ميدان الجغرافية السياسية

المعروف أن الجغرافية هى علم الأرض والإنسان وعلاقتهما ببعضهما البعض من حيث تأثير وتأثر كل منهما بالآخر، وعلى هذا الأساس يدور البحث والدراسة فى هذا العلم، فالجغرافيا تهتم بدراسة الأرض ليس لذاتها وإنما لكونها وطنا للإنسان، ولذلك تسير الجغرافية فى اتجاهين: أحدهما طبيعي، والآخر بشرى، أى الجغرافية الطبيعية والجغرافية البشرية.

وتمثل الجغرافية العلم الأصيل الذى يبحث فى وصف وربط وتعليل الظواهر الطبيعية لسطح الأرض من جهة، ودراسة العلاقات والتفاعلات بينها وبين الظواهر البشرية وحياة الإنسان من جهة أخرى، وهى تعد من العلوم القلائل التى تجمع بين الميدانين الطبيعي والبشرى، إذ لا يمكن اعتبارها علما طبيعيا قائما بذاته أو علما إنسانيا بحتا، ولكنها تنتمى إلى مجموعتي العلوم الطبيعية والبشرية، ولذلك تنقسم إلى قسمين أصوليين هما : الجغرافية الطبيعية والجغرافية البشرية.

والجغرافيون عندما يهتمون بدراسة الأرض بشكل عام وما يرتبط بها من علوم طبيعية فإنما يدرسونها من حيث كونها عوامل تؤثر فى البيئة التى يسكنها ا لإنسان الذى تضمه هذه البيئة الذى خلق من ترابها كما يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ )﴿٢٠﴾ [الروم] . وكما تقول ألن سامبل إن الإنسان هو نتاج سطح الأرض، وهو جزء من ترابها، والإنسان هو الذى سعى فى الأرض وعاش على مواردها، وهى التى حددت واجباته ووجهت أفكاره، كما واجهته بالصعاب ووضعت أمامه العقبات، ولكن بفضل ما وهبه الله من عقل أمكنه التفكير والبحث عن وسائل لاستثمار هبات الخالق والاستفادة منها، كما سعى للبحث عن حلول لما يواجهه من مشكلات وما يقف أمامه من عقبات بفضل ما وهبه الله من عقل وما وصل إليه من تقدم علمى وتكنولوجي. ودراسة الإنسان فى إطار هذه البيئة وتفاعله معها تدخل فى إطار الجغرافية البشرية human geography التى تتناول النشاط البشرى فى البيئة بكل صوره.

فكل إنسان فى المجتمع له دوره الذى يؤديه باعتباره عضو فى هذا المجتمع، ويخضع للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذى يسود فيه, ومما يميز الجغرافية السياسية Geography  Political عن الجغرافية البشرية هو أن الجغرافية البشرية تهتم بدراسة العلاقة بين البيئة الطبيعية وبين المجتمع دون تقيد بالنمط السياسي القائم فى هذا المجتمع، بينما تهتم الجغرافية السياسية بالدرجة الأولى بدراسة المجتمع فى ضوء واقعه السياسي داخل الوحدة السياسية التى هى نتاج البشر. كما تختلف نظرة الجغرافية السياسية عن الجغرافية البشرية من ناحية النظرة إلى الوحدة الإقليمية، فالوحدة الإقليمية للجغرافية البشرية تتمثل فى الإقليم الجغرافي أو البيئة الطبيعية التى تعد وحدة لها شخصيتها المترتبة على تكامل عناصرها الطبيعية والبشرية. وهذا التكامل يجعل للإقليم الجغرافي كيانا متميزا رغم صعوبة تعيين حدود واضحة له، بينما الوحدة الإقليمية للجغرافية السياسية تتمثل فى الوحدة السياسية أو الإقليم السياسي بوجه عام، والدولة بوجه خاص.

فالإقليم السياسي عبارة عن وحدة إقليمية مصطنعة جاءت نتيجة للجهود التى يقوم بها السكان فى سبيل إقامة وحدة سياسية ذات شخصية متميزة عن الإقليم الجغرافي، فقد يضم الإقليم الجغرافي عددا من الوحدات السياسية أو الأقاليم السياسية، كما أن الإقليم السياسي غير مستقر، فقد يتغير من وقت لآخر تبعا للظروف السياسية لأنه من صنع الإنسان، بينما الإقليم الجغرافي يتميز بالثبات والاستقرار وبأنه يشغل مساحة كبيرة من سطح الأرض كالإقليم الاستوائي، أو الموسمي، أو إقليم البحر المتوسط. ويتميز بأنه غير محدد تحديدا دقيقا، بينما الإقليم السياسي له حدوده الواضحة تمام الوضوح.

والوحدة السياسية التى يلعب الإنسان فيها دوره السياسي لها أبعاد عديدة: فهي تعد امتدادا أفقيا إذا نظرنا إليها من ناحية الشكل أو الحجم أو الموقع أو الموارد الطبيعية(١)، كما تعد امتدادا رأسيا إذا نظرنا إليها من ناحية التفاعل الذى يقوم بينها وبين الإنسان الذى يعيش فيها، أو بينها وبين الأهداف التى يسعى إلى تحقيقها، والقوانين التى يسنها، والأنشطة الاقتصادية أو الثقافية التى يمارسها. وهناك بعد ثالث وهو الزمن الذى يحدد التفاعل بين الامتداد الأفقي والامتداد الرأسي فى فترة معينة.

وتهتم الجغرافية السياسية بدراسة النظم السياسية political systems ، وأى نظام سياسي يعتمد على العملية السياسية التى عن طريقها يعمل ويمارس فعالياته، كما يعتمد على منطقة جغرافية يعمل داخل حدودها ونطاقها، فلا يمكن أن يكون هناك نظام سياسي فى فراغ(2)، فالجغرافية السياسية تهتم بدراسة التفاعل بين الإقليم الجغرافي والعملية السياسية التى تعنى تتابع الأحداث السياسية أو الإجراءات التى يتخذها الإنسان لخلق النظام السياسي أو المحافظة عليه ومدى علاقتها المكانية مع تفسير ذلك.

ولا تقتصر دراسة الجغرافية السياسية على الوحدات السياسية فقط، وإنما يمكن أن تتعداها لدراسة وحدة إدارية على درجة عالية من الاستقلال الذاتي داخل هذه الدولة لها انعكاسها على سياستها مثل ولاية كويبك فى كندا، ومثل ولايات البرازيل، وكنتونات سويسرا، أو على درجة أقل من الحكم المحلى أو الاستقلال الذاتي كما فى الولايات المتحدة الأمريكية، وكميونات فرنسا.

كما تهتم الجغرافية السياسية بدراسة المنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة ، أو منظمة حلف شمال الأطلنطي ، أو منظمة جنوب شرق آسيا ، أو السوق الأوربية المشتركة، أو منظمة التجارة الحرة، أو منظمة الكومنولث البريطاني، أو منظمة الوحدة الأفريقية, وهذه المنظمات وغيرها تهدف إلى الوصول بأعضائها إلى أهداف معينة من خلال معاهدات أو اتفاقيات يكون لها أثرها على الوحدة السياسية. كما تهتم الجغرافية السياسية بدراسة مبدأ توازن القوى من خلال التكتلات الدولية وتأمين المصالح الاقتصادية للدول الكبرى.

كما تتناول الجغرافية السياسية دراسة بعض الظاهرات السياسية على سطح الأرض كالحدود السياسية وأبعاد الاستعمار على هذه الوحدات، ودراسة العواصم والأنهار الدولية والممرات والقنوات الدولية, وتهتم الجغرافية السياسية بدراسة السكان كمشكلة سياسية من خلال تباينهم اللغوي أو الديني وأصولهم العرقية، ودراسة مفهوم الدولة والشعب والأمة، ومقومات الدولة بصورها المختلفة (الطبيعية والبشرية والاقتصادية) ومدى استغلالها لمواردها، أو مدى اعتمادها على موارد خارجية باعتبار ذلك مؤثرا فى كيان الدولة.

كما يدخل فى مجال الجغرافية السياسية دراسة مدى التماسك بين السكان فى إطار الوحدة السياسية بالإضافة إلى العلاقات الخارجية بينها وبين الدول الأخرى، فلا تستطيع أى دولة مهما كانت قدراتها أن تعيش بمعزل عن الدول الأخرى، ولذلك فإن الجغرافية السياسية تهتم بدراسة الدولة فى إطار علاقاتها بالمجتمع الدولي، وتحليل هذه العلاقات الدولية ودورها فى تطوير وتقوية الوحدات السياسية المختلفة، بل وفى كينونتها أحيانا، مثل دولة إسرائيل التى نشأت أساسا اعتمادا على علاقاتها الدولية وليس على أسس جغرافية طبيعية كتلك التى نشأت على أساسها الوحدات السياسية التى تكونت بشكل طبيعي.

______________

 (١) محمد متولى ومحمد أبو العلا، الجغرافية السياسية، المكتبة الجغرافية رقم ٣، القاهرة ١٩٧٧ ص ١.

 (2) محمد إبراهيم الديب، الجغرافية السياسية، القاهرة ١٩٨٤، ص١٣.