المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

العقائد الاسلامية
عدد المواضيع في هذا القسم 4870 موضوعاً
التوحيد
العدل
النبوة
الامامة
المعاد
فرق و أديان
شبهات و ردود
أسئلة وأجوبة عقائدية
الحوار العقائدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05
نـسـب الإنـتاجـيـة والغـرض مـنها
2024-11-05
المـقيـاس الكـلـي للإنتاجـيـة
2024-11-05
الإدارة بـمؤشـرات الإنـتاجـيـة (مـبادئ الإنـتـاجـيـة)
2024-11-05
زكاة الفطرة
2024-11-05



في كلامه سبحانه  
  
794   04:56 مساءاً   التاريخ: 5-08-2015
المؤلف : مهدي النراقي
الكتاب أو المصدر : جامع الأفكار وناقد الأنظار
الجزء والصفحة : ص419-487ج2
القسم : العقائد الاسلامية / التوحيد / صفات الله تعالى / الصفات الثبوتية / التكلم و الصدق /

قد تواتر عن الأنبياء واطبقت الشرائع كلّها على أنّه ـ تعالى ـ متكلّم ، إذ ما من شريعة إلاّ وفيها أنّه ـ تعالى ـ أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من اقسام الكلام.

ثمّ لما ثبت صدق الأنبياء بدلالة المعجزات من غير توقّف على اخبار الله ـ تعالى ـ عن صدقهم بطريق التكلّم فلا يلزم من اثبات تكلّمه ـ تعالى ـ بالشرع دور بلا شبهة. وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والاديان في كونه ـ سبحانه ـ متكلّما ، وانّما الخلاف في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه. فالحنابلة قالوا إنّ كلامه ـ تعالى ـ حروف واصوات ، إلاّ انهم قالوا انّها حادثة قائمة بذاته ـ تعالى ، نظرا إلى تجويزهم قيام الحوادث بذاته سبحانه ـ ، وهذا هو المطابق لما نسب إليهم شارح المواقف. وامّا المذكور في المقاصد وشرحه فهو إنّ مذهب الكرامية إنّ الكلام هو قدرته ـ تعالى ـ على التكلّم وهو قديم والمنتظم من الحروف ليس كلامه ، بل هو قوله وهو حادث. قال صاحب المقاصد ما توضيحه : إنّه لمّا رأت الكرامية انّ بعض الشرّ أهون من بعض وانّ مخالفة الظواهر أشنع من مخالفة الدليل فلم يخالفوا الظواهر ـ أعني : كون المنتظم من الحروف حادثا ـ وخالفوا مقتضى الدليل القائم على عدم جواز قيام الحوادث بذاته ـ تعالى ـ 

فقالوا : إنّ المنتظم حادث قائم بذاته ـ تعالى ـ وإنّ المنتظم هو قول الله ـ تعالى ـ لا كلامه ، فانّ كلامه قدرته التكلّم وهو قديم وقوله حادث لا محدث ، فانّ كلّ ماله ابتداء وإن كان مبائنا للذات فهو محدث بقول « كن » لا بالقدرة فقط ، وإن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة فقط لا بقول « كن » ، إذ لو كان وقوع كلّ شيء بقول « كن » لزم أن تكون كلمة « كن » واقعة بمثلها ، فيلزم التسلسل. وعلى ما ذكر فالفرق بين الحادث والمحدث عندهم بالقيام بذاته ـ تعالى ـ وعدم القيام به ، فانّ القائم هو الحادث والمباين الغير القائم هو المحدث.

ولا يخفى انّه كما يأتي إنّ الكلام يطلق على التكلّم ، وعلى ما به التكلّم ـ أعني :

الكلمات والاصوات ـ. والتكلّم في الواجب انّما هو بمعنى قوّة الإلقاء وهو قديم ؛ فما ذهب إليه الكرامية ـ على قول صاحب المقاصد ـ من أنّ الكلام بمعنى القدرة على التكلّم انّما هو بمعنى التكلّم القديم لا بمعنى ما به التكلّم. فهم لم يطلقوا الكلام على ما به التكلّم ، بل اطلقوا عليه القول.

والمعتزلة قالوا كلامه ـ تعالى ـ أصوات وحروف وهي حادثة لكنّها ليست قائمة بذاته ـ تعالى ـ ، بل خلقها في غيره ـ تعالى ـ كجبرئيل أو النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ. ومعنى كونه متكلّما حينئذ إنّه خلق الكلام في بعض الأجسام على قصد الإلقاء من عنده ـ تعالى ـ واعلام الغير ، فاندفع ما قيل من : أنّه لمجرد الخلق لا يلزم التكلّم كما لا يلزم من خلق كلام زيد عند تكلّمه ـ على ما هو مذهب الأشاعرة ـ تكلّمه. ووجه الاندفاع إنّ خلق الواجب ـ تعالى ـ كلام زيد عند صدوره عنه ليس بقصد اعلام الغير ـ أي : ليس هذا بقصد منه سبحانه ـ ، بل هو مجرّد الايجاد.

فان قيل : لا ريب في أنّ زيدا مثلا يقصد من كلامه اعلام الغير ، وعند الأشاعرة كما أنّ ايجاد كلامه من الواجب ـ تعالى ـ فكذا ايجاد قصده منه ـ سبحانه ـ ، فيصدر من الواجب خلق الكلام بالقصد المذكور ، فالإيراد غير مندفع! ؛

قلنا : فرق بين ايجاد القصد والاتصاف به ، إذ الواجب ـ تعالى ـ عندهم أوجد هذا القصد القائم بالغير حين ايجاد الكلام فيه من دون اتصافه به ، والمعتبر في كون الشيء

متكلّما أن يكون متصفا بهذا القصد.

والأشاعرة قالوا : إنّ كلامه ـ تعالى ـ ليس من جنس الأصوات والحروف ، بل هو معنى قائم بذاته يسمّى « الكلام النفسي » وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الأصوات والحروف ، وهو قديم.

قال بعض الفضلاء : منشأ الخلاف في ذلك هو أنّ هاهنا قياسين متعارضين :

أحدهما : إنّ كلامه ـ تعالى ـ صفة له ـ تعالى ـ وكلّ ما هو صفة له ـ تعالى ـ فهو قديم ، فكلامه قديم ؛

وثانيهما : إنّ كلامه ـ تعالى ـ مؤلّف من اجزاء مترتّبة متعاقبة في الوجود ، وكلّ ما هو كذلك فهو حادث ، فكلامه حادث. فاضطرّوا إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقّية النقيضين. فالحنابلة صحّحوا القياس الأوّل ومنعوا كبرى القياس الثاني ؛ والكرامية قالوا بصحّة القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأوّل ؛ والمعتزلة صحّحوا القياس الثاني وقدحوا في كبرى القياس الأوّل ؛ والأشاعرة صحّحوا القياس الأوّل وقدحوا في صغرى القياس الثاني.

قيل : إنّ الأشاعرة لم يقدحوا في صغرى القياس الثاني إذا اخذوا الكلام الّذي هو موضوعها بمعنى الكلام اللفظي ، وانّما قدحوا فيها إذا اخذوه بمعنى الكلام النفسي ، فهم يصحّحون القياسين المذكورين بأن جعلوا الكلام المذكور في القياس الأوّل بمعنى الكلام النفسي والكلام المذكور في القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي. والحاصل : إنّه إن جعل الكلام المذكور في الدليلين بمعنى الكلام النفسي قدحوا في صغرى القياس الثاني ، وإن جعل بمعنى الكلام اللفظي قدحوا في صغرى القياس الأوّل ، وإن جعل معناه مختلفا في القياسين على النحو المذكور لم يقدحوا ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ جواز اخذ الأشاعرة الكلام في صغرى القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي حتّى يصحّحوا القياسين ولم يقدحوا في شيء منهما مبنيّ على أنّ الكلام عندهم على قسمين : نفسي قديم ؛ ولفظي حادث ، إذ لو كان الكلام عندهم منحصرا بالنفسي لما امكنهم أن يأخذوا الكلام في صغرى القياس الثاني بمعنى الكلام اللفظي ، فلا بدّ لهم

من القدح فيها البتة.

ثمّ إنّه لا بدّ هاهنا من تحقيق ما هو الحقّ في كلامه ـ سبحانه ـ ، ثمّ نشير إلى ما توجّه من الصحّة والفساد فيما ذكره الطوائف.

فنقول الكلام يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : القدرة على احداث الأصوات والحروف في جسم من الأجسام وقوّة القائها إلى الغير ؛

وثانيها : نفس هذا الاحداث والإلقاء ، وهو المعنى المصدري. والغالب اختصاصهما باسم التكلّم دون الكلام سيّما المعنى الأوّل ؛

وثالثها : ما به التكلّم ـ أي : نفس الأصوات والحروف الّتي يحصل التكلّم بها ـ ، فانّ مثل تكلّمت كلاما بكلام دقيق وقع فيه « كلاما » مفعولا مطلقا لقولنا : تكلّمت ، فيكون بمعنى تكلّما. وقولنا: « بكلام دقيق » بمعنى ما به التكلّم ـ أي : الحروف والاصوات ـ ، فالمعنى : تكلّمت تكلّما بمنتظم دقيق.

ثمّ لا ريب في أنّ تكلّمه ـ سبحانه ـ بالمعنى الأوّل هو بعينه قدرته ـ سبحانه ـ على خلق الاصوات والحروف في بعض الاجسام ، فكونه متكلّما بهذا المعنى هو كونه قادرا على احداث الكلام في جسم من الأجسام كما أنّ إطلاق المتكلّم بهذا المعنى علينا باعتبار قوّتنا على احداث الكلام في بعض الأجسام الّتي لنا قدرة على تحريكها ـ كالهواء وغيره ـ.

ثمّ إنّ هذه القوّة هي ما يحصل به التكلّم بالمعنى الثاني ، وهي فينا ملكة قائمة بذواتنا نتمكّن بها من القاء ما في روعنا إلى الغير ، وفي الواجب ـ سبحانه ـ عين ذاته بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ احداث الأصوات والحروف ومناط ايجادها من دون افتقار إلى صفة زائدة وملكة قائمة ، فيخلقها في أيّ جسم يريد لإفادة ما في قضائه السابق على من يشاء من عباده. وعلى هذا يكون التكلّم بهذا المعنى عين ذاته ـ سبحانه ـ بمعنى أنّ ذاته بذاته هو منشأ الإلقاء الفعلي كما أنّ التكلّم بهذا المعنى فينا عين الملكة القائمة المصحّحة للألقاء الفعلي ـ أي : احداث الحروف والاصوات في جسم من الأجسام لإعلام الغير ـ. وبما ذكر ظهر أنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، وهو أحد المعنيين الأوّلين ، لا من قام به الكلام ـ أي : ما به التكلّم ، أعني : الحروف والاصوات ـ.

ثمّ لا ريب في أنّ التكلّم بالمعنى الأوّل ثابت للواجب بالعقل لدلالة أدلّة عموم القدرة عليه ، وهو قديم ؛ وأمّا التكلّم بالمعنى الثاني فهو حادث ، وثبوته بالشرع دون العقل ، إذ لا طريق للعقل إلى اثبات تحقّق الإلقاء الفعلي عنه ـ سبحانه ـ وانّما عرفنا من الشريعة بالتواتر القطعي النفسي المؤكّد بالمعجزات أنّ الواجب انزل ما انزل من الكتب إلى انبيائه الكرام وأوجد الكلام فيما اوجد لإعلام بعض اصفيائه العظام وبعد ثبوت التكلّم بالمعنى الثاني يثبت الكلام بالمعنى الثالث أيضا ، لأنّ التكلّم الفعلي لا ينفكّ عمّا به التكلّم من الاصوات والحروف ، فهو أيضا حادث.

وبما ذكر ظهر أنّ قول العلاّمة الطوسي في التجريد : « وعمومية قدرته تدلّ على ثبوت الكلام» (1) اشارة إلى اثبات الكلام بالمعنى الأوّل ، يعنى : أنّ قدرته ـ تعالى ـ شاملة لجميع الممكنات ومن جملة الممكنات القاء الكلام بمعنى الحروف والاصوات الدالّ على المعنى المراد إلى الغير لا علامه ، فعموم قدرته يدلّ على الكلام بمعنى قوّة الإلقاء ؛ فالدليل العقلي يدلّ على قوّة الإلقاء. فالثابت من كلام المحقّق انّما هو هذا المعنى فقط. وامّا التكلّم بمعنى نفس الإلقاء المستلزم لما به التكلّم فانّما ثبت من الشرع ، فبالعقل والشرع يثبت الكلام بمعانيه الثلاثة ـ أعني: قوّة الإلقاء الثابت بالعقل ، ونفس الإلقاء ، وما به التكلّم اللازم لنفس الإلقاء ـ ، وهما ثابتان بالشرع.

وإذا عرفت ذلك نقول : على المعنى الأوّل انّما يصحّ القياس الأوّل دون الثاني ، لكذب صغراه، فانّ التكلّم الحقيقي الّذي هو قدرة الإلقاء نفس ذات الواجب ـ كما أشير إليه ـ فيكون قديما بلا تعدّد القدماء. وعلى المعنى الثاني لا يصحّ شيء من القياسين ؛ أمّا الثاني فلكذب صغراه ؛ وأمّا الأوّل فلمنع كبراه ، فانّما يمتنع كون كلّ صفة له قديمة ، فانّ المسلّم إنّ الصفات الحقيقية له ـ تعالى ـ قديمة ، وأمّا صفاته الاضافية فليست قديمة ،

الكلام بالمعنى الثاني انّما هو من الصفات الاضافية. وعلى المعنى الثالث انّما يصحّ القياس الثاني لا القياس الأوّل ، لكذب الصغرى.

وعلى هذا فلا حاجة إلى القدح في أحد القياسين ، لامكان أن يحمل الكلام في القياس الأوّل على المعنى الأوّل وفي القياس الثاني على المعنى الأخرى. فالحقّ إنّ التدافع بين ذينك القياسين انّما نشأ من فهم عدم اشتراك اللفظ وجعل الكلام المذكور فيهما بمعنى واحد ، وتوهّم جريان الحكم بالمعنى الآخر فيه مع كون اللفظ مشتركا بين معان ومخالفة حكم كلّ منهما للآخر.

وإذ ظهر ما هو الحقّ في كلامه ـ تعالى ـ فلنشير إلى ما يرد على المذاهب المذكورة ؛ فنقول : أمّا مذهب الحنابلة ففساده أظهر من أن يخفى على أحد! ، فإنّ القول بأنّ كلامه ـ تعالى ـ منحصر بالحروف والاصوات وهي قائمة بذاته وقديمة والقول بأنّ الجلد والغلاف قديمان ممّا يشمئزّ عنه من له ادنى مسكة! ، ولعمري كفى شاهدا في حماقتهم ما نقل عنهم : إنّ الجسم الّذي كتب فيه القرآن صار قديما بعد ما كان حادثا!.

ولعدم صدور امثال هذه الهفوات عن انسان أوّل جماعة كلامهم ؛

فقيل : لعلّهم لم يعرفوا معنى القدم والحدوث وحسبوا أنّ نسبة الحدوث إلى كلامه ـ تعالى ـ ولو بمعنى ما به التكلّم إهانة ؛

وقيل : لعلّ امتناعهم من إطلاق الحادث على المصحف وتوابعه لأجل أن لا يتوهّم حدوث الكلام بمعنى التكلّم القائم بذاته ؛

وقيل : لمّا كلّفوا بالقول بأنّ كلامه ـ تعالى ـ مخلوق ولفظ المخلوق مشترك بين الحادث والمفترى لم يجوّزوا إطلاق هذا اللفظ عليه لئلاّ يذهب من لا وقوف له على أنّ مرادهم من المحدث إلى انّهم اعترفوا بكون هذا المؤلّف مفترى ، وقالوا : انّه غير مخلوق ـ أي : غير مفترى ـ حتّى الجلد والغلاف فنسبوا إليهم انّهم قالوا بقدمه. ثمّ انهم التزموا عدم إطلاق المحدث أيضا عليه لانّهم لو اطلقوا عليه لفظ المحدث والحادث الّذي هو أحد معنيي المخلوق لاستلزم جواز إطلاق المخلوق أيضا ، وهو توهم كون القرآن مفترى.

وأنت تعلم بأنّ هذا التأويل يجعل حماقتهم أكثر! ، مع أنّه لا معنى لكون الجلد والغلاف غير مفترى!.

وقيل : إنّ مرادهم بقدم الكلام قدم علم الباري ـ تعالى ـ ، ولهذا قالوا بقدم الجلد والغلاف ، فانّ العلم بهما أيضا قديم.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكروه لا يلائم شيئا من هذه التأويلات ؛ بل الأولى الاعراض عن التأويل ، فانّه جار في اكثر المذاهب الباطلة والتعرّض له انّما نشأ من التعصّب المبري عنه أهل الحقّ.

وامّا مذهب الكرامية ففيه : أنّه لا معنى لقيام الاصوات والحروف بذاته ـ تعالى ـ ، سواء قالوا بانحصار كلامه فيها ـ على ما في شرح المواقف ـ أو قالوا بانّ قوله وكلامه هو قدرته على التكلّم ـ كما في شرح المقاصد ـ. نعم! ، الفساد في الأوّل أشدّ ، لانّه مع لزوم قيام المنتظم بذاته يلزم جعل كلامه منحصرا به ـ أي : بما به التكلّم ـ مع أنّ التكلّم الحقيقى هو القدرة على التكلّم والاضافي هو نفس احداث الحروف والاصوات.

وامّا مذهب المعتزلة فالظاهر ممّا نقلنا عنهم انّهم قالوا بالكلام بالمعنى الثاني والثالث وبحدوثهما؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثالث فظاهر ممّا نقلنا عنهم ؛ وأمّا قولهم بالمعنى الثاني فلأنّهم قالوا ـ كما نقلنا عنهم ـ : إنّ معنى كونه ـ تعالى ـ متكلّما : أنّه خلق الكلام في بعض الأجسام ، والظاهر المتبادر من الخلق : الخلق بالفعل ، وهو نفس الاحداث والإلقاء الّذي هو معنى اضافي. وأمّا قولهم بحدوثهما فلتصريحهم به ـ كما نقلناه عنهم ـ. ولا ريب في أنّ القول بهما وبحدوثهما من دون القيام بذاته ـ تعالى ـ وإن كان حقّا نقول به إلاّ أنّه ليس في كلامهم أثر من الكلام بالمعنى الأوّل ـ أعني : القدرة على الإلقاء ـ ، فانّ قولهم : « معنى كونه متكلّما إنّه خلق الكلام ـ ... إلى آخره ـ » لا يثبت منه إلاّ التكلّم الاضافي الحادث الّذي هو المعنى الثاني دون التكلّم الحقيقى الّذي هو المعنى الأوّل ، إذ المتبادر من الخلق هو الخلق بالفعل ، وهو ليس من الصفات الحقيقية لكونه حادثا غير ثابت في الأزل. وبالجملة التكلّم المذكور في كلامهم هو المعرّف بأنّه خلق الحروف والاصوات في بعض الأجسام ؛ وهو ليس من الصفات الحقيقية ، لأنّ التكلّم الحقيقى يعرف بأنّه أمر هو مصدر تأليف الكلمات أو القدرة على ذلك التأليف وخلقه، وهو نفس ذات واجب الوجود عند المحقّقين ، فانّه ـ تعالى ـ قادر بذاته على تأليف الكلمات. فثبت أنّ التكلّم الحقيقي غير مصرّح به في كلامهم لظهور دخوله تحت عموم القدرة ، حتّى لو كانوا قائلين به أيضا ـ وإن لم يتعرضوا له هاهنا كما هو الظاهر ـ فيكون مذهبهم في الكلام مطابقا للحقّ وموافقا لما اخترناه ، وإن كان عدم تصريحهم به لعدم اثباتهم ايّاه ؛ فحصل المخالفة بيننا وبينهم من هذه الجهة.

ويرد عليهم أنّه لا وجه لاخراج الكلام الحقيقي عن أقسام الكلام.

ثمّ إنا قد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ المعتزلة قدحوا في صغرى القياس الأوّل ، وهذا إنّما يتأتّى إذا حمل الكلام المذكور فيه على المعنى الثالث ـ أعني : ما به التكلّم ـ ، إذ لو حمل على المعنى الثاني ـ أعني : التكلّم الفعلي الّذي هو من الصفات الغير الحقيقة ، أي : ايجاد الكلام بالفعل ـ ينصرف القدح إلى كبرى القياس الأوّل ، ويندفع القدح عنه بالكلّية إن أريد بالتكلّم ما هو من الصفات الحقيقية.

وأمّا مذهب الأشاعرة ـ أعني : القول بالكلام النفسي ـ فيرد عليه : إنّ الكلام النفسي لا يرجع إلى معنى محصّل سوى العلم بمدلولات الألفاظ ومعانيها وعباراتها أو تخيّل الألفاظ ، وتوهّم ما يوجد من الكلام ـ أعني : ما يسمّى بحديث النفس ـ. والأوّل عين صفة العلم ، والثاني لا يليق بساحة كبريائه ـ سبحانه ـ لتقدّسه عن خطرات الأوهام وتخيّل ما يتجدّد من الألفاظ والكلام وسائر ما يتخيّله العوامّ.

قال بعض المشاهير ما توضيحه : إنّ للكلام معنيين :

أحدهما : التكلّم ؛

وثانيهما : ما به التكلّم. فالأشاعرة إن ارادوا بقولهم : « كلامه ـ تعالى ـ ليس من جنس الاصوات والحروف » : إنّ تكلّمه ـ تعالى ـ ليس من جنس الاصوات والحروف ، فيرد عليه : إنّ التكلّم مطلقا ـ أي سواء كان من الله تعالى أو من غيره ـ ليس من جنس الاصوات والحروف، فلا وجه لتخصيص كلامه ـ سبحانه ـ بهذا المعنى بأنّه ليس من هذا الجنس ؛

ويرد عليهم أيضا : انّه لا معنى حينئذ لقولهم : « أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي » ،

لأنّ التكلّم سواء كان بمعنى قوّة الإلقاء أو نفس الإلقاء ليس مدلولا للحروف والألفاظ. إلاّ أن يصرف عن ظاهره ويقال : إنّ مرادهم من كون التكلّم مدلولا للكلام اللفظي ـ أعني : الحروف والاصوات ـ : إنّه يعرف بسبب الكلام اللفظي انّ في الشخص صفة التكلّم ، على أن يكون من قبيل دلالة المعلول على العلّة لأنّ التكلّم سواء اخذ صفة حقيقة أو اضافية علّة للكلام اللفظي ومبدأ له ، فدلالة الكلام اللفظي عليه من قبيل دلالة المعلول على العلّة فيكون المراد من الدلالة الدلالة العقلية دون الوضعية. وهذا صرف عن الظاهر ، لأنّ المتبادر من الدلالة عند الاطلاق الدلالة اللفظية الوضعية ، فإرادة الدلالة العقلية خلاف الظاهر.

ثمّ إذا أريد بالتكلّم التكلّم الحقيقي الّذي هو القدرة على تأليف الكلمات أو الانتزاعي الاضافي الّذي هو نفس الاحداث وصرف قولهم إنّه مدلول الكلام اللفظي عن ظاهره ـ كما ذكرناه ـ ، يصحّ الحكم على رأي الأشاعرة بأنّه قديم ومعنى قائم بذاته ، لانّهم قائلون بزيادة الصفات على ذاته ـ تعالى عن ذلك ـ وإن لم يصحّ القيام عندنا ؛ لأنّ التكلّم الحقيقي عين ذاته والاضافي صفة اعتبارية انتزاعية ؛

وإن ارادوا بالكلام المذكور ما به التكلّم فلم يصحّ قولهم ، بل هو معنى قائم بذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ الحروف والاصوات ليست قائمة بذاته ـ تعالى ـ إلاّ على القول بأنّ الموجودات في الشهود العلمي قائمة بذاته ـ تعالى ـ كما ذهب إليه الحصوليون ، فانّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء إذا كان حصوليا يكون جميع الأشياء قائمة بذاته ـ تعالى ـ قياما علميا بمعنى أنّ صورها قائمة به ـ تعالى ـ قديمة ، والكلام بمعنى ما به التكلّم أيضا من جملة الأشياء ، فيكون قائما به ـ تعالى ـ في الشهود العلمي. فما به التكلّم ليس قائما بالمتكلم إلاّ في الشهود العلمي ؛ يعنى إنّ صور الحروف والألفاظ قائمة به ـ تعالى ـ.

ثمّ لو أريد من القيام القيام في الشهود العلمي فمع كونه خلاف الظاهر يرد عليهم أيضا : أنّ الكلام بهذا المعنى متعدّد باعتبار ذاته كالألفاظ ـ أي : كما أنّ الألفاظ الموجودة في الخارج متعدّدة كذلك هذه الألفاظ باعتبار الشهود العلمي متعددة ـ ، فلا يصحّ قولهم : انّ كلامه ـ تعالى ـ واحد عندنا وانقسامه إلى الأمر والنهى والخبر والنداء والاستفهام انّما هو بحسب التعلّق ، لأنّ هذا الحكم ـ أعني : الوحدة والانقسام بحسب التعلّق ـ انّما يصحّ في الكلام بمعنى التكلّم الّذي هو صفة حقيقية له ـ تعالى ـ لا في الكلام بمعنى ما به التكلّم ، إلاّ أن يراد به ـ أي : بالكلام الواحد المنقسم بحسب التعلّق ـ العلم الاجمالي الّذي هو عين ذات الحقّ ، أو العلم الانتزاعي الاجمالي الّذي هو منتزع عن ذاته ـ تعالى ـ. وحينئذ يرد عليهم : أنّه لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته ـ تعالى ـ، لأنّ العلم الاجمالي عين ذاته ـ تعالى ـ وانّه لا يكون مدلولا للكلام اللفظي إلاّ بالصرف عن الظاهر ـ كما سبق ـ.

على أنّه يلزم على هذا التوجيه خلاف ما تقرّر عند الأشاعرة من أنّ كلامه ـ تعالى ـ صفة له غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، فاذا رجع الكلام إلى العلم الاجمالي يلزم كون الكلام عين صفة العلم ، وهو خلاف مذهبهم. وبالجملة الحكم بأنّ الكلام ـ بمعنى ما به التكلّم ـ معنى واحد قائم بذاته ـ تعالى ـ وهو مدلول الكلام اللفظي المركّب من الحروف بدون رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ لا وجه لمعقوليته ، ومع ذلك الرجوع لا يصحّ الحكم بقيامه بذاته ـ تعالى ـ ، لأنّ العلم الاجمالي نفس ذاته ـ تعالى ـ. نعم! ، لو قالوا بالعلم الاجمالي الواحد الزائد على ذاته ـ تعالى ـ يصحّ الرجوع المذكور. وحينئذ لا نزاع للمعتزلة معهم إلاّ في زيادته ، ولا ريب في أنّ تلك الزيادة لا يصحّ في العلم بمعنى مناط الانكشاف ، لانّه عين ذاته ـ تعالى ـ ، بل انّما يصحّ في العلم الانتزاعي الزائد في التعقّل ـ أعني : العلم المصدري الّذي سيق منه علم ويعلم وعالم ـ ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ التأويلات المذكورة لكلام الأشاعرة من التعسّفات الباردة وهي لا تلائم ما صرّحوا به ، فانّهم ذكروا : أنّ الكلام لفظي وهو المؤلّف من الحروف ؛ ونفسي وهو المعنى القائم بالمتكلّم وقالوا هو مدلول الكلام اللفظي ـ كما قال شاعرهم :

                    إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما

                                                     جعل اللسان على الفؤاد دليلا (2)

 

وصرّحوا بانّ الكلام النفسي مغاير للعلم والإرادة والكراهة وسائر الصفات المشهورة ، وهو عبارة عن نسبة أحد طرفي الخبر إلى الآخر القائمة بنفس المتكلّم. واستدلوا على كون هذه النسبة القائمة بالمتكلم مغايرة للعلم بأنّ المتكلّم قد يخبر عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ؛ وعلى كونها مغايرة للإرادة بأنّه قد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمخبر لعبده هل لطعه أم لا ، وكالمعتذر من ضرب عبده لعصيانه ، فانّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ليظهر عذره عند من يلومه ؛ وعلى كونها مغايرة للكراهية بأنّه قد ينهى الرجل عمّا لا يكرهه ، بل يريده في صورتي الاختيار والاعتذار. واستدلّوا على قيام تلك النسبة المسمّاة بالكلام النفسي بالمتكلم بأنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محلّ آخر ، للقطع بأنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحركا ، وإنّه لا يسمّى من يخلق الاصوات مصوّتا وإنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن لم نعلم إنّه الموجد لهذا الكلام ، بل وإن علمنا أنّ موجده هو الله ـ سبحانه كما هو رأي الأشاعرة ـ ، وحينئذ فيجب قيام الكلام بذاته ـ تعالى ـ حتّى يكون متكلّما. ولا ريب في أنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي ـ أعني : المنتظم من الحروف المسموعة ـ ، لانّه حادث ضرورة أنّ له ابتداء وانتهاء وأنّ الحرف الثاني لكلّ كلمة مسبوق بالأوّل مشروط بانقضائه ، فيكون له أوّل فلا يكون قديما ، والحرف الأوّل أيضا لمّا كان له انقضاء لا يكون قديما ـ لامتناع طريان العدم على القديم ـ فالمجموع المركّب منهما أيضا لا يكون قديما. والحادث يمتنع قيامه بذات الباري ـ تعالى ـ ، فتعيّن أن يكون هو المعنى الثاني إذ لا ثالث يطلق عليه اسم الكلام ، وهو الّذي يسمّى بالكلام النفسي. فانّ من يراد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجعل في نفسه معانى يعبّر عنها بالألفاظ الّتي نسمّيها بالكلام الحسّي ، فالمعنى الّذي يجده من نفسه ويدور في الخارج ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه هو الّذي نسمّيه كلام النفس وحديثها.

ثمّ إنّ المعتزلة المنكرين للكلام النفسي قالوا : إذا صدر من المتكلّم خبر فهناك ثلاثة أشياء :

أحدها : العبارة الصادرة عنه ؛

والثاني : علمه بثبوت النسبة أو انتفائها بين طرفي الخبر ؛

والثالث : ثبوت تلك النسبة أو انتفائها في الواقع.

والاخيران ليسا كلاما حقيقيا بالاتفاق ، فتعيّن الأوّل.

وإذا صدر عنه أمر أو نهي فهناك شيئان :

أحدهما : لفظ صادر عنه ؛

والثاني : إرادة أو كراهة قائمة بنفسه متعلّقة بالمأمور به أو بالمنهي عنه.

وليست الإرادة والكراهة أيضا كلاما حقيقيا اتفاقا ، فتعيّن اللفظ. وقس على ذلك سائر اقسام الكلام. والحاصل : أنّ مدلول الكلام اللفظي الّذي يسمّيه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر ، والكراهة في النهي.

ثمّ اجابوا عن الدليل الّذي ذكره الأشاعرة للمغايرة بين الكلام النفسي والعلم بأنّ المعنى النفسي الّذي يدّعون أنّه قائم بنفس المتكلّم ومغاير للعلم في صورة الاخبار عمّا لا يعلمه هو ادراك مدلول الخبر ـ أعني : حصوله في الذهن مطلقا ، أي : سواء كان مع التصديق بنسبته أم لا ـ. والحاصل : أنّ الأشاعرة إن أرادوا بقولهم : « إنّ النسبة المذكورة المسمّاة بالكلام النفسي مغايرة للعلم » : انّها مغايرة للعلم التصديقي ، فهو مسلّم ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّنا ؛ وإن أرادوا به : أنّه مغاير للعلم التصوري أيضا ، فهو ممنوع ، لأنّ هذا المدلول هو حصول الخبر في الذهن ، والعلم ليس إلاّ ذلك.

ثمّ ما ذكروه عن المغايرة بين الكلام النفسي وبين الإرادة والكراهة ففيه : انّ المغايرة بين المدلول والإرادة والكراهة في صورتي الأمر بما لا يريده والنهى عمّا يريده بل في صورتي الأمر بما يريده والنهى عمّا يريده أيضا مسلّمة ، إلاّ أنّ هذا المدلول حاصل في ذهن المتكلّم ، والحصول في الذهن مطلقا ليس أمرا وراء العلم بمعنى الادراك المطلق ـ كما في صورة الخبر عمّا لا يعلمه ـ ؛ هذا.

والجواب عمّا ذكروه ـ من أنّ المتكلّم من قام به الكلام لا من اوجد الكلام في محلّ آخر ـ ، ففيه: إنّ لفظ المتكلّم انّما اشتقّ من التكلّم ، فمعناه بحسب اللغة انّما هو ما قام به

التكلّم ، فالمتكلم من قام به الكلام بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم ، فانّ ما به التكلّم باعتبار الوجود العيني انّما قام بالهواء لا بالمتكلّم ، بل انّما قام بالمتكلّم ايجاد ما به التكلّم والقائه إلى المخاطب لا عدم الغير ، وهو ـ أعني : ايجاد الكلام بقصد الافادة والاعلام ـ هو التكلّم. فمراد من قال : « إنّ المتكلّم أوجد الكلام » : إنّ المتكلّم أوجد الكلام على قصد الافادة والاعلام ، فلا يرد أنّه على زعم الأشاعرة موجد كلام العباد ـ بل كلّ افعالهم ـ هو الله ، فيلزم أن يكون هو ـ سبحانه ـ متكلّما باعتبار خلق كلامهم ، ولا شك أنّه لا يطلق عليه ـ تعالى ـ المتكلّم بهذا الاعتبار؛ وذلك لانّه ليس خلق كلام العباد منه ـ تعالى ـ لقصد الافادة والاعلام من جانبه ـ تعالى ـ مع أنّ هذا معتبر في إطلاق المتكلّم على خالق الكلام.

وما ذكروه من أنّ موجد الحركة في جسم آخر لا يسمّى متحرّكا ، ففيه : انّ المتحرّك ما قام به التحرّك ، لا ما قام به التحريك ، ولهذا لا يسمّى موجد الحركة في جسم آخر متحرّكا.

والحاصل : أنّ المتكلّم من قام به التكلّم الّذي هو مبدأ اشتقاق الصيغة ومعناه خلق الكلام ، فلا شكّ في أنّه صادق على موجد الكلام ؛ والمتحرّك ما قام به التحرّك ، ومعناه الحركة لا خلق الحركة ؛ فقياس المتكلّم على المتحرّك خطاء وإن كان كلاهما مشتركين في قيام مبدأ اشتقاق الصيغة بالفاعل ، إلاّ أنّ مبدأ اشتقاق المتكلّم ـ أي : التكلّم ـ معناه على زعم المعتزلة خلق الكلام في الهواء ومبدأ اشتقاق المتحرّك ـ أي : التحرّك ـ هو الاتصاف بالحركة ، وكلا المبدئين قائمان بالفاعل المتصف بذلك المشتقّ.

وما ذكروه من أنّا إذا سمعنا قائلا يقول : أنا قائم نسمّيه المتكلّم وإن قلنا أنّ موجده هو الله ـ سبحانه ـ ، ففيه : إنّ الايجاد المأخوذ في تعريف التكلّم ـ كما تقدّم ـ هو الإلقاء على قصد الاعلام سواء كان ايجادا حقيقيا أو لا ، ففي الصورة المذكورة الملقي هو المتكلّم ، فانّه يقصد الاعلام بإلقاء الكلام وإلاّ كان موجد الكلام هو الله ـ سبحانه ـ. نعم! ، لو اوجد الله الكلام في العباد بقصد الاعلام من جانبه ـ تعالى كما في الشجرة أو لسان الملك ـ لكان ذلك كلاما له ـ تعالى ـ وكان هو المتكلّم دون الشجرة والملك ، وهو مسلّم عند الكلّ.

وبما ذكرناه ظهر ضعف قولهم : إنّ الكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسّي ، فتعيّن أن يكون هو المعنى ؛ إذ قد عرفت أنّ الكلام القائم بذات الباري ـ تعالى ـ هو بمعنى التكلّم لا بمعنى ما به التكلّم ـ أعني : الألفاظ الدالّة على المعاني أو معانيها الدالّة على أمور أخر الّتي هي المقصودة بالذات بإلقاء الألفاظ الدالّة عليها بناء على ما ذهب إليه الغزالي من أنّ هذا هو الكلام بالحقيقة على ما يأتي الاشارة إليه ـ ، والتكلّم ليس إلاّ ايجاد ما به التكلّم وهذا الايجاد ليس شيئا من اللفظ والمعنى. على أنّ قيام المعنى الّذي هو الكلام النفسي عند الأشاعرة بذات الواجب غير جائز ، لأنّ هذا المعنى أيضا يكون حادثا فلا يجوز أن يقوم بذاته ـ تعالى ـ كما قالوا في الالفاظ بعينه. ولا يصحّ إطلاق القديم عليه ، لأنّ إطلاق الكلام النفسي القديم على معانى الالفاظ الحادثة غير معقول ؛ وهذا هو معنى قول المحقّق الطوسي : « والنفساني غير معقول ـ ، أي : الكلام النفسي القديم ـ وهو معاني الألفاظ ـ غير معقول.

فان قيل : مراد من قال بالكلام النفسي القديم : إنّ العلم الاجمالي بالكلام قديم ؛

قلنا : هذا تأويل فيه ارتكاب مجاز في مقابلة الخصم المحقّ ، فيشمّ منه رائحة النفسانية والتعصّب ؛ ولذا قال بعض الفضلاء : إنّ في قول المحقّق : « والنفساني غير معقول » حيث لم يقل : « وكلام النفسي » أو « النفسي » ايماء تطبيقا بأنّ اثبات هذا الكلام بارتكاب التمحّل لا يخلو عن النفسانية والتعصّب!.

ثمّ إنّ المعتزلة تمسّكوا لاثبات أنّ الكلام هو المنتظم من الحروف وأنّ النفسي القديم الّذي يدّعيه الأشاعرة ليس كلامه بوجوه لا بدّ لنا من ايرادها وذكر ما يتعلّق بها من الفوائد وما قيل للجواب عن بعضها وتحقيق ما هو الحقّ ، وبيان أنّها هل هي تنتهض حجة لما اخترناه ، أو لا؟ ، وعلى التقدير الثاني هل يكون شيء منها منافيا لشيء ممّا اخترناه ، أم لا؟.

فمنها : انّه قد علم بالضرورة من دين نبيّنا محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ إنّ هذا القرآن هو الكلام المؤلّف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم

بالاستعاذة ، وعليه انعقد اجماع السلف وأكثر الخلف.

ومنها : إنّ ما اشتهر وثبت بالنص والاجماع من خواصّ القرآن انّما يصدق على هذا المؤلّف الحادث لا المعنى القديم ، وتلك الخواصّ كونه ذكرا ـ لقوله تعالى : {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ } [الأنبياء: 50] ـ ؛ عربيّا ـ لقوله ـ تعالى ـ : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]ـ ؛ ومنزلا على النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ بشهادة النصّ من تلك الآية وأمثالها واجماع الأمّة ؛ ومقروء بالألسن للإجماع ؛ ومسموعا بالأذان للإجماع ولقوله ـ تعالى ـ : {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]؛ ومقرونا بالتحدّي لكونه معجزا اجماعا ؛ ومفصّلا إلى السور والآيات ـ لقوله تعالى : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1]ـ ؛ وقابلا للنسخ ؛ وهو من آيات الحدوث ، لانّه إمّا رفع أو انتهاء وشيء منها لا يتصوّر في القديم ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ؛ وواردا عقيب إرادة التكوين ـ لقوله تعالى : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، إذ معناه : انّا إذا أردنا شيئا قلنا له كن فيكون ، قوله « كن » أمر وهو قسم من كلامه ـ تعالى ـ متأخّر عن الإرادة الواقعة في الاستقبال ـ لكونه جزء له ـ ، فيكون حادثا ـ.

فان قيل : وقوع كلمة « كن » عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما يقتضيه كلمة الجزاء وإن دلّ على حدوثها لكن عموم لفظ شيء حيث وقع في سياق النفي يقتضي قدمها ، إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة « كن » آخر سابقة وتسلسلت.

وإن جعل هذا الكلام مجازا ـ كما قال البيضاوي : « إنّه تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقّف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادّة الشبهة وهو قياس قدرة الله على قدرة العبد » (3) ـ فلا يكون له دلالة على حدوث كلمة كن ؛

قلنا : قد اجيب عنه بوجوه :

أحدها : إنّ المراد من الآية أنّه ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلاّ هذا القول ـ أي : قول « كن » ـ ، وهذا لا يقتضي ثبوت هذا القول لكلّ شيء ، بل غايته أنّه لو قيل فيما يراد تكوينه قول لكان هذا القول ـ أعني : قول « كن » ـ ، كما تقول : ما أقول لأحد عند ارشاده إلاّ أن اقول له اعلم! ، فانّه لا يدلّ على أنّك تقول اعلم لكلّ أحد ترشده ، بل على أنّك لو قلت شيئا لأحد عند ارشاده لكان القول لفظ اعلم. وحينئذ نقول : لا يلزم أن يكون قول « كن » ممّا يلزم أن يقال فيه قول حتّى يكون مسبوقا بمثله.

ومنها : إنّ الواقع بكلمة « كن » ـ كما نقل سابقا عن شرح المقاصد ـ هو المحدث لا الحادث ، فانّه واقع بمجرّد القدرة ، ولا ريب في أنّ قوله ـ سبحانه ـ لا يكون محدثا بل يكون حادثا ، فلا يلزم مسبوقيته بكلمة « كن » ، فلا يلزم التسلسل.

ومنها : إنّ ظاهر قوله ـ تعالى ـ : « إذا اردناه » يدلّ على اختصاصه بالزمانيات ، لأنّ « إذا» للتوقيت ، فلا يكون وقوع القديم ـ كصفات الواجب سبحانه إذا كانت زائدة على الذات كما هو مذهب الأشاعرة ، ووقوع الحوادث الغير الزمانية ـ بأمر « كن » ، ومكتوبا في المصاحف للإجماع. ولا ريب في أنّ المكتوب في المصحف ليس هو الصور والاشكال ـ كما توهّم ـ ، بل المكتوب انّما هو اللفظ لأنّ الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائية. نعم! ، المثبت في المصحف هو الصور والاشكال.

وأورد عليه صدر المحقّقين : بأنّه لا يلزم من كون الكتابة تصوير اللفظ بحروف الهجائية أن يكون المكتوب لفظا ، فانّ نقش الفرس على الجدار مثلا تصوير الفرس بالنقش ومن البيّن أنّ النقش ليس فرسا ، بل نقشه المشعر به ، فكذا المكتوب صورة اللفظ المشعرة به لا نقشه. والحاصل : إنّ اللفظ انّما هو الحروف المرتّبة المنتظمة المسموعة من قبيل الاصوات وما هو مكتوب انّما هو نقش الألفاظ وصورتها وليس بألفاظ حقيقة ، بل هو دالّ على الالفاظ. وعلى هذا يصحّ أن يقال : اللفظ مكتوب والفرس منقوش بمعنى أنّ اللفظ الّذي هو الحروف المنتظمة المسموعة مصورة ـ أي : وضع صورته في القرطاس مثلا ـ ، لأنّ الكتابة انّما هو تصوير اللفظ والفرس الّذي هو حقيقة خارجية جعل منقوشا ـ أي : وضع نقشه في الجدار ـ ؛ ولا يصحّ أن يقال : المكتوب لفظ والمنقوش فرس ، لأنّ المكتوب انّما هو الصورة وصورة الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء ، وكذا المنقوش انّما هو النقش ونقش الشيء ليس حقيقة ذلك الشيء.

وغير خفيّ بأنّ هذا الايراد غير وارد ، لأنّ من قال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ ، لم يقل : إنّ الصور هو اللفظ حتّى يلزم عليه كون المنقوش هو الفرس ، بل قال : إنّ المصوّر ـ وهو المكتوب ـ هو اللفظ ـ أي : ذو الصورة هو اللفظ ـ. وعلى هذا يلزم أن يكون المنقوش هو الفرس ـ أي : ذو النقش هو ـ ، ولا فساد في ذلك. فانّ ذا الصورة هو اللفظ وذا النقش هو الفرس قطعا. وبالجملة الكتابة لمّا كانت معناها جعل اللفظ أو غيره ذا صورة ونقش لم يصدق المكتوب حقيقة على النقش والصورة ، إذ الصورة لم يجعل ذا صورة ـ إذ هي عين الصورة ـ والنقش لم يجعل ذا نقش ـ إذ هو عين النقش ـ وانّما جعل اللفظ أو المعنى ذا صورة ونقش ، وهذا لا ريب فيه. فالمكتوب والمصوّر هو اللفظ والحقيقة الخارجية حقيقة دون الصور والنقش. نعم! ، المثبت هو الصور والنقوش حقيقة ـ كما ذكر أوّلا في جواب من توهم أنّ المكتوب هو الصور والاشكال دون الألفاظ ـ. والفرق بين الكتابة والاشكال ظاهر.

وبما ذكر ظهر أنّ المكتوب هو الألفاظ دون الصور والاشكال ، وايراد صدر المحققين غير وارد.

وقال بعض المشاهير : لا خفاء في أنّه لمّا كان الكتابة هو تصوير اللفظ كان اللفظ مكتوبا ـ أي : مصوّرا ـ لا محالة ، فانّ كون الكتابة عبارة عن تصوير اللفظ مستلزم لكون المكتوب عبارة عن اللفظ. والحاصل : إنّ العادة جارية بأن يقال : إنّ الألفاظ مكتوبة وأرادوا من هذا القول أنّ الصور الدالّة عليها مكتوبة ، وبمقتضى هذه العادة يقال : إنّ الكتابة تصوير اللفظ وإلاّ فبالحقيقة الكتابة تصوير الصور الدالّة على الألفاظ لا تصوير الألفاظ ؛ ولا يخفى حال نظير الكتابة ـ كالتنقيش ـ إذا نسب إلى الفرس ونحوه ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره أوّلا من قوله : « لا خفاء ... إلى قوله عبارة عن اللفظ » كلام حقّ ؛ توضيحه ما ذكرناه في دفع ايراد صدر المحققين ؛

وامّا ما ذكره بقوله : « والحاصل أنّ العادة ـ ... إلى آخره ـ » رجوع عن الحقّ والتزام لارتكاب المسامحة والتجوّز في القول بانّ اللفظ مكتوب والمكتوب بالحقيقة هو الصورة ، والعادة تجري بإطلاق المكتوب على اللفظ على خلاف الحقيقة ؛ ولا يخفى فساده ممّا حقّقناه.

ثمّ ما ذكره من أنّ الكتابة تصوير اللفظ ، ففيه : إنّه إن أراد بتصوير الصور اثبات صور الصور فهو اشنع كلّ شنيع! ؛ وإن أراد به : اثبات الصور الدالّة على الألفاظ ، فهو معنى تصوير الألفاظ ، لأنّ معنى تصوير الألفاظ هو اثبات صورها الدالّة عليها.

ثمّ لا يخفى أنّ الدليلين المذكورين للمعتزلة لا يدلاّن إلاّ على أنّ القرآن وكلام الله يطلقان على هذا المؤلّف المنتظم المخصوص ؛ وأنّ الصفات والخواصّ المذكورة ـ أعني : كونه ذكرا عربيا ومنزلا ومقروء بالألسن ... إلى آخره ـ انّما هي صفات وخواصّ لهذا المؤلّف المنتظم ؛ ولا يدلاّن على عدم إطلاق كلام الله على قدرة القاء هذا المؤلّف وعلى نفس القائه. والظاهر إنّ المعتزلة أيضا لم يريدوا منهما اثبات عدم إطلاق القرآن وكلام الله على مدلول هذا المؤلّف الّذي هو الكلام النفسي. وأنت خبير بانّهما لا يدلاّن على ذلك أيضا ، ولذا اجاب الأشاعرة عن هذا الدليلين بأنّه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ على هذا المؤلّف الحادث ـ وهو المتعارف عند العامّة والقرّاء والأصوليين والفقهاء ، وإليه ترجع الخواصّ الّتي هي من صفات الحروف وسمات الحدوث ـ ، وانّما كلامنا في انّهما يطلقان بطريق الاشتراك على مدلوله الّذي هو القديم أيضا ، وهذان الدليلان لا ينفيان هذا الاطلاق.

واعترض صدر المحققين على هذا الجواب بوجهين :

أحدهما : إنّ المعتزلة اقاموا أدلّة ظاهرة على أنّ القرآن هو الألفاظ المسموعة المؤلّفة من الحروف وحكموا بأنّ ذلك من ضرورة دين نبيّنا ـ محمّد - صلى الله عليه وآله ـ ، ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه ، والأشاعرة ما قدحوا في أدلّتهم ولم ينكروا الضرورة المذكورة ، بل سلّموا أنّ القرآن بهذا المعنى هو المتعارف عند الجمهور وذكروا في معرض الجواب أنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه القياسان المذكوران ؛ وذلك لا يجدي نفعا! ، لظهور أنّ الاشكال في القرآن بهذا المعنى ـ أي : بمعنى المؤلّف ـ يجري فيه القياسان ولا يندفع عنه الاشكال بأنّ للقرآن معنى آخر لا يجري فيه القياسان المذكوران ـ كما لا يخفى ـ ؛ انتهى.

وفيه : إنّ الجواب الّذي ذكره الأشاعرة ليس جوابا عن جريان القياسين المتعارضين في كلامه ـ سبحانه ـ ، بل هو جواب عن قول المعتزلة : إنّ معنى القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ منحصر في الألفاظ والعبارات بالدليلين المذكورين ، فانّ الدليلين المذكورين انّما يدلاّن على أنّ القرآن والكلام يطلقان على الألفاظ ، وامّا انّهما لا يطلقان إلاّ عليهما فلا يكون مقتضى الدليلين. فعدم نفع الجواب المذكور انّما يكون إذا كان محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّ هذا المؤلّف المنتظم هل هو كلام الله أم لا؟ ؛ والحال إنّ ذلك ليس محلّ النزاع بين الفريقين ، لانّهما متّفقان في أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام الله ـ سبحانه ـ ؛ والنزاع في أنّ كلام الله ـ سبحانه ـ هل هو منحصر في ذلك أو يكون له معنى آخر سوى هذا المؤلّف الحادث؟. فالمعتزلة يقولون بالحصر والأشاعرة يقولون بعدم الحصر والدليلان المذكوران من جانب المعتزلة لا يفيدان الحصر المذكور ، بل يفيدان كون هذا المؤلّف الحادث كلام الله ، والأشاعرة غير متنازعين في ذلك ؛ فجوابهم بأنّ هذين الدليلين لا يفيدان الحصر يدفع قول المعتزلة ويثبت به مدّعاهم.

ثمّ قول السيد المحقّق في الاعتراض : « ومن البيّن أنّ القياسين المتعارضين المذكورين جاريان فيه ـ أي : في المؤلّف المنتظم من الحروف ـ » ، إن أراد به أنّ القياسين المذكورين جاريان فيه لا على سبيل التعارض ، ففيه : إنّ الجاري فيه حينئذ ليس إلاّ القياس الثاني ، ولذا قد تقدّم انّهم ـ أي : المعتزلة ـ قدحوا في صغرى القياس الأوّل نظرا إلى كون كلامه ـ سبحانه ـ منحصرا عندهم بالمؤلّف الحادث ؛ وإن أراد انّهما جاريان فيه على سبيل التعارض فهو ممنوع ، إلاّ أنّهما جاريان على سبيل التعارض في المعنى الآخر الّذي اثبته الأشاعرة أيضا. وبالجملة تخصيص كلامه ـ سبحانه ـ بمعنى المؤلّف الحادث بجريان القياسين فيه لا وجه له أصلا.

وثانيها : إنّ مدلول الكلام اللفظي انّما هو مسمّيات الأسامي من العبارات وهي ليست صورا ذهنية ـ كما ذهب إليه الحكماء ـ ، لأنّ المتكلّمين ينكرون الوجود الذهني ، فهى من اعيان الموجودات كالسماء والارض ؛ ومن البيّن أنّ بعض الأعيان جواهر قائمة بذواتها وبعضها اعراض قائمة بالجواهر ، ولا يظهر لقيام اعيان الموجودات بذاته ـ تعالى ـ ولا لقيامها بغيره وجه وجيه ؛ انتهى.

وحاصله ابطال الكلام النفسي بأنّه عند الأشاعرة مدلول الكلام اللفظي وهو مسمّيات الأسامي والألفاظ ، والمسمّيات لما لم تكن موجودات ذهنية لإنكار المتكلّمين الوجود الذهني فهي من الموجودات الخارجية ، ولا معنى لقيام الموجود الخارجي بذاته ـ سبحانه ـ ، فقول الأشاعرة بقيام الكلام النفسي بذاته ـ تعالى ـ لمّا كان راجعا إلى قيام موجود خارجي بذاته ـ تعالى ـ فهو بيّن البطلان.

ويمكن أن يقال بعنوان العلاوة : لو جوّز كون المسمّيات الّتي هي الكلام النفسي من الموجودات الذهنية لكانت راجعة إلى العلم ، فلا يكون شيئا وراء العلم مع أنّ الأشاعرة قالوا بمغائرتها للعلم.

ثمّ لا يخفى إنّ هذا الوجه دليل على حدة لإبطال الكلام النفسي ، ولا مدخلية له لتصحيح الدليلين المنقولين من المعتزلة لحصر كلامه ـ سبحانه ـ في اللفظي ، ولا ينتهض ايرادا على الجواب الّذي ذكره الأشاعرة منهما ، لأنّ حاصل جوابهم عنهما انّهما يدلاّن على إطلاق كلام الله ـ سبحانه ـ على هذا المؤلّف المخصوص ولا يفيدان حصر كلامه فيه ، فإقامة دليل على حدة على انحصار كلامه فيه وبطلان الكلام النفسي لا يجعل الدليلين المذكورين تامّين.

والجواب المذكور ساقط ، وهو ظاهر.

وبما ذكرناه يظهر أنّ ما ذكره بعض الأفاضل بأنّه يمكن تتميم الدليلين بحيث يفيدان الحصر ـ بأن يقال : لمّا ثبت بهما أنّ هذا المنتظم من الحروف كلام الله ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على وجود أمر آخر هو الكلام النفسي ولا على كونه كلام الله سبحانه ، فيلزم الحصر ـ ليس على ما ينبغي ، لأنّ ضميمة قولنا : « ولم يقم دليل عقلي ـ

 ... إلى آخره ـ » يخرج الدليلين عن حقيقتهما ويصيّرهما دليلين آخرين. وكذا مثل هذه الضميمة ، إذ اقامة دليل على مجرّد بطلان الكلام النفسي يكفي لمطلوب المعتزلة وإن لم يتعرّضوا لإطلاق كلام الله على هذا المؤلّف الحادث ، لأنّ الأشاعرة موافقون لهم في هذا الاطلاق ، فلا حاجة إلى بيانه واثباته ؛ هذا.

ثمّ إنّ بعض المشاهير أجاب عن ثاني وجهي اعتراض السيد المحقّق بأنّ المتكلّمين وإن انكروا الوجود الذهني لكنّهم قد اثبتوا الثبوت بدل الوجود الذهني ، فمسمّيات الأسامي والعبارات مندرجة عندهم في الأعيان الثابتة ، فهي عندهم قديمة باعتبار الثبوت قائمة بذاته ـ تعالى ـ على نحو قيام العلم بالأعيان الثابتة بذاته ـ تعالى ـ ، فقوله : « فهو من أعيان الموجودات كالسماء والارض » وهم. نعم! ؛ يرد عليه : أنّ مدلول الكلام اللفظي أمور متعدّدة ، فكيف يصحّ القول بأنّه أمر واحد في الأزل ومتعلّق فيما لا يزال بالأمور المتعدّدة ـ كما قالوا في تصحيح مذهبهم كما مرّ وسيأتي ـ؟! ، فيحتاج إلى رجوعه إلى العلم الاجمالي الّذي هو عين ذاته. أو يقال المراد بمدلول الكلام اللفظي مدلوله بحسب الالتزام ـ أي : القوّة على تأليف الكلمات ـ ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته قادر على تأليف الكلمات والقائها ، وحينئذ يرجع الكلام النفسي إلى التكلّم الحقيقى الّذي هو عين الذات ويصير النزاع لفظيا ، لأنّ النزاع المعنوي بين الأشاعرة والمعتزلة في أنّه هل يكون للواجب ـ جل شأنه ـ صفة حقيقة غير العلم والقدرة هي الكلام النفسي أم لا؟ ؛ فالأشاعرة قالوا بأنّ الكلام النفسي صفة حقيقية له ـ تعالى ـ غير العلم والقدرة وغيرهما من الصفات الحقيقية ؛ والمعتزلة ينازعونهم في ذلك ، فاذا يلزم على الأشاعرة ارجاع الكلام النفسي إلى العلم والقدرة ، فلا يبقى إلاّ النزاع في إطلاق لفظ الكلام النفسي على العلم والقدرة ، وهذا كلام لفظي ؛ انتهى بأدنى توضيح.

ويرد على ما ذكره أوّلا : « إنّ المتكلّمين اثبتوا الثبوت ـ ... إلى آخره ـ » : بانّ الذين اثبتوا الثبوت هم المعتزلة ، والأشاعرة غير قائلين بالثبوت ، فلا يصحّ هذا الجواب من قبل الأشاعرة، فيبقى اعتراض السيد واردا عليهم ؛

وما ذكره اخيرا ـ من امكان تأويل الكلام النفسي إلى العلم الاجمالي أو التكلّم الحقيقي ـ فقد عرفت حاله فيما سبق.

تذنيب :

قد ظهر ممّا قرّرناه أنّ الكلّ متّفقون على إطلاق القرآن وكلام الله على هذا المؤلّف المنتظم من الحروف ، وقد اتّفق الكلّ أيضا على أنّ إطلاق هذين اللفظين عليه ليس لمجرّد أنّه دالّ على كلامه القديم ـ أي : الكلام النفسي عند الأشاعرة وقوّة الإلقاء عند غيرهم ـ حتّى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله ـ تعالى ـ لكان هذا الاطلاق بحاله ، بل لأنّ له اختصاصا آخر به ـ تعالى ـ وهو أنّه اخترعه بأن اوجد أوّلا الاشكال في اللوح المحفوظ ـ لقوله ـ تعالى ـ : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] ـ ، والأصوات في لسان الملك ـ لقوله ـ تعالى : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] ـ.

وقد اختلف القوم في انّهما هل هما اسمان لهذا المؤلّف بشرط قيامه باوّل لسان اخترعه فيه أو اسمان له من حيث هو من دون اعتبار المحلّ ؛ فقيل بالأوّل ـ أي : انّهما اسمان لهذا المؤلّف المخصوص القائم بأوّل لسان اخترعه الله تعالى فيه حتّى أنّ ما يقرأه كلّ أحد من سواه بلسانه يكون مثله ، لا عينه ـ ؛ وقيل بالثاني ـ أعني : انّهما اسمان له لا من حيث تعيّن المحلّ ـ ، فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القاري ـ أيّ قارئ كان ـ نفسه لا مثله. وهذا الحكم في كلّ شعر وكتاب ينسب إلى مؤلّفه.

وهذا هو الأصحّ ؛ ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6].

فان قيل : إذا أريد بكلام الله ـ تعالى ـ المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعيين المحلّ فكلّ أحد منّا يسمع كلام الله ـ تعالى ـ ، فما وجه اختصاص موسى ـ عليه السلام ـ؟ ؛

قلنا قد ذكر القوم لهذا الاختصاص وجوها ، فلنذكرها ونشير إلى ما هو الحقّ.

منها : ما ذكره الغزالي ، وهو : إنّه كان يسمع كلامه الأزلي بلا صوت وحرف كما ترى في الآخرة ذاته ـ تعالى ـ بلا كيف وكمّ. وهذا على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات ، لكن سماع غير الصوت والحروف لا يكون إلاّ بطريق خرق العادة.

أقول : مراده من كلامه الأزلي إن كان هو الكلام النفسي فقد عرفت عدم معقوليته فضلا عن أزليته ؛ وإن كان هو القدرة على ايجاد ما به التكلّم أو نفس ايجاده فلا معنى لسماعه. قال بعض المشاهير : لا حاجة إلى التقييد بقوله : « الأزلي » ، بل لا معنى له إلاّ باعتبار أنّ المسموع له ـ تعالى ـ نوع من الثبوت في الأزل على الوجه الاجمالي الّذي ذهب إليه بعض المتكلّمين ، أو باعتبار أنّ للواجب ـ سبحانه ـ علما ازليا هو عين ذاته ـ تعالى ـ. فيكون معنى قوله : « كلامه الازلي » : الكلام الأزلي الّذي كان العلم به ازليا ، فيكون « الأزلي » وصفا « للكلام » بحال متعلقه . والحاصل : أنّ المسموع ليس وراء الكلام بمعنى ما به التكلّم ، وهو ليس ازليا ؛ وإن كان المراد منه المعنى المقصود بإلقاء اللفظ ـ على ما يأتي من أنّه الكلام بالحقيقة عند الغزالي لأنّه بهذا المعنى أيضا لا يعقل ازليته إلاّ بأحد من التأويلين المذكورين الجاريين في الكلام اللفظي الّذي يلزمه الحرف والصوت ، بل في جميع الموجودات ـ. فلا حاجة إلى ذكر الأزلي في هذا الجواب ، لأنّه لا يفيد تخصيص الكلام المذكور بالمعنوي الّذي هو مراد الغزالي ، فلا يكون محتاجا إليه ؛ انتهى بأدنى توضيح.

وأنت خبير بأنّ عدم الاحتياج إليه ظاهر على مذهب اهل الحقّ القائلين بانّه لا يعقل أزلية الكلام المعنوي إلاّ بأحد التأويلين ؛ وامّا على زعم الأشاعرة القائلين بأنّ الكلام المعنوي صفة ازلية للواجب سوى العلم والقدرة والإرادة وسائر الصفات بلا تأويل فقيد الأزلية مخصوص بالمعنوي وفائدته اخراج اللفظى ، وكأنّه منظور الغزالي ؛ فلا بحث إلاّ على أصلهم.

ثمّ القول بتحقيق نوع من الثبوت للحوادث في الأزل بيّن الفساد ، مع أنّ الغزالي من الأشاعرة وهم لم يثبتوا الثبوت ، بل المعتزلة اثبتوه. وما ذكره من جعل الأزلي وصفا لمتعلّق الكلام ـ أعني : العلم به ـ فحاصله أنّ كلامه الّذي نفسه حادث والعلم به قديم سمعه بلا صوت وحرف ، وهذا وإن لم يكن فيه فساد إلاّ أنّه خلاف ظاهر قول الغزالي. وإذا لم يكن لأزلية الكلام المسموع معنى ينبغي التأمّل في أنّه إذا قطع النظر عن ازليته ـ بل قيل : بكونه حادثا ـ هل يجوز أن يكون مسموعا بلا حرف وصوت كما ذكره الغزالي أم لا؟.

فنقول : قال بعض المشاهير لبيان ذلك : إنّ الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت ولا حرف باعتبار الوجود العيني ـ أي : ما ليس له صوت ولا حرف في الوجود العيني أعني : عالم الملك وإن كان له صوت وحرف في عالم المثال أو عالم العقل ـ له معنيان :

أحدهما : اللفظ الدالّ على المعنى المراد بإلقائه باعتبار الوجود المثالي البرزخي على نحو ما يسمع في المنام ، لا العقلي على نحو الالهام العقلي ؛

وثانيهما : المعنى الّذي هو مقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه ، وهذا هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي. نظير هذا ما قال من أنّ حقيقة الحمد هي اظهار الصفة الكمالية سواء كان باللفظ الدالّ عليها أم لا ؛ فانّ اللفظ الدالّ عليها بالحقيقة هو الحمد باعتبار الدلالة عليها ، وخصوص اللفظ لا دخل له في كونه حمدا. فعلى هذا انّما يكون الكلام اللفظى عنده كلاما باعتبار أنّه دالّ على ما هو المراد بالذات بإلقاء اللفظ بحيث لو امكن القاء هذا المعنى بدون القاء اللفظ يكون كلاما ، والقائه يكون تكلّما ؛ فليس خصوص اللفظ شرطا لا في الكلام ولا في التكلّم. فعلى الأوّل يكون المراد من سماع موسى ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ كلامه بلا صوت وحرف : أنّه ـ عليه السلام ـ سمع الألفاظ المثالية البرزخية الّتي ليست لها صوت وحرف في العين وإن كان لها صوت وحرف في عالم المثال ؛ وعلى الثاني يكون المراد منه : انّه القى على روعه المعاني المقصودة من دون توسّط لفظ أصلا ؛ واطلق على هذا الالقاء التكلّم وعلى المعاني المتلقّاة الكلام لما ذكر مفصّلا. ومراد الغزالي هو الثاني.

وأنت خبير بانّه لا مانع شرعا وعقلا من تحقّق أحد المعنيين المذكورين ، لأنّ تحقّق

كلّ منهما في الواقع ونفس الأمر ممّا لا موجب لإنكاره ؛ أمّا الأوّل فكما يسمع في المنام أو بالإلهام العقلي ؛ وامّا الثاني فكما في كلّ معنى يلقى إلى النفس ، إلاّ أنّ الثاني راجع إلى العلم وليس كلاما بحسب اللغة والعرف ، والأوّل وإن امكن منع كونه كلاما أيضا إلاّ أنّ الظاهر تحقّق العرف الخاصّ على اطلاق الكلام عليه.

فان قيل : مطلق الكلام هل هو عند الغزالي مشترك لفظي بين الكلام اللفظي وبين الكلام الّذي هو مسموع بلا صوت وحرف بالمعنى الثاني؟ ، أو مشترك معنوي بينهما؟ ، أو مجاز في الثاني؟ ؛

قلنا : الظاهر من مذاقه أنّ اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على اللفظي وعلى الّذي بلا صوت وحرف بالاشتراك المعنوي ، فانّ معناه ما ينبئ عن الواقع أو يسفر عن الطلب ونحوه ، سواء كان الانباء والاشعار بلا واسطة ـ كمعان الألفاظ ـ أو بواسطة ـ كالألفاظ الدالّة على المعاني المنبئة عن الواقع ، كالقضايا العقلية أو المشعرة عن الطلب أو التحسّر أو التمني كالإنشائيات ـ ، وعلى هذا يطلق الكلام بالاشتراك المعنوي على ثلاثة اقسام :

أحدها : الكلام اللفظي الّذي هو في عالم الحسّ ، وعلى هذا لا يكون إلاّ بالحرف والصوت ؛

وثانيها : الكلام اللفظي ، لكن باعتبار عالم المثال ؛

وثالثها : مجرّد المعنى المقصود ، وهو الّذي لا يكون من جنس الحروف والأصوات مطلقا. وهذان الأخيران بلا صوت وحرف في عالم الحسّ وإن كان الثاني بالصوت والحرف في عالم المثال. فما ذكرناه سابقا من أنّ المعنى المقصود بإلقاء الألفاظ هو الكلام بالحقيقة عند الغزالي المراد منه انّه أقوى الفردين وإن كان الفرد الاضعف ـ أعني : اللفظى ـ أيضا كلاما بالحقيقة. ومن نظر إلى أنّ معاني الألفاظ هي المنبئة عن الواقع أو المشعرة عن الطلب ونحوه بلا واسطة حكم بأنّ استعمال الكلام فيها بالحقيقة وفي غيرها بالمجاز وإن اشتهر فيه ؛ ولهذا قال الشاعر :

                      إنّ الكلام لفي الفؤاد وانّما

                                                      جعل اللسان على الفؤاد دليلا(4)

ومنهم من ذهب إلى عكس ذلك ـ كالمعتزلة ـ ، فالنزاع ليس إلاّ في أنّ اطلاق الكلام على معاني الألفاظ هل هو بطريق المجاز ـ كما هو رأي المعتزلة ـ ، أو بالحقيقة بأن يكون قسما من الكلام ـ كما هو مختار الغزالي ـ ، أو بأن يكون استعماله في اللفظ بالمجاز المشهور ـ كما هو رأي بعض ـ ؛ وقد عرفت ما هو الحق.

فان قيل : هل المتحقق لموسى ـ عليه السلام ـ سماع الكلام بلا صوت وحرف بالمعنى الأوّل؟ ، أو بالمعنى الثاني؟ ، أو بكلا المعنيين؟ ، وهل بينهما تلازم من الطرفين من أحدهما أم لا؟ ؛

قلت : قد ذكر بعض المشاهير أنّه تحقّق لموسى ـ عليه السلام ـ كلا السماعين ، فانّهما يتحقّقان معا ما دام الملقى إليه متعلّقا بعالمي الملك والمثال ؛ وأمّا إذا لم يتحقّق للملقى إليه تعلّق بأحدهما فانّما يتحقق له سماع الكلام بالمعنى الثاني ، وهذا هو مقام يتمنّاه العارفون ؛ انتهى.

اقول : إنّ المعنى الأوّل ـ كما عرفت ـ هو اللفظ الدالّ على المعنى المراد باعتبار الوجود المثالي أو العقلي ، والمعنى الثاني هو المعنى الملقى. وحينئذ نقول : إنّ المعنى الملقى الّذي هو الكلام بالمعنى الثاني إن كان مشروطا بتجرّده عن الألفاظ المثالية والعقلية فلا يمكن اجتماع السماعين بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون هذا المعنى في وقت واحد مسموعا في ضمن الألفاظ المثالية ومجرّدا عنها معا ـ لاشتراط الأوّل بوجود الألفاظ المثالية والثاني بعدمها ـ ، وحينئذ فلا يثبت بين المعنيين تلازم أصلا. وعلى هذا فما حكم هذا القائل بتحقق السماعين معا لموسى ـ ـ عليه السلام- منظور فيه ، إلاّ أن يقال : ليس غرضه من تحققهما له تحقّقهما له بالنسبة إلى معنى واحد في وقت واحد بأن يكون معنى واحد في وقت واحد مسموعا له بالألفاظ المثالية وبدونها ، بل غرضه تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعددة بأن يكون بعض المعاني مسموعا له في ضمن الألفاظ المثالية أو العقلية وبعضها مسموعا له مجردا عنها وإن لم يكن مشروطا بتجرّده عنها ، بل كان المراد منه هو المعنى الّذي هو مقصود بإلقاء اللفظ الدالّ عليه ـ سواء كان مجردا عن الألفاظ المثالية أو العقلية أو في ضمنها ـ ؛ وحينئذ يكون الكلام بالمعنى الثاني أعمّ من الكلام بالمعنى الأوّل. فكلّما تحقّق الأوّل تحقّق الثاني ، لأنّ المراد بالأوّل ليس مجرّد الألفاظ المثالية أو العقلية من دون اشتمالها على معنى ، بل هي الألفاظ المثالية المتضمّنة لمعنى البتة ، وعلى هذا يثبت التلازم بينهما من أحد الطرفين عكسا دون الطرف الآخر. فاذا تحقّق الخاصّ ـ أعني : الكلام بالمعنى الأوّل ـ يثبت في ضمنه الكلام بالمعنى الثاني ويمكن أن يتحقّق الكلام بالمعنى الثاني ، فلا يتحقّق الكلام بالمعنى الأوّل. وحينئذ فما ذكره القائل المذكور من تحقّق كلا السماعين لموسى ـ عليه السلام ـ الظاهر أنّه لم يرد منه تحقّق السماع بالمعنى الثاني في ضمن السماع بالمعنى الأوّل ، لأنّ هذا تحقّق أحد السماعين والاستماعين بالمعنى الأوّل المشتمل على المعنى الثاني الّذي هو كالجنس ، وعلى الألفاظ المثالية الّتي هي كالفصل. ولا يصحّ أن يعبّر عن تحقّق الخاصّ المشتمل على العام وعلى الفعل المميز بتحقّق الخاصّ والعامّ معا ، بل أراد منه تحقّق السماع بالمعنى الأوّل بالنسبة إلى المعنى وتحقّق السماع بالمعنى الثاني لا في ضمن الألفاظ المثالية ، بل مجرّدا عنها بالنسبة إلى معنى آخر.

ثمّ الظاهر اشتراط السماع بالمعنى الثاني بالتجرّد من الألفاظ المثالية ، لأنّ هذا السماع فوق السماع بالمعنى الأوّل ، ولذا حكم القائل المذكور بانّه انّما يتحقّق للمتخلّقين ـ أي : إنّ تحقّقه مقصور عليهم ولا يتحقّق لغيرهم ـ ، وحكم بانّه ممّا يتمنّاه العارفون. فالمراد من تحقّقهما معا لموسى ـ عليه السلام ـ تحقّقهما له بالنسبة إلى معان متعدّدة في أوقات متعدّدة ، ويكون تحقّق السماع بالمعنى الأوّل له في وقت كان متعلّقا بعالم الملك أو المثال بعدد تحقّق السماع بالمعنى الثاني بعد انخلاعه منهما.

فان قيل : كيف يصحّ السماع بدون الحرف والصوت؟ ؛

قلنا : قد اجاب عنه بعض المشاهير : بأنّ المراد بالسماع ليس إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ لمن ألقي إليه الكلام بالمعنى المذكور ـ أي : ما ينبئ عن الواقع ، وهو الّذي يتعلّق بالتكلّم الّذي هو القائه ـ. وحاصله : انّ سماع الكلام بدون

الصوت والحرف يتصوّر بأنّ السماع لا يكون إلاّ الاطّلاع الحضوري الخاصّ ، ويجوز أن يحصل لمن ألقي إليه الكلام ـ بالمعنى المذكور ـ الاطّلاع الحضوري على الكلام الّذي هو قائم بالمتكلّم.

وأورد عليه : بأنّ هذا راجع إلى العلم الحضوري ، والعلم الّذي يحصل بالسماع انّما هو علم خاصّ يحصل بحصول صورة المسموع في السامعة ـ على ما بيّن في موضعه ـ ؛ إلاّ أن يقال : إنّه يجوز أن يحدث الواجب ـ جلّ شأنه ـ صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ يتموّج إلى أن يصل إلى السامعة ـ على ما هو المتعارف في السماع ـ. والحقّ أن يقال : أنّ السماع بلا حرف وصوت حسّيّين إمّا أن يكون بالحروف والأصوات البرزخية ، فهو كما يكون في المنام ؛ أو بالحروف والاصوات العقلية ، فهو كما يكون في الإلهامات العقلية؛ فكما أنّ السماع بالأصوات والحروف الحسّية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لإحساسه ، فكذا السماع بالحروف والأصوات البرزخية والعقلية نوع خاصّ من السماع لا يمكن انكاره لإدراكه بالقوى البرزخية والقوّة العقلية ؛ وأمّا السماع بدون حرف وصوت أصلا فهو راجع إلى الاطّلاع الحضوري الخاصّ.

فان قيل : ما الدليل على أنّ موسى ـ عليه السلام- سمع الكلام بلا صوت وحرف؟ ؛

قلنا : الدليل على ذلك ـ على ما ذكره بعض المشاهير ـ : إنّه لم يسمع كلّ ما سمع موسى ـ عليه السلام ـ كلّ من له أذن حسّاسة على تقدير كونه قريبا منه.

فان قيل : عدم سماع الغير لا يدلّ على أنّ كلامه ـ تعالى ـ مع موسى ـ عليه السلام ـ بدون الحرف والصوت ، لأنّه يجوز أن يتحقّق كلامه المسموع لموسى ـ عليه السلام ـ بالآذان أيضا بإيجاده له إيّاه في الهواء المجاور لصماخه ـ أي : يكون الكلام المذكور بالحروف والأصوات الموجدة منه تعالى في الهواء المجاور لصماخه عليه السلام ـ ، لغرض استماعه دون غيره ؛

قلنا : على تقدير هذا التحقّق اختصّ السماع بجهة مخصوصة ، لأنّ ما قام بالهواء فله وضع حقيقي ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة مع أنّه قد نقل أنّ موسى ـ عليه السلام ـ سمع من جميع الجهات ، أي : سمع على نحو ستّة إلى جميع الجهات على السوية ، لا أنّه سمع

في الجهات حقيقة ، لأنّ سماع موسى ـ عليه السلام ـ على ما هو الفرض راجع إلى تعقّل إجمالي ولا يتصوّر في المعنى كونه في الجهات.

وربما يورد عليه : بأنّه لو اوجد الألفاظ في صماخ موسى ـ عليه السلام ـ لامكن أن يكون نسبته إلى جميع الجهات على السوية ، لأنّه لم يجيء من جهة خاصّة بل انّما يوجد هناك ، ولو فرض استماعه من جميع الجهات حقيقة فيجوز أن يوجد الله الكلام في الهواء المحيطة بموسى ـ عليه السلام ـ من جميع الجهات لا من جهة واحدة حتّى يلزم خلاف النقل. على أنّه يرد على أصل الدليل بأنّه يجوز أن يحدث الله ـ تعالى ـ في سمع من كان قريبا من موسى ـ عليه السلام ـ مانعا يمنعه عن السماع.

وقد ظهر ممّا ذكر أنّ ما ذكر دليلا لسماع موسى ـ عليه السلام ـ بلا صوت وحرف ليس تامّا ؛ ومنه يظهر عدم الوجه المنقول من الغزالي لاختصاصه ـ عليه السلام ـ بكونه كليما.

وقال بعض الفضلاء : الدليل على سماع موسى بلا صوت وحرف هو أنّه يمكن السماع بلا صوت وحرف بأن يحدث الواجب ـ تعالى ـ صورة المسموع في السامعة بدون أن يحصل الصوت أوّلا في الهواء ثمّ تموّج إلى أن يصل إلى الصماخ ـ على ما هو المتعارف في السماع ـ. ونظير هذا في الرؤية أنّ المتعارف في الرؤية أنّه يشترط فيها مقابلة المرئي وعدم القرب والبعد المفرطين وغير ذلك من الشرائط ، ومع ذلك ذكر أنّه يجوز أن يحصل صورة المرئي في الحسّ المشترك بدون مقابلة المرئي في الخارج وبدون تأدية البصر إلى الحسّ المشترك ـ كما هو المتعارف ـ. لكن هذا بطريق خرق العادة ، فيكون معجزة ، فلا يكون إلاّ للانبياء ـ على ما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفا ـ.

وأنت خبير بأنّ امكان السمع بلا صوت وحرف على المنهج المذكور لا يفيد القطع بأنّ سماع موسى ـ عليه السلام ـ كان بهذا النحو ، غاية ما في الباب أنّه يفيد جواز السماع بدون حرف وصوت ، ولا كلام فيه ؛ انّما الكلام في كون سماع موسى ـ عليه السلام ـ كذلك.

ثمّ ما ذكره عن الغزالي في الوجه المنقول عنه من تشبيه السماع بلا صوت وحرف برؤية ذاته ـ سبحانه ـ في الآخرة بلا كمّ وكيف ، ففيه : أنّه لا يمكن رؤية ذاته ـ سبحانه على ما بيّن بالأدلّة القاطعة ـ. والمراد من الرؤية الّتي وردت في الظواهر محمولة على العلم اليقيني. وما ذكره من أنّ السماع بلا صوت مبني على مذهب من يجوّز تعلّق الرؤية والسماع بكلّ موجود حتّى الذات والصفات يدلّ على أنّ المراد بالسماع بلا صوت وحرف هو الاطّلاع الحضوري ، لأنّ السماع والرؤية اللذان يجوز تعلّقهما بكلّ موجود هما قسمان من الاطّلاع الحضوري ، ولذا يصحّ تعلّقهما بغير المحسوسات.

فان قيل : السماع إذا كان بمعنى حصول الاطّلاع الحضوري للمخاطب على ما يلقى إليه ، فلا يكون لخرق العادة مدخل فيه ، فلا معنى لما يقال في هذا المقام أنّ هذا بطريق خرق العادة ؛

قلت : قال بعض المشاهير في جواب ذلك : إنّ ما هو خرق العادة هاهنا أن يطّلع المخاطب على المعاني الّتي هي الملقاة من المتكلّم بدون الاطّلاع على الألفاظ الدالّة أوّلا ثمّ يطّلع على الألفاظ لا من جهة مخصوصة ، فانّ العادة جارية بأن يطّلع المخاطب على المعاني بعد الاطّلاع على الألفاظ الدالّة عليها في جهة مخصوصة. والحاصل : إنّ التكلّم في الانسان انّما يتعلّق بالألفاظ أوّلا وإن كان المقصود الأصلي منه القاء المعاني ، فيسمع الملقى إليه الكلام الالفاظ أوّلا ثمّ يحصل له الكلام الّذي بلا صوت قائم بالهواء ، وأمّا التكلّم بالنسبة إلى الله في الوحي فانّه هو القاء المعاني أوّلا ثمّ القاء الألفاظ باعتبار الوجود الكلّي المثالي أو بلسان الملك المنزل. وجاز أن يحصل احيانا بلسان النبيّ القاء الألفاظ بتبعية القاء المعاني بإيجادها في الهواء. وذلك الجواز هو عقلي ، فمتعلّقات تكلّم الباري ـ تعالى ـ على عكس متعلّقات تكلّم الانسان غالبا. وأمّا الالهام الإلهي ـ وهو الّذي يسمّى الالفاظ المتعلّقة به « الحديث القدسي » ـ فهو القاء المعاني بالقلب دون القاء الألفاظ الدالّة عليها ؛ انتهى.

اقول : تحقيق الكلام في هذا المقام بحيث يكون تفصيلا لهذا الكلام ويظهر به جلية الحال ـ فيما سبق ممّا نقلناه عن الغزالي وغيره ـ هو : أنّ حصول العلم للانسان انّما يتصوّر على انحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يكون بطريق الفكر والنظر ، ويسمّى « اكتسابا » و « استبصارا » ، وهو طريق النظّار من العلماء ؛

الثاني : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء من حيث لا يدري من دون أن يطّلع على السبب المفيد له ، ويسمّى « حدسا » و « الهاما » و « نفثا في الروع » ؛

والثالث : أن يكون بطريق التهجّم والالقاء مع الاطّلاع على السبب المفيد له ـ وهو الملك الملهم للحقائق من قبل الله ـ ، ويسمّى « وحيا » ، وهو طريق الأنبياء.

ثمّ كيفية الوحي على طريق الحكماء هي أنّ نفس النبيّ لكمال قوّته النظرية وشدّة نوريتها وقوّة حدسها شديدة التشبّه بالروح الاعظم ، فتتصل به متى أراد من غير تعمّل وتفكّر ويفيض عليه ما شاء من العلوم من غير توسّط تعليم بشري ، ولذلك يمكن أن يحصل له في أقصر زمان من العلوم ما لا يحصل لغيره في أزمنة متطايلة وينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في أسرع أوان ويدرك امورا يقصر عن ادراكها سائر آحاد الناس. وقوّته المتخيّلة مع كونها في غاية القوّة في نهاية الانقياد والاطاعة لنفسه القدسية بحيث لو اتصلت بالروح الأعظم وارتسمت بصور المعقولات انجذبت المتخيلة إليها بحيث كلّ صورة انتقشت في النفس على سبيل التجرّد والكلّية انتقشت مثال وشبح منها في المتخيّلة على سبيل التمثّل والجزئية ، فتحاكي القوّة المتخيلة جميع مدركات القوّة العقلية ؛ فان كانت مدركاتها ذاتا مجرّدة حاكتها بصور اشخاص يكون أفضل افراد المحسوسات الجوهرية في غاية الحسن والصفا ونهاية البهجة والبهاء ، وإن كانت معاني مجردة وأحكاما كلّية حاكتها بصور اللفظ المفردة محفوظة في غاية الفصاحة والبلاغة وارتسام المتخيلة بالصور المذكورة على غاية القوّة والظهور يؤدّيها إلى الحسّ المشترك بحيث يصير صور الدّواب المجردة مدركة بحسّ البصر وصور الالفاظ مدركة بحسب السمع فيشاهد أنّ شخصا في غاية الحسن والبهاء يلقي كلاما في نهاية البلاغة والفصاحة. ولمّا كان افاضة الروح الأعظم ما يفيض من العلوم والأحكام بإذن الله ـ سبحانه ـ فيكون الشخص المرئي ملكا كريما نازلا من الله ، والفاظه المسموعة كلاما صادرا من عنده ـ سبحانه ـ ؛ فكما أنّ في المادّيات يرى الشخص المادّي في الخارج أوّلا ثمّ يصير متخيّلا ثمّ يصير معقولا ففي المجرّدات على عكس ذلك ـ أي : يعقل ذات المجرّد أوّلا ثمّ يتخيّل ثمّ يصير مرئيا ـ. وكما أنّ المادّي بعد صيرورته معقولا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالنفس العاقلة ـ فكذلك المجرّد بعد صيرورته محسوسا لا يكون قائما بذاته ـ بل يكون قائما بالحسّ المشترك ـ ، فالملك المنزل ينزل أوّلا على قلب النبيّ ـ أعني : نفسه الناطقة القدسية ـ ثمّ على خياله ثمّ يدرك بحسّه الظاهر.

وكذلك الحال في كلامه ـ سبحانه ـ ، فانّه يلقي المعاني أوّلا على قلب النبيّ ثمّ تصير متخيلة ثمّ تصير الفاظا مسموعة بالسمع الظاهر ؛ وكلام المخلوق بعكس ذلك ، فانّه يسمع الألفاظ أوّلا بالسمع الظاهر ثمّ تصير متخيّلة ثمّ تصير معانيها معلومة للنفس. وإلى ما ذكرنا يشير ما ذكره الحكماء في القوّة المتخيلة حيث قالوا : « وممّا يتعلّق بهذه القوّة مشاهدة الوحي للأنبياء ـ : ـ في اليقظة ، فانّهم لقوّة انفسهم وانجذابهم إلى الملكوت وقدرتهم على قوّتي الوهم والخيال يحصل لهم في اليقظة ما يحصل لغيرهم في المنام من ادراك الأمور الغيبية ، فيدركون الشيء بحاله أو بمثاله ويتمثّل لهم شبح حامل الوحى من جبرائيل ـ عليه السلام ـ أو غيره من الملائكة المقرّبين، فيشاهدونه ويتمثّل لهم ما يدركونه من المعاني ، فيسمعون منه خطابا بألفاظ مسموعة مقروءة ، وهذه نبوّة مختصّة بالقوّة المتخيّلة ؛ وهاهنا نبوات أخرى متعلقة بالقوة العقلية » ؛ انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم! : أنّ المراد من المعنى الثاني الّذي ذكره الغزالي لسماع الكلام بلا صوت وحرف ـ أعني : المعنى الّذي هو المقصود بالذات بإلقاء اللفظ الدالّ عليه هو الوحى على ما هو الظاهر ـ ففيه : أنّ الوحي حاصل لجميع الرسل ، فلا وجه لتخصيص موسى ـ عليه السلام ـ بكونه كليم الله لقضية الطور والشجرة ؛ اللهم إلاّ أن يقال : كلّ رسول كليم الله إلاّ أنّه اطّرد لوجه التسمية وشيوعها.

وهو كما ترى!. مع أنّ المعنى الثاني ـ على ما ذكره ـ هو مجرّد القاء المعاني في الروع من دون حرف وصوت أصلا ، وهو الّذي ذكرنا أنّه يسمّى بالالهام ؛ والوحى ـ على ما ذكره الحكماء ـ لا ينفكّ عن اللفظ والصوت. وإن كان المراد منه مجرّد ما نفهمه من ظاهره ـ أعني : القاء المعاني من دون حصول شروط الوحى فيه وكان الوحى عنده

هو المعنى الأوّل ـ ، ففيه : أنّه لا وجه حينئذ لكون المعنى الثاني أعلى مرتبة من المعنى الأوّل ـ كما حكم به بعض المشاهير ـ ، لأنّه لا ريب في أنّ الوحى على مراتب ، فسماع الكلام للبشر ومجرّد القاء المعاني في الروع ـ أعني : الالهام ـ يحصل لأكثر الناس ، فلا وجه لكونه خرقا للعادة.

وثانيها ـ أي : ثاني وجوه تخصيص موسى عليه السلام بكونه كليم الله ـ : انّه ـ عليه السلام ـ سمع الكلام بصوت وحرف من جميع الجهات على خلاف العادة.

وأورد عليه : بانّه إذا كان سماع الصوت من جميع الجهات لم يكن الصوت متحقّقا في الأعيان ، لأنّ الصوت باعتبار الوجود العيني انّما يقوم بالهواء ، فله وضع حقيقي لا محالة ، فلا يسمع إلاّ من جهة مخصوصة. فعند التأمّل يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ، لأنّ الصوت يكون معتبرا فيه باعتبار الوجود الظلّي المثالي ـ كما في الجواب الأوّل ـ. فحاصل الجواب الأوّل : إنّ المسموع كان بلا صوت وحرف موجودين في الأعيان ، ولذا يسمع من جميع الجهات ؛ وحاصل الجواب الثاني : إنّ المسموع انّما يسمع من جميع الجهات ، وهذا المسموع لا يصحّ أن يكون بالصوت الموجود في الأعيان ـ كما لا يخفى ـ. فهذا المسموع إن حكم عليه بانّه صوت فانّما يصحّ إن أريد بالصوت ما هو المسموع في المنام من الأصوات ، فانّه انّما هو صوت موجود بالوجود الظلّي المثالي ، فمحصّل الجوابين واحد لا تغاير إلاّ بالاعتبار والعبارة.

نعم! ، لو حمل الجواب الأوّل على أنّ المراد منه أنّ المسموع بلا صوت وحرف مطلقا ـ أي سواء اعتبر وجودهما العيني أو المثالي ـ كان مغايرا للجواب الثاني ؛ وحينئذ يكون حاصل الجواب الأوّل : أنّ المسموع انّما هو المعاني الملقاة بدون الألفاظ العينية وبدون وجودها المثالي، وحاصل الجواب الثاني : أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ؛ انتهى.

وفيه : انّه يجوز أن يتحقّق الصوت في الهواء المحيط بموسى ـ عليه السلام ـ ، فيكون له باعتبار الوجود العيني وضع حقيقي بالنسبة إلى جميع الجهات ، فيسمع حينئذ من جميع الجهات على خلاف العادة. وحينئذ لا يرجع هذا الجواب إلى الجواب الأوّل ،

لأنّ السماع من جميع الجهات غير مأخوذ في الجواب الأوّل ومأخوذ في الجواب الثاني ؛ ولا حاجة إلى حمل الجواب الثاني على أنّ المسموع هو الألفاظ باعتبار وجودها المثالي ، إذ الظاهر أنّه اعتبر فيه الصوت الخارجي ولا ضير فيه ، ويتصوّر سماعها باعتبار وجودها العيني من جميع الجوانب ـ كما قررناه ـ.

والحاصل : إنّ الهواء محيط بالسامع من جميع الجهات ، فربما أوجد الله ـ تعالى ـ الصوت في جميع الهواء المحيط فسمعه من جميع الجهات ، وتحقّق وضع حقيقي للهواء لا ينافي ذلك. نعم!، لو لم يكن الهواء في بعض الجهات كان كذلك ، وما سمعنا من جهة خاصّة مع أنّ الهواء محيط بنا في جميع الجهات لأنّه لا يحدث منشأ الصوت إلاّ من جهة خاصّة ، فاذا لم يختصّ المنشأ في جهة خاصة بأن أوجدها الله ـ تعالى ـ في كلّ الهواء المحيط به ـ عليه السلام ـ دفعة بنسبة واحدة لا يلزم الاختصاص بجهة خاصّة ؛ هذا.

واعلم! ، أنّه يمكن في حقّنا أيضا سماع الصوت من جميع الجهات بأن يفرض أنّ شخصا من الأشخاص احاط بجميع جوانبه اشخاص ينادونه دفعة ، فانّه يسمع من جميع الجوانب في آن واحد ؛ فكما يجوز ذلك في حقّنا يجوز ذلك في حقّ نبيّ الله ـ عليه السلام ـ بطريق الأولى. غاية ما في الباب أن يكون موسى ـ عليه السلام ـ سمع من جميع الجهات كلام الله ـ تعالى ـ ونحن نسمع كلام المخلوق كذلك.

وثالثها : أنّ موسى ـ عليه السلام ـ سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا ؛ وحاصله : أنّه ـ تعالى ـ اكرم موسى ـ عليه السلام ـ فافهمه كلامه بصوت تولّى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه. وعلى هذا الوجه يكون المسموع هو الألفاظ الموجودة في الأعيان بإيجاده ـ تعالى ـ بدون كسب المخلوق.

وأورد عليه : أمّا أوّلا بانّ هذا ليس موافقا للنقل المذكور ـ أي : ما نقل من أنّه عليه السلام سمع من جميع الجهات ـ ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّه يلزم على هذا الجواب أن يسمع من هو قريب من الشجرة المشهورة أو الطور ، وليس كذلك ؛ لأنّ الوحى على الأنبياء ـ : ـ لا يسمعه غيرهم من الحاضرين. وأيضا ملقي الكلام إلى جميع الأنبياء هو الله ـ سبحانه ـ فما وجه تخصيص موسى ـ عليه السلام ـ بكونه كليم الله من بينهم؟.

ودفع ذلك : بأنّ القائه ـ سبحانه ـ الكلام إلى جميع الأنبياء بتوسّط الملائكة من جبرئيل أو غيره ، والالقاء بدون توسّط الملك انّما هو الالقاء الّذي حصل لموسى ـ عليه السلام ـ في الطور.

ويمكن دفع الايراد الثاني بأنّه يجوز أن يخلق الله ـ تعالى ـ الكلام في هواء خاصّ له خصوصية وضع بالنسبة إلى موسى ـ عليه السلام ـ دون غيره ؛ وبأنّه يجوز أن يوجد الله ـ تعالى ـ مانعا في سمع من هو قريب منه ؛ وبأنّه ربما أوجد الله ـ تعالى ـ الصوت لموسى ـ عليه السلام ـ في الهواء الّذي في صماخه ، فلا يلزم سماع غيره.

ثمّ الايراد الثاني يرد على الجواب الثاني أيضا لو اعتبر فيه الوجود الخارجي للصوت والحرف، ودفعه بمثل ما ذكر في دفعه من الجواب الثالث كأن يقال : إنّه ـ تعالى ـ أوجد الصوت في الهواء المجاور لصماخه ، وكونه من جميع الجهات باعتبار أنّ نسبته إلى جميع الجهات على السواء ؛ هذا.

والصحيح في الجواب أن يجمع بين الوجهين الأخيرين بأن يقال : إنّه ـ عليه السلام ـ سمع الكلام بصوت وحرف خارجيين من جميع الجهات وكان ملقي الكلام هو الله ـ سبحانه ـ من غير كسب لأحد من خلقه ، فنحن وإن سمعنا كلام الله ـ سبحانه ـ لكن لا نسمعه من الله ـ تعالى ـ بخلاف ما سمعه موسى ـ عليه السلام ـ ، فانّه يسمع من الله ـ تعالى ، أي : يكون ملقي الكلام الّذي سمعه موسى عليه السلام هو الله تعالى ـ ، فهذان الوجهان ـ أعني : السماع من جميع الجهات وكون الملقى هو الله تعالى ـ هما الباعثان لاختصاص موسى بكونه كليم الله ـ تعالى ـ.

وربما يجمع في الجواب بين الوجوه الثلاثة ، وهو أيضا لا يخلوا عن قوّة ؛ بأن يقال : إنّه ـ عليه السلام ـ سمع الكلام من جميع الجهات لا بألفاظ موجودة في الخارج بل بألفاظ مثالية ، وكان ملقيها هو الله ـ سبحانه ـ من دون توسّط أحد من خلقه ، وتحقّقه باعتبار الوجود الخارجي ـ الّذي هو التحقق في الهواء ـ ليس شرطا للوحى قبل ظهوره في لسان الأنبياء ـ : ـ وايجاده ـ تعالى ـ إيّاها فيه. والحاصل : انّ ايجاد الله ـ تعالى ـ الالفاظ في لسان النبيّ ـ عليه السلام ـ ليس شرطا لوجود الوحي ، بل شرطا لظهور الوحى ؛ وذلك الظهور بالنسبة إلى الغير لا بالنسبة إلى الّذي يوحي إليه كموسى ـ عليه السلام ـ. نعم! ؛ يمكن أن يقال بجواز مقارنة تحقّق الألفاظ للوحي بمجرد الاحتمال العقلي.

وإذ ثبت أنّ القرآن وكلام الله اسمان لهذا المؤلّف المخصوص لا من حيث تعيين المحلّ ـ ولذلك يكون واحدا بالنوع ـ فحينئذ ما يقال : أنّ المكتوب في كلّ مصحف والمقروء بكلّ لسان كلام الله فباعتبار الوحدة النوعية ؛ وما يقال : إنّه حكاية عن كلام الله ـ تعالى ـ ومماثل له وانّما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية.

ثمّ الاختراع في لسان الملك إمّا أن يكون في عالم الملك ، أو عالم المثال ، أو عالم الملكوت ـ أي : عالم التجرد الصرف ـ ؛ وعلى الاخيرين يكون استعمال اللسان على سبيل التشبيه والمجاز. وربما قيل : تحقّق اللسان على الحقيقة في عالم المثال ، وهو اللسان اللطيف المثالي ـ كما في المنام ـ. وجميع الأقسام الثلاثة واقع على ظاهر كلام أهل الشريعة.

وأمّا الحكماء وبعض المتكلّمين فهم القائلون بالقسمين الأخيرين ـ أعني : الاختراع في عالم المثال والاختراع في عالم الملكوت ـ ولا يقولون بوقوع اختراع كلام الله في عالم الملك وإن كان المقروء بالألسن بحسب وجوده في عالم الملك بعد اختراعه من عند الله ـ تعالى ـ في عالمي التجرد والمثال كلام الله ـ تعالى ـ عندهم ، فالكلام المنزل أوّلا لا يكون بالصوت القائم بالهواء ضرورة أنّ الانزال في الملكوت مقدم على الانزال في عالم المثال المقدّم على الانزال الملكي.

ثمّ وجود الألفاظ في عالم الملكوت انّما هو وجود ظلّي عقلي كما أنّ وجودها في عالم المثال وجود ظلّي مثالي. والوجود الظلّي هو الوجود الّذي يسمّى الاشراقيون ما في عالم الملك مثالا بالنسبة إليه ، فانّهم يسمّون الموجودات الخارجية في

 

عالم الملك « مثالا » بالنسبة إلى تلك الموجودات باعتبار وجودها الظلّي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : إنّ الكلام اللفظي له أربعة اعتبارات بكلّ اعتبار منها يحكم عليه بانّ له نحوا من الوجود ـ وإن كان بالمجاز في بعض الاعتبارات ـ :

أحدها : اعتبار أنّه قائم بالهواء ، وبهذا الاعتبار موجود في الأعيان وليس لأجزائه قرار في الوجود ؛

وثانيها : اعتبار تحقّقها في العالم اللطيف الّذي يسمّى بعالم المثال ، ويكون له في هذا العالم حدوث بالتدريج وبقاء بجميع اجزائه. وأمّا إنّه يمكن أن يكون له حدوث في هذا العالم دفعة ـ كحدوث النقش الحادث في قطعة الشمعة من وضع الخاتم المنقوش عليها ـ فهو محتمل عند العقل ، وادّعى البعض وقوعه ؛

وثالثها : اعتبار اندراجه في العلم في عالم المجرّدات ، وتحقّقه في هذا العالم دفعي حدوثا مع البقاء ؛

ورابعها : اعتبار اندراجه في العلم السابق على الممكنات ـ أعني : العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ـ. وبهذا الاعتبار لم يحكم عليه بالحدوث ، ولا يكون مخلوقا ، ويكون سائر الممكنات شريكا له في ذلك الاندراج. فجميع ما يندرج في هذا العلم الاجمالي الأزلي الّذي هو عين الذات عند المحقّقين تكون متعلّقات لهذا العالم متّصفة بالمعلومية بهذا العلم. ومن جملة متعلّقات هذا العلم الكلام اللفظي العيني ، فيكون معلوما بالعلم الإجمالي كسائر الأشياء. وله صفة أخرى غير المعلومية وهي كونه متعلّق التكلّم الأزلي الّذي هو عين الذات ومغاير بالاعتبار للعلم والقدرة وغيرهما من سائر الصفات الحقيقية الّتي هي عين الذات. ولمّا كان عند المحققين ما وجد في الذهن موافقا لما يوجد في الخارج في الحقيقة كان الألفاظ الموجودة في الخارج موافقة الماهية للألفاظ الموجودة في الاذهان والمجرّدات ، ولذلك كان للكلام اللفظى فردان كلّ منهما بحيث لو استعمل فيه الكلام كان حقيقة.

وهذا هو المنشأ لما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن لكن لا يصحّ الحكم بانّه

قديم إلاّ باعتبار اندراجه في العلم القديم الّذي هو عين ذات الواجب ـ تعالى ـ ، فيكون بالحقيقة العلم الّذي هو عين ذاته ـ تعالى ـ قديما. ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، بل نزاعهم انّما هو في كون الكلام الّذي هو متعلّق التكلّم قديما باعتبار ذاته ، لا باعتبار العلم الإجمالي الّذي هو عين ذات الواجب ؛ انتهى.

أقول : انّك قد عرفت فيما سبق اطلاق القول بالعلم الإجمالي ، فيكون الاطلاق الرابع للكلام اللفظي عندنا باعتبار اندراجه في العلم التفصيلي الّذي هو عين ذاته بالمعنى المذكور.

ثمّ العلم بالكلام اللفظى ـ أي : الألفاظ الدالّة على معانيها المخصوصة ـ يتناول العلم بنفس الالفاظ الدالّة والعلم بمعانيها ، فما اختاره الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري من أنّ الكلام النفسي عبارة عن الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن ليس شيئا وراء العلم بنفس الألفاظ ، إذ ليس الألفاظ الدالّة باعتبار وجودها في الذهن إلاّ العلم بها.

ثمّ من حيث انّها معلومة للواجب ـ سبحانه ـ يكون العلم بها قديما ، ومن حيث انّها معلومة لغيره ـ تعالى ـ يكون العلم بها غير قديم ، وهو ما قيل في المشهور من : أنّ الكلام النفسي انّما هو معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان من حيث هي حاكية عن الأمور الخارجة ـ وذلك في الأخبار ـ ، ومن حيث هي مقتضية للطلب ـ وذلك في الأمر والنهي ـ بأن يكون معاني الألفاظ بحيث يمكن أن يفهم من الفاظها الدالّة عليها طلب الفعل أو الترك أو من حيث هي مشعرة للتغيير ونحوه ليس شيئا وراء العلم بمعاني الالفاظ ، إذ معاني الألفاظ الموجودة في الاذهان ليس إلاّ العلم بها ؛ فهذا العلم قديم إن كان من الواجب ـ تعالى ـ وحادث إن كان من غيره.

فان قيل : كلّ واحد من الألفاظ ومعانيها الموجودة في الاذهان إذا اخذت من حيث هي يكون غير العلم بها وإن لم ينفكّ بوصف الموجودية في الاذهان من العلم بها ، إلاّ أنّ أحدها من حيث هي ممكن ؛ فالكلام النفسي على توجيه الشهرستاني هي الالفاظ من حيث هي ، وعلى توجيه المشهور هي المعاني من حيث هي. وعلى هذا

فيكون الكلام النفسي ـ أعني : نفس الألفاظ أو المعاني ـ غير العلم بها ، ولذا قالوا لا يصحّ الحكم على الكلام النفسي بهذين التوجيهين بانّه قديم باعتبار ذاته. نعم! ، يصحّ الحكم على العلم به ـ أي : العلم المقدّم الّذي هو غير زائد على ذات الواجب تعالى ـ بانّه قديم.

قلنا : انّهم صرّحوا بأنّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعاني الموجودة في الأذهان ، فقيد الموجودية في الاذهان معتبر في تعريف الكلام النفسي عندهم. ولا ريب في أنّ بعد اعتبار هذا القيد لا يكون الكلام النفسي إلاّ العلم بالألفاظ أو معانيها ، كيف ولو لم يؤخذ هذا القيد داخلا في التعريف لم يبق معنى محصّلا للكلام النفسي؟! ، إذ القول بانّ الكلام النفسي هو الألفاظ أو المعاني من دون وجودها في الذهن غير معقول. ومع اعتبار هذا القيد وإن تحقّق معنى معقول إلاّ أنّه ليس شيئا سوى العلم ؛ والمعتزلة أيضا قائلون به مع أنّ النزاع بينهم وبين الأشاعرة مشهور وتتبّع كلام الأشاعرة يعطي الجزم بانّ الكلام النفسي عندهم غير العلم ، بل قد صرّحوا بذلك ـ كما نقلناه سابقا ـ. وقد عرفت أيضا أنّ الكلام النفسي عندهم غير الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية وغير زائد على ذات الواجب ـ تعالى ـ ، لأنّ التكلّم الحقيقي كما عرفت ـ عبارة عن قوّة القاء الكلام اللفظى وايجاده ، فيكون فردا من القدرة.

ومعلوم أنّ الأشاعرة لا يجعلون الكلام النفسي فردا من القدرة وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير حيث قال : وظنّي إنّ من حكم بانّ الكلام النفسي قديم انّما أراد به معنى التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر مغاير للعلم والقدرة وغير زائد على الذات ، فانّ ذاته ـ تعالى ـ يقتضي القاء الكلام إلى الغير ، فالمتكلّم الحقيقى هو عبارة عن ذاته ـ تعالى ـ من حيث أنّه يقتضي القاء الكلام اللفظي أو المعنوي إلى من يصحّ أن يكون مخاطبا ، وهذا معنى غير العلم والقدرة وغيرهما من باقي الصفات الحقيقية بالاعتبار ؛ انتهى.

ووجه الضعف أمّا أوّلا : فلما عرفت من أنّ كلام الأشعري ـ على ما نقل عنهم ـ لا يمكن حمله على ذلك وإن كان ذلك في نفسه صحيحا ؛ كيف ولو كان مراد الأشاعرة ذلك لم يكن لأحد ايراد عليهم وارتفع النزاع بين الفريقين! ؛

وأمّا ثانيا : فلما اشير إليه من أنّ التكلّم الحقيقي فرد من القدرة ، فالحكم على الاطلاق بانّه غير القدرة محلّ نظر ؛ هذا.

وقيل : إنّ من قال إنّ كلام الله ـ سبحانه ـ ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالاّ في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الّذي هو الصفة الازلية ، ومنعوا من القول بحلول كلامه ـ تعالى ـ في لسان أو قلب أو مصحف وإن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأديب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي ؛ على أنّ اطلاق اسم المدلول على الدالّ وكذا اجراء الصفات الدالّ على المدلول شائع ذائع ، مثل : سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي ، فاطلاق اسم كلّ من الكلام الحقيقي واللفظي على الآخر واجراء صفاته على الآخر لا بأس به ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ القائل بهذا القول إن كان هو الأشعري فلا ريب في أنّ مراده من الكلام الّذي ليس قائما بلسان أو قلب هو الكلام النفسي ، لا الحقيقى ـ على ما يظهر من تتبع كلماتهم ـ.

وقال بعض المشاهير بعد نقل هذا الكلام قد عرفت أنّ الكلام : الحقيقى الأزلي انّما هو بمعنى التكلّم الحقيقي الّذي هو عبارة عن كون الواجب بحيث يقتضي القاء الكلام اللفظى أو معناه إلى المخاطب ، أو بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ أي : العلم الاجمالى الّذي هو غير زائد على ذاته تعالى ـ، فحينئذ يكون معنى الكلام الحقيقي الازلي : الكلام الحقيقي الّذي هو أزلي العلم ، وحينئذ يكون وصف الكلام بالازلى وصفا بحال متعلّقه ـ وهو العلم به ـ. ولا يخفى عليك أنّ المعنى الأوّل ـ أي : التكلّم الحقيقى الّذي يكون ازليا حقيقية ـ كاف في الاعتذار المذكور ، فلا حاجة فيه إلى اعتبار المعنى الثاني ـ أعني : كونه بمعنى العلم بما يتكلّم به ـ ، لأنّ فيه ارتكاب تمحّل في الوصف بالأزلية. لكن قوله : « على أنّ اطلاق اسم المدلول ـ ... إلى آخره ـ » لا يلائم إلاّ المعنى الثاني ، لأنّ في المعنى الأوّل الّذي هو التكلّم الحقيقي ليس دالاّ ولا مدلولا إلاّ بالتأويل ؛ انتهى.

وقد عرفت أنّ ارجاع كلام الأشاعرة إلى التكلّم الحقيقى أو العلم بالكلام اللفظى تعسّف كلماتهم تأبى عن الحمل على ذلك.

وحديث العلم الإجمالي قد عرفت ما فيه مرارا.

الثالث من أدلّة المعتزلة على أنّ كلامه ـ سبحانه ـ ليس أزليا : إنّ كلامه ـ تعالى ـ لو كان ازليا لزم الكذب في إخباره ، لأنّ الإخبار بطريق المضيّ كثير في كلام الله ـ تعالى ـ ، مثل : ( إِنَّا أُرْسِلْنا ) و( قالَ مُوسى ) و( فَعَصى فِرْعَوْنُ ) إلى غير ذلك ؛ وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ولا يتصوّر السبق على الأزلي ، فتعيّن الكذب ، وهو محال على الله ـ تعالى ـ.

وغير خفيّ بأنّ هذا الدليل يثبت الكلام اللفظي وحدوثه ولا ينافي ثبوت الكلام بمعنى نفس الالقاء، لأنّه أيضا حادث ؛ ولا ثبوت الكلام الحقيقي الّذي هو عين الذات ، لأنّه ليس مدلولا للكلام اللفظي حتّى يلزم من حدوثه حدوثه.

وبذلك يظهر أنّ هذا الدليل يدلّ على بطلان الكلام النفسي القديم الّذي قال به الأشاعرة ، لانّهم إن حملوا الاخبار المذكورة الّتي وقعت بطريق المضيّ في كلامه ـ سبحانه ـ على الكلام النفسي لزم حدوثه ـ لما ذكر ؛ وإن حملوها على الكلام اللفظي بأن يقولوا إنّ المتصف بالمضي وغيره انّما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم أو قالوا إنّ كلامه ـ تعالى ـ في الأزل لا يتصف بشيء من الماضي والحال والاستقبال ـ لعدم الزمان ـ وانّما يتّصف بها فيما لا يزال بحسب التعلّقات وحدوث الازمنة والأوقات ؛ وبالجملة اتصافه بتلك الاوصاف ليس إلاّ باعتبار تعلّقه بالكلام اللفظي فيما لا يزال ؛ ففيه : إنّ تصحيح هذا الأمر ـ أعني : براءة كلامه تعالى في الأزل من الاوصاف المذكورة وعدم اتصاف المدلول بهما ـ غير جائز ، لوجوب التطابق بينهما.

وقال بعض المشاهير من جانب الأشاعرة : إنّ ما قالوا من أنّ كلامه الأزلي لا يتّصف بالمضيّ واخويه مرادهم منه كلامه بمعنى التكلّم الحقيقى ـ أعني : القدرة على ايجاد الكلام اللفظي ـ أو العلم بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي ، والمتصف بالمضيّ ومقابليه هو المعنى الّذي هو مدلول اللفظ بالحقيقة ، وبتبعية اتصافه بأحدها يتّصف اللفظ الحادث به ، فيكون مدلول اللفظ الحادث حادثا لا محالة. وبالجملة لا شبهة في أنّه لا معنى للمعنى القديم غير التكلّم الحقيقي الّذي هو عين الذات أو

العلم الإجمالي لمدلول الألفاظ وبالألفاظ ، فوجب حمل كلامهم على أحدهما ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي. وما قالوا : إنّ ازلية الأزلي مدلول الكلام اللفظي انّما هو الأزلي التأويلي ـ أي : ازلي القدرة أو العلم ـ ، فالمدلول الّذي هو أزلي ليس ازليته إلاّ باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فوصف المدلول بالأزلي انّما هو وصف بحال المتعلّق ـ كما مرّ غير مرّة ـ.

ثمّ الظاهر أنّ مرادهم من مدلول الكلام اللفظي الّذي يكون العلم أو القدرة به أزليا إنّما هو المدلول الإلتزامي الّذي هو الكلام بمعنى التكلّم ، وحينئذ فيكون الكلام الأزلي الواقع في كلامهم بمعنى التكلّم الأزلي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، وحينئذ فلا اشكال ؛ انتهى.

وحاصل ما ذكره : إنّ المراد بالكلام الأزلي هو الكلام بمعنى التكلّم الحقيقي حقيقة أو العلم الإجمالي بمدلول الكلام اللفظي ، وهما ليسا مدلولين للكلام اللفظي بالحقيقة كما أنّ المدلول الحقيقي للكلام اللفظي ليس ازليا بالحقيقة لأنّ مدلوله بالحقيقة انّما هو المعقول المفهوم منه. و هذا المعنى المعقول منه هو الموصوف بالمضي وغيره أوّلا وبالذات ، واتصاف اللفظ بهما انّما هو بتبعية اتصافه بهما ، فيكون مدلول اللفظ الّذي هو حادث حادثا لا محالة ثمّ يوصف هذا المدلول بالأزلية تجوزا ، كما أنّ كلّ واحد من التكلّم الحقيقي والعلم بوصف المدلولية كذلك ؛

بيان الأوّل : إنّ المدلول الحقيقي يوصف بالأزلية باعتبار القدرة أو العلم الّذي هو غير زائد على ذاته ، فيقال : هذا المدلول الّذي هو الكلام النفسي حقيقة ازلية القدرة المتعلّقة به أو ازلي العلم المتعلّق به ، فوصف المدلول بالازلي انّما هو وصف بحال متعلّقه ؛

وبيان الثاني : إنّه قد يقال : إنّ المتكلّم الحقيقي مدلول الكلام اللفظي ، وغرضهم من مدلوليته بالنسبة إليه أنّه فائض عنه وناش منه ووجود المعلول دال على وجود العلّة ، فهذه الدلالة ليست من قبيل الدلالة اللفظية الوضعية ، بل من قبيل الدلالة العقلية. وقد يقال : العلم المتعلّق بمدلول الكلام اللفظي مدلول له. وغرضهم من مدلوليته أنّ صدور

الكلام اللفظي على هذا التأليف العجيب والنظم الغريب يدلّ على سبق العلم الكمالي وثبوته له ـ تعالى ـ ، فيكون هو أيضا مدلولا له بالدلالة العقلية لا الوضعية. وبالجملة لمّا لم يكن للقول بالمعنى القديم الزائد على ذاته معنى أصلا ـ للزوم تعدّد الواجب ـ وجب حمل المعنى القديم على العلم الإجمالي المتعلّق بمدلول الألفاظ وبالألفاظ ، فحينئذ يجب حمل المدلول الواقع في كلماتهم ـ من أنّ مدلول الألفاظ قديم ازلي غير قائم بلسان وغير حالّ في محلّ ـ على المدلول الإلتزامي ، وهو التكلّم ، فانّ الكلام اللفظي يدلّ على وجوده ، فيكون منشئا لما هو مدلول اللفظ بالمطابقة ، فالدّلالة عليه بطريق الالتزام. وهو أزلي من غير ريب ، لأنّه عين ذاته المقدّسة ، وهو التكلّم الحقيقى أو العلم الإجمالي المتعلّق بالكلام اللفظي ـ كما مرّ ـ.

وأنت خبير بانّ كون التكلّم الحقيقى ـ أعني : القدرة على الكلام اللفظى ـ أو العلم به ازليا وان كان صحيحا في نفسه إلاّ أنّ حمل كلام الأشاعرة على أحدهما تعسّف بارد ؛ فانّهم مصرّحون بانّ الكلام النفسي الّذي هو مدلول الكلام اللفظى قديم ، فيرد عليهم : انّ مدلول الحادث حادث. وما ذكره من التأويلات ـ مع كونها تأويلات بعيدة ـ لا يناسب الاطلاقات اللغوية والعرفية ، وتأبى كلام الأشاعرة عنها.

الرابع : انّ كلامه يشتمل على أمر ونهي واخبار واستخبار ونداء وغير ذلك ، فلو كان ازليا لزم الأمر بلا مأمور والنهى بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء والاستخبار بلا مخاطب ، وكلّ ذلك سفه وعبث لا يجوز أن ينسب إلى الحكيم!.

وأجاب عنه عبد الله بن سعيد الأشعري : بانّ كلامه ـ تعالى ـ في الأزل ليس بأمر ولا نهي ولا خبر وغير ذلك ، وانّما تصير أحد الاقسام فيما لا يزال.

وفيه : إنّ وجود الجنس من غير أن يكون أحد الأنواع غير معقول ، وإنّ التغيير على القديم محال.

وما قيل : انّ المراد أنّه امر واحد يعرض له التنوّع بحسب التعلّقات الحادثة من غير أن يتغيّر هو في نفسه ؛ لا يخفى ضعفه.

وقال بعض المشاهير : إنّ جواب عبد الله بن سعيد صريح في أنّ المراد بالكلام الازلي هو ما به التكلّم ، فانّ كلامه لا يصحّ إلاّ باعتبار هذين المعنيين ، وكونه امرا واحدا يعرض له التعلّقات الحادثة انّما يصحّ أيضا لو كان المراد به أحد المعنيين. وحينئذ فحاصل كلام الأشعري : انّ الواجب الوجود بذاته متكلّم في الأزل ولا يحتاج في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، فذاته ـ تعالى ـ من حيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطب تكلّم ولا يحتاج الواجب في تكلّمه إلى أمر زائد على ذاته من لسان أو غيره ، فكذلك لا يحتاج في العلم الإجمالي إلى ما به التكلّم الّذي هو الكلام اللفظى واحضاره ، ولا إلى صورة خيالية أو غيرها ، فينحصر له ـ تعالى ـ ، فانّ ذاته كاف في احضار ما به التكلّم وانكشافه. فذاته ـ تعالى ـ علم اجمالي بما تكلّم ـ تعالى ـ به ، فذاته كاف في التكلّم واحضار ما به التكلّم. فما به التكلّم له نحو من الوجود باعتبار اندراجه في المعلومات بالعلم الّذي هو غير زائد على الذات ، فهو كسائر المعلومات مندرج في علمه الكمالي ، فانّ للانسان تكلما وما به التكلّم ـ وهو الصورة الخيالية للألفاظ أو الصورة المثالية لمعاني الألفاظ ـ ؛ وفي التكلّم يحتاج إلى اللسان وفي ما به التكلّم إلى الخيال أو ما في حكمه ـ كالحسّ المشترك والحافظة وغيرهما من القوى الجزئية للنفس ـ. وامّا ذات الواجب ـ تعالى ـ فلا يحتاج في التكلّم إلى الغير ، فهو بذاته متكلّم ، فتكلّمه ـ تعالى ـ غير زائد على ذاته ولا يحتاج أيضا إلى امر زائد على الذات فيما به التكلّم. فنسبة ذاته ـ تعالى ـ إلى ما به التكلّم كنسبة الصور الخيالية للألفاظ فينا في تلك الالفاظ الّتي هي ما به التكلّم ، فكما أنّ الصورة الخيالية باعتبار وجودها في النشأة الخيالية علم بما به التكلّم من غير احتياج إلى صورة اخرى في انكشافه فكذلك نفس ذاته ـ تعالى ـ علم بما به التكلّم من غير احتياج إلى تلك الصورة وغيرها ، بل ذاته ـ تعالى ـ منشئا لانكشاف الألفاظ ومعانيها. فذاته ـ تعالى ـ بمنزلة هذه الصورة في الانكشاف ، بل لا نسبة بينهما ، فذاته ـ تعالى ـ من حيث أنّه منشئا لانكشاف الالفاظ ومعانيها سبب لأن يكون للألفاظ ومعانيها نحو من الوجود الإجمالي ووحدة باعتبار لو تأمّلت يرجع ذلك الوجود وتلك الوحدة إلى العلم الإجمالي بها. ولأجل أنّ الالفاظ والمعاني مندرجان في العلم الإجمالي وهما بهذا الاعتبار واحد والكلام النفسي راجع إلى

العلم الإجمالي. قيل : الكلام النفسي القائم بالمتكلّم هو شامل للفظ والمعنى ، لأنّه عين العلم الإجمالي الّذي هو شامل لهما. فيكون كلام الله هو الكلام النفسي باعتبار أنّه مثبت في صقع الربوبية في مكمن الغيب بنحو من الثبوت العلمي على نحو العلم الإجمالي ، لأنّ الكلام النفسي الراجع إلى العلم الإجمالي لمّا كان شاملا للفظ والمعنى ؛ وهما عبارتان عن الكلام اللفظى ، لأنّه المؤلّف المخصوص الدالّ على المعاني المخصوصة. ويكون كلام الله ـ تعالى ، أي : كلامه اللفظى ـ هو كلامه النفسي ، باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي الّذي هو الكلام النفسي وهو معنى ثبوته في صقع الربوبية. وتنزيله عبارة عن تعلّق الظهور به في عالم الممكنات والشهادة. وهذا مأخوذ من كلام الشهرستاني في تصحيح كلام الأشعري.

وبالجملة ليس للمعتزلة نزاع في تحقّق المعاني المذكورة ـ أعني : اقتضاء الالقاء والقوّة عليه والعلم بالألفاظ ومعانيها ـ ، بل نزاعهم ليس إلاّ في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي بمعنى ما به التكلّم بالحقيقة ؛ أي : نزاعهم في أنّ الكلام بهذا المعنى ـ أي : معنى ما به التكلّم باعتبار اندراجه في العلم الإجمالي ـ هل يطلق عليه الكلام المذكور حقيقة أم لا يكون حقيقة غير العلم الإجمالي؟ ، وتسميته بالكلام اللفظي نوع من التجوّز وليس إلاّ باعتبار أنّ متعلّقه كلام بهذا المعنى حقيقة وهم محقّون في ذلك؟. وغاية توجيه الأشعري أن يقال : لذات الواجب ـ تعالى ـ تكلّم ازلي غير زائد على ذاته وللتكلّم الأزلي ما به يتعلّق ذلك التكلّم في الأزل وهو الكلام الأزلي وكفى في تحقيق التكلّم الأزلي علمه ـ تعالى ـ الأزلي بما يتكلم به ، فالعلم الازلي بما يتكلم به هو ما يتعلّق به التكلّم الأزلي ، ولا نعنى بالكلام النفسي إلاّ ما يتعلّق به التكلّم.

وتوضيح هذا التوجيه في اطلاق الكلام بمعنى ما به التكلّم على علمه الإجمالي هو أنّ لذات الواجب تكلما ازليا غير زائد على ذاته ـ سبحانه ـ ، وهذا التكلّم هو الكلام الأزلي لإطلاق الكلام على هذا المعنى أيضا حقيقة ، وكونه ـ تعالى ـ متكلّما في الأزل أي يقتضي أن يوجد الكلام ـ الّذي هو بمعنى ما يتكلّم به ـ في الأزل ، بل يكفى في تحقّقه كونه بحيث يمكن أن يصدر عنه ما يتكلّم به على وفق العلم الإجمالي الأزلي السابق عليه المتعلّق بهذا الكلام ، فالكلام النفسي الّذي هو العلم الإجمالي المتعلّق بما به التكلّم هو الكلام بمعنى ما به

التكلّم باعتبار الوجود العلمي الاجمالي. فهذا العلم الّذي هو نفس ما يتكلّم به بوجه الاندراج باعتبار كونه متعلّق التكلّم الأزلي كلام بمعنى ما به التكلّم حقيقة ، لأنّا لا نعني بالكلام الّذي بهذا المعنى إلاّ أن يكون متعلّق الكلام الأزلي.

وفي هذا التوجيه تمحّل! ، فانّ التكلّم الازلي الّذي هو عين الذات لا يتعلّق بالعلم الأزلي حتّى يصحّ كون متعلّق التكلّم الأزلي ازليا ، بل انّما يتعلّق بشيء هو معلوم بالعلم الأزلي ، وذلك هو ما به التكلّم ، وهو حادث والعلم به ازلي. فيكون المعلوم كلاما لا نفس العلم ، والأزلي هو نفس العلم لا المعلوم ، فلا يتحقّق الكلام الأزلي. ونهاية تأويل الكلام الأشعري أن يقال : حقّق في الانسان التكلّم وما به التكلّم وهذه الألفاظ الموجودة في الأعيان وعلم بتلك الألفاظ ، وهو ـ أي : المعلوم بتلك الالفاظ ـ الكلام النفسي ، فالكلام النفسي عنده ما يتعلّق به التكلّم بمعلومه. ولأجل أنّ العلم بما يتكلّم به في الانسان كلام نفسي اطلق الأشعري الكلام الأزلي على العلم بالكلام اللفظي الّذي هو متعلّق التكلّم. وحاصل هذا التوجيه والتأويل تسليم أنّ تعلّق التكلّم انّما هو بالمعلوم. لكن اطلاق الكلام على العلم باعتبار تعلّق التكلّم بمعلومه ، فكما أنّه تحقّق في الانسان ثلاثة أمور منها الكلام النفسي ـ وهو العلم بالكلام اللفظي ـ فكذا في حقّه ـ تعالى ـ أيضا ؛ فاطلاق الكلام النفسي على العلم بما يتكلّم به الّذي يتعلّق به التكلّم اطلاق حقيقي والعلم ازلي ، فالكلام باعتبار هذا الاطلاق ازلي. وهذا الاطلاق أيضا ممّا لا يرتضيه المعتزلة. وأيضا على تقدير صحّته انّما يصحّ في العلم الّذي هو عين المعلوم لا العلم الإجمالي المذكور ؛ وتوضيح ذلك : أنّ اطلاق الكلام على العلم ـ سواء طابق المقصود أم لم يطابق ـ ممّا لا يرتضيه المعتزلة، لأنّ العلم هو المنشأ للانكشاف والكلام ليس كذلك. وعلى تقدير الإرتضاء لا يطابق المقصود من اطلاق الكلام ـ بمعنى ما به التكلّم ـ على العلم إلاّ أن يراد بالعلم العلم التفصيلي الزائد على الذات الّذي يمكن أن يكون نفس الكلام بمعنى ما به التكلّم ، لا العلم الإجمالي المباين له.

والغرض من هذا التطويل أنّ كلامه بلا تأويل بأحد من المعنيين المذكورين في معنى الكلام الأزلي لا يصحّ أصلا ؛ انتهى ما ذكره بتوضيح.

وليس ملخّص كلامه إلاّ أنّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم الإجمالي وإنّ اطلاقه عليه صحيح ، إمّا بالتوجيه الّذي ذكره أوّلا أو بالتأويل الّذي ذكره أخيرا.

وهما مع بعدهما ومخالفتهما للإطلاقات العرفية واللغوية ممّا يأبى عنه كلام الأشاعرة ، فانّ ظاهر كلامهم عدم كون الكلام النفسي ـ الّذي قالوا ـ به هو التكلّم الحقيقى أو العلم الّذي هما غير زائدين على الذات ، فانّهم قالوا بزيادة الكلام النفسي والكلام الأزلي ؛ كيف وجميع الصفات عندهم زائدة على ذاته ـ سبحانه ـ؟!.

والحاصل أنّه فرق بين أن يقال : مرادهم ذلك ، وبين أن يقال : المعقول ذلك ؛ والمسلّم هو الثاني دون الأوّل. ولقد احسن اخيرا حيث صرّح بعدم صحّة كلام الأشاعرة بدون التأويل ، ويظهر أنّ هذا التأويل صدر عن غيرهم لا عنهم ؛ هذا.

وقد اجيب عن الدليل المذكور للمعتزلة ـ أعني : الدليل الرابع ـ : بانّ السفه والعبث انّما يلزم لو خوطب المعدوم وأمر في عدمه ، وأمّا على تقدير وجوده بأن يكون طلبا للفعل ممّن سيكون ـ كما في طلب الرجل تعلّم ولده الّذي أخبر صادق بانّه سيولد ـ وكما في خطاب النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ بأوامره ونواهيه كلّ مكلّف يولد إلى يوم القيمة أو اختصاص خطاباته باهل عصره وثبوت الحكم فيمن عداهم بالإجماع أو القياس بعيد جدّا.

وأورد عليه : بانّ طلب الرجل تعلّم ولده ليس طلبا حقيقة ، بل هو العزم على الطلب وتخيّله ، وهو ممكن وليس نفسه ؛ وأمّا نفس الطلب فلا شكّ في كونه سفها ؛ بل قيل : هو غير ممكن ، لأنّ وجود الطلب بدون من يطلب منه محال.

قيل : وهذا الجواب مشهور بين الجمهور وكلامهم متردّد في أنّ معناه إنّ المعدوم مأمور في الأزل بأن يتمثّل ويأتي بالفعل على تقدير الوجود أو المعدوم ليس بمأمور في الازل ، لكن لمّا استمرّ الأمر الأزلي إلى زمان وجوده صار بعد الوجود مأمورا.

قال بعض المشاهير : التحقيق أنّ ذاته ـ تعالى ـ بحيث يقتضي التكليف والأمر بعد ايجاد المكلّفين ، فمن نظر إلى أنّ ذاته ـ تعالى ـ بذاته يقتضي التكليف وأنّ ذاته منشأ للتكليف حكم بانّ المعدوم مأمور في الأزل بمعنى أنّ منشأ الأمر تحقّق في الأزل ، ومن

نظر إلى استمرار الأمر الأزلي ـ وهو منشأ الأمر إلى زمان وجود المأمور به وأنّه بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل ـ حكم بانّ المعدوم ليس مأمورا به في الأزل ؛ انتهى.

وحاصله التوجيه لكلّ واحد من المتخاصمين بارتكاب التجوّز ، وهو : إنّ من قال : الأمر في الأزل يتعلّق بالمعدوم ، فبناء كلامه على أنّ منشأ الأمر ـ وهو ذاته تعالى الأزلي ـ موجود في الأزل ، فكان الأمر المتعلّق بالمعدوم موجودا ؛ ومن قال بعدم تعلّق الأمر في الازل بالمعدوم ـ بل يستمرّ إلى زمان وجوده ؛ وبعده يتعلّق به مراده ـ إنّ منشأ الأمر وهو ذات الله ـ تعالى ـ بسرمديته مستمرّ ، فكان امره مستمرّا.

وأورد عليه : بانّ استمرار الأمر الأزلي لا دخل له في الحكم بانّ المعدوم ليس بمأمور ، فيكفي أن يقال : ومن نظر إلى أنّ المعدوم بعد وجوده يصير مأمورا بالفعل حكم بانّ المعدوم ليس بمأمور ، فانّ استمرار الأمر الأزلي إن لم يكن مضرّا بهذا الحكم لا يكون نافعا له.

وأجيب عنه : بانّ المراد إنّه وإن استمرّ الأمر الأزلي بمعنى منشأ الأمر عند هذا الناظر إلاّ أنّ الأمر لا يصير بالفعل عنده إلاّ بعد الوجود.

أقول : في جواز تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين اختلاف مشهور بين علماء الأصول ؛ والحقّ ـ على ما بيّناه في كتبنا الأصولية ـ جواز ذلك ؛ لكن لا على سبيل الحقيقة ، بل على سبيل المجاز إن تعلّق بالمعدومين فقط ، أو التغليب أو مجاز المشارفة إن تعلّق بالمعدومين والموجودين معا. وبذلك يظهر أنّ ما قيل : إنّ خطاب الحاضرين يكون قصدا والغائبين والمعدومين يكون ضمنا وتبعا انّما يجري فيما يكون متعلّق الخطاب الموجودين والمعدومين معا.

وقد ظهر ممّا ذكر ـ من صحّة تعلّق خطاب المشافهة بالمعدومين تجوّزا ـ أنّ الدليل المذكور غير تامّ ، لأنّه مبنيّ على ما ذكر من كون الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهي والاخبار بلا سامع والنداء بلا مخاطب.

الخامس : إنّ الأمر لو كان ازليا لكان ابديا ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، فيبقى التكليف في دار الجزاء ؛ وهو باطل اجماعا.

السادس : إنّ الكلام لو كان ازليا لاستمرّ ازلا وابدا ـ لما ذكر آنفا ، ـ فلم يختصّ مكالمة موسى ـ عليه السلام ـ بالطور ؛ وهو باطل اجماعا.

السابع : إنّ القديم يستوي نسبته إلى جميع ما يصحّ تعلّقه به ـ كما في العلم ـ ، فيتعلّق الأمر والنهي بكلّ فعل حتّى يكون المأمور منهيا وبالعكس ؛ واللازم باطل قطعا. وهذا الوجه منهم الزامي على الأشاعرة حيث لا يقولون بالحسن والقبح العقليين ليمنعوا صحّة تعلّق الأمر بما يتعلّق به النهي وبالعكس.

وأجيب عن هذه الأدلّة الثلاثة : أنّ الكلام وإن كان ازليا لكن تعلّقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من الله ـ تعالى ـ واختيار ، فيتعلّق الأمر بصلاة زيد بعد بلوغه وينقطع عند موته ، ويتعلّق الكلام بموسى ـ عليه السلام  ـ في الطور.

وأورد على الخامس أيضا : بانّ ابدية الأمر لا يقتضي بقاء التكليف ، لأنّ وجود الأمر ـ بل كلّ خطاب دائما ـ لا يقتضي إلاّ حصول مفاده ومقتضاه دائما ، وليس مفاد الأمر الاتيان بالفعل في كلّ وقت حتّى إذا حصل مفاده لزم حصول التكليف في دار الجزاء ، بل مفاده الاتيان بالفعل في دار الدنيا وهو باق دائما ، والتكليف به واقع دائما حتّى يصدق أنّ المكلف مأمور في العقبى بالاتيان بالفعل في دار الدنيا. وهذا ما قالوا : إنّ صدق المطلقة دائمي ، نظيره لو قال أحد مخاطبا لزيد : افعل كذا في اليوم الجمعة المخصوصة مثلا وفرضنا صدور هذا الكلام منه دائما قبل هذا اليوم وبعده لا يقتضي إلاّ اتيان زيد بالفعل المذكور في يوم الجمعة المخصوصة دون فعله دائما ؛ انتهى.

وأنت خبير بانّه لو كان للكلام النفسي القديم معنى محصّل لم يكن هذه الأدلّة الثلاثة صالحة لإبطاله ، لما ذكر من الجواب والايراد. فالعمدة في ابطاله ما تقدّم من أنّه ليس له معنى محصّل سوى الكلام الحقيقي أو العلم الكمالي ، وهو غير متنازع فيه.

ثمّ لا ريب في أنّ غرض المعتزلة من هذه الأدلّة ابطال الكلام اللفظي الأزلي دون التكلّم الحقيقي ، فهي غير دالة على عدم اعتقادهم بالتكلّم الحقيقي ؛ هذا.

وقال بعض المشاهير : جميع هذه الأدلّة إنّما تنتهض في الكلام اللفظي باعتبار

وجوده العيني وفي معناه باعتبار كونه مدلولا له بالعقل ، وجميع الأجوبة مبنية على أنّ الكلام الازلي هو التكلّم الحقيقى الّذي هو أمر واحد غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ ، أو العلم الاجمالي بالكلام مع اقترانه باقتضاء القاء الكلام للإعلام في وقته لا الالقاء بالفعل في الأزل وإن كان الاقتضاء ازليا ، وهو ـ أي : العلم الإجمالي ـ أمر واحد غير زائد على ذاته عند المحقّقين ؛ انتهى.

وأنت بعد الاحاطة بما تقدّم تعلم حقّية هذا الكلام ؛ هذا.

وبقى لنا من هذا المبحث أن نذكر كلاما أورده صاحب المواقف في تحقيق كلام الله النفسي ونشير إلى حقيقة الحال فيه. وحاصل ما أورده هو : أنّ اللفظ يطلق تارة على مدلول اللفظ ، وأخرى على الأمر القائم بالغير. فالشيخ الأشعري لمّا قال الكلام هو المعنى النفسي فهم الاصحاب منه أنّ مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده ، وأمّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا لدلالتها على ما هو كلام حقيقة. حتّى صرّحوا بانّ اللفظ حادث على مذهبه أيضا ، لكنّها ليست كلامه ـ تعالى ـ حقيقة. ومذهب الّذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة ـ كعدم تكفير من أنكر كلاميّة ما بين دفّتي المصحف مع أنّه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة ؛ وكعدم المعارضة والتحدّي بكلام الله تعالى الحقيقي ؛ وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتفطّن في الاحكام الدينية ـ ؛ فوجب حمل كلام الشيخ على أنّه أراد المعنى الثاني. فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله ـ تعالى ـ وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور ، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة ، إذ هي من أفعال البشر. وعلى هذا يكون الفرق بين الملفوظ والتلفّظ وبين المكتوب والكتابة وبين المقروء والقراءة وبين المحفوظ والحفظ بالقدم والحدوث.

وما يقال من : أنّ الحروف والألفاظ مترتّبة متعاقبة فيكون حادثة فلا يمكن أن يكون الأمر الشامل لها وللمعنى جميعا قديما مع أنّ الكلام اللفظي النفسي عند الشيخ الأشعري قديم ؛ فجوابه : إنّ ذلك الترتيب انّما هو في اللفظ بسبب عدم مساعدة الآلة ، فالتلفّظ

حادث ، والأدلّة الدالّة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ ـ جمعا بين الأدلّة ـ. وهذا الّذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخّروا اصحابنا إلاّ أنّه بعد التأمّل يعرف حقيقته. وقد قال بعض الفضلاء : هذا المحمل لكلام الشيخ ممّا اختاره الشهرستاني في كتابه المسمّى بنهاية الاقدام ؛ ولا شبهة في أنّه اقرب إلى الاحكام الظاهرة المنسوبة إلى قواعد الملّة ؛ انتهى كلام صاحب المواقف.

قال بعض المشاهير : الظاهر إنّ فهم الاصحاب إنّ مراد الشيخ هو مدلول اللفظ وحده ليس من مجرّد قوله : « انّ الكلام هو المعنى النفسي » ، بل الظاهر أنّ باعث فهمهم هو ذلك مع ضميمة أخرى لم ينقل هنا ، إذ لو كان باعث فهمهم مجرّد ما ذكره امكن أن يحمل كلامه بانّ مراده بالكلام النفسي هو المعنى النفسي ـ على ما هو الكلام بمعنى التكلّم ، أي : كون الذات بحيث يقتضي القاء الكلام إلى المخاطبين ـ ؛ وحينئذ يصحّ كلامه بلا تأويله إلى ما ذكره صاحب المواقف ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الكلام بطوله لا طائل تحته! ، فانّك قد عرفت أنّ الكلام النفسي الّذي قال به الشيخ الأشعري لا يمكن حمله على التكلّم الحقيقي ، فانّ المتبادر من مجرّد الكلام النفسي هو مدلول اللفظ وفهم قدرة ايجاد الكلام اللفظي منه خلاف الظاهر ، ففهم الاصحاب منه ذلك في موضعه ، مع قطع النظر عن سائر أقاويله الصريحة في أنّ مراده منه ذلك دون التكلّم الحقيقي.

فالحقّ أنّ ما فهم اصحاب الشيخ الأشعري من كلامه والتأويل الّذي ذكره صاحب المواقف لكلامه كلاهما باطلان! ؛

أمّا الأوّل فقد عرفت وجه فساده مفصّلا ، ونزيدك هنا ونقول : لا ريب في أنّ مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون قديما لأنّه مثل اللفظ في الحدوث ؛ قال بعض المشاهير : كون المدلول قديما انّما يصحّ أن لو كان المراد بمدلول الألفاظ المدلول الإلتزامي الّذي هو التكلّم القائم بالمتكلّم ـ كما مرّ ـ ؛ وامّا المدلول المطابقي فلا خفاء في أن لا فرق بينه وبين اللفظ في كونهما حادثين وفي التأويل إلى العلم ، فانّ اللفظ ـ مثل : « قال فرعون » ـ والمدلول المطابقي سيّان في الحدوث ، وفي العلم بهما قديم.

ويرد على ما ذكره من قولهم : « فامّا العبارات فانّما يسمّى كلاما مجازا » : أنّ المتبادر المشهور في استعمال الكلام انّما هو العبارات والألفاظ الدالّة عليه ، وهو علامة كونه حقيقة فيها. ولهذا قال المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم : « الأصل في الكلام هو المؤلّف من الحروف المسموعة الدالّة بالوضع على ما قصد دلالته عليه ليحصل التفاهم بين أشخاص النوع، ووجوده لا يتحصّل إلاّ بعد العلم بالمعاني وتقدير ترتيب اجزاء المؤلّف ، وبعينه الحروف المرتّب بعضها على بعض بحسب الوجود العلمي حتّى يمكن تأليف الكلام باعتبار الوجود العيني على وفق ترتيب الذهني ، فبعض الناس ـ كالمنطقيين ـ يطلقون اسم الكلام على ذلك التقدير في الذهن ، وبعضهم يطلقون على ذلك العلم. والمتكلّمون يصفونه ـ تعالى ـ بالكلام لورود الشريعة بذلك ، إذ لولاه لما يتوهّم العوامّ الوحي ؛ فمنهم من قال : إنّه هو العلم ؛ ومنهم من قال : إنّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع ؛ ومنهم من قال : زائد محدث أو قديم مؤلّف ليس بمسموع ، لكن يطابق المسموع ، ومنهم من قال : إنّه مؤلّف مسموع. والّذين يقولون إنّه مع ذلك قديم لا يتفكّرون في معنى قولهم » (5) ؛ انتهى.

وقد اشار بقوله : « الأصل في الكلام هو المؤلّف » إلى أنّه أيّ معنى عن المعاني المغايرة لهذا المعنى إذا استعمل فيه الكلام والكلمات كان ذلك على سبيل المجاز ـ كمعاني الألفاظ ، والموجودات العينية ، والعلم بالألفاظ ، كما ورد في حقّ عيسى عليه السلام  : {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] ؛ وقال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]؛ وقال امير المؤمنين عليه السلام : « أنا كلام الله الناطق » (6) ؛ وكما قيل : ان بسائط الموجودات حروف ومركّباتها كلمات ـ. قال بعض المشاهير : فان قيل : يمكن اثبات اللفظية بالقياس ـ كما هو المشهور ـ ، فيمكن به اثبات أنّ الكلام موضوع لما يعمّ الألفاظ والمعاني ، فانّ كلامية الألفاظ الموضوعة انّما يكون لأجل كونه حكاية عن الواقع ـ كما في الاخبار ـ أو مشعرا للطلب ونحوه ـ كما في الانشائيات ـ ، وتلك الحكاية وذلك الاشعار انّما يوجدان بالذات في معاني الألفاظ ؛ وبذلك يعلم أنّ كلاّ من الألفاظ الموضوعة ومعانيها كلام. وأيضا الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معاني الألفاظ الموضوعة ، فانّ الخبر ما يحتمل الصدق والكذب ، والأمر ما يقتضي الطلب ، والصدق والكذب انّما يعرضان للمعاني بالذات ؛ وكذلك اقتضاء الطلب ونحوه انّما هو من عوارض المعاني.

وأيضا إذا قيل في الأمر بالقيام مثلا بالعربي أو بلغة أخرى لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات ، وهذا هو الباعث للحكم بانّ القديم بالحقيقة هو معانى الألفاظ المؤلّفة الموضوعة ؛

قلنا : على كلّ من التقديرين المذكورين ـ أي : كون الكلام هو اللفظ فقط ، أو اللفظ والمعنى ـ لا يصحّ الحكم على الكلام بانّه صفة لذات الحقّ وقديم إلاّ بتأويله إلى العلم الإجمالي به ـ كما اختاره الطائفة الّتي أشار إليها المحقّق الطوسي في الكلام المنقول عنه بقوله : « ومنهم من قال بانّه هو العلم » ـ ، أو إلى العلم به مع ضميمة اقتضاء الذات لا لقائه إلى المخاطبين ـ كما ذهب إليه الطائفة الّتي أشار إليها بقوله : « ومنهم من قال بانّه زائد على العلم قديم غير مؤلّف ولا مسموع » ـ. وامّا القول بانّه مؤلّف قديم ليس بمسموع وزائد على العلم ، فلا يصحّ الحكم عليه بانّه صفة لذات الحقّ ، لأنّه إذا كان الكلام مؤلّفا فلا بدّ له من تمييز بعض الأجزاء عن بعض وترتيب فيما بينهما ، وهذا لا يتصوّر إلاّ باعتبار الوجود العيني أو الوجود الارتسامي في شيء موجود في الخارج ، فلا يكون صفة لذات الحقّ إلاّ على مذهب من قال بالعلم التفصيلي القديم. وكان معنى زيادته على العلم أنّ له ضميمة قصد القائه إلى المخاطبين. وقوله ـ أي : قول المحقّق ـ : « ومنهم من قال إنّه مؤلّف مسموع » اشارة إلى ما اختاره من مذهب المعتزلة. وقوله : « والذين يقولون ... إلى آخره » اشارة إلى مذهب الحنابلة. وقوله : « ولا يتفكّرون في معنى قولهم » اشارة إلى انّهم لا يفهموا معنى الحدوث والقدم ؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ ما ذكره ـ في جواب السؤال المذكور من أنّ الكلام سواء كان هو اللفظ

أو المعنى لا يمكن أن يكون صفة لذات الحقّ ـ وإن كان حقّا إلاّ أنّ الأصوب في الجواب عنه منع صحّة اثبات اللغة بالقياس ـ كما هو مقرّر عند أهل التحقيق من علماء الأصول ـ.

ثمّ ما ذكر في السؤال لبيان اطلاق الكلام حقيقة على المعاني ـ بأنّ الحكاية عن الواقع والإشعار للطلب انّما يوجدان بالذات في المعاني ـ ، ففيه منع ظاهر ؛ لأنّ الاشعار بالذات انّما يكون في الألفاظ ، فانّ التفهيم والتفهم انّما يحصلان بالألفاظ ، فاذا كان طريق فهم المعاني منحصرا بالألفاظ فالمفسّر للطلب والحكاية ليس إلاّ الألفاظ.

وما ذكر من : « أنّ الكلام الّذي ينقسم إلى الخبر والأمر والنهي وأمثالها انّما يكون بالحقيقة معانى الالفاظ ـ إلى قوله انّما هو من عوارض المعاني » ، فيه : انّا لا نسلّم أنّ معانى الألفاظ ينقسم إلى الخبر والانشاء ، بل الألفاظ ينقسم إليها. ومعنى قولهم : « الخبر ما يحتمل الصدق والكذب » : إنّ الخبر لفظ معناه يحتمل الصدق والكذب ، لأنّ كلمة « ما » في « ما يحتمل » عبارة عن اللفظ ، ومعناه : الخبر لفظ يحتمل معناه الصدق والكذب ؛ وكذا الأمر لفظ معناه يقتضي الطلب. ونظير ذلك كثير ، مثل ما يقال : إنّ الاسم ما دلّ على معنى في نفسه ، بلفظ ما وإن كانت عامّة بحسب الظاهر لكن العموم ليس بمراد ، بل المراد الخاصّ ـ وهو اللفظ ـ. وبالجملة الخبر والانشاء لا يكون حقيقة صفة لشيء غير اللفظ. وما قيل من : « أنّه إذا قيل في الأمر بالقيام ـ ... إلى قوله ـ : لا يختلف الأمر بالحقيقة وإن اختلف العبارات » ، ففيه : إنّه انّما يتمّ ذلك إذا لم يكن لخصوصية لفظ دون لفظ دخل في الأمر بالقيام ، والأمر ليس كذلك ، فانّه وضع في اللغة العربية لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ الأمر بدون غيره من الألفاظ العربية؛ وكذا في التركي وغيره من اللغات لفظ خاصّ للأمر بالقيام ولا يصحّ بغيره ، فلخصوصية لفظ كلّ طائفة دخل في الأمر بالقيام ، ولا يحصل الغرض بدون ذلك اللفظ حتّى يؤدّي بغيره ، لاختلاف الأمر بالحقيقة ؛ هذا.

وممّا يرد على ما فهم اصحاب الأشعري من كلامه المفاسد الّتي اشار إليها صاحب المواقف ، وقد تقدّم بعضها وقد عرفت أنّه قد اجاب عنها بعضهم بأنّه لا نزاع في اطلاق اسم القرآن وكلام الله ـ تعالى ـ بالاشتراك اللفظي على هذا المؤلّف الحادث ، وانّما يقول الأشعري انّهما يطلقان على معنى آخر هو الكلام النفسي ، فلا يلزم شيء من المفاسد المذكورة من لزوم عدم المعارضة والتحدّي وعدم كون المقروء والمحفوظ كلام الله حقيقة وعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف ، فانّ من أنكر كلامية ما بين دفّتي المصحف انّما يكفّر لو اعتقد أنّه ليس كلام الله ـ تعالى ـ بمعنى أنّه من مخترعات البشر ، أمّا إذا اعتقد أنّه ليس كلام الله ـ تعالى ـ بمعنى أنّه ليس صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ بل هو دالّ على ما هو صفة حقيقة وهو من مبدعات الله ـ تعالى ـ ومخترعاته ـ بأن اوجده في لسان الملك أو في لسان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو اوجد نقوشا دالّة عليه في اللوح المحفوظ ـ فليس من الكفر في شيء ؛ بل هو مذهب اكثر الأشاعرة ، فلا ينبغي أن يتوهّم كونه كفرا.

وأورد بعض المشاهير على هذا الجواب : بانّ الكلام عند الخصم ـ أعني : المعتزلة ـ حقيقة في الأصوات والحروف ، والاشتراك اللفظى الّذي ادّعاه المجيب غير مسلّم عند الخصم. وأيضا كلّ واحد من معنيي الكلام ـ اللّذين التزمهما المجيب ـ حادث باعتبار الوجود الخارجي وإن كان قديما باعتبار اندراجه في علم الواجب ، فلا يمكن أن يكون المدلول الّذي هو الكلام أيضا عند الأشعري قديما صفة لذات الحقّ. ومراد صاحب المواقف من المفسدة الأخيرة إنّه علم من الدين ضرورة كون ما بين دفّتي المصحف كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة لا بالمجاز ـ أي : أوجده الله تعالى حقيقة لا مجازا ـ ، وينبغي أن يكفّر من ينكره على الاطلاق وإن لم يحكم بكفره مع التأويل الّذي ذكره المجيب. وعلى ما فهم أصحاب الأشعري من أنّ اطلاق الكلام على العبارات والألفاظ مجازا يلزم عدم كفر من ينكره مطلقا ، لأنّه يفهم من ظاهر كلامهم حينئذ أنّ ما بين دفّتي المصحف ليس من مخلوقات الواجب وموجدا لله ـ تعالى ـ حقيقة ، بل ما هو من موجداته ومخلوقاته ـ تعالى ـ حقيقة هو المعاني ، فيلزم عدم كفر المنكر المطلق مع أنّ من انكره كافر مطلقا ـ أي : سواء كان اطلاق الكلام على ما بين الدفّتين حقيقة أو مجازا ـ.

والحاصل : انّ اعتراض صاحب المواقف على من فهم كلام الأشعري مجازية الكلام اللفظي بانّه مخالف لضروري الدين ، ويلزم عدم تكفير المنكر المطلق مع أنّه ينبغي تكفيره ، وليس مراده أنّه لا يمكن تأويل كلام الأشعري بغير ما ذكره نفسه كتأويل المجيب حتّى لا يكون انكار من ينكره كفرا ، لأنّه لا ينكره مطلقا. ولا يستلزم ذلك عدم تكفير من ينكره مطلقا ، فانّه على تقدير الاشتراك اللفظي أيضا من ينكر كلامية ما بين دفّتي المصحف فهو كافر. نعم! ، من ينكر كلامه بمعنى أنّه صفة قائمة بذاته لا يكون كافرا. والملخّص انّ صاحب المواقف لا ينكر تأويل المجيب لكلام الأشعري بطريق الاشتراك اللفظي الّذي لا يستلزم عدم تكفير المنكر المطلق ، ويسلّم أنّه على تقدير الاشتراك اللفظي لا فساد في عدم التكفير بالمعنى الّذي ذكره المجيب ، وانّما اعتراضه على من قال بالمجاز المستلزم لعدم تكفير المنكر المطلق.

ثمّ على تقدير الاشتراك اللفظي انّما يلزم عدم تكفير من ينكر الكلامية بمعنى كونه صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ ؛ هذا.

والظاهر أنّ الأشاعرة قائلون بكون الكلام اللفظي كلاما حقيقة وانّما يدّعون وجود الكلام بمعنى آخر ، فالتكفير المترتّب على انكار ما بين دفّتي المصحف كلاما غير لازم عليهم.

فان قلت : إن أريد من ما بين دفّتي المصحف النقوش الدالّة على الألفاظ الّتي هي كلام الله فظاهر أنّ هذه النقوش ليست كلام الله حقيقة ، فلا وجه لتكفير من ينكر كونه كلام الله حقيقة ؛ وإن أريد منه مدلول تلك النقوش ـ أعني : الألفاظ ـ ، فلا ريب في كونها كلام الله حقيقة إلاّ انّها ليست ما بين دفّتي المصحف حقيقة ، فلا وجه للقول بأنّ ما بين دفّتي المصحف كلام الله حقيقة ، لأنّ ما بين دفّتي المصحف حقيقة هي النقوش واطلاق كلام الله عليها مجاز من قبيل اطلاق اسم المدلول على الدالّ ؛

قلنا : إنّ تلك النقوش وإن لم تكن كلام الله حقيقة لكن أجرى عليها شرعا احكام كلام الله ـ تعالى ـ ، ولهذا لا يجوز مسّ تلك النقوش بدون الطهارة ، فكأنّها كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة شرعا ؛ فالتكفير المرتّب على انكار كونها كلام الله ـ تعالى ـ شرعي لا عقلي.

وأمّا الثاني ـ أعني : ما ذهب إليه صاحب المواقف في توجيه كلام الشيخ الأشعري من أنّ الكلام النفسي شامل للفظ والمعنى معا وإنّ ترتيب الحروف انّما هو في اللفظ دون الملفوظ حتّى يكون التلفّظ حادثا دون الملفوظ وإنّ الترتيب فينا انّما هو لقصور الآلة ـ ، فيدلّ على بطلانه : أنّ ذلك أمر خارج عن طور العقل ، وما ذلك إلاّ مثل أن يقال : يمكن أن تكون حركة تكون اجزائها مجتمعة في الوجود ولا يكون لبعضها تقدّم على البعض ، وانّما يتعاقب اجزاء الحركة فينا لعدم مساعدة الآلة. وإذا كان عدم الترتب في الملفوظ باطلا لزم كونه حادثا ويكون المعنى أيضا حادثا ، فلا يمكن أن يكون ما هو شامل لهما قديما صفة لذات الحقّ.

وأجاب عنه بعض المشاهير : بانّ ذلك انّما يكون خارجا عن طور العقل باعتبار الوجود الخارجي ، وأمّا باعتبار الوجود العلمي أو العقلي أو الظلّي أو المثالي فليس خارجا عنه وبهذا الاعتبار قيل : إنّ كلام الله بمعنى التكلّم على أقسام ستّة :

أحدها : التكلّم الحقيقي الّذي هو غير زائد على ذاته ـ تعالى ـ وكونه ـ تعالى ـ باعتبار ذاته بحيث يقتضي الأوامر والنواهي وشبههما والقاء الاخبار إلى المخاطبين ؛ وهو الّذي يسمّى بـ«الخطاب القديم » ؛

وثانيهما : هو التكلّم الّذي بينه وبين المجرّد القدسي ، وهو القاء الواجب ـ تعالى ـ ما يحكم ويوجد إلى العلم الإجمالي بالقلم الأعلى ؛

وثالثها : التكلّم الّذي هو القاء الواجب ـ تعالى ـ ما يحكم ويوجد بواسطة القلم إلى اللوح المحفوظ، وكتابته فيه ما يحكم ويوجد ؛

ورابعها : التكلّم النفسي الّذي هو القاء الواجب ـ تعالى ـ إلى النفوس المجردة الاحكام والاخبار ؛

وخامسها : التكلّم المثالي الّذي هو القاء الألفاظ المثالية الدالّة على المعاني المقصودة إلى النفوس الإنسانية في عالم المثال ؛

وسادسها : التكلّم الّذي هو القاء الألفاظ الدالّة على المعاني المقصودة إلى النفوس الانسانية في عالم الملك ، وبإزاء كلّ تكلّم كلام لائق بمعنى ما به التكلّم.

وحاصل هذا الجواب إنّ الترتّب في الألفاظ انّما يكون باعتبار الوجود الخارجي لا باعتبار الوجود العقلي أيضا ، فمراد صاحب المواقف أنّ الألفاظ ليس فيها ترتيب باعتبار الوجود العقلي.

ولا يخفى ما في هذا الجواب! ، فانّه وإن كان في نفسه حقّا إلاّ أنّه لا يمكن حمل كلام صاحب المواقف عليه ، لأنّ قوله : « وترتّب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » يأبى عن هذا التوجيه ، لأنّ عدم الترتّب في الألفاظ باعتبار الوجود العقلي ليس مختصّا بالواجب ـ تعالى ـ ، بل فينا أيضا كذلك ؛ فلا وجه حينئذ لقوله : « انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ». فلا بدّ من الحمل على الوجود الخارجي حتّى يتصوّر في بادى الرأي أنّ ترتّب الحروف والألفاظ باعتبار الوجود الخارجي انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة ؛ وحينئذ يتوجّه عليه الايراد المذكور.

وأورد المحقّق الدواني على توجيه صاحب المواقف أيضا بانّه كيف يتصوّر أن تكون الصفة القائمة بذاته ـ تعالى ـ والأصوات القائمة بنا متّحدة الحقيقة حتّى يصحّ أن يقال : إنّ تلك الاصوات قائمة بذاته ـ تعالى ـ من غير ترتّب فينا ، وترتّبه لقصور الآلة.

وهذا الايراد يمكن تقريره على وجهين :

أحدهما : إنّه باعتبار تلك الأصوات متّحدة مع صفته ـ تعالى ـ ، فينبغي أن لا يكون منتظمة مؤلّفة وباعتبار انّها اصوات ينبغى أن تكون مترتّبة منتظمة ، فكيف يجتمع هذان الأمران؟! ؛

وثانيهما : إنّه لا يجوز اتحاد صفة الله ـ تعالى ـ مع الحقيقة الممكنة حتّى يقال : إنّ حقيقة الأصوات باعتبار انّها صفة للواجب ـ تعالى ـ لا تكون مع ترتيب ، وباعتبار انّها مع الممكنات تكون مرتبة. على أنّه إذا كان الشيء متّحد الحقيقة يجب أن لا يختلف بحسب الحقيقة ، فيجوز أن لا يختلف تلك الاصوات في الترتيب وعدمه ، لأنّه لو جاز هذا لجاز أن لا يكون الحركة في محلّ تدريجية الوجود وفي محلّ آخر غير تدريجية الوجود ؛ وهذا ليس إلاّ السفسطة الصريحة!.

فان قيل : يجوز هذا باعتبار الوجودين ـ أعني : الذهني والخارجي ـ ؛

قلنا : كون الحروف والاصوات صفة للواجب ـ تعالى ـ يقتضي كونها من الموجودات الخارجية، ومع اتحاد حقيقتها للموجودات الخارجية الحاصلة في الألسن المرتّبة بعضها على بعض يقتضي القول بكونها مرتّبة في الواجب أيضا ؛ هذا خلف!.

ثمّ أجاب بعض المشاهير عن ايراد المحقّق : بأنّ صاحب المواقف لم يصرّح بأنّ الكلام النفسي بالمعنى المذكور صفة له ـ تعالى ـ ليرد الايراد المذكور ، بل صرّح بقيام الأمر الشامل للفظ والمعنى بذاته ـ تعالى ـ ، وأراد به نحو قيام الصور العلمية بذاته ـ تعالى ، على ما ذهب إليه الشيخ ـ ؛ بل أراد به اندراجه في علمه القديم ليتناول المذهبين في العلم ـ أعني : كون العلم القديم هو العلم الإجمالي أو الصور القائمة بذاته تعالى أيضا ، كما ذهب الشيخ والفارابي ـ ؛ انتهى.

وفيه : إنّ صاحب المواقف صرّح بأنّ الكلام النفسي عند الشيخ الأشعري مجموع اللفظ والمعنى ويكون ذلك المجموع قائما بذاته ـ تعالى ـ ، وظاهر أنّ ما هو قائم بذاته ـ تعالى ـ صفة له ـ تعالى ـ ، فالتصريح بالقيام في حكم التصريح بكونه صفة. ويدلّ على ذلك قوله : « وترتيب الحروف والألفاظ انّما هو فينا لعدم مساعدة الآلة » ، لأنّ هذا صريح في أنّ الألفاظ قائمة به ـ تعالى ـ بدون الترتيب.

وما ذكره من أنّ مراد صاحب المواقف أنّ هذا الأمر الشامل للفظ والمعنى مندرج في علمه القديم ، ففيه : إنّه حينئذ يرجع الكلام النفسي إلى العلم ، وليس هو مذهب الأشاعرة. فلو كان مراد الأشاعرة من الكلام النفسي هو العلم لا تقع المخالفة بينهم وبين المعتزلة ـ كما أشير إليه مرارا ـ.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما صرّح به هذا القائل بعد ذلك أيضا بأنّ المراد بالقيام ـ الّذي ذكره صاحب المواقف ـ هو الاندراج في علم الله المقدّم على الايجاد.

ثمّ هذا القائل قال بعد هذا الكلام : فان قيل : يمكن أن يقال : المراد بذلك القيام نحو قيام الصور العلمية بذاته ـ تعالى ـ كما ذهب إليه بعض الحكماء من أنّ الصور العلميّة قائمة بذاته ـ تعالى ـ بدون تأثير ذاته ـ تعالى ـ منه واكماله ـ تعالى ـ به ؛

قلت : هذا انّما يصحّ عند من قال بالتغاير بين ذاته ـ تعالى ـ وصفاته ، ولم يقل به الأشعري. ويمكن أن يقال : الأشعري لم يقل بالتغاير في الصفات الكمالية وانّما في

غيرها ، فهو قائل به. ومن هذا القبيل قيام الصور العلمية التفصيلية عند من قال به ؛ والظاهر أن يكون الأشعري قائلا بذلك القيام.

فان قيل : هذا مناف لقول الأشعري من أنّ الكلام النفسي أمر واحد يتكثّر متعلّقاته ـ كما هو المشهور ـ ؛

قلت : قد مرّ غير مرّة من أنّ هذا الحكم انّما يستقيم في الكلام بمعنى المتكلّم أو في العلم الإجمالي بالكلام ، فعلى هذا يجب حمل قول صاحب المواقف على الاندراج في العلم الإجمالي؛ انتهى.

وغير خفيّ بأنّ المشهور أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات الكمالية ومثبتون للقدماء السبعة ، ومن ثمّ كفّرهم المعتزلة حيث قالوا : أنّ النصارى انّما كفروا لما أثبتوا مع ذاته ـ تعالى ـ صفات ثلاثة قديمة يسمّوها اقانيم ـ هي : العلم والوجود والحياة ـ ، فكيف لا يكفّر من اثبت مع ذاته ـ تعالى ـ صفات سبعا أو اكثر؟.

والأشاعرة اجابوا عن ذلك ـ بعد تسليم زيادة الصفات ـ : بانّ النصارى انّما كفّروا لانّهم اثبتوها ذوات لا صفات ـ وإن تحاشوا عن التسمية بالذوات وسمّوها صفات ـ ، فانهم قالوا بانتقال اقنوم العلم إلى المسيح والمنتقل لا يكون إلاّ ذاتا ، واثبات المتعدد ـ أعني : الذوات القديمة ـ هو الكفر دون اثبات الصفات القديمة في ذات واحدة. وعلى ما ذكر من أنّ الأشاعرة قائلون بزيادة الصفات فمرادهم من قولهم : « انّ صفاته ـ تعالى ـ لا هو ولا غيره » : أنّ صفاته ـ سبحانه ـ ليست عين ذاته ـ تعالى ـ ولا غيرا مبائنا منفصلا ، بل تكون صفاته قائمة بذاته. وبذلك يظهر أنّ الأشاعرة قائلون بالمغايرة والقيام كما صرّح به هذا القائل أخيرا ، إلاّ أنّ جواز القيام والمغايرة عند الأشاعرة لا يصحّح كون الكلام النفسي صورة علمية قائمة بذاته ـ تعالى ـ ، لما عرفت مرارا من أنّ كلماتهم صريحة في مغايرة الكلام النفسي للعلم. على أنّ العلم عند الأشاعرة ليس بحصول صور الأشياء في ذاته ـ تعالى ، كما يقول به بعض الفلاسفة ـ ، بل العلم عندهم صفة واحدة قائمة بذاته ـ تعالى ـ لها اضافات وتعلّقات إلى المعلومات ، كما أنّ القدرة عندهم صفة واحدة قائمة بذاته ـ تعالى ـ لها تعلّقات إلى المقدورات ، فبعد

ارجاع الكلام النفسي إلى العلم لا يكون قيامه عندهم كقيام الصور العلمية بذاته وحصولها فيه ـ تعالى ـ ؛ هذا. وما اشار إليه أخيرا من استقامة ارجاع الكلام النفسي الّذي هو أمر واحد ويتكثّر متعلّقاته إلى التكلّم الحقيقي أو العلم الإجمالي ، قد عرفت حقيقة الحال فيه مرارا ؛ فلا نطيل الكلام بإعادته.

ثمّ إنّ المحقّق الدواني بعد ما ردّ توجيه صاحب المواقف قال : إنّ في هذا المقام ـ أي : في تحقيق كلام الأشعري ـ كلام يقتضي تمهيد مقدّمة ؛ وهي : أنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام ، وكلامنا عبارة عن الكلمات الّتي هي مترتّبة لنا في الخيال. وبعد تمهيد هذه المقدمة أقول : إنّ صفة الكلام القائمة بذاته ـ تعالى ـ صفة هي مصدر تأليف الكلمات وإنّ كلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات الّتي مؤلّفة له ـ تعالى ـ بذاته في علمه القديم بغير واسطة ، وهذا الكلام خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر وامتيازه عن العلم ظاهر ، فانّ كلام غيره ـ تعالى ـ معلوم له وليس كلامه ـ كما أنّ كلام غيرنا معلوم لنا وليس كلامنا ـ ، فقد تحقّق العلم بدون صفة الكلام تخلف الكلام ، فلم يلزم تحقّق الكلام في أيّ موضع تحقّق العلم.

وهذا الّذي ذكرناه ليس ما ذهب إليه الحكماء من أنّ كلامه ـ تعالى ـ علمه ؛ ولا ما ذهب إليه الحنابلة ومن يحذوا حذوهم من أنّ كلامه ـ تعالى ـ حروف وأصوات يقومان بذاته وانّها قديمة ؛ وليس مثل كلام صاحب المواقف من أنّ كلامه الأصوات والحروف الموجودة أو ما يشمل الحروف والاصوات والمعاني معا ، ولا ما هو المشهور من الأشعري من أنّ كلامه ـ تعالى ـ انّما هو المعنى المقابل للفظ ، بل هو تحقيق وتنقيح لمذهب الأشعري ـ كما يظهر بالتأمّل الصادق ـ.

ولمّا كان علمه ـ تعالى ـ واحدا محيطا بجميع المعلومات كان كلامه أيضا واحدا مشتملا على اقسامه من الكتب والصحف واللغات المختلفة والاخبارات والانشائيات ، ولمّا كان كلامه ازليا كان الخطاب فيه متوجّها إلى المخاطب المقدّر لا مخاطب موجود في الأزل ، فيكون المضيّ والحضور والاستقبال فيه بالنسبة إلى الزمان المقدّر للمخاطب المقدّر ، فلا اشكال في ورود بعضها بصيغة الماضي وبعضها بصيغة الحال وبعضها بصيغة الاستقبال.

فان قلت : قد اطّرد العرف على أنّ من انشأ كلاما بكتابة يسمّى متكلّما وينسب إليه ذلك الكلام بانّه قوله وكلامه ـ كما يقال : قال : الشافعي كذا وكذا ، و: ابو حنيفة كذا ـ ؛ وانّما ينسب إليهم هذه الأقوال بأنّهم كتبوه ، فلم لا يجوز أن يكون كلام الله ـ تعالى ـ من هذا القبيل ـ كما يقول المعتزلة ـ؟ ، فيكون نسبته إليه ـ تعالى ـ بسبب أنّه كتب في الألواح المحفوظة أو أوجده في لسان الملك أو الرسول.

قلت : أمّا أوّلا فلأنّ من لم يقدّر على تأليف الكلمات في النفس لا يسمّى متكلّما وإن أوجد النقوش ، وكذلك من علم أنّه ليس له قصد إلى تلك الألفاظ والحروف لا يسمّى متكلّما ، ونسبة القول إلى من كتب شيئا من الكلام بسبب اعتقاد أنّه دالّ على كلامه النفسي حتّى لو علم أنّه ليس له الكلام النفسي لم يسمّ متكلّما أصلا ، كما لو فرضنا أنّه صدر هذه النقوش عن غير الانسان ؛

وأمّا ثانيا : فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام له ـ تعالى ـ ، وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات ـ كالعلم والقدرة والإرادة ـ ، والقول بما قاله المعتزلة يؤدّي إلى أن لا يكون الكلام صفة اخرى بل راجعة إلى القدرة على خلق الكلمات في محالّها ، والتجاوز عن الظاهر من غير ضرورة مستنكر!. على أنّه لا يمكن الدلالة على نفي الكلام النفسي ، ولو نفوه لزم القدح في كونه متكلّما بالمعنى العرفي. وبعد ثبوت الكلام النفسي يتمّ ما ذكرناه من تحقيق مذهب الأشعري من غير خلل ؛ انتهى.

قال بعض المشاهير : وأنت إذا تأمّلت فيهما علمت انّهما راجعان إلى مذهب من قال : « إنّ كلامه ـ تعالى ـ القديم هو العلم الإجمالي بالكلام مع ضميمة التوجّه إلى المخاطب المقدّر ـ كما مرّ الاشارة إليه ـ » ؛ وأنت قد عرفت أنّ كلام صاحب المواقف ليس راجعا إلى العلم الإجمالي.

وامّا كلام هذا المحقّق فظاهره أنّ صفة التكلّم له ـ تعالى ـ عبارة عن قوّة الالقاء والقدرة على تأليف الكلمات ، وهذا هو التكلّم الحقيقي وهو حقّ نقول به ـ كما مرّ

الاشارة إليه ـ. وكلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات المؤلّفة الموجودة في علمه القديم من حيث كونها خطابا إلى مخاطب مقدّر ، وهذا هو الكلام النفسي عنده. ومعلوم انّ هذا راجع إلى العلم ، لأنّ الكلمات الموجودة في علمه القديم هو العلم بالكلمات ، وقد تقدّم أنّ بعضهم وجّه الكلام النفسي بمثل ذلك ، وأشرنا إلى أنّه راجع إلى العلم وهو خلاف ما يفهم من كلمات الأشاعرة ، لأنّه يرفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ الخلاف بينهم مشهور والردّ والجرح فيما بينهم في كتبهم مسطور.

ثمّ إنّه اعترض على الكلام المنقول من المحقّق الدواني بوجوه :

منها : انّ قوله : « إنّ صفة التكلّم فينا عبارة عن قوّة تأليف الكلام ـ ... إلى آخره ـ » يستلزم أن يكون صفة التكلّم راجعا إلى صفة القدرة ، لأنّ قوة التأليف هي القدرة عليه بمعنى أنّه قسم خاصّ من القدرة لا أنّه عين القدرة المطلقة حتّى يتوجّه عليه أنّه ليس عين القدرة المطلقة ، لانّها قد تحقّق بدون الكلام ؛ ولا نزاع للمعتزلة في ثبوت صفة التكلّم بهذا المعنى. على انّا بحثنا في الكلام اللفظي لا في التكلّم ولا في الكلمات المترتّبة في الخيال ، لأنّ وجودها في الخيال وجود علمي ، فيكون راجعا إلى العلم. والقول بأنّ الأشياء تحصل بأنفسها في الذهن لا بأشباحها لا ينفع في هذا المقام ، لأنّ اللازم من حصول الأشياء بأنفسها في الذهن هو حصول حقيقة الأشياء وماهياتها لا اشخاصها ، لأنّ الشخص الذهني غير الشخص الخارجي ـ على ما تقرّر في موضعه ـ ؛ فالّذي حصل في الذهني حقيقة الكلام اللفظي لا فرد الكلام اللفظي. وبالجملة لا نسلّم أنّ الألفاظ المترتّبة في الخيال هي فرد من الكلام اللفظى. ولهذا لو كان شخص رتّب في خياله الفاظا دالّة على المعاني بالوضع ولم يتلفّظ بها في الخارج صحّ أن يقال : إنّه لم يتكلّم ولم يأت بكلام.

ومنها : إنّ قوله : « صفة الكلام القائمة بذاته ـ تعالى ـ صفة هي مصدر تأليف الكلمات » محصّله يرجع إلى قدرة تأليف الكلمات ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، فلا يكون كلامه ـ تعالى ـ صفة اخرى غير العلم والقدرة وسائر الصفات ـ على ما هو مذهب الأشاعرة ـ ، فلا يصلح هذا أن يكون وجها لكلامهم.

ومنها : إنّ قوله : « وكلامه ـ تعالى ـ هي الكلمات الّتي هي مؤلفة له ـ تعالى ـ بذاته في علمه القديم بغير واسطة » إن أراد انّ تلك الكلمات لها وجود علمي في ذاته ـ تعالى سواء كان العلم عين الذات أم لا ـ ، فهو حقّ لا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ جميع الأشياء ـ سواء كانت الفاظا أو غير الفاظ ـ معلومة له ـ تعالى ـ في الأزل ، لكن الألفاظ والكلمات المترتّبة باعتبار وجودها العلمي ليست فردا من الكلام اللفظي ، ولهذا لو تخيّل واحد منّا كلمات مرتّبة مدّة مديدة ولم يتلفّظ بها في الخارج يصحّ أن يقال في حقّه : أنّه لم يتكلّم في تلك المدّة.

وإن أراد أنّ تلك الكلمات المرتّبة تصدر عنه في الخارج بسبب علمه القديم والقدرة القديمة ، فهو أيضا حقّ لا نزاع للمعتزلة فيه.

وأيضا الكلام هو ما يكون من جنس الحروف والاصوات ، فالّذي في علمه القديم إن كان من جنسهما يلزم قدم غيره ـ سبحانه ـ ، وهو باطل ؛ ومع ذلك يلزم جواز اشتراك الواجب والممكن في صفة من الصفات باعتبار الجنس أو النوع ، وهي الكلام ـ لأنّ كلام الممكن أيضا من جنس الأصوات والحروف ـ.

وإن لم يكن ما في علمه القديم من جنس الأصوات والحروف ومع ذلك كان فردا من الكلام اللفظي لزم جواز أن يكون لطبيعة واحدة فردان : أحدهما فيه تعاقب وتدريج ـ كالكلام اللفظى الموجود في الخارج ـ ، والآخر ليس فيه تدريج وتعاقب ـ كالكلام اللفظي الّذي في علمه القديم ، على ما هو الفرض ـ.

فاذا جاز ذلك فنقول : فليتّجه أن يكون لطبيعة الحركة فردان : أحدهما أن لا يكون أجزائها مجتمعة ، والآخر أن يكون أجزائها مجتمعة ، وهو بديهي البطلان ـ على ما ذكره هذا المحقّق في شرح العقائد ـ. ويظهر أنّ الكلام اللفظي إذا حصل في الذهن لا يكون فردا من الكلام اللفظي، بل يكون فردا من العلم.

فان قلت : مذهب التحقيق إنّ علم الواجب ـ سبحانه ـ بالأشياء حضوري ، ومن جملة الأشياء الكلمات المركّبة من الأصوات والحروف ، فتكون جميع الكلمات حاضرة بأنفسها عند الواجب ـ سبحانه ـ ، وهذه الكلمات الحاضرة بأنفسها عند الواجب يجوز

أن تكون هي الكلام النفسي ؛ وبذلك يتّضح الكلام النفسي الّذي قال به الأشعري ؛

قلت : الكلمات المعلومة للواجب بالعلم الحضوري الحاضرة بأنفسها عنده لها اعتباران :

أحدهما : من حيث أنّه موجودات خارجية ، ولا ريب في أنّها من هذه الحيثية أمور مترتّبة متعاقبة الاجزاء ، فتكون حادثة ولا يمكن أن تكون صفة لذات الحقّ ؛

وثانيهما : من حيث أنّها منكشفة للواجب ، وانكشافها ليس سوى العلم ، فلا يتحقّق شيء زائد على العلم يكون هو الكلام النفسي.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الكلام الأزلي خطاب متوجّه إلى مخاطب مقدّر » ، فيه : إنّ الّذي هو ازلي ليس إلاّ العلم والقدرة ، لا الكلام حتّى يصحّ أن يكون خطابا متوجّها إلى مخاطب مقدّر ، لأنّ الخطاب فرع الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « وامتيازه عن العلم ظاهر ـ ... إلى آخره ـ » لا يفيد مطلوبه ، لأنّ غاية ما يلزم منه إنّ كلامه ـ تعالى ـ ليس عين طبيعة علمه ، لأنّ علمه يتحقّق في موضع ولا يتحقّق كلامه فيه ، ولا نزاع للمعتزلة في ذلك ، لأنّ ما ذكرناه ـ من أنّ الكلام النفسي على ما وجّهه راجع إلى العلم ـ لم نرد منه إنّه عين العلم المطلق ، بل مرادنا منه أنّه فرد منه ، فيكون الكلام النفسي قسما من العلم وأخصّ منه ، فتحقّق العلم في موضع بدون تحقّق الكلام النفسي فيه لا يدلّ على أنّه ليس فردا منه.

وأيضا يتوجّه عليه نقض أورده بعض الأفاضل ، وهو : أنّه لو تمّ ما ذكره يصحّ أن يقال : إنّ علمنا قد يتعلّق بغير أحوالنا وهو معلوم لنا وليس أحوالنا ، فلا يكون علمنا بأحوالنا من باب علمنا ، وهو كما ترى!.

وأيضا : علمنا المتعلّق ببناء في قصدنا أن نبنيه غير علمنا ببناء زيد مثلا ، فلا يكون الأوّل منهما علما بالبناء بل صفة أخرى ، إذ لنا أن نبني بهذا العلم هذا البناء وليس لنا أن نبنيه بالعلم بالآخر ؛ فلا يكون مبدأ أحدهما هو مبدأ الآخر.

فالحقّ أنّ هاهنا علمين : أحدهما : علمنا بكلامنا ؛ وثانيهما : علمنا بكلام غيرنا. والأوّل منهما علم فعلي يمكن أن يوجد به كلامنا في الخارج وليس الثاني منهما كذلك ، و

لا يلزم منه أن يكون الأوّل منهما أصواتا مركّبة ليكون هناك كلام. ولذا صحّ أن يقال : انّي قصدت أن اذكر كلاما ولم اذكره ؛ كيف ولو كان ما رتّبناه في علمنا كلاما لكفر أحد منّا اذا تخيّل في ذهنه كفرا!.

ومنها : إنّ قوله : « وهذا الّذي ذكرناه ليس ما ذهب إليه الحكماء » ، فيه : إنّ من ادّعى من الحكماء أنّ كلامه ـ تعالى ـ راجع إلى علمه مراده : أنّ كلامه فرد من العلم وقسم خاصّ منه ، وقد عرفت أنّ ما جعله هذا المحقّق كلاما نفسيا ـ أعني : الالفاظ الموجودة في العلم القديم ـ ليس إلاّ قسما خاصّا من العلم وفردا منه ، فما ذكره عين ما ذكره الحكماء.

ومنها : إنّ قوله : « ولمّا كان علمه ـ تعالى ـ واحدا محيطا ـ ... إلى آخره ـ » ، يرد عليه : أنّه لا يلزم من شمول العلم لجميع المعلومات شمول كلامه لجميع اقسام الكلام من اللغات المختلفة والاخبارات والإنشاءات ، وكيف يتصوّر أن يكون كلام واحد عربيا وعبريا وسريانيا وفارسيا وتركيا!. وبالجملة لا يتصوّر أن يكون ما هو كلام لذات واحدة بدون ارجاعه إلى العلم كلاما واحدا شاملا لجميع أقسام الكلام. نعم! طبيعة الكلام من حيث هي شاملة لجميع اقسام الكلام ومنقسمة إليها ، وليست طبيعة الكلام قائمة بالهواء ، بل ما هو الكلام حقيقة هو القائم بالهواء وهو فرد لطبيعة الكلام.

ومنها : إنّ قوله : « فلأنّ النصوص السمعية دالّة على اثبات صفة الكلام وظواهر تلك النصوص انّها صفة مغايرة لسائر الصفات » ، يرد عليه : أنّه إن أريد أنّ ظواهر النصوص دالّة على انّها مغايرة بالذات فهو ممنوع ؛ وإن أريد : انّها دالّة على المغايرة في الجملة فهو ممنوع ، والمغايرة في الجملة حاصلة فيما نحن فيه. والحاصل : إنّه ورد في الشرع أنّ صفات الواجب بعضها مغاير للبعض بالذات ـ كالعلم والقدرة ـ ، وبعضها ليس كذلك ـ كالمعطي والرازق ، فانّ الرازق أخصّ من المعطي ، ومثل ذلك كثير ـ ، فلم لا يجوز أن يكون الخالق والمتكلّم مثل المعطي والرازق بأن يكون الخالق أعمّ من المتكلّم؟ ـ لأنّ المتكلّم هو الخالق الخاصّ ـ. وفائدة ورود المتكلّم بعد ورود الخالق ـ على ما ذكره المحقّق الطوسي في شرح الرسالة ـ هي أنّه لو لا ورود الشرع بكونه ـ تعالى ـ

متكلّما لتوهّم العوامّ أنّ القرآن ليس كلام الله ـ تعالى ـ بأن يكون معنى القرآن من الله ـ تعالى ـ ولفظه من الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، لأنّه يجوز أن يكون معنى كونه ـ تعالى ـ خالق كلّ شيء أنّه خالق كلّ شيء اعمّ من أن يكون بواسطة أو بغيرها ، فيتوهّم أنّ خلق الكلام بواسطة النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ ؛ فورد الشرع بانّ الله خالق الكلام اللفظي كالنبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ وغيره من افراد الانسان. غاية ما في الباب أنّ غيره ـ تعالى ـ محتاج إلى الآلة المخصوصة بخلافه ـ سبحانه ـ ، كما ان الله ـ تعالى ـ سميع وبصير من دون الاحتياج إلى الآلة المخصوصة.

ومنها : إنّ قوله : « ولو بقوّة لزم القدح في كونه متكلّما » ، يرد عليه : أنّ هذا انّما يرد لو نفوا كونه ـ تعالى ـ موجدا للأصوات والحروف الدالّة على المعنى بالوضع ، وهم لا ينفون ذلك ، بل يبالغون في اثباته! ، وانّما ينفون الكلام النفسي الّذي اثبته الأشاعرة لقيام البرهان على بطلانه ؛ ولا يلزم من هذا النفي القدح في اثبات ما هو الكلام حقيقة ، بل هو نصرة في اثباته ؛ هذا.

وقال العلاّمة النيشابوري في تفسيره : إنّه لا برهان على أنّ كلّ صوت يقوم بجسم ولا على أنّ كلّ حرف فانّما يقدر عليه ذو جارحة ، بل لعلّ ذلك في الشاهد فقط. فالكمال القديم كمال قديم ناطق وسميع وبصير ولا آلة ولا جارحة ، كما أنّه ادراك وعلم من غير قوى وعضو. ومن لم يدركه كما ينبغي فلا يلومنّ إلاّ نفسه ، فانّ كلامه كتابه وكتابه صواب وقوله فصل وحكمه عدل؛ انتهى.

وأنت خبير بانّ هذا الكلام انّما يصحّ على قول من قال : أنّ اللفظ موضوع للمعنى المشترك بين الوجود الذهني والوجود العيني ، فانّه على هذا القول يصحّ أن لا يكون الحروف قائمة بالجسم. وأيضا قوله : « فالكلام القديم إلى آخره ـ » إنّه يصحّ لو حمل الكلام على المعنى المصدري ـ أي : كون الذات بحيث تحصل منه القاء الكلام بمعنى ما به التكلّم إلى المخاطب ـ ، أو حمل على ما يتكلّم به ؛ وحكمه عليه بالقدم باعتبار اندراجه في العلم القديم.

قال بعض المشاهير : وليعلم أنّ مرجع تحقيق صاحب المواقف والمحقّق الدوانى و

العلاّمة النيشابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن ـ الّذي هو عبارة عن كتابته على اللوح المحفوظ ـ راجع إلى العلم وإنّ علمه ـ تعالى ـ بالأشياء على الوجه الّذي عليه في الوجود بمنزلة نقش الأشياء وكتابته على لوح الوجود ، واحد ؛ وجميع هذه التحقيقات الأربعة بناها على أنّ المراد من الكلام النفسي هو العلم. وتنقيحها يحتاج إلى مقدّر ، وهي : أنّ الاتصاف بالتكلّم هل يمكن بدون الكلام بمعنى ما به التكلّم أم لا؟ ـ كما حكم به المحقّق الطوسي حيث قال في شرح رسالة العلم في بيان المسألة الثامنة عشر : « وهي إنّه تعالى يصحّ وصفه بأنّه متكلّم أزلا أم لا؟ ، والقائلون بقدم الكلام يحكمون بصحّة وقوعه والقائلون بحدوثه يحكمون بامتناعه » (7) ـ ؛ انتهى كلام المحقّق.

فنقول : إن أرادوا بالتكلّم ما ينافي السكوت والآفة ، أي : القاء الكلام إلى المخاطب بالفعل لم يوجد بدون الكلام والمخاطب فيكون الشيء ذا كلام تعلّق به قدرة القائه القائمة بذلك الشيء أي كان المراد بكون الشيء متكلّما ثبوت الكلام الّذي تعلّق به قدرة الالقاء له وإن لم يوجد المخاطب كان التكلّم واتصافه ـ تعالى ـ بالكلام حينئذ نافعا لثبوت الكلام له ـ تعالى ـ ، فانّ تحقّق الكلام له في الأزل مع قطع النظر عن المخاطب بان يثبت له الكلام القديم بأحد المعاني المذكورة لتوجيه كلام الأشعري كان اتصافه ـ تعالى ـ في الأزل ، وثبت له التكلّم في الأزل ، وإن كان كلامه حادثا ولم يثبت له الكلام القديم كان الاتصاف به حادثا ؛ وإن أرادوا به قدرة القائه الكلام إلى المخاطب على تقدير وجوده مع إرادة الالقاء لم يكن اتصافه ـ تعالى ـ به في الأزل مستلزما لتحقّق الكلام ، كما أنّ إرادة ايجاد الكلام في الأزل لا يستلزم وجود الكلام فيه ، لجواز أن يكون الوجود الأزلي ممتنعا على غيره ـ تعالى ـ. والحقّ أنّ التكلّم الكمالي هو المعنى الأخير وهو مستلزم للعلم بالكلام ، فيتحقّق كلام الأشعري أنّ الكلام القديم الّذي هو ضروري في اتصافه ـ تعالى ـ بالتكلم في الأزل انّما هو العلم بالكلام اللفظي بناء على أنّه حقيقة عند اطلاق الكلام ، بمعنى أنّ المتبادر من الكلام انّما هو الكلام اللفظى ، واطلاق الكلام على غيره مجاز ، والعلم بمعنى الكلام اللفظى بناء على أنّ الكلام حقيقة في معنى الكلام اللفظي أو العلم بما هو أعمّ منهما بناء على أنّه حقيقة فيما يعمّ اللفظ والمعنى ـ على ما مرّ ـ. ويجب أن يحمل على العلم الإجمالي ليصحّ وصفه بالقدم والوحدة ـ كما هو مذهب الأشعري ـ. وبالجملة صحّة التحقيقات الأربعة المذكورة في تصحيح مذهب الأشعري ـ أعني : تحقيق صاحب المواقف وتحقيق المحقّق الدواني والعلاّمة النيسابوري ومن قال إنّ تكلّمه بالقرآن عبارة عن كتابته ـ ... إلى آخره ـ » انما يكون باعتبار رجوعها إلى أنّ الكلام القديم هو العلم الإجمالي الّذي تحقّقه بمنزلة تحقّقه ـ كما لا يخفى ـ ، والمحقّق الطوسي لا ينكر ذلك التأويل ، بل كلامه ليس إلاّ في عدم الاحتياج إليه.

فان قيل : كيف يقول المحقّق لا احتياج إلى التأويل المذكور مع أنّ الاحتياج إليه حاصل لوجهين : أحدهما : كون التكلّم صفة كمالية ، وثانيهما : العبارات الواقعة في الشريعة ـ مثل قوله تعالى : {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]؛ ومثل قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]ـ فانّ تلك الآيتين تدلاّن على أنّ القرآن الّذي هو كلام الله ـ تعالى ـ انزل من العلم إلى العين ، فالمندرج في العلم الإجمالي القديم هو القرآن الّذي هو كلام الله القديم باعتبار هذا الاندراج. وهذا خلاصة التحقيقات الأربعة المذكورة ، فانّ الاختلاف فيها انّما هي في العبارة.

قلت : لا شيء من هذين الباعثين ـ أعني : كون التكلّم صفة كمالية والعبارات الواقعة في الشريعة ـ بوثيق عند المعتزلة والمحقّق الطوسي ؛

أمّا الأوّل : فلانّهم يمنعون كون التكلّم الّذي لا بدّ له ممّا به التكلّم صفة كمالية قديمة حتّى يحتاج إلى اثبات شيء أزلي يطلق عليه الكلام ، لأنّ مثل هذا التكلّم ـ أعني : التكلّم بالفعل ـ صفة اعتبارية لا صفة كمالية ، لانّها حادثة والحادث لا يصحّ أن يكون صفة كمالية له ـ تعالى ـ ، بل التكلّم الكمالي عندهم قدرة القاء الكلام على تقدير وجود المخاطب وإرادة القائه. ولا يخفى أنّه لا يستلزم وجود هذا المعنى في الأزل ثبوت شيء هو ما به التكلّم في الأزل ، لأنّه راجع إلى القدرة ؛

وامّا الثاني ـ أعني : العبارات الواقعة في الشريعة ـ فلأنّ المراد : أنّ القرآن المجيد صورته في اللوح المحفوظ وذلك لا يقتضي اطلاق اسم القرآن المجيد على الصورة المثبتة في اللوح المحفوظ ، بل على ذي الصورة. ويمكن أن يقال : اطلق اسم القرآن المجيد على ما في اللوح المحفوظ ـ أعني : علمه القديم ـ على سبيل التجوّز ، فانّ اطلاق اسماء الأشياء على تلك الأشياء إذا كانت موجودة في الاذهان شايع وإن لم يكن على سبيل الحقيقة. وقس على هذه الآية أمثالها ؛ انتهى ما ذكره بعض المشاهير بالتوضيح وذكر مقدّماته المطلوبة.

وحاصله ليس إلاّ ارجاع الكلام النفسي إلى العلم الإجمالي بالكلام اللفظي وتأويل التحقيقات الأربعة إليه. وأنت قد عرفت مرارا أنّ هذا تعسّف فاسد وتكلّف بارد! ، فانّ مراد الأشاعرة من الكلام النفسي ليس العلم الإجمالي ؛ كيف ولو كان مرادهم ذلك لارتفع النزاع بينهم وبين المعتزلة مع أنّ التنازع بينهم ممّا لا يمكن انكاره؟!.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ الواجب ـ سبحانه ـ عالم في الأزل بجميع الألفاظ والحروف والكلمات والعبارات الّتي توجد منه ـ سبحانه ـ ومن غيره لا بالعلم الإجمالي ـ لبطلانه عندنا ، كما عرفت ـ ، بل بالعلم التفصيلي الاشراقي ـ على ما مرّ مفصّلا ـ. إلاّ أنّ هذا العلم ليس صفة تكلّمه ـ تعالى ـ ، بل صفة تكلّمه الّتي هي من الصفات الازلية الكمالية هي قدرته على الالقاء عند إرادته صفة تكلّمه الّتي هي من صفاته الاضافية هي نفس الإلقاء الفعلي وكلامه هو الكلمات والألفاظ الصادرة عنه ـ سبحانه ـ بهاتين الصفتين. وبين تلك الكلمات والألفاظ ترتّب وتدريج ، بل هي قائمة بالهواء أو جسم آخر إن كان صدورها عنه في عالم الشهادة ، ويمكن عدم الترتّب والقيام بجسم إن كان صدورها عنه في عالم التجرّد أو المثال ؛ فتأمّل!.

__________________

(1) راجع : المسألة السادسة من الفصل الثاني من المقصد الثالث ؛ كشف المراد ، ص 224.

(2) البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج 4 ص 150.

(3) ما وجدت العبارة في البيضاوي. وانظر : نفس التفسير ، ص 356 ، ذيل هذه الكريمة.

(4) البيت لأخطل. راجع : شرح المقاصد ، ج 4 ص 150.

(5) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة السابعة عشرة ص 43.

(6) راجع : بحار الأنوار ، ج 82 ص 199.

(7) راجع : شرح رسالة مسئلة العلم ، المسألة الثامنة عشرة ص 44.

 




مقام الهي وليس مقاماً بشرياً، اي من صنع البشر، هي كالنبوة في هذه الحقيقة ولا تختلف عنها، الا ان هنالك فوارق دقيقة، وفق هذا المفهوم لا يحق للبشر ان ينتخبوا ويعينوا لهم اماماً للمقام الديني، وهذا المصطلح يعرف عند المسلمين وهم فيه على طوائف تختصر بطائفتين: طائفة عموم المسلمين التي تقول بالإمامة بانها فرع من فروع الديني والناس تختار الامام الذي يقودها، وطائفة تقول نقيض ذلك فترى الحق واضح وصريح من خلال ادلة الاسلام وهي تختلف اشد الاختلاف في مفهوم الامامة عن بقية الطوائف الاخرى، فالشيعة الامامية يعتقدون بان الامامة منصب الهي مستدلين بقوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وبهذا الدليل تثبت ان الامامة مقام الهي وليس من شأن البشر تحديدها، وفي السنة الشريفة احاديث متواترة ومستفيضة في هذا الشأن، فقد روى المسلمون جميعاً احاديث تؤكد على حصر الامامة بأشخاص محددين ، وقد عين النبي الاكرم(صلى الله عليه واله) خليفته قد قبل فاخرج احمد في مسنده عن البراء بن عازب قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلى الظهر وأخذ بيد علي رضى الله تعالى عنه فقال ألستم تعلمون اني أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى أولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى قال فأخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة


مصطلح اسلامي مفاده ان الله تعالى لا يظلم أحداً، فهو من كتب على نفسه ذلك وليس استحقاق البشر ان يعاملهم كذلك، ولم تختلف الفرق الدينية بهذه النظرة الاولية وهذا المعنى فهو صريح القران والآيات الكريمة، ( فلا يظن بمسلم ان ينسب لله عز وجل ظلم العباد، ولو وسوست له نفسه بذلك لأمرين:
1ـ تأكيد الكتاب المجيد والسنة الشريفة على تنزيه الله سبحانه عن الظلم في آيات كثيرة واحاديث مستفيضة.
2ـ ما ارتكز في العقول وجبلت عليه النفوس من كمال الله عز وجل المطلق وحكمته واستغنائه عن الظلم وكونه منزهاً عنه وعن كل رذيلة).
وانما وقع الخلاف بين المسلمين بمسألتين خطرتين، يصل النقاش حولها الى الوقوع في مسألة العدل الالهي ، حتى تكون من اعقد المسائل الاسلامية، والنقاش حول هذين المسألتين أمر مشكل وعويص، الاولى مسالة التحسين والتقبيح العقليين والثانية الجبر والاختيار، والتي من خلالهما يقع القائل بهما بنحو الالتزام بنفي العدالة الالهية، وقد صرح الكتاب المجيد بان الله تعالى لا يظلم الانسان ابداً، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا * فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا).

مصطلح عقائدي، تجده واضحاً في المؤلفات الكلامية التي تختص بدراسة العقائد الاسلامية، ويعني الاعتقاد باليوم الاخر المسمى بيوم الحساب ويوم القيامة، كما نص بذلك القران الحكيم، وتفصيلاً هو الاعتقاد بان هنالك حياة أخرى يعيشها الانسان هي امتداد لحياة الانسان المطلقة، وليست اياماً خاصة يموت الانسان وينتهي كل شيء، وتعدّت الآيات في ذكر المعاد ويوم القيامة الالف اية، ما يعني ان هذه العقيدة في غاية الاهمية لما لها الاثر الواضح في حياة الانسان، وجاء ذكر المعاد بعناوين مختلفة كلها تشير بوضوح الى حقيقته منها: قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) ،وهنالك آيات كثيرة اعطت ليوم القيامة اسماء أخرى كيوم القيامة ويوم البعث ويوم النشور ويوم الحساب ، وكل هذه الاشياء جزء من الاعتقاد وليس كل الاعتقاد فالمعاد اسم يشمل كل هذه الاسماء وكذلك الجنة والنار ايضاً، فالإيمان بالآخرة ضرورة لا يُترك الاعتقاد بها مجملاً، فهي الحقيقة التي تبعث في النفوس الخوف من الله تعالى، والتي تعتبر عاملاً مهماً من عوامل التربية الاصلاحية التي تقوي الجانب السلوكي والانضباطي لدى الانسان المؤمن.