أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2020
10575
التاريخ: 2-9-2020
13116
التاريخ: 3-9-2020
4964
التاريخ: 4-9-2020
5338
|
قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوتَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم: 88 - 98]
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} هذا إخبار عن اليهود والنصارى ومشركي العرب فإن اليهود قالوا : عزير ابن الله وقالت النصارى : المسيح ابن الله وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} هاهنا حذف تقديره قل لهم يا محمد لقد جئتم بشيء منكر عظيم شنيع فظيع فلما حذف الباء وصل الفعل إليه فنصبه { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي: أرادت السماوات أن تنشق لعظم فريتهم إعظاما لقولهم ومعناه لو انشقت السماوات بشيء عظيم لكانت تنشق من هذا { وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ} أي: وكادت الأرض تنشق { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ} أي: كادت الجبال تسقط {هدا} أي :كسرا شديدا عن ابن عباس وقيل هدما عن عطاء { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} أي: لأن دعوا للرحمن ولدا أومن دعوا للرحمن ولدا أي بسبب دعوتهم أوتسميتهم له ولدا { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي: ما يصلح للرحمن ولا يليق به اتخاذ الولد وليس من صفته ذلك لأن إثبات الولد له يقتضي حدوثه وخروجه من صفة الإلهية واتخاذ الولد يدل على الحاجة تعالى عن ذلك وتقدس .
ثم قال سبحانه { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أي: ما كل من في السماوات والأرض من الملائكة والإنس والجن إلا ويأتي الله سبحانه عبدا مملوكا خاضعا ذليلا ومثله قوله وكل أتوه داخرين والمعنى أن الخلق عبيده خلقهم ورباهم وجرى عليهم حكمه وأن عيسى وعزيرا والملائكة من جملة العبيد وفي هذا دلالة على أن البنوة والعبودية لا يجتمعان وأنه إذا ملك الإنسان ابنه عتق عليه { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي: علم تفاصيلهم وأعدادهم فكأنه سبحانه عدهم إذ لا يخفى عليه شيء من أحوالهم { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أي: كل واحد منهم يأتي المحشر والموضع الذي لا يملك الأمر فيه إلا الله فردا وحيدا مفردا ليس له مال ولا ولد ولا ناصر مشغولا بنفسه لا يهمه هم غيره.
ثم ذكر سبحانه المؤمنين فقال { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} قيل فيه أقوال (أحدها) أنها خاصة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لعلي (عليه السلام) عن ابن عباس وفي تفسير أبي حمزة الثمالي حدثني أبوجعفر الباقر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام) قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا فقالهما علي (عليه السلام) فنزلت هذه الآية وروي نحوه عن جابر بن عبد الله الأنصاري (والثاني) أنها عامة في جميع المؤمنين يجعل الله لهم المحبة والألفة والمقة في قلوب الصالحين قال هرم بن حبان : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقهم مودتهم ورحمتهم ومحبتهم وقال الربيع بن أنس : إن الله إذا أحب مؤمنا قال لجبرائيل إني أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبرائيل ثم ينادي في السماء ألا إن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له قبول في أهل الأرض فعلى هذا يكون المعنى يحبهم الله ويحببهم إلى الناس (والثالث) أن معناه يجعل الله لهم محبة في قلوب أعدائهم ومخالفيهم ليدخلوا في دينهم ويعتزوا بهم (الرابع) يجعل بعضهم يحب بعضا فيكون كل واحد منهم عضدا لأخيه المؤمن ويكونون يدا واحدة على من خالفهم (والخامس) أن معناه سيجعل لهم ودا في الآخرة فيحب بعضهم بعضا كمحبة الوالد لولده وفي ذلك أعظم السرور وأتم النعمة عن الجبائي ويؤيد القول الأول ما صح عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الأمي أنه قال لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق.
ثم قال سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} أي: يسرنا القرآن بأن أنزلناه بلسانك وهي لغة العرب ليسهل عليهم معرفته ولو كان بلسان آخر ما عرفوه عن أبي مسلم وقيل: معناه يسرناه قراءة القرآن على لسانك ومكناك من قراءته عن الجبائي { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أي: لتبشر بالقرآن الذين يتقون الشرك والكبائر أي تخبرهم بما تسرهم مما أعده الله لهم { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أي: شدادا في الخصومة عن ابن عباس يعني قريشا وقيل قوما ذوي جدل مخاصمين عن قتادة.
ثم أنذرهم سبحانه وخوفهم بقوله { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي: قبل هؤلاء من قرن مكذبين للرسل وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمعنى لا يهمنك كفرهم وشقاقهم فإن وبال ذلك راجع إليهم وقد أهلكنا قبلهم من كان مثلهم { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أي: هل تبصر منهم أحدا { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي: صوتا عن ابن عباس وقتادة وقيل: حسا عن ابن زيد والمعنى أنهم ذهبوا فلا يرى لهم عين ولا يسمع لهم صوت وكانوا أكثر أموالا وأعظم أجساما وأشد خصاما من هؤلاء فلم يغنهم ذلك لما أردنا إهلاكهم فحكم هؤلاء الكفار حكم أولئك في أنه لا يبقى منهم عين ولا أثر .
___________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص435-456.
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{ وقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنْشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً } . لقد هدد اللَّه سبحانه الذين جعلوا له بنين وبناتا . وتوعدهم في الكثير من آياته ، منها الآية 116 من سورة البقرة ج 1 ص 186 والآية 48 من سورة النساء ج 2 ص 344 والآية 171 من سورة النساء أيضا ج 2 ص 499 والآية 101 من سورة الأنعام ج 3 ص 237 .
ثم ذكر سبحانه قولهم هنا بهذا الأسلوب الرهيب . . وهو ان دل على شيء فإنما يدل على أن الإنسان يجرأ على ما لا يجرأ عليه كائن في الأرض ولا في السماء . .
فلقد تجرأ على خالقه ، وهو يعيش في كنفه ، ونسب إليه ما تنشق السماء ، وتخسف الأرض ، وتسقط الجبال لمجرد سماعه .
وتسأل: ولم هذه الانتفاضة الكونية لكلمة تفوه بها من تفوه عن جهل وضعف عقل ؟.
الجواب : ان هذه الانتفاضة أوالغضبة الإلهية ليست على فرد أوعلى جماعة معدودين ، وانما هي على هذا الشرك الذي أصبح دينا وعقيدة تدين بها مئات الملايين جيلا بعد جيل . . على هذه التماثيل للإله الطفل والإلاهة الأم . . « مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ - 75 المائدة .
{ وما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً } . لأن الولد شبيه بوالده ، واللَّه ليس كمثله شيء ، ولأن اتخاذ الولد انما يكون لحاجة الوالد إليه ، واللَّه غني عن العالمين .
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً } . ما من كائن سفلي أوعلوي إلا هو عبد للَّه يملك منه ما لا يملكه العبد من نفسه . . وبديهة ان المملوك غير الولد ، والمالك غير الوالد { لَقَدْ أَحْصاهُمْ وعَدَّهُمْ عَدًّا وكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً } . ضمير أحصاهم وعدّهم يعود إلى من في السماوات والأرض ، وضمير آتيه إلى اللَّه ، والمعنى ان اللَّه لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وان كل مسؤول يأتي إلى اللَّه يوم المحشر وحيدا لا ناصر له ولا معين ولا يملك من أمر نفسه كثيرا ولا قليلا فضلا عن أمر غيره ، ومن يأتي اللَّه كذلك فكيف يكون ولدا له .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا } . ان اللَّه سبحانه يحدث في قلوب عباده مودة لأهل الايمان والإخلاص لا لشيء إلا تقديرا للفضيلة والخلق الكريم . قال محمد بن أحمد الكلبي صاحب ( التسهيل ) : قيل : ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب . وقال الشيخ المراغي ، وهو أحد شيوخ الأزهر : « اخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) قال لعلي :
قل اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في صدور المؤمنين ودا ، فنزلت الآية » .النصارى وبنوهاشم :
وقال أبوحيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : « ذكر النقاش ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، وقال محمد بن الحنفية : لا تجد مؤمنا إلا وهويحب عليا . . ومن غريب هذا - الكلام لأبي حيان - ما أنشدنا الإمام اللغوي رضا الدين أبوعبد اللَّه محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزبينا ابن إسحاق النصراني الرسغي :
عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم * بسوء ولكني محب لهاشم
وما تعتريني في علي ورهطه * إذا ذكروا في اللَّه لومة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبهم * وأهل النهى من أعرب وأعاجم
فقلت لهم اني لأحسب حبهم * سرى في قلوب الخلق حتى البهائم
{ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا } . المراد باللد الذين يتشددون في الخصومة والجدل ، والمعنى ان اللَّه أنزل القرآن بلغة العرب ليسهل عليهم معرفته وفهم معانيه ، ويكون بشيرا لمن آمن واتقى ، ونذيرا لمن كفر وبغى . ومر نظيره في سورة يوسف الآية 2 ج 4 ص 286 .
{ وكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوتَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } .
أي هل تسمع لهم صوتا ، والقصد ان اللَّه قد أبادهم عن آخرهم ، وتقدم مثله في الآية 74 من هذه السورة ، والآية 17 من سورة الإسراء .
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 200-202.
قوله تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} من قول الوثنيين وبعض خاصتهم، وإن قال ببنوة الآلهة أوبعضهم لله سبحانه تشريفا أوتجليلا لكن عامتهم وبعض خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت واشتمال الولد على جوهرة والده، وهذا هو المراد بالآية والدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، وكذا ما في قوله:{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.
قوله تعالى:{ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} إلى تمام ثلاث آيات، الإد بكسر الهمزة: الشيء المنكر الفظيع، والتفطر الانشقاق، والخرور السقوط، والهد الهدم.
والآيات في مقام إعظام الذنب وإكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن وينشققن منه وتنشق الأرض وتسقط الجبال على السهل سقوط انهدام إن دعوا للرحمن ولدا.
قوله تعالى:{ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} إلى تمام أربع آيات.
المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل إليه ومثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا، ولذا لم يقيد الإتيان في الآية بالقيامة بخلاف ما في الآية الرابعة.
والمراد بإحصائهم وعدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم وتتبين وظائفهم والأمور التي يستعملون فيها بعد الإحصاء وعدهم وثبتهم في ديوان العبيد وبه تسجل عليهم العبودية.
والمراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيانه يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا وكان يقال: إن له حولا وقوة ومالا وولدا وأنصارا ووسائل وأسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الأسباب أنه فرد ليس معه شيء يملكه وأنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط ولن يملك أبدا فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.
ويظهر بما تقدم أن الذي تتضمنه الآيات من الحجة على نفي الولد حجة واحدة ومحصلها أن كل من في السماوات والأرض عبد لله مطيع له في عبوديته ليس له من الوجود وآثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لأمره تابعا لإرادته من غير أن يملك من ذلك شيئا، وليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم وعدهم فسجل عليهم العبودية وأثبت كلا في موضعه وسخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا لعبوديته، وليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا ولا يصاحبه شيء ويظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك وإذا كان هذا حال كل من في السموات والأرض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت مشتقا من جوهرتها، وكيف تجتمع الألوهية والفقر؟.
وأما انتهاء وجود الأشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الآية الأولى فمما لا يرتاب فيه مثبتوالصانع سواء في ذلك الموحدون والمشركون وإنما الاختلاف في كثرة المعبود ووحدته وكثرة الرب بمعنى المدبر ولو بالتفويض وعدمها.
قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} الود والمودة المحبة وفي الآية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات مودة في القلوب ولم يقيده بما بينهم أنفسهم ولا بغيرهم ولا بدنيا ولا بآخره أوجنة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة وآخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.
وقد ورد في أسباب النزول، من طرق الشيعة وأهل السنة أن الآية نزلت في علي (عليه السلام)، وفي بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة وفي بعضها غير ذلك.
وعلى أي حال فعموم لفظ الآية في محله، والظاهر أن الآية متصلة بقوله السابق: سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}.
الآيتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن وهي أعلى من أن تنالها أيدي الأفهام العادية أويمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده وينذر به قوما لدا خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.
قوله تعالى:{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} التيسير وهو التسهيل ينبىء عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته ولا فهمه وقد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله:{ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ:} الزخرف: 4، فأخبر أنه لوأبقاه على ما كان عليه عنده – وهو الآن كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس وكان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم وينفذ فيه عقولهم.
ومن هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنبىء الآية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير والإنذار.
وربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي واختصاصه بوحي الكلام الإلهي ليبشر به وينذر.
وهذا وإن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه الأول مضافا إلى تأيده بالآيات السابقة وأمثالها أنسب وأوفق بسياق آيات السورة.
وقوله:{ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} المراد قومه، (صلى الله عليه وآله وسلم) واللد جمع ألد من اللدد وهو الخصومة.
قوله تعالى:{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} الإحساس هو الإدراك بالحس، والركز هو الصوت، قيل: والأصل في معناه الحس، ومحصل المعنى أنهم وإن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزي الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد ولا يسمع لهم صوت.
____________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج14،ص90-95.
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك، وعاقبة عمل المشركين، فقد أشارت هذه الآيات في نهاية البحث إِلى فرع من فروع الشرك، أي الاعتقاد بوجود ولد لله سبحانه، وتبيّن مرّة أُخرى قبح هذا الكلام بأشد وأحدّ بيان، فتقول: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} فليس المسيحيون لوحدهم كانوا يعتقدون بأنّ «المسيح» هو الإِبن الحقيقية لله سبحانه، بل إِن اليهود كانوا يعتقدون أيضاً مثل هذا الإِعتقاد في (عزير)، وكذلك عبدة الأصنام في (الملائكة) فكانوا يظنون أنّها بنات الله(2).
عند ذلك قالت الآية بلهجة شديدة: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} والإِدّ ـ على وزن ضد ـ معناه في الأصل الصوت القبيح المضطرب الذي يصل الأذن نتيجة الاضطراب الشديد للأمواج الصوتية في حنجرة البعير، ثمّ أطلق على الأعمال القبيحة والموحشة جداً.
ولما كانت مثل هذه النسبة غير الصحيحة مخالفة لأصل التوحيد ـ لأنّ الله سبحانه لا شبيه له ولا مثيل، ولا حاجة له إِلى الولد، ولا هو جسم ولا تعرض عليه العوارض الجسمية ـ فكأنّ كل عالم الوجود، الذي بني على أساس التوحيد، قد اضطرب وتصدع إِثر هذه النسبة الكاذبة، ولذلك تضيف الآية التالية: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}!
ومن أجل تأكيد وبيان أهمية الموضوع فإِنّها تقول: إِن كل ذلك من أجل { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}.
إِنّ هؤلاء ـ في الحقيقة ـ لم يعرفوا الله قط، لأنّه: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} فإنّ الإِنسان يطلب الولد لواحد من عدّة أشياء:
إِمّا لأنّ عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.
أو لأنّه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة.
أو لأنّه يستوحش من الوحدة، فيبحث عن مؤنس لوحدته.
أو لأنّه يحتاج عند كبره وعجزه إِلى مساعد ومعين شاب.
لكن أيّاً من هذه المعاني لا ينطبق على الله سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحس بالوحدة والحاجة، إِضافة إِلى أن امتلاك الولد دليل على الجسمية، ووجود الزوجة، وكل هذه المعاني بعيدة عن ذاته المقدسة. ولذلك قالت الآية الأُخرى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}، فمع أن كل العباد مطيعون له، وقد وضعوا أرواحهم وقلوبهم على الأكف طاعة لأمره، فهو غير محتاج لطاعتهم، بل هم المحتاجون.
ثمّ تقول الآية التالية: { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي لا تتصور بأنّ محاسبة كل هؤلاء العباد غير ممكن، وعسير عليه سبحانه، فإنّ علمه واسع إِلى الحد الذي ليس يحصي عدد هؤلاء وحسب، بل إِنّه عالم ومطلع على كل خصوصياتهم، فلا هم يستطيعون الفرار من حكومته، ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم.
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وبناء على هذا فإنّ المسيح وعزير والملائكة وكل البشر يشملهم حكمه ولا يستثنى منه أحد، ومع هذه الحال فما أقبح أن نعتقد ونقول بوجود ولد له، وكم ننقص من قدر ذاته المقدسة وننزلها من أوج العظمة وقمتها، وننكر صفاته الجلالية والجمالية حينما ندعي أن له ولداً(3)
الإِيمان والمحبوبية:
هذه الآيات الثلاث نهاية سورة مريم، والكلام فيها أيضاً عن المؤمنين، والظالمين الكافرين، وعن القرآن وبشاراته وإِنذراته، وهي ـ في الحقيقة ـ عصارة البحوث السابقة بملاحظات ونكات جديدة.
تقول أوّلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.
لقد اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية خاصّة بأمير المؤمنين(عليه السلام)، والبعض اعتبرها شاملة لكل المؤمنين.
وقال آخرون: إِنّ المراد أنّ الله سبحانه يلقي محبّة هؤلاء في قلوب أعدائهم، وتصبح هذه المحبّة رباطاً ولجاماً في رقابهم تجرهم إِلى الإِيمان.
وذهب البعض بأنّها تعني محبة المؤمنين بعضهم لبعض، والتي تكون سبباً في قوتهم وزيادة قدرتهم، ووحدة كلمتهم.
واعتبرها بعضهم إِشارة إِلى محبّة المؤمنين وإِخوتهم لبعضهم في الآخرة، وقالوا: بأنّ هؤلاء سيعيشون نوعاً من ا لعلاقة فيما بينهم بحيث يكونون في أعلى درجات السعادة والسرور.
غير أننا إِذا فكرنا وتدبرنا بسعة نظر في المفاهيم الواسعة للآية، فسنرى أن جميع هذه التفاسير قد جمعت في معنى الآية بدون أن تتضاد مع بعضها.
والنطقة الرئيسية للآية، هي أنّ للإِيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإنّ الإعتقاد بوحدانية الله، والإِيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح الإِنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إِنسانية عالية، وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإِيثار، فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة.
وحتى الأفراد الملوثون، فإِنّهم يرتاحون للطاهرين الصالحين، ويتنفرون من القذرين أمثالهم، ولذلك فإنا نراهم ـ مثلا ـ إِذا أقدموا على الزواج فإنّهم يؤكّدون على توفر جانب العفة والطاهرة والأمانة والصدق في الزوجة.
وهذا أمر طبيعي، وهو في الحقيقة أوّل مكافأة يعطيها الله للمؤمنين والصالحين في هذه الدنيا وتصحبهم إِلى عالم الآخرة أيضاً.
لقد رأينا بأُم أعيننا كثيراً من هؤلاء الأتقياء عندما يحين أجلهم ويرتحلون عن هذه الدنيا، فإنّ الناس يبكونهم، بالرغم من أنّهم لم يكن لهم منصب ولا مركز اجتماعي، ولكن الناس يشعرون يفقدهم، ويعتبرون أنفسهم شركاء في مصاب هؤلاء وعزائهم.
أمّا ما اعتقده البعض من أنّ ذلك في شأن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد أشير إِلى ذلك في روايات عديدة، فإنّ الدرجة العالية والمرحلة السامية منه مختصة بإمام المتقين ـ وسنبحث بعض هذه الرّوايات مفصلا في الملاحظات الآتية ـ إلاّ أنّ هذا لا يكون مانعاً من أن يذوق ويتمتع كل المؤمنون والصالحون في المراتب الأُخرى بطعم المحبّة هذا، ويحظون به لدى عامّة الناس، وأن يفوزوا بسهم من هذه المودّة الإِلهية. وسوف لا يكون مانعاً من أن يضمر الأعداء ـ أيضاً ـ في داخلهم المحبّة والإِحترام تجاه هؤلاء.
وهناك نكتة لطيفة نقرؤها في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّ الله إِذا أحبّ عبداً دعا جبرئيل، فقال: يا جبرئيل، إِنّي أحب فلاناً فأحبّه، قال: فيحبّه جبرئيل، ثمّ ينادي في أهل السماء: إِن الله يحب فلاناً فأحبّوه، قال: فيحبّه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض.
وإِن الله إِذا أبغض عبداً دعا جبرئيل، فقال: يا جبريئل، إِنّي أبغض فلاناً فابغضه، قال: فيبغضه جبرئيل، ثمّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله يبغض فلاناً فابغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثمّ يوضع له البغضاء في الأرض»(4).
إِنّ هذا الحديث العميق المحتوى يبيّن أن للإِيمان والعمل الصالح نوراً وضياء بسعة عالم الوجود، ويعم نور المحبة الحاصل منهما كل أرجاء عالم الخلقة، وإِن الذات الإِلهية المقدسة تحب أمثال هذا الفرد، فهم محبوبون عن كل أهل السماء، وتقذف هذه المحبّة في قلوب أهل الأرض.
حقاً، أي لذة أكبر من أن يحس الإِنسان بأنّه محبوب من قبل كل الطاهرين والصالحين في عالم الوجود؟ وأي عذاب أشد من أن يشعر الإِنسان بأن الأرض والسماء والملائكة والمؤمنين جميعاً متنفرون ومشمئزون منه؟!
ثمّ تشير الآية التالية إِلى القرآن الذي هو منبع ومصدر تنمية الإِيمان والعمل الصالح، فتقول: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}.
«اللُّد» ـ بضم اللام وتشديد الدال ـ جمع أَلدّ ـ على وزن مَعَدّ ـ بمعنى العدو الشديد العداوة، وتطلق على المتعصب العنود في عداوته، ولا منطق له.
وتقول الآية الأخيرة كتهدئة لخاطر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وتسلية لهم، خاصّة مع ملاحظة أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، وكان المسلمون يومذاك تحت ضغط شديد جدّاً. وكذلك تقول بنبرة التهديد والتحذير لكل الأعداء اللجوجين العنودين: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.
«الركز» بمعنى الصوت الهادىء، ويقال للأشياء التي يخفونها تحت الأرض: «ركاز»، أي إِنّ هؤلاء الأقوام الظالمين، وأعداء الحق والحقيقة المتعصبين، قد تمّ تدميرهم وسيحقهم الى حدّ لا يسمع صوت خفي منهم.
_____________
1-تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص92-
2- لقد تمّ الحديث عن «عزير» في الآية (30) من سورة التوبة، وعن (الملائكة) في ذيل الآية (19) من سورة الزخرف.
3- بحثنا حول نفي الولد عن الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (116) من سورة البقرة، ذيل الآية (68) من سورة يونس.
4- لقد ورد هذا الحديث في كثير من المصادر الحديثية المعروفة، وكذلك في كثير من كتب التّفسير، إِلاّ أنّنا اخترنا المتن الذي نقل في تفسير (في ظلال القرآن)، ج 5، ص 254 عن أحمد ومسلم والبخاري.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|