السيطرة في النهاية للصفوة 

لقد لاحظنا عند الحديث عن المؤسسات وأثرها في الرأي العام أن عددا من الكتاب ومنهم الديموقراطيين الغربيين ينتقدون الواقع الذي تسيطر عليه أقلية نشطة بدلا من الأغلبية. ولعل " زيلر " أحد أبرز من عبر عن هذا الاتجاه بدون مبالغة أو تهويل.

نظرية " زيلر " :

انطلاقا مما سبق، ومن الحقيقة التي تفيد بأن الرأي ليس إلا تزاوجا بين المعلومات، والمنطلقات السابقة، يخرج زيلر بنظرية  تفيد بأن هذه المجموعة هي التي نعتمد عليها - بطريقة مباشرة أو غير مباشرة - في المعلومات التي نحصل عليها عن العالم من حولنا. وبعبارة أخرى، الصفوة هي التي تصنع الرأي العام في نهاية المطاف. ويسند فرضيته بالأدلة الني يستمدها من عشرات الدراسات التي تم استعراض بعضها في الفصول السابقة ومن أبرز النقاط التي يستشهد بها ما يلي :

١- هناك علاقة قوية بين المعلومات، والميول أو الاتجاهات والرأي. فالمعلومات تؤثر على الميول أو الاتجاهات. والاتجاهات بدورها تؤثر على الرأي إضافة إلى التأثير المباشر للمعلومات على الرأي. والصفوة هي مصدر المعلومات التي يبني عليها عامة الناس آراءهم، ومنها يكونون معتقداتهم واتجاهاتهم. كما أن هذه المعلومات عن الواقع هي عرضة للتلخيص والتفسير من قبل الصفوة. لهذا فإن تأثير الصفوة على الرأي العام يبدو واضحا.

٢- المعلومات التي تصلنا لم تكن في يوم من الأيام  تسجيلا كاملا للأحداث الهامة، فهي غالبا تصوير انتقائي ويصاغ في قوالب جاهزة. وحتى لو كانت تعجيلا كاملا فإن الجمهور العام يميل إلى المعلومات القصيرة، البسيطة، التي تأخذ شكل الانطباعات الجاهزة. ومثال ذلك أن الجمهور العام في بدايات حرب فيتنام لم يزود إلا بمعلومات لا تمثل إلا طرفا واحدا وهو ضرورة المقاومة للحفاظ على الحرية ولاحتواء الشيوعية، فكان تأييدها للحكومة الأمريكية واضحا. أما عندما بدأت بعض وسائل الاتصال الجماهيري تكشف النقاب عن الجزء الآخر من الحقيقة مثل ضخامة الخسائر في الأرواح والأموال، وعرضت بصورة مكثفة الحوار بين صفوف الصفوة حول جدوى الحرب، فإن مساندة الجمهور للحرب أخذت تضعف. والملاحظ أن العامة يتبعون الصفوة عندما يكون موقفها واضحا، أما في حالة الانقسام بينها فإن العامة غالبا ما يتبعون من يشاركهم رأيهم أو من ينتمي إلى حزبهم.

٣- عند استعراض تاريخ التمييز العنصري في أمريكا الشمالية ولاسيما العلاقة بين السود والبيض نجد أن جميع الصفوة من البيض، وبشكل أو آخر كانوا متفقين على أن الأجناس غير البيضاء أقل مكانة. ومن الغرب أن تساند هذا التحيز دراسات في علم النفس وعلم الأحياء. وكانت أي محاولة للقول بالمساواة بين البيض والسود كافية لأن تحرم مرشحا للعضوية في الحكمة العليا من هذه العضوية بواسطة مجلس الشيوخ الأمريكي. ثم قامت دراسات جديدة تفحصت نتائج الدراسات السابقة التي أثبتت شيئا من التميز للجنس الأنجلو ساكسوني على الأجناس الأخرى فأثبتت فساد تلك النتائج. فتحولت الصفوة البيضاء إلى أعذار أخرى مثل ميل الأسود إلى الكسل وكراهية العمل ... ثم ظهرت فرقة من هذه الصفوة البيضاء تنادي بمبدأ المساواة. ومع زيادة التعليم بدأ مبدأ المساواة يأخذ طريقه تدريجيا في الواقع في هيئة فرص متساوية في الالتحاق بالجيش، وبالمساواة في الالتحاق بالمدارس العامة.

٤- أثبتت الدراسات أن العضوية في مجلس النواب وظيفة مضمونة دائمة لمن يحصل عليها في المرة الأولى، إلا في الحالات الخاصة. ولعل هذا يعود إلى ضعف اهتمام العامة بالسياسة، حتى أن أكثر من نصف المؤهلين للانتخاب لا يذكرون اسم من يمثلهم في مجلس الشيوخ.

5- كثير من الناخبين ضعيفو الاهتمام بالقضايا السياسية لدرجة أن إجاباتهم قد تتعارض إذا سألتهم عن القضية نفسها ثلاث مرات، مما يشير إلى انعدام الموقف الواضح.

وعند استعراض الفصول السابقة فإننا نصل إلى نتيجة مقاربة. فهناك عوامل رئيسة تؤثر في الرأي الفردي والرأي العام، منها المعتقدات والاتجاهات والمعلومات والخبرات التي تتراكم طوال الفترة التي يعيشها الفرد قبل أن يسهم بأي رأي في القضايا السياسية. وأصل المعتقدات الصفوة وأصل الاتجاهات المعتقدات، وأصل المعتقدات المعلومات، وأصل المعلومات الصفوة. وأما التجارب الذاتية فهي محدودة تصبغها المعلومات الغزيرة التي تتلقاها العامة من الصفوة مما تنشرها وسائل الإعلام أو مؤسسات التعليم. كما أن وسائل الاعلام نفسها ليست إلا وسائل تملكها الصفوة وتديرها وتنشر ما يمدها الصفوة به من معلومات وإنتاج فكري. ويضاف إلى ذلك أن ما تنقله وسائل الاتصال الجماهيري عن العامة هو عرضة للانتقاء قبل النقل وعرضة للتفسير والصبغ بعد النقل، وتقوم الصفوة بوضع صياغته النهائية.

ومما يؤيد ما ذهب إليه " زيلر " قول " كي " بأنه مما يؤكد أهمية الفئة القيادية أهمية التشاور والتشاور لا يكون إلا مع أطراف موجودة في مكان واحد أو على اتصال كامل. والأصل في المجالس النيابية - وأعضاؤها من الصفوة السياسية - أن تعكس بقراراتها إرادة الرأي العام، ولكن يلاحظ أحيانا بأن الرغبة الحقيقية للرأي العام في البلاد تختلف عن رأي البرلمان.