(24) راجع : بحار الأنوار ، ج 87 ، صص
199 ، 344 ؛ الدّرر المنتثرة ، ص 126 ؛ الاسرار المرفوعة ، ص 273 ؛ تذكرة الموضوعات
، ص 11.
(25) راجع : الاربعين ج 1 ص 27.
(26) الظاهر انّه اشارة إلى ما جاء به الطبرسي
تفسيرا على مبتدأ سورة الانسان المباركة ؛ راجع : مجمع البيان ، ج 10 ، ص 406.
(27) الاصل : محلا بمثل هذا البرهان.
(28) الاصل : هو من.
(29) راجع : القبسات ، ص 31.
(30) الاصل : ـ الانفصال.
(31) راجع : الكافي / الأصول ، ج 1 ، ص
128.
(32) راجع : التوحيد ، ص 184.
(33) راجع : نفس المصدر ، ص 184.
(34) راجع : نفس المصدر ، ص 179.
(35) اشارة إلى ما وقع في بعض خطبه ـ عليه
وعلى اولاده وآبائه آلاف التحيّة والثناء ـ ، كقوله : لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري
عليه الصفات المحدثات .... راجع : نهج البلاغة ، الخطبة 186 ، ص 274.
(36) هذه الرسالة ألّفها في « ابطال الزمان
الموهوم » مع انكاره استدلال السيد الداماد عليه ، راجع : روضات الجنّات ، ج 1 ، ص
118.
(37) الاصل : متباين.
(38) كما في التعليقة السالفة.
(39) راجع : رسالة شرح مسئلة العلم ، ص
46.
(40) وانظر : تلخيص المحصّل ، ص 205.
(41) راجع : كشف المراد ، ص 129.
(42) راجع : الشرح الجديد ، ص 186 ؛ الحكمة
المتعالية ، ج 6 ، ص 325 ، 331 ؛ علم اليقين ، ج 1 ، ص 102 ؛ شرح المقاصد ، ج 4 ، ص
97 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 207 ؛ الأربعين ، ج 1 ، ص 179 ؛ المطالب العالية ، ج 4 ، صص
48 ، 65.
(43) اشارة إلى ما مضى من النبوي الشريف
: « كان الله ولم يكن معه شيء ». راجع : ص 191.
(44) راجع : التوحيد ، ص 173 ، باب نفي
المكان والزمان ... عن الله ـ عزّ وجلّ ـ.
(45) الاصل : و.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
وفد كلية الزراعة في جامعة كربلاء يشيد بمشروع الحزام الأخضر
|
|
|