أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-10-2014
1768
التاريخ: 27-04-2015
4204
التاريخ: 27-04-2015
1572
التاريخ: 4-1-2016
7647
|
النسخ التكويني
المؤلف : الشيخ عارف هنديجاني فرد .
الكتاب : علوم القرآن عند العلامة آية الله السّيّد محمد حسين الطّباطبائيّ (قده)
«دراسة مقارنة» ، ص 235 - 245 .
____________________________________
عرف الراغب الأصفهاني النسخ ، بأنه إزالة شيء بشيء يتعقّبه كنسخ الشمس الظل ، والظل الشمس ، والشيب الشباب ، فتارة يفهم منه الإزالة ، وطوراً يفهم منه الإثبات ، وتارة يفهم منه الأمران معاً ، ونسخ الكتاب إزالة الحكم بحكم يتعقّبه ، قال الله تعالى : ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة : 106] . قيل معناه ما نُزيل العمل بها أو نحذِفُها عن قلوب العباد ، وقيل معناه ما نوجبه وننزّله من قولهم نسخت الكتاب (1) .
لا شك في أن كلام «الراغب» يختصر ما ذهب إليه أهل اللغة في معنى النسخ ، فالجميع يرى بأن النسخ هو إزالة شيء بشيء يتعقّبه ، وما زاده الراغب ويحتاج إلى مزيد تدبر وعناية ، هو قوله ، «وتارة يفهم منه الأمران معاً» أي الإزالة والإثبات ، على اعتبار أن ما يذهب إليه أهل اللغة في التدليل على معنى النسخ ، على سبيل التوضيح هو قولهم : نسخت الشمس الظل ، وطالما أن عملية النسخ متبادلة ، كما بين الراغب ، كنسخ الشمس الظل والظل الشمس ، فهذا مما يُفيد الإثبات والإزالة معاً ، فكل من الشمس والظل ينسخ الآخر ويثبته ، وهذه عبارة تحتاج إلى تدبر على نحو ما أشرنا ، وهذا ما صرّح به الراغب بقوله : «ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر ، وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى ، بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أُخرى ، كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة» (2) .
وطالما أن الكلام هو في النسخ التكويني ، فقد المح الطباطبائي إلى أن النسخ يعم التكوينيات (3) ، باعتبار أنه لا شيء ثابت في عالم التكوين ، والكل في تحول من شيء إلى شيء ، كما قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف : 54] .
وقد سبق للشيخ المفيد (قده) (ت : 413هـ) ، أن عرض لمعنى النسخ في كتابه أوائل المقالات ، فقال : «أقول : في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله . . .» (4) . وهكذا ، ترى أن الفقهاء لا يفرقون بين النسخ والبداء ، سوى أن الأول خاص بالتشريعات اصطلاحاً والثاني بالتكوينيات ، فإن كل منهما في مفهومهما الأصلي ، وهو تبدل الرأي ، ممتنع بالقياس إلى علمه تعالى الأزلي المحيط ، بلا فرق (5) .
إن إشارة الطباطبائي إلى أن النسخ يعم التكوينيات ، تأتي في سياق رؤية موضوعية قرآنية في تفسيره ، وهو وإن لم يفرد لهذا الموضوع عنواناً خاصاً في بحوثه ، إلاّ أنه قدّم رؤيته المتميزة في تفسيره الميزان ، مبيناً أن النسخ في التكوين هو كالنسخ في التشريع تماماً ، على اعتبار أن كل شيء في العالمين التكويني والتشريعي إنما وضع لحكمة ومصلحة ، وقد بيّن الله تعالى أن ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد : 38] ، فهو الذي ينزل ما شاء ، ويأذن فيما شاء ، لكنه لا ينزل ولا يأذن في كل آية في كل وقت ، فإن لكل وقت كتاباً كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه . . . (6) .
لقد بحث الطباطبائي موضوع النسخ في تفسير قوله تعالى : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ، ولعل أحداً من الباحثين لم يلتفت إلى ما تميز به بحثه من عمق في أفق النسخ التكويني ، فنلاحظ أن الطباطبائي لم يبحث هذا الموضوع في سياق بحث البداء مثلاً ، وإنما أخرجه برؤية أخرى تجاوزت ما أجمع عليه الفقهاء وعلماء الكلام ، إلى القول بأن المحو قريب المعنى من النسخ ، إذ يقال : نسخت الشمس الظل ، أي ذهبت بأثره ورسمه ، وقد قوبل المحو في الآية بالإثبات ، والمحو هو إزالة الشيء بعد ثبوته برسمه . فالمسألة عند الطباطبائي لا تحتاج إلى تنظير كلامي ، أو فلسفي ، . . وإنما هي بحاجة إلى تدبّر في كتاب الله تعالى ، فإذا فهمنا معنى النسخ التشريعي بأنه ظهور شيء بعد خفائه على الناس ، وهو معلوم عند الله تعالى ، فإن النسخ مجاله عند الطباطبائي يعم كل شيء ، باعتبار الإطلاق في الآية التي جاءت بمثابة تعليل لقوله تعالى : ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ ، وإذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية ، وكل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية ويثبت آية ، كما يشير إليه قوله تعالى : ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة : 106] ، وقوله تعالى : ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ [النحل : 101] . وهنا تتجلى خلاصة موقف الطباطبائي التي تربط بين الآيات على نحو لم يسبق لأحد من المفسرين أن جاء بمثله ، حيث نجد أن الطباطبائي لم يتحدث عن النسخ بما هو نسخ خاص ، وإنما تحدث عنه بنحو مطلق ، لقوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ . وبما أن الآيات كلها ، سواء أكانت تشريعية أم تكوينية ، ترجع إلى أصلها ، كما بينا في مبحث الإنزال والتنزيل في تفسير قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الزخرف : 4] ، فلا يكون للنسخ معناه الخاص ، كما أنه لا ضرورة حينئذ للتمييز بين نسخ الأحكام فنسميه تشريعاً ، ونسخ التكوين فنسميه بداءً ، بل هو محو وإثبات له أصله الذي لا يتغير ولا يتبدل ، ولا تصعد إليه العقول ، ولا تطاله الأيادي ، فأمّ الكتاب في قوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ليس تعبيراً مجازياً ، كما يقول بعض الحسيين المتكلمين ، وإنما هو الأصل الذي ينشأ منه الشيء ويرجع إليه (7) ، وهذا هو شأن الكتاب الذي أنزله الله تعالى وألبسه لباس القراءة العربية ، ليكون مبشراً ونذيراً وتبياناً لكل شيء ، فهو يرجع إلى أصله . يقول الطباطبائي : «فالملخص من مضمون الآية أن لله تعالى في كل وقت وأجل كتاباً أي حكماً وقضاءً ، وأنه يمحو ما يشاء من هذا الكتاب وهذه الأحكام والأقضية ويثبت ما يشاء . . . لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير ولا يقبل المحو والإثبات ، وهو الأصل الذي ترجع إليه الأقضية الأخرى وتنشأ منه فيمحو ويثبت على حسب ما يقتضيه هو . .» (8) . ولا شك في أن الطباطبائي في تجليه هذا يكون قد حسم الموقف نهائياً في معنى النسخ ، سواء في معناه التشريعي ، أم في معناه التكويني على أساس قوله تعالى : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ (9) ، باعتبارها آية مطلقة تطال كل آيات الله تعالى ، والأمر يبقى متعلقاً بمشيئة الله تعالى الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فله اختلاف التصرف بمشيئته ، بحيث يكون له تعالى تبديل كتاب مكان كتاب ومحو كتاب وإثبات كتاب ، وعنده أُم الكتاب ، الذي هو أصل كل الآيات ، سواء الآيات التي بدلت أو نسخت ، أو نسيت ، محيت أو ثبّتت ، وهو الكتاب الذي قال فيه الله تعالى : ﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ ، المشعر بكون أصل الكتاب هو تأويل تفصيل الكتاب . وعليه ، فإنه يكون معنى النسخ عند الطباطبائي ، ما ينطوي عليه معنى المحو والإثبات ، الذي هو عام بدلالة الإطلاق ، وهذا ما بينه المفسّر بقوله : «إن حكم المحو والإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال والأوقات ، وهو جميع ما في السماوات والأرض وما بينهما ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ (10) ، وذلك لإطلاق قوله تعالى : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ واختصاص المورد بآيات النبوة ، كما جاء في السياق القرآني لا يوجب تخصيص الآية ، لأن المورد لا يخصص الوارد ، وبذلك يظهر فساد قول القائل : إن ذلك في الأحكام ، وهو النسخ ، أو قول القائل : بأنه في صحائف الأعمال يمحوها الله ويثبت مكانها طاعة أو معصية . . . الخ» (11) .
والحق يقال : إن ما قدمه الطباطبائي في معنى النسخ في تفسيره يمكن أن يكون قد حسم جدلاً فقهياً وكلامياً عمره مئات السنين ، وذلك إنما كان منه بفضل تدبّره في آيات الله تعالى ، والتي لم نجد أحداً ممن بحث في مجال ومعنى النسخ من أسس على هذا الفهم الجديد للمحو والإثبات ، لأن مجمل البحوث ، لا تزال تتحدث عن النسخ التكويني في إطار مباحث البداء ، وترى فيه جائزاً ومستحيلاً كالنسخ التشريعي ، مقتصرة في البحث عما إذا كان يجوز إطلاق البداء عليه تعالى أم لا يجوز ، على نحو ما بُين في مباحث البداء ، حيث فسّر قوله تعالى بالمحو والإثبات في مجال نسخ الأحكام في حين أن الآية ، كما بين الطباطبائي تلحظ كل ما يطال عالم التغيّر والأحداث بما ضرب له من آجال وأوقات ، وخص به من أحكام وقضاء كلها تعود إلى الأصل الثابت ، الذي لا يتغير ولا يتبدّل ، لقوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ . إن لله تعالى في كل شيء آية ، وهذه الآيات هي بين محو وإثبات ، سواء كانت في التشريع أم في التكوين ، وبذلك يفهم معنى النسخ والبداء معاً . . .
إن أدنى تأمل فيما انتهت إليه مباحث المتكلمين والفقهاء في معنى النسخ يمكن أن يقاربها التباحث في إطار التنظيرات الكلامية التي كانت سائدة ، والتي كانت تفرضها منهجيات فقهية وكلامية خاصة بزمانها ، ومكانها . ولهذا ، فإن أدنى مقاربة للنصوص ، فلا بد أن تظهر التمييز في الرؤية والمنهج ، فضلاً عن المضمون ويمكن لنا أن نقارب هذه الرؤية بما ذهب إليه ابن شهر آشوب في تفسير قوله تعالى : ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ ، بأن الظاهر فيها لا يدل على أن الذي يأت يكون ناسخاً ، بل هو إلى أن يكون غير ناسخ أقرب ، ومعنى نأت بخير منها ، أي أسهل عليكم في الأمر والنهي ، فذلك خير لكم (12) ، وهذا هو مفاد قوله تعالى : ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ ، فأين هذا التفسير للآية مما ذهب إليه الطباطبائي في تفسيرها وفقاً لمنهجية تفسير القرآن بالقرآن؟ هناك أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في سياق البحث عن النسخ ، أو عن البداء ، وكل ما يطرح يمكن أن تجد له أجوبة فيما عرض له الطباطبائي في تفسيره ، والتي تتوافق مع كثير من النتائج التي خلص إليها الفقهاء والمتكلمون في بحوثهم عن البداء وما يجوز فيه وما لا يجوز ، وقد تجد في بحوث الشيخ الطوسي في التبيان (13) ، أو في بحوث السيد الخوئي في البيان (14) ، ما يشير إلى جدوى المعالجات ، إلاّ أنك في بحوث الطباطبائي تلحظ تمايز المنهجية لجهة التحول في جميع الرؤية والإفاضة في إعطاء البحث بعده القرآني الموضوعي ، الذي استطاع المفسّر من خلاله ملاحظة الآيات في عالم تنزّلها من حيث هي ثابتة ، أو مبدّلة ، ناسخة أو منسوخة ، على أن لله تعالى في كل شيء قضاءً ثابتاً لا يتغيّر ، الذي عناه بقوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ، وبهذا يظهر ، كما يرى الطباطبائي ، فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغير (15) . . . فالقضاء ينقسم إلى ما هو ثابت وغير ثابت على نحو ما تقدم في بحوث الإنزال والتنزيل . . . وإذا كان الفقهاء ، وخاصة الإمامية ، قد عالجوا موضوع النسخ ، أو البداء (16) ، وبيّنوا أن هذا مما يمكن معالجته ضمن علاقة الفعل الإنساني بالعلم الإلهي ، فهم لم يبتعدوا كثيراً عما أفاده الطباطبائي ، ولكنهم لم يتحدثوا عن نحوين من القضاء ، كما أنهم لم يلحظوا معنى أن يكون حكم المحو والإثبات عام بجميع الحوادث ، وإن كانوا قد بيّنوا أن الظهور والتغير إنما هو مختص بلوح المحو والإثبات ، وليس بالعلم الإلهي المشمول بأم الكتاب ، والذي هو أصل جنس الكتاب بلغة الطباطبائي ، فهذا العلم عندهم ثابت لا يتغيّر بأي نوع من أنواع التغيير ، ولعل أصل التمايز بين الرؤيتين ، هو أن الفقهاء ذهبوا إلى القول بالقضاء على أنحاء ثلاثة : قضاء الله لم يطلع عليه أحداً من الخلق ، وقضاء أخبره الله للأنبياء والملائكة بأنه سيقع حتماً ، وقضاء ثالث أخبر الله تعالى بوقوعه في الخارج إلاّ أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه ، وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء (17) . وكما بين الطباطبائي ، أن القضاء الذي لم يُطلع عليه أحداً ، هو الذي عناه بقوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ . أما القضاء المتغير ، فهو قضاء المحو والإثبات ، وظهور أمر منه تعالى ثانياً بعدما كان الظاهر منه خلافه أولاً ، فهو محو الأول وإثبات الثاني ، والله سبحانه عالم بهما جميعاً ، والكتابان ـ كما يرى الطباطبائي ـ أي كتاب المحو والإثبات وأم الكتاب ، إما أن يكونا أمرين تتبعهما مراحل وجود الأشياء ، وهما مرحلتان (18) ، إحداهما تقبل المحو والإثبات ، والأخرى لا تقبل إلاّ الثبات ، وإما أن يكونا عين تلك المرحلتين ، وعلى أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعدما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه . . . (19) . وهكذا ، نجد أن الطباطبائي لا يُبدي اهتماماً بالقضاء الثالث الذي ذهب إليه الفقهاء ، مستدلاً على ذلك بما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيما رواه عنه ابن سنان ، أن الله يقدم ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وعنده أُم الكتاب ، وكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه ، وليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه إن الله لا يبدو له من جهل (20) . بيد أن ما يذهب إليه المفسّر (الطباطبائي) في إطار المحو والإثبات لا يخرجه عن أن يكون له رأيه بالنسخ بمعناه التشريعي ، وهذا ما سيكون موضع بحث لاحقاً ، إلاّ أنه فيما خلص إليه في مبحث المحو والإثبات من حيث هو حكم عام لجميع الحوادث ، يجعل من بحثه أكثر وضوحاً لاعتباره المحو قريب من النسخ ، وأنه ما في الكتاب آية ، وكل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية ويثبت آية ، كما قال الله تعالى : ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ﴾ [النحل : 101] . وإذا كان للنسخ هذا المعنى عند الطباطبائي ، فإنه لا يكون إلاّ وفاقاً لما تقتضيه مصالح العباد والسنن الطبيعية في الوجود ، لأن الإنسان ليس له حالة ثابتة في وجود هو أيضاً متغير ، فهو يزول من حال إلى حال ، وكذلك كل ما يحيط به ، فليس له ثبات إلاّ من حيث كونه متغيراً ، ولا تغير له إلاّ من حيث كونه ثابتاً ، يقول الطباطبائي : «لا دليل على تخصيص الآية الكريمة : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ﴾ ، من جهة اللفظ البتة . وللآية إطلاق لا ريب فيه ، فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود ، وما من شيء قيس إلى زمانين في وجوده إلاّ لاح التغير في ذاته وصفاته وأعماله ، وفي عين الحال إذا اعتبرت في نفسها ، وبحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة . فإن الشيء لا يتغيّر عما وقع عليه ، فللأشياء المشهودة جهتان ، جهة تغيّر تستتبع الموت والحياة والزوال والبقاء . . . وجهة ثبات لا تتغير مما هي عليه ، وهما إما نفس كتاب المحو والإثبات وأُم الكتاب ، وإما أمران مترتبان على الكتابين وعلى أي حال الآية تقبل الصدق على هاتين الجهتين» (21) .
ولا شك في أن مما يؤيّد كلام الطباطبائي هو أن النسخ قائم في سنن الطبيعة ، وهو سنة جارية فيها وظاهر في الجمادات والنباتات والحيوانات ، وفي الإنسان أيضاً ، فترى النواميس الطبيعية تقتضي أن يكون الهواء ساكناً في هذه الساعة ، ثم يحدث ما يغيره ، فتنسخ هذه الحال رياح تحدثها ، وأمطار ترسلها . . . والإنسان هو من أكثر الكائنات تغيراً وتحولاً في جهة من جهاته ، أفلا تكون من حكمة الخالق جل شأنه ، أن يعدل الأحكام ويبدل الآيات على حسب قابليته في كل حال من أحواله . . . إن الله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، وكان على كل شيء مقتدراً ، وقد قضت حكمته أن يتدرج الإنسان في وجوده ، وفي مطاوي زمانه ومكانه ، ليكون له الكمال في كدحه ، فإذا ما بدا له أن أمراً تغير ، أو آية تبدّلت ، فليس له أن يحكم بالبداء والظهور (22) ، بحيث يكون الأمر علماً بعد جهل ، أو ظهوراً بعد خفاء . فالله تعالى أحاط بكل شيء علماً ، فلا ينسب له الرأي الجديد ، الذي هو مستحيل عليه ، فهذا مما ينطبق على البشر فيما يكون منهم من آراء وتشريعات وأحكام وأعمال . أما الله تعالى ، فهو العالم بالمصالح الواقعية التي تقتضي أن يكون للناس هذا الحكم أو ذاك ، وذلك بحسب ما هم عليه من حاجات وتبدلات ، وغير ذلك ما هو معهود من تاريخ التحولات والتبدلات البشرية . . .
وإذا كان علماء اللغة قد استقر رأيهم في معنى النسخ بأنه الازالة ، أو الإثبات ، أو هو الأمرين معاً ، فإن ذلك يجري على التكوين كما يجري في التشريع ، وقوله تعالى : ﴿ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد : 39] ، إنما هو ناظر إلى العالمين معاً . وقوله تعالى : ﴿ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ ، إنما هو ناظر إلى ثبات علمه تعالى ، بما هو علم مطلق ، بكل ما هو كائن ويكون بحيث لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء ، وهذا ما أفادنا به السمع ، وإلا فإن أحداً ما كان ليقول شيئاً فيما لا تحتويه الألفاظ ، ولا تدركه العقول ، ولكنه سبحانه ، كما أفاد الشيخ المفيد ، صيّرنا إلى ذلك بالسمع . وعليه ، فإن معنى أن يكون عنده بأم الكتاب ، معناه أن التكوين مشمول في هذا الكتاب ، فلا تغيَّر فيه ، ولا تبدل لديه ، ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ ، وكما قال الله تعالى : ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾ [ق : 29] ، وقوله تعالى : ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد : 8] .
وهكذا ، فإن معنى النسخ في التكوين هو هذا ، أن ما سمته التغير والتبدل لا بد أن تكون له أحكامه التكوينية ، كما تكون له أحكامه التشريعية ، وقد لحظ الطباطبائي هذا القول بما أفاده في تفسيره من كون النسخ لا يختص بالتشريع ، وإنما يشمل التكوين ، لأنه ليس الإنسان وحده هو الذي يتغيّر ، وإنما كل شيء يتغيّر ويتبدّل في عالم الكون والفساد ، مما يقتضي أن تكون لهذا العالم أحكامه وتشريعاته أيضاً على نحو ما أفاد أهل اللغة من أن الشمس تنسخ والظل ينسخ ، وهذا ما يجري على الليل والنهار وعلى كل حركة الوجود والزمان ، على اعتبار أن الزمان هو مقدار الحركة ليس إلاّ .
فالطباطبائي لم يتميّز عن أسلافه فيما ذهب إليه في معنى النسخ التكويني ، وإنما هو بمنحاه العقلي وروحه العرفانية أعطى تلويناً آخر للآيات القرآنية ، ولمعنى تبدل الآيات ، سواء أكانت آياتٍ أنفسية أم آيات آفاقية ، والكل عنده مشتمل على المصلحة ، سواء أكان ناسخاً ، أو منسوخاً . أما ما عند الله تعالى في أُم الكتاب ، فهو مما لا تناله العقول ، ولا تلبسه المفردات والألفاظ ، وإنما هو علم ثابت لا يتصف بأي نوع من أنواع التغيّر ، وهذا مذهب الإمامية قاطبة فيما أجمعت عليه في معنى النسخ والبداء ، سواء في عالم التكوين ، أم في عالم التشريع .
_____________________________________
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|