المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17751 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
ميعاد زراعة الجزر
2024-11-24
أثر التأثير الاسترجاعي على المناخ The Effects of Feedback on Climate
2024-11-24
عمليات الخدمة اللازمة للجزر
2024-11-24
العوامل الجوية المناسبة لزراعة الجزر
2024-11-24
الجزر Carrot (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-24
المناخ في مناطق أخرى
2024-11-24

نظرية رايلي – جينز الكلاسيكية
2023-10-14
خبر الولادة في الكعبة ليس من اخبار الآحاد
7-2-2019
المراد من «العرش»
21-10-2014
ابن ابي الفتوح
7-8-2016
معجزاته الامام العسكري (عليه السلام)
31-07-2015
القيافة
26-9-2016


تفسير الآية (133-148) من سورة الصافات  
  
6602   12:53 صباحاً   التاريخ: 31-8-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الصاد / سورة الصافات /

قال تعالى : {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُو مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُو سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَويَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات : 133 - 148] .

 

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

عطف سبحانه على ما تقدم خبر لوط فقال {وإن لوطا لمن المرسلين} أي رسولا من جملة من أرسله الله إلى خلقه داعيا لهم إلى طاعته ومنبها لهم على وحدانيته {إذ نجيناه وأهله أجمعين} إذ يتعلق بمحذوف وكأنه قيل اذكر يا محمد إذ نجيناه أي خلصناه ومن آمن به من قومه من عذاب الاستئصال {إلا عجوزا في الغابرين} أي في الباقين الذين أهلكوا استثنى من جملة قومه امرأته فقال {ثم دمرنا الآخرين} أي أهلكناهم {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} هذا خطاب لمشركي العرب أي تمرون في ذهابكم ومجيئكم إلى الشام على منازلهم وقراهم بالنهار وبالليل .

{أ فلا تعقلون} فتعتبرون بهم ومن كثر مروره بموضع العبر فلم يعتبر كان ألوم ممن قل ذلك عنه والمعنى أ فلا تتفكرون فيما نزل بهم لتجتنبوا ما كانوا يفعلونه من الكفر والضلال والوجه في ذكر قصص الأنبياء وتكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال وصرف الخلق عما كان عليه الكفار من مساوىء الخصال ومقابح الأفعال .

{وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون} أي فر من قومه إلى السفينة المملوءة من الناس والأحمال خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم {فساهم} يونس القوم بأن ألقوا السهام على سبيل القرعة أي قارعهم {فكان من المدحضين} أي من المقروعين ، عن الحسن وابن عباس وقيل من المسهومين عن مجاهد والمراد من الملقين في البحر واختلف في سبب ذلك فقيل إنهم أشرفوا على الغرق فرأوا أنهم إن طرحوا واحدا منهم في البحر لم يغرق الباقون وقيل إن السفينة احتبست فقال الملاحون إن هاهنا عبدا آبقا فإن من عادة السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فذلك اقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات فعلموا أنه المطلوب فألقى نفسه في البحر وقيل إنه لما وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر .

{فالتقمه الحوت} أي ابتلعه وقيل إن الله سبحانه أوحى إلى الحوت أني لم أجعل عبدي رزقا لك ولكني جعلت بطنك مسجدا له فلا تكسرن له عظما ولا تخدشن له جلدا {وهو مليم} أي مستحق للوم لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من بين قومه من غير أمر ربه وعندنا أن ذلك إنما وقع منه تركا للمندوب وقد يلام الإنسان على ترك المندوب ومن جوز الصغيرة على الأنبياء قال قد وقع ذلك صغيرة مكفرة واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت فقيل كانت ثلاثة أيام عن مقاتل بن حيان وقيل سبعة أيام عن عطا وقيل عشرين يوما عن الضحاك وقيل أربعين يوما عن السدي ومقاتل بن سليمان والكلبي .

{فلولا أنه كان من المسبحين} أي كان من المصلين في حال الرخاء فنجاه الله عند البلاء عن قتادة وقيل كان تسبيحه أنه كان يقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين عن سعيد بن جبير وقيل من المسبحين أي من المنزهين الله عما لا يليق به ولا يجوز في صفته الذاكرين له {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة {فنبذناه بالعراء} أي فطرحناه بالمكان الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر وقيل بالساحل ألهم الله سبحانه الحوت حتى قذفه ورماه من جوفه على وجه الأرض {وهو سقيم} أي مريض حين ألقاه الحوت .

{وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} وهو القرع عن ابن مسعود وقيل هو كل نبت يبسط على وجه الأرض ولا ساق له عن ابن عباس والحسن وروي عن ابن مسعود قال خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش فاستظل بالشجر من الشمس {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} قيل إن الله سبحانه أرسله إلى أهل نينوى من أرض الموصل عن قتادة وكانت رسالته هذه بعد ما نبذه الحوت عن ابن عباس فعلى هذا يجوز أن يكون أرسل إلى قوم بعد قوم ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين بشريعة ف آمنوا بها وقيل في معنى أومن قوله {أو يزيدون} وجوه (أحدها) أنه على طريق الإبهام على المخاطبين كأنه قال أرسلناه إلى إحدى العدتين (وثانيها) أن أو تخيير كان الرائي خير بين أن يقول هم مائة ألف أو يزيدون عن سيبويه والمعنى أنهم كانوا عددا لو نظر إليهم الناظر لقال هم مائة ألف أو يزيدون (وثالثها) أن أو بمعنى الواو كأنه قال ويزيدون عن بعض الكوفيين وقال بعضهم معناه بل يزيدون وهذان القولان الأخيران غير مرضيين عند المحققين (2) . وأجود الأقوال الثاني .

 واختلف في الزيادة على مائة ألف كم هي فقيل عشرون ألفا عن ابن عباس ومقاتل وقيل بضع وثلاثون ألفا عن الحسن والربيع وقيل سبعون ألفا عن مقاتل بن حيان {ف آمنوا فمتعناهم إلى حين} حكى سبحانه عنهم أنهم آمنوا بالله وراجعوا التوبة فكشف عنهم العذاب ومتعهم بالمنافع واللذات إلى انقضاء آجالهم .

______________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص331-333 .

2- يعني القول بأن (أو) بمعنى الواو ، او بمعنى بل ، على قراءة : ((او يزيدون)) .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

 

{وإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} . تقدم في الآية 80 - 84 من سورة الأعراف ج 3 ص 353 - 354 وفي سورة هود الآية 77 - 83 ج 4 ص 253 - 256 وفي سورة العنكبوت الآية 28 - 35 . وفي التوراة الأصحاح 19 من سفر التكوين الآية 30 - 38 : انه كان للوط بنتان ، فأسقتا أباهما خمرا فواقعهما ، وأولد كلا منهما ذكرا .

وإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ . كان العرب يسافرون من الحجاز إلى الشام للتجارة وغيرها ، ويمرون في طريقهم صباحا ومساء وذهابا وإيابا على أرض قوم لوط ، ويرون آثار الهلاك والدمار ، فحذر سبحانه مشركي العرب الذين كذبوا محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) قائلا لهم : ألا تعتبرون بما قد رأيتم من ديار قوم لوط كيف أصبحت خالية خاوية ؟ ألا تخافون أن يصيبكم ما أصابهم ؟

وإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . يونس هذا هو ذو النون الذي جاء ذكره في الآية 87 من سورة الأنبياء : وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً وأيضا هو صاحب الحوت الذي أشارت إليه الآية 48 من سورة القلم : {ولا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وهُو مَكْظُومٌ} . وقال بعض المفسرين : ان يونس من أهل نينوى بكسر النون . وفي قاموس الكتاب المقدس : (ان نينوى كانت عاصمة الأشوريين ، وانها ازدهرت ازدهارا عظيما في بعض القرون للميلاد ، وانها كانت على الضفة الشرقية من نهر دجلة ، وان أهلها كانوا يعبدون الإلهة عشتار أو عشتروت التي اشتركت في عبادتها معظم شعوب العالم القديم) .

{إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} . دعا يونس قومه إلى عبادة اللَّه ، فلم يستجيبوا لدعوته ، فضاق صدره بهم ، وهاجر مغاضبا لهم حتى إذا انتهى إلى ساحل البحر وجد سفينة مشحونة بالناس والأحمال ، فسأل أهلها أن يصحبوه ففعلوا ، ولما توسط البحر أشرفت السفينة على الغرق ، وكان لا بد من إلقاء واحد من ركابها في البحر لتنجو من الغرق ، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس ، فألقى نفسه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وهُو مُلِيمٌ} لأنه لم يصبر على أذى قومه كما صبر غيره من الأنبياء .

{فَلَولا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وبيّن سبحانه نوع تسبيحه في الآية 87 من سورة الأنبياء : {فَنادى فِي الظُّلُماتِ} - أي في بطن الحوت – {أَنْ لا إِلهً إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاستجاب اللَّه لندائه ، ونجّاه من سجنه السيار في بطون البحار ، ولولا لجوءه إلى اللَّه مخلصا لكان سجنه مؤبدا إلى قيام الساعة .

{فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وهُو سَقِيمٌ وأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} . قالوا : خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط في فلاة لا أنيس فيها ولا حسيس ، فأنبت اللَّه عليه شجرة من يقطين يستظل بها {وأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَو يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ} . أرسله سبحانه إلى هذا العدد ، فأعرضوا في البداية ، ولما تركهم مغاضبا خافوا من نقمة اللَّه وعذابه ، فآمنوا باللَّه وطلبوا منه العفو والرحمة ، فعفا وأنجاهم من الهلاك إلى أن وافاهم الأجل ، وعاد إليهم يونس ففرحوا بقدومه وفرح بإيمانهم . أنظر ج 4 ص 193 فقرة {القصة} وج 5 ص 269 .

________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص355-357 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

خلاصة قصة لوط (عليه السلام) ثم قصة يونس (عليه السلام) وابتلاء الله تعالى له بالحوت مأخوذا بما أعرض عن قومه عند ارتفاع العذاب عنهم بعد نزوله وإشرافه عليهم .

قوله تعالى : {وإن لوطا لمن المرسلين إذ نجيناه وأهله أجمعين} وإنما نجاه وأهله من العذاب النازل على قومه وهو الخسف وأمطار حجارة من سجيل على ما ذكره الله تعالى في سائر كلامه .

قوله تعالى : {إلا عجوزا في الغابرين} أي في الباقين في العذاب المهلكين به وهي امرأة لوط .

قوله تعالى : {ثم دمرنا الآخرين} التدمير الإهلاك ، والآخرين قومه الذين أرسل إليهم .

قوله تعالى : {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أ فلا تعقلون} فإنهم على طريق الحجاز إلى الشام ، والمراد بالمرور عليهم المرور على ديارهم الخربة وهي اليوم مستورة بالماء على ما قيل .

قوله تعالى : {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون} أي السفينة المملوءة من الناس والإباق هرب العبد من مولاه .

والمراد بإباقه إلى الفلك خروجه من قومه معرضا عنهم وهو(عليه السلام) وإن لم يعص في خروجه ذلك ربه ولا كان هناك نهي من ربه عن الخروج لكن خروجه إذ ذاك كان ممثلا لإباق العبد من خدمة مولاه فأخذه الله بذلك ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى : {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء : 87] .

قوله تعالى : {فساهم فكان من المدحضين} المساهمة المقارعة والإدحاض الغلبة أي فقارع من في السفينة فكان من المغلوبين ، وقد كان عرض لسفينتهم الحوت فاضطروا إلى أن يلقوا واحدا منهم في البحر ليبتلعه ويخلي السفينة فقارعوا فأصابت يونس (عليه السلام) .

قوله تعالى : {فالتقمه الحوت وهو مليم} الالتقام الابتلاع ، ومليم من ألام أي دخل في اللوم كأحرم إذا دخل في الحرم أو بمعنى صار ذا ملامة .

قوله تعالى : {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} عده من المسبحين وهم الذين تكرر منهم التسبيح وتمكن منهم حتى صار وصفا لهم يدل على دوام تلبسه زمانا بالتسبيح .

قيل : أي من المسبحين قبل التقام الحوت إياه ، وقيل : بل في بطن الحوت ، وقيل : أي كان من المسبحين قبل التقام الحوت وفي بطنه .

والذي حكي من تسبيحه في كلامه تعالى قوله في سورة الأنبياء : {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء : 87] ولازم ذلك أن يكون من المسبحين في بطن الحوت خاصة أوفيه وفيما قبله فاحتمال كون المراد تسبيحه قبل التقام الحوت مرجوح لا ينبغي أن يصار إليه .

على أن تسبيحه مع اعترافه بالظلم في قوله : {سبحانك إني كنت من الظالمين} - على ما سيجيء - تسبيح له تعالى عما كان يشعر به (2) فعله من ترك قومه وذهابه على وجهه ، وقوله : {فلولا أنه كان من المسبحين} إلخ يدل على أن تسبيحه كان هو السبب المستدعي لنجاته ، ولازم ذلك أن يكون إنما ابتلي بما ابتلي به لينزهه تعالى فينجو بذلك من الغم الذي ساقه إليه فعله إلى ساحة العافية .

وبذلك يظهر أن العناية في الكلام إنما هي بتسبيحه في بطن الحوت خاصة فخير الأقوال الثلاثة أوسطها .

فالظاهر أن المراد بتسبيحه نداؤه في الظلمات بقوله : {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وقد قدم التهليل ليكون كالعلة المبينة لتسبيحه كأنه يقول : لا معبود بالحق يتوجه إليه غيرك فأنت منزه مما كان يشعر به فعلى أني آبق منك معرض عن عبوديتك متوجه إلى سواك إني كنت ظالما لنفسي في فعلي فها أنا متوجه إليك متبرىء مما كان يشعر به فعلى من التوجه عنك إلى غيرك .

فهذا معنى تسبيحه ولولا ذلك منه لم ينج أبدا إذ كان سبب نجاته منحصرا في التسبيح والتنزيه بالمعنى الذي ذكر .

وبذلك يظهر أن المراد بقوله : {للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} تأبيد مكثه في بطنه إلى أن يبعث فيخرج منه كالقبر الذي يقبر فيه الإنسان ويلبث فيه حتى يبعث فيخرج منه قال تعالى : {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه : 55] .

ولا دلالة في الآية على كونه (عليه السلام) على تقدير اللبث حيا في بطن الحوت إلى يوم يبعثون أو ميتا وبطنه قبره مع بقاء بدنه وبقاء جسد الحوت على حالهما أو بنحو آخر فلا مساغ لاختلافهم في كونه (عليه السلام) حيا على هذا التقدير أو ميتا وبطنه قبره ، وأن المراد بيوم يبعثون النفخة الأولى التي فيها يموت الخلائق أو النفخة الثانية أو التأجيل بيوم القيامة كناية عن طول اللبث .

قوله تعالى : {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} النبذ طرح الشيء والرمي به ، والعراء المكان الذي لا سترة فيه يستظل بها من سقف أو خباء أو شجر .

والمعنى على ما يعطيه السياق أنه صار من المسبحين فأخرجناه من بطن الحوت وطرحناه خارج الماء في أرض لا ظل فيها يستظل به وهو سقيم .

قوله تعالى : {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} اليقطين من نوع القرع ويكون ورقه عريضا مستديرا وقد أنبتها الله عليه ليستظل بورقها .

قوله تعالى : {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} أوفي مورد الترقي وتفيد معنى بل ، والمراد بهذه الجماعة أهل نينوى .

قوله تعالى : {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} أي آمنوا به فلم نعذبهم ولم نهلكهم بما أشرف عليهم من العذاب فمتعناهم بالحياة والبقاء إلى أجلهم المقدر لهم .

والآية في إشعارها برفع العذاب عنهم وتمتيعهم تشير إلى قوله تعالى : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس : 98] .

ولا يخلو السياق من إشعار - بل دلالة - على أن المراد من إرساله في قوله : {وأرسلناه} أمره بالذهاب ثانيا إلى القوم ، وبإيمانهم في قوله : {فآمنوا} إلخ إيمانهم بتصديقه واتباعه بعد ما آمنوا وتابوا حين رأوا العذاب .

ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعضهم بالآيتين أن إرساله إلى القوم كان بعد خروجه من بطن الحوت وأنه أمر أولا بالذهاب إلى أهل نينوى ودعوتهم إلى الله وكانوا يعبدون الأصنام فاستعظم الأمر وخرج من بيته يسير في الأرض لعل الله يصرف عنه هذا التكليف وركب البحر فابتلاه الله بالحوت ثم لما نبذ بالعراء كلف ثانيا فأجاب وأطاع ودعاهم فاستجابوا فدفع الله عذابا كان يهددهم إن لم يؤمنوا .

وذلك أن السياق كما سمعت يدل على كون إرساله بأمر ثان وأن إيمانهم كان إيمانا ثانيا بعد الإيمان والتوبة وأن تمتيعهم إلى حين كان مترتبا على إيمانهم به لا على كشف العذاب عنهم فلم يكن الله سبحانه ليتركهم لولم يؤمنوا برسوله ثانيا كما آمنوا به وتابوا إليه أولا في غيبته فافهم ذلك .

على أن قوله تعالى : {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} [الأنبياء : 87] وقوله : { وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم : 48]لا يلائم ما ذكروه ، وكذا قوله : { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس : 98] إذ لا يطلق الكشف إلا في عذاب واقع حال أو مشرف .

 

كلام في قصة يونس (عليه السلام) في فصول

 

1 - لم يتعرض القرآن الكريم إلا لطرف من قصته وقصة قومه فقد تعرض في سورة الصافات لإرساله ثم إباقه وركوبه الفلك والتقام الحوت له ثم نجاته وإرساله إلى القوم وإيمانهم قال تعالى : {وإن يونس لمن المرسلين . إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين . فالتقمه الحوت وهو مليم . فلولا أنه كان من المسبحين . للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . فنبذناه بالعراء وهو سقيم . وأنبتنا عليه شجرة من يقطين . وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون . فآمنوا فمتعناهم إلى حين} .

وفي سورة الأنبياء : لتسبيحه في بطن الحوت وتنجيته قال تعالى : {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 87 ، 88] .

وفي سورة ن : لندائه مكظوما وخروجه من بطنه واجتبائه قال تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم : 48 - 50] .

وفي سورة يونس : لإيمان قومه وكشف العذاب عنهم قال تعالى : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس : 98] .

وخلاصة ما يستفاد من الآيات بضم بعضها إلى بعض واعتبار القرائن الحافة بها أن يونس (عليه السلام) كان من الرسل أرسله الله تعالى إلى قومه وهم جمع كثير يزيدون على مائة ألف فدعاهم فلم يجيبوه إلا بالتكذيب والرد حتى جاءهم عذاب أوعدهم به يونس ثم خرج من بينهم .

فلما أشرف عليهم العذاب وشاهدوه مشاهدة عيان أجمعوا على الإيمان والتوبة إلى الله سبحانه فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .

ثم إن يونس (عليه السلام) استخبر عن حالهم فوجد العذاب انكشف عنهم - وكأنه لم يعلم بإيمانهم وتوبتهم - فلم يعد إليهم وذهب لوجهه على ما به من الغضب والسخط عليهم فكان ظاهر حاله حال من يأبق من ربه مغاضبا عليه ظانا أن لا يقدر عليه وركب البحر في فلك مشحون .

فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بدا من أن يلقوا إليه واحدا منهم يبتلعه وينجو الفلك بذلك فساهموا وقارعوا فيما بينهم فأصابت يونس (عليه السلام) فألقوه في البحر فابتلعه الحوت ونجت السفينة .

ثم إن الله سبحانه حفظه حيا سويا في بطنه أياما وليالي ويونس (عليه السلام) يعلم أنها بلية ابتلاه الله بها مؤاخذة بما فعل وهو ينادي في بطنه أن {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} .

فاستجاب الله له فأمر الحوت أن يلفظه فنبذه بالعراء وهو سقيم فأنبت الله سبحانه عليه شجرة من يقطين يستظل بأوراقها ثم لما استقامت حاله أرسله إلى قومه فلبوا دعوته وآمنوا به فمتعهم الله إلى حين .

والأخبار الواردة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على كثرتها وبعض الأخبار من طرق أهل السنة مشتركة المتون في قصة يونس (عليه السلام) على النحو الذي يستفاد من الآيات وإن اختلفت في بعض الخصوصيات الخارجة عن ذلك (3) .

2 - قصته عند أهل الكتاب :

هو(عليه السلام) مذكور باسم يوناه بن إمتاي في مواضع من العهد القديم وكذا في مواضع من العهد الجديد أشير في بعضها إلى قصة لبثه في بطن الحوت لكن لم تذكر قصته الكاملة في شيء منهما .

ونقل الآلوسي في روح المعاني ، في قصته عند أهل الكتاب ويؤيده ما في بعض كتبهم من إجمال (4) القصة : أن الله أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى (5) وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا يقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم ، فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس (6) فجاء يافا (7) فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق .

ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له : ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا .

وقال بعضهم لبعض : تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له : أخبرنا ما ذا عملت : ومن أين جئت؟ وإلى أين تمضي؟ ومن أي كورة أنت؟ ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم : أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما وقالوا له : لم صنعت ما صنعت؟ يلومونه على ذلك .

ثم قالوا له : ما نصنع الآن بك؟ ليسكن البحر عنا؟ فقال : ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوه إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال له : قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل .

فمضى (عليه السلام) ونادى وقال : يخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجاروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله ولم ينزل بهم العذاب .

فحزن يونس وقال : إلهي من هذا هربت ، فإني علمت أنك الرحيم الرءوف الصبور التواب .

يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال : يا يونس حزنت من هذا جدا ؟ فقال : نعم يا رب .

وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة؟ فأمر الله يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلا له من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس فعظم الأمر عليه واستطاب الموت .

فقال الرب : يا يونس أ حزنت جدا على اليقطين؟ فقال : نعم يا رب حزنت جدا فقال تعالى : حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى .

وجهات اختلاف القصة مع ما يستفاد من القرآن الكريم ظاهرة كالفرار من الرسالة وعدم رضاه برفع العذاب عنهم مع علمه بإيمانهم وتوبتهم .

فإن قلت : نظير ذلك وارد في القرآن الكريم كنسبة الإباق إليه في سورة الصافات وكذا مغاضبته وظنه أن الله لن يقدر عليه على ما في سورة الأنبياء .

قلت : بين النسبتين فرق فكتبهم المقدسة أعني العهدين لا تأبى عن نسبة المعاصي حتى الكبائر الموبقة إلى الأنبياء (عليهم السلام) فلا موجب لتوجيه ما نسب من المعاصي إليه بما يخرج به عن كونه معصية بخلاف القرآن الكريم فإنه ينزه ساحتهم عن لوث المعاصي حتى الصغائر فما ورد فيه مما يوهم ذلك يحمل على أحسن الوجوه بهذه القرينة الموجبة ولذا حملنا قوله : {إذ أبق} وقوله : {مغاضبا فظن أن لن نقدر} على حكاية الحال وإيهام فعله .

 

3 - ثناؤه تعالى عليه :

أثنى الله سبحانه عليه بأنه من المؤمنين (سورة الأنبياء 88) وأنه اجتباه وقد عرفت أن اجتباءه إخلاصه العبد لنفسه خاصة ، وأنه جعله من الصالحين (سورة ن : 50) وعده في سورة الأنعام فيمن عده من الأنبياء وذكر أنه فضلهم على العالمين وأنه هداهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام : 87) .

__________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص135-142 .

2- وهو ان الله لا يقدر عليه كما قال تعالى : ، (وظن ان لن نقدر عليه) .

3- ولذلك لم نوردها لأنها في نفسها آحاد لا حجية لها في مثل المقام ولا يمكن تصحيح خصوصياتها بالآيات وهو ظاهر لمن راجعها .

4- قاموس الكتاب المقدس .

5- كانت مدينة عظيمة من مدائن آشور على ساحل دجلة .

6- اسم مدينة .

7- مدينة في الارض المقدسة .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

تدمير قوم لوط :

«لوط» هو خامس نبي يذكر إسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لإستمداد العبر منه .

وطبقاً لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط ، يتّضح أنّه كان معاصراً لإبراهيم(عليه السلام) ، وأنّه من أنبياء الله العظام ، وذلك ما جاء في الآية (26) من سورة العنكبوت والآية (74) من سورة هود .

وقد ورد اسم «لوط» كثيراً في آيات القرآن الكريم ، وتكرّر البحث في القرآن بشأنه هو وقومه عدّة مرّات ، قومه المنحرفون الذين كشف القرآن الكريم (الآيات 167 إلى 173 من سورة الشعراء ، وفي الآيات 70 إلى 83 من سورة هود ، وفي الآيات 54 إلى 58 من سورة النمل وغيرها من السور) عن المصير الأليم الذي حلّ بهم .

بحثنا يبدأ بقوله تعالى : {وإنّ لوطاً لمن المرسلين} .

وبعد هذا البيان الإجمالي يعمد القرآن إلى التفصيل ويبيّن جوانب من قصّة لوط ، حيث قال : تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطاً وأهله {إذ نجّيناه وأهله أجمعين} .

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب {إلاّ عجوزاً في الغابرين} (2) .

{ثمّ دمّرنا الآخرين} .

الجمل القصيرة ـ التي وردت أعلاه ـ تشير إلى تأريخ قوم لوط المليء بالحوادث ، والتي ورد شرحها في سور (هود) و(الشعراء) و(العنكبوت) .

«لوط» كسائر الأنبياء بدأ دعوته بتوحيد الله ، ثمّ عمد إلى الجهاد ضدّ الفساد الموجود في المجتمع المحيط به ، خاصّة ذلك الإنحراف الخلقي المعروف باللواط ، والذي ظلّ كوصمة عار لقوم لوط على طول التاريخ .

فهذا النّبي العظيم عانى المرارة مع قومه ، وبذل كلّ ما يمتلك من جهد لإصلاح قومه المنحرفين ، ومنعهم من الإستمرار في ممارسة عملهم القبيح ، ولكن جهوده لم تسفر عن شيء . وعندما شاهد أنّ أفراد قلائل آمنوا به ، قرّر إنقاذ نفسه وإنقاذهم من المحيط الفاسد الذي يعيشون فيه .

وفي نهاية الأمر فقد لوط الأمل في إصلاح قومه وعمد إلى الدعاء عليهم ، حيث طلب من الله سبحانه وتعالى إنقاذه وعائلته ، فإستجاب الباري عزّوجلّ لدعائه وأنقذه وعائلته مع تلك الصفوة القليلة التي آمنت به ، عدا زوجته العجوز التي لم ترفض فقط التمسّك بالتعليمات التي جاء بها ، وإنّما عمدت ـ أحياناً ـ إلى تقديم العون لأعدائه .

وقد عذّب الله قوم لوط بأشدّ العذاب ، إذ خسف بهم الأرض ثمّ أمطر عليهم حجارة من سجّيل ، ليهلكوا عن آخرهم ، وتمحى أجسادهم من الوجود أيضاً .

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين ، فقد أضاف القرآن الكريم {وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين} . أي إنّكم تمرّون في كلّ صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب .

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون ؟ {وبالليل أفلا تعقلون} .

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلا ونهاراً إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط ، وتقول : لوكان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين .

لأنّ آثار ديار قوم لوط الخربة تحكي بصمت دروساً كبيرة لكلّ المارّين من هناك ، وتحذر من الإبتلاء بمثل هذا العذاب .

نعم ، إنّه درس ما أكثر العبر فيه ، ولكن المعتبرين منه قليل «ما أكثر العبر وأقلّ الإعتبار» (3) .

ونظير هذا المعنى موجود في الآية (76) من سورة الحجر ، والتي تقول بعد بيان قصّة قوم لوط {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر : 76] أي إنّ آثارهم تقع دائماً في طريق القوافل والمشاة المارّين من هناك .

وفسّرت رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) الآية بشكل آخر ، فعندما سأله أحد أصحابه عن معنى الآية (وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون) أجاب الإمام الصادق قائلا : «تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم في القرآن فاقرؤوا ما قصّ الله عليكم من خبرهم» (4) .

هذا التّفسير قد يكون إشارة إلى تفسير ثان ، على أيّة حال فالجمع بين التّفسيرين لا ضرر فيه ، لأنّ آثار قوم لوط الباقية شاخصة للأبصار ، إضافةً إلى أنّ آيات القرآن الكريم تتطرّق لأخبار قوم لوط والعذاب الذي نزل عليهم .

 

وقوله تعالى : {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُو مُلِيمٌ (142) فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُو سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين (146) وَأَرْسَلْنَهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَو يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَهُمْ إِلَى حِين}

 

يونس في بوتقة الإمتحان :

الحديث هنا عن قصّة نبي الله «يونس» (عليه السلام) وقومه التائبين ، والتي هي سادس وآخر قصّة تتناول قصص الأنبياء والاُمم السابقة ، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و(إبراهيم) و(موسى وهارون) و(الياس) و(لوط) أشارت إلى أنّ تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت غارقة في نومها ، فعمّها العذاب الإلهي ، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلّة القليلة ممّن اتّبعهم .

إلاّ أنّ قضيّة نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما إنتهت إليه تلك القصص ، إذ أنّ قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل العذاب الإلهي الذي سيحلّ لهم إن لم يؤمنوا ، وأنّ الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم بركاته الماديّة والمعنوية ، وفي المقابل فإنّ نبي الله يونس إبتلي ببعض الإبتلاءات والمشاكل لأنّه تعجّل في ترك قومه وهجره إيّاهم ، حتّى أنّ القرآن المجيد أطلق عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه !

وهذه القصّة بمثابة خطاب موجّه لمشركي قريش ، وإلى كلّ البشر على طول التأريخ ، جاء فيه : هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية ، أم كقوم يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أنّ ذلك مرتبط بما تعزمون عليه .

على أيّة حال ، فإن ذكر هذا النّبي العظيم وقصّته مع قومه ، وردت في سور متعدّدة من سور القرآن المجيد (منها سورة الانبياء ، ويونس ، والقلم ، وفي هذه السورة أي الصافات) وعكست كلّ واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته ، وسورة «الصافات» هذه تسلّط الأضواء أكثر على قضيّة هرب يونس وإبتلاءه ، ومن ثمّ نجاته من بطن الحوت .

في البداية ، وكما تعوّدنا في القصص السابقة ، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته ، إذ تقول الآية : {وإنّ يونس لمن المرسلين} .

نبي الله «يونس» (عليه السلام) كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام ، ومن ثمّ محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك ، إلاّ أنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته .

إستمرّ يونس (عليه السلام) بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم ، مريداً لهم الخير وكأنّه أب رحيم لهم ، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة ، عدا مجموعة قليلة منهم ، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته .

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام ، يئس يونس من هدايتهم ، وكما جاء في بعض الروايات ، فإنّ يونس (عليه السلام) قرّر طبقاً لإقتراح الرجل العابد ، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالّين ، قرّر الدعاء عليهم (5) .

وبالفعل فقد دعا عليهم ، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم ، ومع حلول موعد نزول العذاب ، رحل يونس ـ بمعيّته الرجل العابد ـ عن قومه وهو غاضب عليهم ، ووصل إلى ساحل البحر ، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها .

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية ، حيث قالت : {إذ أبق إلى الفلك المشحون} .

كلمة «أبق» مشتقّة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيّده ، إنّها لعبارة عجيبة ، إذ تبيّن أن ترك العمل بالاُولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله ، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري عزّوجلّ موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء ، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه .

ومن دون أي شكّ فإنّ نبي الله يونس (عليه السلام) ، معصوم عن الخطأ ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اُخرى من قومه ، وأن يبقى معه حتّى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب ، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى .

حقّاً إنّه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاماً ـ وفق ما ورد في بعض الروايات ـ ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدّة أيّام أو عدّة ساعات إلى ذلك الوقت ببقائه معهم ، لذلك فعندما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق .

ووفق ما ورد في الرّوايات ، فقد صعد يونس (عليه السلام) إلى السفينة ، ثمّ إنّ حوتاً ضخماً وقف أمام السفينة ، فاتحاً فمه وكأنّه يطلب الطعام ، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصاً مذنباً معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت ، ولم يجدوا سبيلا سوى الإقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت ، وعندما إقترعوا خرج اسم يونس ، وطبقاً للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونس (عليه السلام) ، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم ، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة ، قال تعالى : {فساهم فكان من المدحضين} .

«ساهم» في مادّة (سهم) وتعني إشتراكه في الإقتراع ، فالإقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي ، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهماً واحداً ، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونس (عليه السلام) .

(مدحض) مشتقّة من (دَحْض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه ، والمراد هنا أنّ إسمه ظهر في عملية الإقتراع من بين بقيّة الأسماء .

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول : إنّ إعصاراً هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الركّاب للخطر بسبب ثقل حمولتها ، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر ، وعندما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس ، وبعد رميه في البحر إبتلعه حوت عظيم .

وقال القرآن الكريم : {فالتقمه الحوت وهو مليم} أي إنّ حوتاً عظيماً التقمه وهو مستحقّ للملامة .

«التقم» مشتقّة من (الإلتقام) وتعني (البلع) .

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعندما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى إستحقاق الملامة) .

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب إرتكابه ذنباً كبيراً أو صغيراً وإنّما بسبب تركه العمل بالأولى ، وإستعجاله في ترك قومه وهجرانهم .

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمراً تكوينياً إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس ، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل ، كي يدرك تركه العمل بالأولى ، ويسعى لإصلاحه .

وورد في إحدى الرّوايات أنّ «أوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظماً ولا تقطع له وصلا» (6) .

يونس (عليه السلام) إنتبه بسرعة للحادث ، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفراً الله على تركه العمل بالأولى ، وطالباً العفو منه .

ونقلت الآية (87) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونس (عليه السلام) بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية ، قال تعالى : {فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين} .

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك ، وأنّني كنت من الظالمين ، إذ ظلمت نفسي وإبتعدت عن باب رحمتك .

إعتراف يونس الخالص بالظلم ، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله ، إذ إستجاب الله له وأنقذه من الغمّ ، كما جاء في الآية (88) من سورة الأنبياء ، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 88] .

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونس (عليه السلام) ، قال تعالى : {فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} أي لولم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة ، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم ، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له .

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّاً أم ميّتاً ، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن إحتمالات متعدّدة منها :

أوّلا : بقاء الإثنين ـ أي يونس والحوت ـ أحياء ، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجوناً في بطن الحوت .

ثانياً : وفاة يونس ، وبقاء الحوت حيّاً بإعتباره قبراً متحركاً لجثّة يونس .

ثالثاً : وفاة الإثنين ، وهنا يكون بطن الحوت قبراً ليونس ، والأرض قبراً للحوت ، حيث يدفن في قلب الحوت ، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة .

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الإحتمالات التي ذكرناها ، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان ، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن ، وبهذا يعدّ الإحتمال الثالث أقرب الإحتمالات إلى الواقع (7) .

وهناك إحتمال آخر يقول : إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة ، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن .

ولا ننسى أنّ هذه الاُمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه ، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي .

ويضيف القرآن ، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا ، وهو مريض {فنبذناه بالعراء وهو سقيم} .

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت ـ على ساحل خال من الزرع والنبات ، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس ، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل .

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت ، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمنية التي قضاها في بطن الحوت ، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت ، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن ، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّاً لا يمتلك القدرة على الحركة .

مرّة اُخرى شمله اللطف الإلهي ، لأنّ جمسه كان مريضاً ومتعباً ، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقاً وعاجزاً ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده . والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول ، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} .

(اليقطين) تعني ـ كما قال أصحاب اللغة والتّفسير ـ كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة ، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها . ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو(القرع) ، والذي يجب الإلتفات إليه أنّ كلمة «الشجرة» في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان ، وبعبارة اُخرى : تشمل كلّ الأشجار والنباتات ، ونقلوا حديثاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قالوا فيه : إنّ شخصاً سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «أجل هي شجرة أخي يونس» (8) .

وقيل : إنّ أوراق شجرة القرع ، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّاً ويمكن الإستفادة منها كظلّ جيّد ، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق ، ولهذا فإنّ يونس (عليه السلام) التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في نفس الوقت ، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً ، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة .

ويحتمل أنّ الباري عزّوجلّ يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت ، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق ، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر ـ عندما يتسلّم القيادة في المستقبل ـ لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم ، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة (9) .

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه ، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي ، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم ، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة ، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة .

وورد في روايات اُخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء ، وفرّقوا بين المرأة وطفلها ، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها ، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس .

وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله (10) .

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب ، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام ، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه .

القرآن يقول هنا : {وأرسلناه إلى مائة الف أو يزيدون} كانوا قد آمنوا بالله ، واُغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة ، {فآمنوا فمتّعناهم إلى حين} .

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط ، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم ، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس ، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره .

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونس (عليه السلام) بعث من جديد إلى قومه السابقين ، أمّا الذين قالوا : إنّه بعث إلى قوم آخرين ، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات .

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى : {فآمنوا فمتّعناهم إلى حين} يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوماً مؤمنين ، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة . ومن جهة اُخرى ، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين ، وذلك في الآية (98) {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس : 98] .

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من (إلى حين) هو لفترة معيّنة ، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي .

سؤال يطرح نفسه : لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه : (مائة ألف أو يزيدون)؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها ، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما ، وإعطائه هالة من العظمة ، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ (11) .

________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص313-323 .

2 ـ (غابر) من مادّة (غبور) على وزن (عبور) وتعني بقايا الشيء ، فعندما تتحرّك مجموعة من مكان ما ويبقى أحد أفرادها هناك يقال له (غابر) ولهذا السبب يقال لما يتبقّى من التراب (غبار) ، ولما تبقّى من الحليب في الثدي (غبرة) على وزن (لقمة) .

3 ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 297 .

4 ـ روضة الكافي ، نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد 4 ، صفحة 432 .

5 ـ تفسير البرهان ، المجلّد 4 ، صفحة 35 .

6 ـ تفسير الفخر الرازي ، المجلّد 26 ، الصفحة 165 ، كما ورد نفس المعنى مع إختلاف بسيط في تفسير البرهان ، المجلّد 4 ، الصفحة 37 .

7 ـ الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلاّمة (الطبرسي) الذي غالباً ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات ، إقتنع هنا بإيراد إحتمال واحد فقط ، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبراً له إلى يوم القيامة) .

8 ـ روح المعاني ، المجلّد 7 ، الصفحة 489 .

9 ـ تفسير نور الثقلين ، المجلّد 4 ، الصفحة 436 ، الحديث 116 .

10 ـ نقل صاحب تفسير البرهان ، وفي المجلّد 4 ، الصفحة 35 هذا الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) .

11 ـ لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى ، (بل) .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .