أقرأ أيضاً
التاريخ: 23-09-2015
1822
التاريخ: 2023-03-30
1511
التاريخ: 15-11-2014
2171
التاريخ: 24-04-2015
2046
|
يهاجم الغزالي في البدء من ينكر أن ينطوي القرآن على الظاهر والباطن، ليسجّل أنّ العلوم بأكملها والدين بتمامه عقيدة وشريعة يحتوي ظواهر ينالها الإدراك الذهني عبر ما يبذله العقل من أنشطة نظرية ، وأسرار بعضها جلي يلوح بجهد يسير وبعضها خفي لا يتضح إلّا «بالمجاهدة والرياضة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسرّ الخالي عن كلّ شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب»، ليخلص من وراء ذلك كلّه إلى نتيجة جزمية يسجّل : «فاعلم أنّ انقسام هذه العلوم [العقيدة والشريعة] إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة، وإنّما ينكرها القاصرون الذين تلقّفوا في أوائل الصبا شيئا وجمدوا عليه» (1) . ثمّ يروح يقدّم بعض أدلّة ذلك وهو يطوف في عدد من النصوص النقلية، ممّا يتعلّق منها بالقرآن الحديث النبوي : «إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا»، وكذلك ما عن الإمام علي عليه السّلام الذي قال، وهو يشير إلى صدره : «إنّ هاهنا علوما جمّة لو وجدت لها حملة»، وكذلك النبوي الشريف :
«نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «ما حدّث أحد قوما بحديث لم تبلغه عقولهم إلّا كان فتنة عليهم»، وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «إنّ العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلّا العالمون باللّه تعالى». ثمّ يعزّز ذلك كله بمنطق القرآن في قوله سبحانه : {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}[ العنكبوت : 43] ممّا يدل على أنّ في الإسلام قرآنا وسنّة وعقيدة وشريعة، ظواهر وبطونا (2).
بشأن القرآن وما يندرج فيه من بطون وأغوار وأعماق، ينقل عن ابن عباس في قوله سبحانه : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ}[ الطلاق : 12] : «لو ذكرت تفسيره لرجمتموني» (3). كما يروي عن الإمام علي قوله عليه السّلام : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب»؛ ليتساءل مستدلّا على الباطن : «فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار؟»، ومع اسقاط البطون، فما معنى النبوي الشريف : «اقرءوا القرآن والتمسوا غرائبه»؟
ثمّ ينقل عن بعض العلماء وما ذهب إليه من أنّ : «لكلّ آية ستّون ألف فهم، وما بقي من فهمها أكثر»، وكذلك ما عن أبي الدرداء : «لا يفقه الرجل حتّى يجعل للقرآن وجوها»، وكذلك ما عن ابن مسعود : «من أراد علم الأوّلين والآخرين فليتدبّر القرآن»، وأيضا ما عن بعضهم : «القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم، إذ كلّ كلمة علم، ثمّ يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع»، لينتهي بعد هذه الجولة كلّها إلى نتيجة تفيد : «و ذلك لا يحصل بمجرّد تفسير الظاهر ... [و] من زعم أنّ لا معنى للقرآن إلّا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حدّ نفسه» (4)، وإلّا فإنّ هذه الرؤية للإسلام كتابا وسنّة وللعقيدة والشريعة وللعلوم أيضا، لا تستقيم إلّا بالقول بالبطون.
لقد أطلنا بعض الشيء في استعراض رؤية الغزالي لأنّها- كما أسلفنا في غير هذا المورد أيضا- بسطت بآثارها على من بعده، حيث رأينا بصمات هذه الرؤية للظاهر والباطن حاضرة بحذافيرها في أبرز كتابين عن علوم القرآن هما «البرهان» للزركشي (ت : 794 هـ) و«الإتقان» للسيوطي (ت : 911 هـ)، كما سجلت حضورها أيضا في نتاجات عدد آخر من الباحثين والمفسّرين من جميع المدارس والاتجاهات. وما يعنينا منها أنّ هذه الأفكار أطلّت برأسها في «فتوحات» ابن عربي، كما أخذها صدر الدين الشيرازي بنصوصها وتفصيلاتها، وانتقلت عبر هذا الخط ومن خلال الحلقة الصدرائية تحديدا إلى كتابات الإمام الخميني وأفكاره.
التعليل النظري
الآن ما هو التفسير الذي يقدّمه أبو حامد لاشتمال القرآن على البطون وانطوائه على هذه الأغوار والأعماق؟ هل يعود ذلك- مثلا- إلى التركيبة اللفظية أو البنية اللغوية للنص القرآني على نحو أعمّ؟ الحقيقة لا يمكن للغزالي أن يقدم على مجازفة كهذه، وهو الذي أسّس لنظرية القشر واللباب في كتابه «جواهر القرآن»، وهاجم هناك من ظنّ أنّ القرآن هو محض حروف وأصوات ناعتا إياهم بالجهل، مبديا أسفه بمن يكتفي بتفسير الظاهر، إذ ما أعظم غبن هذا وحرمانه وهو يظنّ أنّ لا رتبة وراء ذلك (5).
يقدّم الغزالي عددا من التكييفات النظرية لتفسير عمق القرآن وبطونه، يمكن إرجاعها إلى الصياغات أو التقريرات الثلاثة التالية :
الأوّل : للقرآن معان مباشرة ظاهرة تدرك من خلال الفهم اللغوي والنشاط الإدراكي الذي يصطاد أوائل المفهومات، أمّا ما بعد ذلك فإنّ معاني القرآن تدخل في جملة الملكوت، غائبة عن الحواس، موجودة في اللوح المحفوظ، وهي هناك مكينة عميقة بعيدة الغور، لا أمد لها ولا حدّ تنتهي إليه، حتّى مثّل لها بعضهم بالتقريب الحسّي التالي : «إنّ كلّ حرف من كلام اللّه عزّ وجلّ في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف، وإنّ الملائكة عليهم السّلام لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلّوه ما أطاقوه» (6)، كناية على كثافة المعاني ولا تناهيها.
هذا الوجود الماورائي هو البطون أو على الأقل هو الرصيد الذي يمدّ القرآن بالعمق وتوالي المعاني ما بعد المعنى الظاهر، ويفسّر بطونه، وإلّا فمن دون ذلك الوجود الملكوتي الغيبي العريض وما يحويه من معان لا متناهية لا يمكن أن يكون للقرآن بطون.
تتحدّث هذه النظرية بدءا على أنّ معاني القرآن من الملكوت، ثمّ تتّجه للاستدلال على رؤيتها بوجود القرآن في اللوح المحفوظ. وما يتضح من التمثيل الحسّي قناعة النظرية أنّ القرآن موجود هناك بصورته الحروفية واللفظية، لكن بحروف هي على نحو من الضخامة والعظمة بحث تطوي معاني لا نهائية أو متكثّرة جدا، ومن ثمّ فإنّ منشأ البطون هي هذه التركيبة اللفظية الخاصّة والضخمة لحروف القرآن. إذا صح فهمنا، فإنّ ما ينتج البطون ويمنح القرآن عمقه ومعانيه المتكثّرة هي تركيبته الحروفية الخاصّة في اللوح المحفوظ، الأمر الذي يعرّض أساس النظرية للنقد.
فالقول إنّ للقرآن الذي بين أيدينا وجودا آخر في اللوح المحفوظ، لا يعني أنّه موجود بهذه الحروف والتركيبة الخارجية، أي على نحو المصحف المتداول وبهيئة كتاب مصفوف من حروف ومؤلّف من صفحات ومركّب من كلمات وجمل ومقطّع إلى آيات وسور. فاللوح المحفوظ عند بعضهم هو العلم الإلهي الأزلي، أو هو الوجه الثابت لهذا العالم الذي تتمثّل فيه حقائق القرآن على نحو واقعيات وامور عينية، بحيث إذا ما قورن وجود القرآن الذي بين أيدينا (الواقع في كتاب والظاهر بصورة الحروف) بوجوده في اللوح المحفوظ، كان وجوده هناك بمنزلة الروح إلى الجسد والمتمثّل من المثال، ممّا يعني انتفاء وجوده الحروفي الكتبي اللفظي (7)،
ومن ثمّ تخلخل الأساس الذي تستند إليه النظرية أو عدم دقّة تصوّرها على أقل تقدير.
والأهمّ من ذلك، أنّ إثبات حقيقة ما ورائية عليا للقرآن في اللوح المحفوظ وإن كان بذاته صحيحا ومقبولا، إلّا أنّه لا يثبت مقولة البطون، لغياب الملازمة بين الاثنين.
الثاني : ينطلق التكييف الآخر من نقطة مفادها أنّ العلوم كلّها داخلة في أفعال اللّه عزّ وجلّ وصفاته : «و في القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته وهذه العلوم لا نهاية لها» (8) فإذن في القرآن جميع العلوم، بل أنّ «العلم بالقرآن هو العلم كله» (9) ومن ثمّ أصبح القرآن عميقا ذا بطون ينطوي على أغوار لا أمد لها ولا نهاية لمعانيه، ف «كلّ ما أشكل فيه على النظّار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمقولات، ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه» (10).
لكلّ إنسان أن يغترف من هذه البطون على قدر وعائه وأدواته من دون أن تلوح لذلك نهاية، إذ «لا يمكن استقصاء ما يفهم منه، لأنّ ذلك لا نهاية له» (11).
وكيف تكون ثمّ نهاية لنصّ هو تعبير عن شرح الذات والصفات والأفعال؟ مع أنّ بحر الأفعال وحده يضمّ من العلوم ما ينأى عن الحصر، وهو بحر لا ساحل له، وإنّ البحر لو كان مدادا لكلمات اللّه لنفد قبل أن تنفد (12)!
الثالث : في التكييف الثالث يقدّم الغزالي نظرية التجلّي في إثبات البطون وتفسيرها، هذه النظرية التي ستشهد بعد قرن من الزمان تأسيسا منظوميا مدهشا عند ابن عربي المولود سنة (560 هـ)، أي بعد وفاة الغزالي بنصف قرن.
الحقيقة نحن الآن نذكر نظرية التجلّي والذهن مزدحم بصياغات منظومية تتّسم بكثير من الإبداع والقدرة على الاقناع أو على جذب الآخرين لمركزها في أقل تقدير، كنتيجة لحركة الفكر من حولها ومشاركة عدد كبير من القدماء والمعاصرين في إثرائها وتعميق مرتكزاتها، حيث يأتي الشيخ الأكبر في طليعتهم، ثمّ تأخذ مساهمات الآخرين موقعها تبعا له بما في ذلك مساهمة صدر الدين الشيرازي، والسيد محمّد حسين الطباطبائي والإمام الخميني والشيخ جوادي آملي من المعاصرين.
لكن المفروض أن لا نخلط بين مستوى النظرية كما نعيها الآن وكما وصلتنا بعد التشييد الفكري الذي شهدته والمسار العظيم الذي قطعته على مرّ التأريخ الفكري، وبين صورتها عند الغزالي. فهي عند الغزالي بذور قابلة للإيناع، تفيد أنّ اللّه جلّ وعلا تجلّى في القرآن، والمفروض أنّ هناك ملازمة بين المتجلّي (اللّهـ) والمتجلّى به (القرآن) في العمق ممّا يؤدّي إلى أن يكون المتجلّى به مماثلا للمتجلّي في عمقه. وهذا هو سرّ البطون وانطواء القرآن على معان لا تنفد مع الزمان، لأنّه صورة لتجلّ مطلق لا نهائي.
ربما يسعفنا فكر الغزالي على التقدّم خطوة أكثر في هذه النظرية، ونحن نسجّل أنّ اللّه عزّ وجلّ يتجلّى في القرآن بأسمائه وصفاته، وأنّ القرآن هو مظهر لأسماء اللّه وصفاته وخاصّة الاسم الأعظم، وهذا ما يفسّر عمقه وبطونه. يبقى أن نسجّل بأنّ الغزالي استدل على نظرية التجلّي بحديث للإمام جعفر الصادق يقول فيه عليه السّلام : «و اللّه لقد تجلّى اللّه عزّ وجلّ لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون» (13).
أخيرا ينبغي أن لا يساورنا شكّ في أنّ بذور فكر الغزالي في هذه المسألة وغيرها أطّلت برأسها عند ابن عربي، لكن مع فارق أنّ الأخير أعاد هضمها داخل منظومته، وأنّه يتميّز على من سبقه بقوّة هضمه وضخامة جهازه العقلي وقدراته على التأطير والمنهجة وصبّ الأفكار في منظومات. نثبّت هذه الملاحظة من دون أن نستثني الفكرة المركزية في منظومة ابن عربي المتمثّلة ب «وحدة الوجود» التي يقترب منها الغزالي بقوله : «بل ليس في الوجود إلى اللّه وأفعاله، وكلّ ما سواه فعله» (14)، التي نقرأها بعد مائة عام عند ابن عربي نصا : «و قد ثبت عند المحقّقين أنّه ما في الوجود إلّا اللّه» (15).
(2)- إحياء علوم الدين 1 : 99- 100.
(3)- إحياء علوم الدين 1 : 100.
(4)- نفس المصدر : 289.
(5)- راجع جواهر القرآن : 36 فما بعد.
(6)- إحياء علوم الدين 1، 280 و284.
(7)- راجع مثلا : الميزان في تفسير القرآن 3 : 53- 54.
(8)- إحياء علوم الدين 1 : 289.
(9)- نفس المصدر : 33.
(10)- نفس المصدر : 289.
(11)- نفس المصدر : 283.
(12)- راجع : جواهر القرآن وما يذكره الغزالي من دوران العلوم حول الذات والصفات والأفعال.
(13)- إحياء علوم الدين 1 : 287.
(14)- لم أكن أستسيغ هذه الفكرة عند ما كان يومئ إليها نصر حامد أبو زيد في عدد من كتاباته خاصة «مفهوم النص» (صفحة : 253 والأهم منه هامش صفحة : 260)، بيد أنّ الأمر اختلف بعد أن تكاثفت بين يدي قرائن قطعية عليها لمستها من خلال بحث مباشر في «فتوحات» ابن عربي وكتابات الشيرازي.
(15)- الفتوحات المكّية 1 : 279.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|