مكانة السلعة العامة في اقتصاد السوق (خصخصة التعليم العالي في التجربة الأردنية) 1 |
1920
12:18 صباحاً
التاريخ: 5-7-2021
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-05-01
1518
التاريخ: 1-8-2021
2140
التاريخ: 2023-05-18
1527
التاريخ: 31-10-2016
1643
|
خامساً : مكانة السلعة العامة في اقتصاد السوق
(خصخصة التعليم العالي في التجربة الأردنية) (6)
مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ترسَخ التَنكُر لدور الحكومة في الاقتصاد والتنمية، وراجت فلسفة الخصخصة، وفتح مجلس التعليم العالي الباب لإنشاء "جامعات خاصة" تملكها شركات ربحية. وعُدّ ذلك فتحاً عظيماً لمصلحة الأعداد الكبيرة من خريجي الشهادة التوجيهية الذين ما عادت تتسع لهم الجامعات الرسمية أو تستجيب لخياراتهم الدراسية. واعتمد الترويج لهذا «الفتح» على الالتباس اللغوي بین "الجامعة الخاصة" ، بمعنى "الأهلية" ، غير الحكومية، و "الجامعة الخاصة" ، بمعنی شركة خدمات ربحية، وبدعوى أن أفضل الجامعات في العالم هي جامعات خاصة، والحال أن الجامعات المتميزة في العالم ليس بينها جامعة تدرّ رہحاً لمستثمر. فكل "ربح" تحققه هذه الجامعات من دخلها من الرسوم الدراسية وعوائد الوقفيات المتبرّع بها ، بما يفيض عن التكاليف الجارية لإدارتها، يُعاد استثماره فيها لإنتاج خدمات تربوية أفضل جودة.
لا خلاف على أن الرؤية الطموحة لمشهد التعليم العالي في الأردن ، كما في أي بلد عربي، هو منظومة من الجامعات تضاهي أرقى الجامعات في العالم الآن، والمتمثلة في جامعات کامبردج وأكسفورد ولندن في بريطانيا، والسوربون في فرنسا، وجامعات عصبة العراقة (Ivy League) في الولايات المتحدة (ستانفورد وكورنيل وهارفارد ... إلخ) إلى جانب منظومة من المعاهد والمدارس شديدة التخصص المتصلة أو المنفصلة عن جامعات أم، مثل مدرسة هارفرد لإدارة الأعمال Harvard Business School، ومدرسة لندن للاقتصاد (London School of Economics)، ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا (Massachusetts Institute of Technology) ... إلخ.
إن بعض تلك الجامعات الراقية مؤسسات رسمية ترعاها الحكومات أو الولايات الفدرالية، لكن الجامعات الأكثر تميزاً هي الجامعات الأهلية التي يملكها، أو على الأصح يقوم عليها المجتمع الأهلي من خلال الوقفيات المالية والتبرعات التي يُستخدم معظمها في تمكين هذه الجامعات من تمويل البحث العلمي والتطوير الثقافي والمعرفي لبرامجها والارتقاء بمستوى خدماتها. وجدير بالذكر أن ما من جامعة من تلك الجامعات المتميزة تُمثّل "شركة" يملكها مستثمرون يحملون أسهمها وينتظرون أن تربح هذه الأسهم وأن تُحلق قيمتها في السوق المالية. والمؤسف أن فهم معظم الناس وإدراكهم هذا الموضوع وقع في الالتباس اللغوي بين "الجامعة الخاصة"، بمعنى أنها "غير حكومية" تقوم عليها هيئة خيرية تمتّ إلى المجتمع المدني وتأخذ على عاتقها دعمها بالوقفيات والتبرعات، و"جامعة خاصة" بمعنى المنشأة الاستثمارية التي "يملكها" مساهمون من القطاع الخاص لأغراض الربح، شأنها شأن أي مشروع استثماري مربح!
هنا يمكن إثارة عدد من التساؤلات :
- لماذا تكاد تقتصر قائمة الجامعات القائدة والممتازة في هذا العالم على الجامعات "الخاصة"، غير الحكومية لكن "غير الربحية" ؟
- لماذا يتخلف عن ذلك الامتياز الكثير من الجامعات الحكومية، وربما أغلبها لكن بالتأكيد ليس جميعها (إذ تضم قائمة الجامعات القائدة جامعات تملكها حكومات بعض الولايات الأميركية منها جامعات "كاليفورنيا – بیرکلي" و"فيرجينيا"، و"ميتشيغان"، و"ويسكونسن" و "إلينوي"، و"تكساس" ... وغيرها) ؟
- لماذا لا تضم قائمة الجامعات القائدة والممتازة أياً من الجامعات الربحية في القطاع الخاص ؟ ما الفرق بين نجاح المشروع الاستثماري الربحي في أي من مجالات الخدمات، أو فشله، ونجاح المشروع الربحي في مجال الخدمات الجامعية أو فشله؟
تعود الأجوبة عن هذه الأسئلة جوهرياً إلى موضوع دور عوامل السوق ، كالعرض والطلب وآلية السعر، في تحديد كفاءة إنتاج أي من السلع والخدمات. إن شرط خضوع كفاءة إنتاج سلعة أو خدمة ما لعوامل السوق هو أن تكون «سلعة خاصة»، أي أن يكون إنتاجها مطلوباً من أفراد أو جماعات في القطاع الخاص، قدرتهم الشرائية جاهزة لدفع ثمن حاجاتهم منها. وذلك في مقابل السلعة العامة التي يكون الطلب عليها مجتمعياً (لا فردياً) يعكس طلب المجتمع ككل عليها بأحجام ونوعيات لا يمكن حفز إنتاجها من خلال القدرة الشرائية لأي فرد أو مجموعة أفراد. ولذلك، لا يمكن الركون إلى عوامل السوق لتلبية تلك الحاجة الاجتماعية إليها بالأحجام والكميات المطلوبة من قبل هذه السلع العامة الأمن العام والدفاع والتنظيم الحضري ونظافة المدن وإسالة الماء والصرف الصحي، وغير ذلك من البنيات الأساسية ومعظم المرافق العامة، ومنها التعليم والتدريب والتعليم العالي.
إن السلعة التي تمثلها خدمات التعليم العالي هي سلعة عامة مطلوبة للمجتمع بأحجام ونوعيات لا يمكن لعوامل السوق أن تحفز الاستثمار الفردي على إنتاجها.
صحيح أن هناك جانباً من تلك السلعة العامة يتسم بصفات السلعة الخاصة فيتكوّن له طلب في السوق وثمن يُؤدى ! هذا الجانب هو "الشهادة" الجامعية التي توثّق قراءة الطالب كتباً معينة، واكتسابه معارف ومهارات معينة من خلال حضوره مجموعة من الحصص الدراسية. لهذه الشهادة قيمة سوقية كونها مطلوبة للحصول على فرصة عمل، بهذا المعنى، يستطيع مستثمر ما أن يؤسس "جامعة" يمكنها تقديم هذا المستوى من السلعة الخاصة في صورة شهادة تفيد بأن حاملها يملك كذا وكذا من المعارف والمهارات بدلیل اجتيازه كذا وكذا من الامتحانات التي تجريها الجامعة ذاتها (أي إنها هي الحكَم في تقويم جودة الخدمة التي تقدمها هي). لكن، ليس في تلك "الشهادة" ما يثبت أن حاملها الجامعي اكتسب المرونة والقدرات الفكرية والثقافية وحوافز الاطلاع ومهارات المنهجية العلمية في حل المشكلات، والنضوج في شخصية متوازنة واعية ملتزمة بمقتضيات المواطنة الصالحة. وهذه كلها خدمات لا تنتجها الحصة التدريسية بل "الحرم الجامعي"، أو "الكامباس" (Campus)، وينتجها أساتذة يعتبر كل منهم قدوة، ليس بالمناقب المسلكية الشخصية فحسب، وإنما في تعاملهم مع الفكر والحوار الفكري، وفي عاداتهم وتقاليدهم الخاصة بالبحث والإنتاج العلمي والفكري والثقافي.
إلى ذلك، لا تقتصر القيمة الاقتصادية للحرم الجامعي على ما يضيفه إلى النوعية الراقية التي يتميز بها خريجو هذا الحرم، بل تشمل أيضاً ما تضيفه الجامعة إلى محيطها الاجتماعي، سواءً في جوارها المباشر أم على مستوى الوطن كله، من غنى علمي و فکري وثقافي وفني ، ما لا سبيل معه إلى الاعتماد على قوى السوق في حفز الجامعة على توفيره.
ليس ثمة طريقة لتحويل المنافع أو العوائد التي ينتجها "الحرم الجامعي" و "القدوة العلمية" إلى سلعة خاصة ذات ثمن محدد يدفعه من يرغب فيها، ويوفره من لا يرغب فيها. ولأن سقف هذه العوائد عملياً غير محدود، فإن قدرة الحرم الجامعي على توفيرها تتلاءم طردياً مع حجم الموارد المالية التي تستثمر فيها من دون سقف محدود. لذلك، ومن دون موارد مالية من تبرعات او وقفیات، لا يمكن تصور حالة يمكن فيها تصمیم جامعة تطلب من طلابها رسوماً عالية بدرجة تغطي أكثر من كلفة ذلك الجانب من التعليم الجامعي الذي يمثل "السلعة الخاصة" أو الشهادة الجامعية ضمن الحد الأدنى من الجودة النوعية . وإذا أمكن فرض رسوم يفيض مردودها عن ذلك ، تقضي المصلحة أن يستثمر كل فلس منها في بناء طاقة "الحرم الجامعي" على إنتاج الجزء المتضمن السلعة العامة من أداء الجامعة، بناءً على ذلك ، من غير الممكن تصور جامعة تكفي الرسوم التي تتقاضاها لتغطية كلفة السلعة الخاصة المنتجة مع هامش فائض يحقق ربحاً مجزياً للمستثمرين. وإذا كان هذا وضع صعب قبوله في ذاته ، فالأصعب هو الإصرار على صواب هذه الممارسة ، لأن الإصرار على ذلك وإنشاء جامعات ربحية تعد المساهمين بعوائد مجزية على مساهماتهم يعني أن يصبح حافز الربح محفوراً في صميم الثقافة الإدارية والمالية للجامعة، ما يحفز على تخصيص كل فلس يمكن توفيره فوق كلفة الحد الأدنى من كلفة " السلعة الخاصة" الجامعية ليُضاف إلى أرباح المساهمين بدلاً من إعادة استثماره في إنتاج "السلعة العامة الجامعية" .
لهذا السبب، لجأت الحكومة في الأردن إلى استصدار قانون هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي، للحيلولة دون طغيان حوافز الربح على مستوى الجامعة الربحية، وضمان الحد الأدنى من مواصفات التعليم الجامعي المتصلة بكونه سلعة عامة. يستبدل هذا الإجراء الإدارة الحكومية بجوانب قصورها المعروفة للحصول على ذلك الضمان بدلاً من أن يكون الضمان في صلب هيكلية الجامعة غير الربحية ، حيث يُعاد استثمار أي فائض من دخلها سواء من رسوم الطلبة أم أي مصادر أخرى للارتقاء بالأداء الجامعي بجوانبه كلها.
إذاً، هناك أسباب جوهرية تجعل من غير الممكن أن تبلغ الجامعة الربحية الخاصة مستوى يتجاوز المستوى الذي يمكن أن تصل إليه مدرسة ثانوية ممتدة زمنياً لهذا الغرض .
رُبما يقال إن الجامعات الرسمية (الحكومية) لم يُجدِها كونها غير ربحية کي تبلغ المستوى الذي يتجاوز مواصفات التضخم الزمني للمدارس الثانوية، والسبب في ذلك إجبارها على التزام المستوى المتدني للرسوم الجامعية التي لا تكاد تكفي لتقديم الخدمة الدنيا من التدريس، فضلاً عن ترك فائض يمكن إعادة استثماره لتطوير الأداء الجامعي .
يثير ذلك قضية أساس، فالكلام عن اللاربحية وضرورة رفد الموارد المالية للجامعات بالمنح والتبرعات وعوائد الوقفيات يتعارض مع التخلف الظاهر في الوعي الاجتماعي، وغياب ثقافة الوهب الخيري، ما عدا الأوقاف المحدودة بالدوافع الدينية. وعلى خلفية محدودية الموازنة في المال العام، تنشأ محدودية الإنفاق الحكومي على التعليم العالي والبحث العلمي ومعونة الطلبة ضمن أولويات الموازنة الحكومية. وهذا ما أوجد الحوافز للمبادرات المُنشِئة للجامعات الخاصة الربحية بدعوى ضرورة الاعتماد على طاقات القطاع الخاص لرفد موارد القطاع العام في تمويل التعليم العالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) طاهر حمدي کنعان، "تمويل التعليم العالي في الأردن" في : تمويل التعليم العالي في البلاد العربية : أبحاث في السياسات، تقديم وتحرير احمد جلال وطاهر کنعان (بیروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، الفصل 3 .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|