المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17639 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
The structure of the tone-unit
2024-11-06
IIntonation The tone-unit
2024-11-06
Tones on other words
2024-11-06
Level _yes_ no
2024-11-06
تنفيذ وتقييم خطة إعادة الهيكلة (إعداد خطة إعادة الهيكلة1)
2024-11-05
مـعاييـر تحـسيـن الإنـتاجـيـة
2024-11-05

الخمس
29-3-2016
Cognate tRNA
22-11-2017
أهمية الماء للإنسان
28-2-2021
ابن باجه الاندلسي
15-10-2015
الختم على القلوب
25-09-2014
نشاط الشعر / ذخائر عقلية خصبة
6-8-2019


تفسير الآية (12-18) من سورة فاطر  
  
4833   07:14 مساءً   التاريخ: 22-9-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الفاء / سورة فاطر /

قال تعالى : {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوكَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر : 12 - 18]

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قال تعالى : {وما يستوي البحران} يعني العذب والمالح ثم ذكرهما فقال {هذا عذب فرات} أي طيب بارد {سائغ شرابه} أي جائز في الحلق هنيء {وهذا ملح أجاج} شديد الملوحة عن ابن عباس وما بعد هذا مفسر في سورة النحل إلى آخر الآية {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} أي يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقصان {وسخر الشمس والقمر} أي يجريهما كما يريد {كل يجري لأجل مسمى} أي لوقت معلوم وقد مضى تفسيره {ذلكم الله ربكم} أي مدبر هذه الأمور هو الله خالقكم .

{له الملك} في الدنيا والآخرة {والذين تدعون من دونه} أي تدعونهم آلهة من الأصنام والأوثان وتوجهون عبادتكم إليهم {وما يملكون من قطمير} أي قشر نواة عن ابن عباس أي لا يقدرون من ذلك على قليل ولا كثير {إن تدعوهم} لكشف ضر {لا يسمعوا دعاءكم} لأنها جماد لا تنفع ولا تضر {ولو سمعوا} بأن يخلق الله لها سمعا {ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أي يتبرءون عن عبادتكم ينطقهم الله يوم القيامة لتوبيخ عابديها فيقولون لم عبدتمونا وما دعوناكم إلى ذلك قال البلخي ويجوز أن يكون المراد به الملائكة وعيسى ويكون معنى قوله {لا يسمعوا دعاءكم} أنهم بحيث لا يسمعونه أو أنهم مشتغلون عنهم لا يلتفتون إليهم ويجوز أن يكون المراد به الأصنام ويكون ما يظهر من بطلان ما ظنوه كفرا بشركهم وجحودا له كما أن ما يحصل في الجماد من الدلالة على الله تسبيح منهم .

{ولا ينبئك مثل خبير} أي لا يخبرك بما فيه الصلاح والفساد والمنافع والمضار مثل الله سبحانه العليم بالأشياء كلها {يا أيها الناس أنتم الفقراء} المحتاجون {إلى الله والله هو الغني} عن عبادتكم لا يحتاج إلى شيء {الحميد} المستحق للحمد على جميع أفعاله فلا يفعل إلا ما يستحق به حمدا ثم أخبر عن كمال قدرته فقال {إن يشأ يذهبكم} ويفنكم {ويأت بخلق جديد} سواكم كما خلقكم ولم تكونوا شيئا {وما ذلك على الله بعزيز} أي ممتنع بل هو عليه هين يسير .

ثم أخبر سبحانه عن عدله في حكمه فقال {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره وإنما يؤاخذ كل بما يقترفه من الآثام {وأن تدع مثقلة إلى حملها} أي وأن تدع نفس مثقلة بالآثام غيرها إلى أن يتحمل عنها شيئا من إثمها {لا يحمل منه شيء} أي لا يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل {ولوكان ذا قربى} أي ولوكان المدعو إلى التحمل ذا قرابة منها وأقرب الناس إليها ما حمل عنها شيئا فكل نفس بما كسبت رهينة قال ابن عباس يقول الأب والأم يا بني احمل عني فيقول حسبي ما علي .

{إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} أي وهم غائبون عن أحكام الآخرة وأهوالها وهذا كقوله إنما أنت منذر من يخشاها والمعنى إن إنذارك لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار وقيل الذين يخشون ربهم في خلواتهم وغيبتهم عن الخلق {وأقاموا الصلاة} أي أداموها وقاموا بشرائطها وإنما عطف الماضي على المستقبل إشعارا باختلاف المعنى لأن الخشية لازمة في كل وقت والصلاة لها أوقات مخصوصة {ومن تزكى} أي فعل الطاعات وقام بما يجب عليه من الزكاة وغيرها من الواجبات وقيل تطهر من الآثام {فإنما يتزكى لنفسه} لأن جزاء ذلك يصل إليه دون غيره {وإلى الله المصير} أي مرجع الخلق كلهم إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله سبحانه فيجازي كلا على قدر عمله .

________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص237-239 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} . هذه الآية من الآيات الكونية ، وهي تشير إلى تنوع الماء عذوبة وملوحة ، وهذا التنوع وان استند مباشرة إلى أسبابه الطبيعية فإنها تنتهي إلى خالق الطبيعة ومبدعها . وتقدم مثله في الآية 53 من سورة الفرقان ج 5 ص 476 ( ومن كل ) واحد من البحرين {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا} كالسمك {وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . تقدم بالنص الحرفي في الآية 13 من سورة النحل ج 4 ص 502 .

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ويُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} . تتحرك الأفلاك ويدور بعضها حول بعض ، فتتعدد الفصول ، ويأخذ الليل من النهار في فصل ، والنهار من الليل في فصل آخر ، وهذا التنظيم الدقيق المطرد في كل عام مدى الملايين من القرون - يدل دلالة قاطعة على وجود المدبر الحكيم لهذا الكون ، تماما كما تدل الآلة التي تؤدي الغرض المطلوب منها - على صانعها ومنظمها ، والصدفة باطلة بحكم التكرار . وتقدم مثله في الآية 27 من سورة آل عمران ج 2 ص 37 {وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} . تقدم بنصه الحرفي في الآية 2 من سورة الرعد ج 4 ص 373 .

{ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ والَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} .

القطمير كناية عن أحقر الأشياء وأتفهها ، والمعنى ان ما ترونه من مظاهر الكون وعجائبه فهومن صنع اللَّه الذي لا إله سواه ، أما الذين تعبدون وترجون فإنهم لا يملكون مع اللَّه شيئا {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ} ان كانوا بلا احساس وشعور كالأحجار والأشجار والكواكب {ولَو سَمِعُوا} ان كانوا من الإنس أو الجن أو الملائكة {مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ} لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف يملكون ذلك لغيرهم {ويَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} . يبرؤون منكم ويوبخونكم على الشرك والضلال {ولا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} بمصير هؤلاء المكذبين بنبوتك يا محمد وغيرهم من العصاة والطغاة .

{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ واللَّهُ هُو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} . ان افتقار المخلوق إلى خالقه لا ينقطع أبدا تماما كافتقار المعلول إلى علته ، والمسبب إلى سببه ، قال ابن عربي في الفتوحات : للإنسان وجهان : وجه مفتقر إلى اللَّه ، ووجه غني عن العالم ، فهو فقير ذليل أبدا بالنسبة إليه تعالى ، وغني عزيز بالنسبة إلى من استغنى عنه .

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} . ذلك إشارة إلى إفناء العاصين ، وإيجاد المطيعين مكانهم ، ولو أراد ذلك سبحانه لكان ما أراد ، لأنه على كل شيء قدير . وتقدم في الآية 19 من سورة إبراهيم بالنص الحرفي ج 4 ص 436 ، وبالمعنى في الآية 132 من سورة النساء ج 2 ص 456 والآية 133 من سورة الأنعام ج 3 ص 266 .

{ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} كل مذنب يحاسب ويعاقب على ذنبه فقط ، والعكس في التوراة سفر العدد اصحاح 24 : (الرب طويل الروح . . ولكنه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء) . وتقدمت الآية بنصها الحرفي في سورة الأنعام الآية 164 ج 3 ص 293 {وإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ولَوكانَ ذا قُرْبى} .

مثقلة أي نفس تحمل حملا ثقيلا من الأوزار ، والمعنى لا يجدي في ذلك اليوم تضرع وخضوع ولا طلب العون والغوث من قريب وحبيب لأن لكل إنسان من نفسه شاغلا عن غيره : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وأُمِّهِ وأَبِيهِ وصاحِبَتِهِ وبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس - 37] .

{إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وأَقامُوا الصَّلاةَ} . انما يستجيب لدعوتك يا محمد الذين يخافون اللَّه ، ويرجون ثوابه ، أما الذين لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر فلا يجدي معهم نصح ولا إنذار {ومَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} . هذا مثل قوله تعالى : {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت - 46] . وفي نهج البلاغة : حاسب نفسك لنفسك ، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك {وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} فيثيب من آمن وأصلح ، ويعاقب من أفسد وأساء .

____________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص283-285 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج} إلى آخر الآية قيل : العذب من الماء طيبه ، والفرات الماء الذي يكسر العطش أو البارد كما في المجمع ، والسائغ هو الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته والأجاج الذي يحرق لملوحته أو المر .

وقوله : {ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها} اللحم الطري الغض الجديد ، والمراد لحم السمك أو السمك والطير ، البحري والحلية المستخرجة من البحر اللؤلؤ والمرجان والأصداف قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] .

وفي الآية تمثيل للمؤمن والكافر بالبحر العذب والمالح يتبين به عدم تساوي المؤمن والكافر في الكمال الفطري وإن تشاركا في غالب الخواص الإنسانية وآثارها فالمؤمن باق على فطرته الأصلية ينال بها سعادة الحياة الدائمة والكافر منحرف فيها متلبس بما لا تستطيبه الفطرة الإنسانية وسيعذب بأعماله فمثلهما مثل البحرين المختلفين عذوبة وملوحة فهما مختلفان من حيث البقاء على فطرة الماء الأصلية وهي العذوبة والخروج عنها بالملوحة وإن اشتركا في بعض الآثار التي ينتفع بها ، فمن كل منهما تأكلون لحما طريا وهو لحم السمك والطير المصطاد من البحر وتستخرجون حلية تلبسونها كاللؤلؤ والمرجان والأصداف .

فظاهر الآية أن الحلية المستخرجة مشتركة بين البحر العذب والبحر المالح لكن جمعا من المفسرين استشكلوا ذلك بأن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من البحر المالح دون العذب ، وقد أجابوا عنه بأجوبة مختلفة .

منها أن الآية مسوقة لبيان اشتراك البحرين في مطلق الفائدة وإن اختص ببعضها كأنه قيل : ومن كل تنتفعون وتستفيدون كما تأكلون منهما لحما طريا وتستخرجون من البحر المالح حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر .

ومنها أنه شبه المؤمن والكافر بالعذب والأجاج ثم فضل الأجاج على الكافر بأن في الأجاج بعض النفع والكافر لا نفع في وجوده فالآية على طريقة قوله تعالى : {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} ثم قال : {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [البقرة : 74] .

ومنها أن قوله : {وتستخرجون حلية تلبسونها} من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض المنافع تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما خرج به عن صفاء فطرته والمؤمن والكافر وإن اتفقا أحيانا في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على صفاء الفطرة الأصلية دون الآخر .

ومنها أنه لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره فالإشكال باختصاص الحلية بالماء المالح ممنوع .

ومنها منع أصل الدعوى وهو كون الآية {وما يستوي البحران} إلخ .

تمثيلا للمؤمن والكافر بل هي واقعة في سياق تعداد النعم لإثبات الربوبية كقوله قبلا : {والله الذي أرسل الرياح} وقوله بعدا : {يولج الليل في النهار} إلخ .

فالآية مسوقة لبيان نعمة البحر واختلافه بالعذوبة والملوحة وما فيهما من المنافع المشتركة والمختصة .

ويؤيد هذا الوجه أن نظير الآية في سورة النحل واقعة في سياق الآيات العادة لنعم الله سبحانه وهو قوله : {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل : 14] .

والحق أن أصل الاستشكال في غير محله وأن البحرين يشتركان في وجود الحلية فيهما كما هو مذكور في الكتب الباحثة عن هذه الشئون مشروح فيها .

قوله تعالى : {وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} ضمير {فيه} للبحر ، ومواخر جمع ماخرة من المخر بمعنى الشق عدت السفينة ماخرة لشقها الماء بجؤجؤتها .

قيل : إنما أفرد ضمير الخطاب في قوله : {ترى} بخلاف الخطابات المتقدمة والمتأخرة لأن الخطاب لكل أحد يتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط .

وقوله : {لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} أي مخر الفلك البحر بتسخيره لتطلبوا من عطائه وهو الرزق ورجاء أن تشكروا الله سبحانه ، وقد تقدم أن الترجي الذي تفيده {لعل} في كلامه تعالى قائم بالمقام دون المتكلم .

وقد قيل في هذه الآية : {وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله} وفي سورة النحل : {وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله} فاختلفت الآيتان في تقديم {فيه} على {مواخر} وتأخيره منه وعطف {لتبتغوا} وعدمه .

ولعل النكتة في ذلك أن آية النحل مصدرة بكلمة التسخير فهي مسوقة لبيان كيفية التسخير والأنسب لذلك تأخير {فيه} ليتعلق بمواخر ويشير إلى مخر البحر فيصرح بالتسخير بخلاف ما هاهنا ثم التسخير له غايات كثيرة منها ابتغاء الفضل والأنسب لذلك عطف {لتبتغوا} على محذوف ليدل على عدم انحصار الغاية في ابتغاء الفضل بخلاف ما هاهنا فإن الغرض بيان أنه الرازق المدبر ليرتدع المكذبون - وقد تقدم ذكر تكذيبهم - عن تكذيبهم ويكفي في ذلك بيان ابتغائهم الفضل غاية من غير حاجة إلى العطف . والله أعلم .

وقال في روح المعاني ، في المقام : والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذلك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه : {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه {فيه} إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك ، وكان الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية : {ولتبتغوا} بالواو ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله : {لتبتغوا} انتهى .

قوله تعالى : {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} إلخ .

إيلاج الليل في النهار قصر النهار بطول الليل وإيلاج النهار في الليل قصر الليل بطول النهار ، والمراد بالجملتين الإشارة إلى اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر المستمر في أيام السنة بتغير الأيام ولذا عبر بقوله : {يولج} الدال على استمرار التغيير بخلاف جريان الشمس والقمر فإنه ثابت على حاله ولذا عبر فيه بقوله : {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} والعناية صورية مسامحية .

وقوله : {ذلكم الله ربكم} بمنزلة النتيجة لما تقدم أي إذا كان أمر خلقكم وتدبيركم برا وبحرا وأرضا وسماء منتسبا إليه مدبرا بتدبيره فذلكم الله ربكم الذي يملككم ويدبر أمركم .

وقوله : {له الملك} مستنتج مما قبله وتوطئة وتمهيد لما بعده من قوله : {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير{ .

وقوله : {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} القطمير على ما قاله الراغب الأثر على رأس النواة وذلك مثل للشيء الطفيف ، وفي المجمع ، القطمير لفافة النواة وقيل : الحبة في بطن النواة انتهى والكلام على أي حال مبالغة في نفي أصل الملك والمراد بالذين تدعون من دون الله آلهتهم الذين كانوا يدعونها من الأصنام وأربابها .

قوله تعالى : {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} إلخ .

بيان وتقرير لما تقدم من قوله : {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} أي تصديق كونهم لا يملكون شيئا أنكم إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم لأن الأصنام جمادات لا شعور لها ولا حس وأرباب الأصنام كالملائكة والقديسين من البشر في شغل شاغل من ذلك على أنهم لا يملكون سمعا من عند أنفسهم فلا يسمعون إلا بإسماعه .

وقوله : {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} إذ لا قدرة لهم على الاستجابة قولا ولا فعلا أما الأصنام فظاهر وأما أرباب الأصنام فقدرتهم من الله سبحانه ولن يأذن الله لأحد أن يستجيب أحدا يدعوه بالربوبية قال تعالى : {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [النساء : 172] .

وقوله : {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أي يردون عبادتكم إليكم ويتبرءون منكم بدلا من أن يكونوا شفعاء لكم {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 166] .

فالآية في نفي الاستجابة وكفر الشركاء يوم القيامة في معنى قوله : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5] .

وقوله : {ولا ينبئك مثل خبير} أي لا يخبرك عن حقيقة الأمر مخبر مثل مخبر خبير وهو خطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الإعراض عن خطابهم لعدم تفقههم بالبيان الحق أو خطاب عام في صورة الخطاب الخاص خوطب به السامع أي من كان كقوله : {وترى الفلك فيه مواخر} الآية السابقة ، وقوله : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ} [الكهف : 17] ، وقوله : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف : 18] .

ولما بين لهم أن الخلق والتدبير إليه تعالى فهو ربهم له الملك دون الذين يدعون من دونه فهم لا يملكون شيئا حتى يقوموا بتدبيره ، أخذ يبين ذلك ببيان آخر مشوب بالوعيد والتهديد وهو أنه تعالى غني عنهم وهم فقراء إليه فله أن يذهبهم ويأت بخلق جديد إن شاء جزاء بما كسبوا .

ثم وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما حاصله أن هذه المؤاخذة والإهلاك لا يشمل إلا هؤلاء المكذبين دون المؤمنين الذين يؤثر فيهم إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبينهما فرق ظاهر وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) نذير كالنذر الماضين وحاله كحال من قبله من المنذرين وإن يكذبوه فقد كذبت الأنبياء الماضين مكذبو أممهم فأخذهم الله أخذا شديدا وسيأخذ المكذبين من هذه الأمة .

قوله تعالى : {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} لا ريب أن في الآية نوع تمهيد بالنسبة إلى الآيتين التاليتين يتبين بها مضمونهما وهي مع ذلك مستقلة في مفادها .

بيان ذلك : أن السياق يشعر بأن أعمال هؤلاء المكذبين كانت تكشف عن أنهم كانوا يتوهمون أن لهم أن يستغنوا عن الله سبحانه بعبادة آلهتهم وأن لله إليهم حاجة ولذلك يدعوهم إلى نفسه بالدعوة الإلهية التي يقوم بها رسله فهناك غنى وفقر ولهم نصيب من الغنى ولله نصيب من الفقر تعالى عن ذلك .

فرد الله سبحانه زعمهم ذلك بقوله : {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني} فقصر الفقر فيهم وقصر الغنى فيه سبحانه فكل الفقر فيهم وكل الغنى فيه سبحانه ، وإذ كان الغنى والفقر وهما الوجدان والفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما كان لازم القصر السابق قصر آخر وهو قصرهم في الفقر وقصره تعالى في الغنى فليس لهم إلا الفقر وليس له تعالى إلا الغنى .

فالله سبحانه غني بالذات له أن يذهبهم ويستغني عنهم وهم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره .

والملاك في غناه تعالى عنهم وفقرهم أنه تعالى خالقهم ومدبر أمرهم وإليه الإشارة بأخذ لفظ الجلالة في بيان فقرهم وبيان غناه ، والإشارة إلى الخلق والتدبير في قوله : {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} وكذا توصيفه تعالى بالحميد وهو المحمود في فعله الذي هو خلقه وتدبيره .

فيعود معنى الكلام إلى نحو من قولنا : يا أيها الناس أنتم بما أنكم مخلوقون مدبرون لله الفقراء إلى الله فيكم كل الفقر والحاجة والله بما أنه الخالق المدبر ، الغني لا غنى سواه .

وعلى هذا لا ضير في قصر الفقر في الناس سواء أريد به المكذبون خاصة أو عامة الناس مع كون غيرهم من المخلوقات فقراء إلى الله كمثلهم وذلك أن عموم علة الحكم يعمم الحكم فكأنه قيل : أنتم معاشر الخليقة الفقراء إلى خالقكم المدبر لأمركم وهو الغني الحميد .

وقد أجيب عن إشكال قصر الفقر في الناس مع عمومه لغيرهم بوجوه من الجواب : منها أن في قصر الفقر في الناس مبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى : {خلق الإنسان ضعيفا} ولا يرد الجن لأنهم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان .

ومنها أن المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم .

ومنها أن الوجه حمل اللام في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين في الآية هم الذين خوطبوا في قوله : {ذلكم الله ربكم له الملك} الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه .

ومنها أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا حقيقي .

وغير خفي عليك أن مفاد الآية وسياقها لا يلائم شيئا من هذه الأجوبة نعم يمكن توجيه الجواب الأخير بما يرجع إلى ما قدمناه من الوجه .

وتذييل الآية بصفة الحميد للإشارة إلى أنه غني محمود الأفعال إن أعطى وإن منع لأنه إذا أعطى لم يعطه لبدل لغناه عن الجزاء والشكر وكل بدل مفروض وإن منع لم يتوجه إليه لائمة إذ لا حق لأحد عليه ولا يملك منه شيء .

قوله تعالى : {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز} أي إن يرد إذهابكم يذهبكم أيها الناس لأنه غني عنكم لا يستضر بذهابكم ويأت بخلق جديد يحمدونه ويثنون عليه لا لحاجة منه إليهم بل لأنه حميد ومقتضاه أن يجود فيحمد وليس ذلك على الله بصعب لقدرته المطلقة لأنه الله عز اسمه .

فقد بان أن مضمون الآية متفرع على مضمون الآية السابقة فقوله : {إن يشأ يذهبكم} متفرع على كونه تعالى غنيا ، وقوله : {ويأت بخلق جديد} متفرع على كونه تعالى حميدا ، وقد فرع مضمون الجملتين في موضع آخر على غناه ورحمته قال تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } [الأنعام : 133] .

قوله تعالى : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} إلخ .

قال الراغب : الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل ، قال تعالى : {كلا لا وزر} والوزر - بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل ، ويعبر به عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى : {ليحملوا أوزارهم كاملة} الآية كقوله : {ليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} .

انتهى فالمعنى لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى ولازم ذلك أن لا تؤاخذ نفس إلا بما حملت من إثم نفسها واكتسبته من الوزر .

والآية كأنه دفع دخل يشعر به آخرها كأنه لما قال : إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين ، فهددهم بالإهلاك والإفناء ، قيل : هؤلاء المكذبون أخذوا بوزرهم فما حال المؤمنين ؟ أ يؤخذون بوزر غيرهم ؟ .

فأجيب أن لا تزر وازرة وزر أخرى ولا تحمل نفس حمل غيرها الذي أثقلها وإن كانت ذات قربى .

فهؤلاء المكذبون هم المعنيون بالتهديد ولا تنفع فيهم دعوتك وإنذارك لأنهم مطبوع على قلوبهم ، وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة والفريقان لا يستويان لأن مثلهم مثل الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات .

فقوله : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس حاملة للوزر والإثم إثم نفس أخرى حاملة .

وقوله : {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولوكان ذا قربى} أي وإن تدع نفس مثقلة أثقلها حملها من الإثم غيرها إلى ما حملته من الإثم ليحمله عنها لا يستجاب لها ولا يحمل من حملها شيء ولوكان المدعو ذا قربى للداعي كالأب والأم والأخ والأخت .

وقوله : {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} أي هؤلاء المكذبون لا ينتفعون بالإنذار ولا تتحقق معهم حقيقة الإنذار لأنهم مطبوع على قلوبهم إنما تنذر وينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة التي هي أفضل العبادات وأهمها وبالجملة يؤمنون بالله ويعبدونه أي الذين يخشون ربهم بالغيب ويقيمون الصلاة إثر إنذارك لا أنهم يخشون ربهم ويصلون ثم ينذرون بعد ذلك حتى يلزم تحصيل الحاصل فالآية كقوله : {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } [يوسف : 36] .

وقوله : {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} بدل الخشية وإقامة الصلاة من التزكي للإشارة إلى أن المطلوب بالدعوة والإنذار هو التزكي وتزكية النفس تلبسها بالخشية من الله على الغيب وإقامة الصلاة .

وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من كونه تعالى غنيا حميدا فهو تعالى لا ينتفع بما يدعو إليه من التزكي بل الذي تزكى فإنما يتزكى لنفع نفسه .

وقد ختم الآية بقوله : {وإلى الله المصير} للدلالة على أن تزكية من تزكى لا تذهب سدى ، فإن كلا من الفريقين صائرون إلى ربهم لا محالة وهو يحاسبهم ويجازيهم فيجازي هؤلاء المتزكين أحسن الجزاء .

____________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص21-29 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

وما يستوي البحران !!

تشير الآية التالية ـ التي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ـ إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها ، فتقول الآية الكريمة : {وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اُجاج} (2) .

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض ، وأنّ كليهما من أصل واحد ، إلاّ أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضاً .

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما : (ومن كلّ تأكلون لحماً طريّاً وتستخرجون حلية تلبسونها) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والإنتقال {وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون} .

تأمّل الاُمور التالية :

1 ـ «فرات» : على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّاً .

«سائغ» : الماء الذي يُستمرأ بسهولة لعذوبته ، على عكس الماء المالح ـ أو الاُجاج ـ وهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان .

2 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر ، ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها ، والتي تتحدّث عن الخلقة ، وحتّى نفس هذه الآية ، شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضاً تبحث في أسرار التوحيد ، وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة .

3 ـ ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي : المواد الغذائية ، ووسائل الزينة ، ومسألة الحمل والنقل .

ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعاً مهمّاً من المنابع الغذائية للبشر ، وكلّ عام يُستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة ، بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعباً أو مشقّة ، فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون إعتراض وبأقل زحمة ومشقّة .

كذلك يستخرج من البحار أيضاً وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ ـ والمرجان ـ والصدف ـ والدرّ) ، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس ، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء ، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة .

وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم اُسس التمدّن الإنساني والحياة الإجتماعية ، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها ، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات بهذا الخصوص . إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار ، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر ، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاُخرى ، وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها (3) .

4 ـ بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالاُمور التي ذكرت أعلاه ، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة ، فهناك مسألة تكون الغيوم ، الأدوية النفط ، الألبسة ، الأسمدة للأراضي البور ، التأثير في إيجاد الرياح . . إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى .

5 ـ تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك .

6 ـ هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في إنتشارها ، فأين تقع بحور الماء العذب ؟

وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضاً ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها ، إضافةً إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحاراً أيضاً في بعض الأحيان ، فقد ورد إستعمال كلمة «البحر» لـ (نهر النيل) في قصّة موسى ، كما في سورة البقرة ـ الآية 50 والشعراء ـ 63 والأعراف ـ 138) .

كذلك فإنّه يمكن إعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة ، لأنّ مياه الأنهار عند إنصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للإختلاط لمدّة قصيرة .

7 ـ جملة (لتبتغوا من فضله) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية إقتصادية تعتمد على البحر .

 

وقوله تعالى : {يُولِجُ الَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاِجَل مُّسَمّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير}

 

الأصنام لا تسمع دعاءكم !!

تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية ، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي ، وليرجع عن أيّ شرك أوعبادة خرافية ، يقول تعالى : {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} .

«يولج» من مادّة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق . ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أوكليهما ، أي : الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة . ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها ، أو الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس ، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجىء من النور إلى الظلام وبالعكس (4) .

ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى : {وسخّر الشمس والقمر} . وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر ، وهذا التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر ، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته ، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحاً في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية 33 من سورة إبراهيم) .

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر ، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد ، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية . وتتوقّف عن العمل . لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول : (كلّ يجري لأجل مسمّى) .

فبمقتضى {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير : 1 ، 2] ، فإنّها جميعاً ستواجه مصير الإنطفاء والفناء .

بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لجملة (أجل مسمّى) ، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما ، والتي تتمّ في الاُولى في عام ، وفي الثانية في شهر واحد (5) .

ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم ـ بمعنى إنتهاء العمر ـ يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحاً ، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضاً ـ أي نهاية عمر الشمس والقمر ـ ورد في الآيات (61 ـ النحل و45 ـ فاطر 42 ـ الزمر 4 ـ النور 67 ـ غافر) .

ثمّ يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي {ذلكم الله ربّكم} الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها . {له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} (6) .

«قطمير» : على ما يقول الراغب : هو الأثر في ظهر النواة ، وذلك مثل للشيء الطفيف ، ويقول «الطبرسي» في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره : هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها . وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة .

نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها ، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك ، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون ، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم .

ثمّ تضيف الآية : {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} ، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر ، جمادات لا شعور لها ، {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} .

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئاً أو تحلّ لكم عقدة .

وأدهى من ذلك {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} . ويقولون : اللهمّ إنّهم لم يعبدوننا ، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة .

هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه ، أوأنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه الأصنام أيضاً ، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم .

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس : 28] .

احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيح (عليه السلام) ، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط ، وجملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم (7) .

ولكن ـ مع الإلتفات إلى سعة مفهوم {الذين تدعون من دونه} ـ يظهر أنّ المقصود هو الأصنام ، وأنّ جملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) ترتبط بالدنيا خاصّة . ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر : أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى : (ولا ينبئك مثل خبير) .

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة ، وتتضايق منكم ، فلا تتعجّبوا من هذا القول ، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل ، فهو المحيط علماً بالمستقبل والماضي والحاضر .

 

وقوله تعالى : {يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُو الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيز (17) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوكَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ

 

لا تزر وازرة وزر اُخرى :

بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان ، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول : ما هي حاجة الله لأن يُعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار ، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى ، فتقول الآية الكريمة : {يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} .

فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود ، ويكشف الكثير من الغموض ، ويجيب على الكثير من الأسئلة .

نعم ، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه ، واحد أحد ، وهو الله تعالى ، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم ، فكما أنّه غير محتاج مطلقاً ، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق ، وكما أنّه قائم بذاته ، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى ، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية ، وواجب الوجود في الذات والصفات .

ومع حال كهذه ، ما حاجته تعالى لعبادتنا ؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته ، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي ، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته .

وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى : {ذلكم الله ربّكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} .

وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه ، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى ، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلاّ منه تبارك إسمه ، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه ، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه ، لا لذواتهم مستقلّة .

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين إستغنائه عن كلّ أحد ، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر ، وفي عين انّه أرحم الراحمين ، فهو غير محتاج لأحد مطلقاً .

الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين ، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب ، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به ، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر ، لكي لا يمدّوا يد الحاجة إلى غيره ، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم ، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر ، ويعتمدوا على همّتهم ، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هومن أشعّة وجوده تعالى ، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها .

جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارةً إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر» أو «الإمكان والوجوب» لإثبات واجب الوجود ، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الإستدلال على إثبات وجود الله ، بل إنّها شرح لصفاته تعالى ، ولكن يمكن إعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية .

 

شرح برهان الإمكان والوجوب «الفقر والغنى» :

إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدماً» ، ثمّ اكتست بلباس الوجود ، أو بتعبير أدقّ : كان يوم لم تكن شيئاً فيه ، ثمّ صارت وجوداً ، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر ، وليس لها وجود من ذاتها .

ونعلم بأنّ أي وجود معلول ، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه إحتياج ، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضاً معلولة لعلّة اُخرى فإنّها بدورها ستكون محتاجة ، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة ، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبداً ، لأنّ منتهى الإحتياج إحتياج ، ومنتهى الفقر فقر ، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد ، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة إستقلال .

من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته ، ومستقل من جميع النواحي ، وهو علّة لا معلول ، وهو واجب الوجود .

هنا يثار السؤال التالي : لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟

والجواب : إذا كان الإنسان ـ الذي يعتبر سيّد المخلوقات ـ غارقاً في الحاجة والفقر إلى الله ، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة ، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود» .

وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره ، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال ، وفي كلّ شيء وكلّ مكان ، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية ، ذلك الإلتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد ، ويبعث على التواضع أمام الحقّ .

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية : {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} .

وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إليه .

وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (133) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى : {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام : 133] .

فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم ، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعاً ، ولا ينقص من عظمته شيئاً ذهاب العالم بأسره ، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئاً .

وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى : {وما ذلك على الله بعزيز} نعم ، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود .

على كلّ حال ، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك لأجلكم أنتم ، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم .

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة :

الأوّل : من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى : {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط ، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين ، ويُحكمون بالفناء على حد سواء ؟

هنا يجيب {ولا تزر وازرة وزر اُخرى} .

«وِزر» بمعنى الثقل ، وقد اُخذ من «وَزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل ، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل ، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره ، والموازرة : المعاونة (8) ، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطاً من الثقل عن رفيقه .

وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاُسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية ، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي ، بحيث يرتهن كلّ بعمله . وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه وإجتهاده في طريق الخير ، ويعاقبه على ذنبه .

ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة ، بحيث لا يكون أحد مستعدّاً لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريباً منه .

والإلتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان ، حيث يكون مراقباً لنفسه ، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط ، ففساد المحيط لا يمكن إعتباره مسوغاً لإفساد النفس ، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه .

ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون حساباً جمعياً ، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل ، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه ، ومحاربة الفساد ، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية .

وأساساً فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ إهتماماً لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر) !!

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر ، يقول تعالى : {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولوكان ذا قربى} (9) .

في حديث عن ابن عبّاس أو غيره ، أنّ اُمّاً وإبنها يأتيان في يوم القيامة وكلاًّ منهما عليه ذنوب كثيرة ، وتطلب الاُمّ من إبنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به ، فيقول لها إبتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا (10) .

ويبرز هنا السؤال التالي : هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها» .

ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة ، يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر ، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك العمل ، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة ، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع ، فمن المسلّم أنّه يُحسب من عمله ويكون شريكاً ومساهماً في ذلك العمل .

وأخيراً ، في الجملة الثالثة من الآية ، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط ، تقول الآية الكريمة : {إنّما تنذر الذين يخشون ربّهم بالغيب وأقاموا الصلاة} .

فإن لم يكن خوف الله متمكّناً من القلب ، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن ، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس . . . فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر .

وحين لا يكون الإنسان قد إعتنق عقيدة ما ولم يؤمن ، فلولم تكن لديه روح البحث عن الحقّ ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة ، فلن يصغي لدعوة الأنبياء ، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا .

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اُخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف : {ومن تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه} .

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهميّة ما دام المصير إلى الله {وإلى الله المصير} وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم .

________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص34-49 .

2 ـ «عذب» كما يذكر الراغب في مفرداته بمعنى «الماء النقي البارد» وفي لسان العرب بمعنى : «الماء الطيّب» ، ويمكن أن يكون النقي والبارد داخلان في مفهوم «الطيّب» .

3 ـ لقد صنعت حالياً سفن حمولتها خمسمائة الف طنّ لنقل النفط ، ولا يمكن لأيّة وسيلة اُخرى غير السفينة أن تنقل هذا المقدار الضخم من النفط ، كما أنّه لا يمكن لأي طريق أن يحمل مثل هذه الناقلة ، كما أنّ قدرة السفن في السابق كانت أكثر من قدرة الحيوانات .

4 ـ بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (27) من سورة آل عمران .

5 ـ تفسير «روح البيان» و«أبو الفتوح الرازي» .

6 ـ التعبير بـ «الذين» الذي هو عادةً لجمع المذكّر العاقل ، ذكرت هنا للأصنام بسبب إعتقاد المشركين الوهمي بهذه الموجودات الجامدة ، وقد ذكره القرآن هكذا ، ثمّ ردّ عليه بشدّة .

7 ـ ورد هذا التّفسير في مجمع البيان ، وتفسير الآلوسي ، والقرطبي .

8 ـ الراغب في مفرداته كتاب الواو .

9 ـ «مثقلة» بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه ، و(حمل) : على ما يقوله الراغب : معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة ، فسوّي بين لفظة في فعل وفرّق بين كثير منها في مصادرها ، فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر (حِملٌ) ، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حَملٌ) كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيهاً بحمل المرأة ، ولأنّ ما ورد في هذه الآية ، هو تشبيه للذنب بالحمل المحمول على العاتق ، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء .

10 ـ مع أنّ الحديث ورد في تفاسير مختلفة حيناً عن الفضيل بن عيّاض ، وحيناً عن ابن عبّاس ، ولكن يستبعد أن يكون الحديث عنهما مستقلا ، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) . راجع تفسير (أبو الفتوح ، والقرطبي ، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .